ثانيا: الجمل التي يتعلق بعضها ببعض: وهنا تظهر جودة القريحة، وكلما كان أجزاء الكلام أقوى ارتباطا وأشد التحاما كان أدخل في الفصاحة.
الفن الأول
في تقديم الاسم على الفعل وتأخيره
إذا قدمت الاسم فقلت: "زيد قد فعل" أو "أنا فعلت" اقتضى أن يكون القصد إلى الفاعل، ويحتمل هذا القصد وجهين:
١- تخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل كقولك: "أنا شفعت في حقه" والمراد أن تدعي الانفراد بذلك وترد على من يزعم أنه كان ذلك من غيرك.
٢- تحقيق الفعل منك عند السامع لتوهمك شكه، نحو: "هو يعطي الجزيل" فلا تريد الحصر بل أن تحقق على السامع أن إعطاء الجزيل دأبه، وتمكن هذا الحديث في نفس المستمع وتقرره عليه، ومثله قوله تعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ ليس المراد تخصيص المخلوقية بهم.
والدليل على ذلك أنه لا يؤتى باسم معرى من العوامل إلا بحديث قد نوي إسناده إليه، فلا يأتي الحكم إلا بعد تأنس به، فجرى بذلك مجرى التأكيد، فإنك لو قلت: "عبد الله" فقد أشعرت بأنك تريد الحديث عنه، فيحصل شوق على معرفة ذلك فإذا جئت بالخبر بعده قبله الذهن فيكون أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة، ومن هنا يعلم الفخامة في قوله تعالى: ﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ﴾ كما سبق بيانه.
ويشهدُ لِما قلنا من أنَّ تقديمَ المحدَّثِ عنه يَقْتضي تأكيدَ الخبرِ وتحقيقَه:
١. مجيء الاسم مصدرا في جواب إنكار من مُنْكرٍ نحوُ أن يقولَ الرجلُ : ليس لي علمٌ بالذي تقول فتقولُ له : أنتَ تعلمُ أنَّ الأمرَ على ما أقولُ ولكنك تميل إلى خصمي. وكقول الناس : هو يعلم ذاك وإن أنكر وهو يَعلمُ الكَذِبَ فيما قال وإنْ حلَف عليه. وكقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ على اللَّه الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾
٢. مجيء الاسم فيما اعترضه الشك نحوُ أن يقولَ الرجلُ :"كأنَّك لا تعلمُ ما صَنَعَ فلانٌ ولم يَبْلُغْك فتقولُ :"أنا أعلمُ ولكنّي أُداريه".