وقد كثرت الأهواء والفتن وانتصار الإنسان لرأيه، حتى أدى ذلك إلي التطاحن والتقاتل بين المسلمين، وعلى هذا فيكون الخلاف بينهم في تفسير كلام الله أكثر من الخلاف بين الصحابة، ثم كلما بعد العهد عن عصر النبوة، صار البلاء أشد، والتباس بالباطل الحق أعظم، وكما نجد الآن في زماننا، كل عمود في مسجد تحته عالم يرى نفسه أنه ابن تيمية، وكل خيمة في مني فيها عالم يرى نفسه أنه أحمد بن جنبل أو الشافعي.
ولهذا كثرت الأهواء حتى إنك لتجد في المسألة التي ليس فيها فيما سبق إلا قول واحد أو قولان، تجد فيها عدة أقوال؛ لأن العلم قليل والهوى كثير، فترتب على نقص العلم وكثرة الهوى الضياع والخلاف والشقاق وعدم الائتلاف.
* * *
ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها؛ ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير، يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره.
والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال.
الشرح
وهذا أمر لابد منه، يعني كون التابعين يزيدون على الصحابة في الاستدلال والاستنباط أمر لابد منه وضروري؛ لأنه حدثت أمور لم تكن معهودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا كلما طرأت أمور جديدة لم ينص على عينها في الكتاب والسنة فلا بد من أن يكون هناك استنباط واستدلال لعلماء العصر، حتى يطبقوها على ما في الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة لم يأتيا بكل مسألة تحدث بعينها إلي يوم القيامة.
إذ لو أتى بذلك لكان المصحف أكبر مما هو عليه مائة مرة، وأيضاً لأتى الناس بما لا يعرفونه، فمثلاً ستحدث عن الشيكات وعن البنوك وعن التأمينات، ومثل هذه الأشياء يتحدث عنها في عهد الصحابة وهم لا يعرفون ذلك، أما الآن فكلما حدثت أمور وجدت صار لعلماء المسلمين من النظر والاستدلال والاستنباط ما لم يكن لغيرهم، حتى يطبقوها على ما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
* * *
(١) رواه بن أبي شيبة (٦/ ١١٧)
(٢) رواه أحمد في المسند (٣م١٢٠، ١٢١، ١٢٢)
(٣) رواه مالك في الموطأ (١م٢٠٥)
**************


الصفحة التالية
Icon