٦٢٢- ((عس)): وعن عبد الله بن عمر قال: بينما نحن في مسجد رسول الله ﷺ نتذاكر فضائل القرآن، وعمر بن الخطاب أمير المؤمنين معنا. فقال رجل: (الحمد لله) ليس في التوراة ولا في الإنجيل مثلها. وقال قائلٌ: المعوذتان؛ لأن الله تبارك وتعالى عوذ بهما نبيه ﷺ من فوق سبع سموات، إذ دخل علي بن أبي طالب #٤٩٧# رضي الله عنه فقال: أين أنتم يا أصحاب محمد ﷺ من آية الكرسي سمعت حبيبي رسول الله ﷺ يقول: ((هبط علي جبريل فقال: يا محمد لكل شيء سيد؛ فسيد البشر آدم، وسيد ولد آدم أنت، وسيد الروم صهيب، وسيد فارس سلمان، وسيد الحبش بلال، وسيد الشجر السدر، وسيد الطير النسر، وسيد الشهور شهر رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام العربية، وسيد العربية القرآن، وسيد القرآن سورة البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي، وهي خمسون كلمة، ألا وإن آية الكرسي في جنب الشيطان كالأكلة في جنب ابن آدم. وليس في القرآن آية أعظم منها)).
فبينما نحن كذلك إذ دخل عمرو بن معدي كرب فسمع ما كنا فيه فقال: أين أنتم من فضل ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾؟ قال عمر: أفي الجاهلية يا عمرو أم في الإسلام؟ قال: بل في الجاهلية يا أمير المؤمنين. فاستوى جالساً وقال: حدثنا يا أبا ثور. فقال: نعم. أصابتنا مجاعةٌ شديدة، فخرجت أتعرض في الطريق فأقحمت فرسي في البرية، فوالله لقد أقمت عشراً وما لي طعام إلا بيض النعام، ولا أعلف فرسي إلا قمامة البرية، فبينا أنا سائر على فرسي إذ بدت لي #٤٩٨# خيمةٌ من أدم، فلما رأيتها أقبلت نحوها مسرعاً فإذا حولها ماشية ونعم كثيرة، وإذا شيخ جالس وعلى رأسه جارية بيضاء، بضة، عفراء حسناء ذات عينين كحلاوين وحاجبين أزجين، وثغر لامع وجبين ناصع هيفاء لفاء ليست بالطويلة ولا الذميمة، أسفلها كثيب، وأعلاها قضيب فحمةٌ من بعيد، مليحة من قريب. لم أر مثلها حسناً وجمالاً. فلما رأيتها ورأيت كثرة الإبل والشاء. قلت: يا عمرو أبشر بالسلامة والغنيمة. فلما أشرفت على الشيخ قلت: استأسر ثكلتك أمك. قال: ومن أنت؟ قال: قلت: أنا عمرو بن معدي كرب. قال: يا عمرو أنصفني من نفسك أنت فارس وأنا راجل، فلما سمعت ذلك نزلت عن فرسي في الأرض. فقال: يا عمرو إني لم أقتل أحداً حتى أعرض عليه ثلاث خصال، فاختر أيها شئت. قلت: ما هي؟ قال: إن تشأ القرى فانزل علي. ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾؛ وإن تشأ مصارعة، وإن تشأ مسابقة.
#٤٩٩#
فقلت في نفسي: شيخ كبير يريد المصارعة، المصارعة أحبهن إلي. قال: وتشاء ذلك يا عمرو؟ قلت: نعم فنادى الجارية فلفت كم درعها على كفها، وناولته عصابة كانت له من تحت الطنب، فشد بها حاجبيه إلى جبهته، وحسر عن ذراعيه، وحسرت أنا عن ذراعي، فكان أول ما تكلم به أن قال: اللهم انصرني عليه بقول: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. فاجتذبني يا أمير المؤمنين جذبةً فصرت تحته. فقال: أقتلك أم أخلي عنك؟ فقلت: بل خل عني. فاستوى جالساً وأنشأ يقول:
عرضنا عليك النزل منا تكرماً... فلم تزدجر جهلاً كفعل الأشائم
وجئت ببهتان وزور ودونما... تمنيته بالبيض حز الحلاقم
وبالأحرف اللائي ترويت حفظها... دحضت، لحاك الله من أنف راغم
#٥٠٠#
فلا تغترر مني بما فات إنني... أبو أشبلٍ ضرغامةٍ للضراغم
فلما سمعت مقالته قلت لنفسي: يا عمرو، تعد بألف فارس، ويقتلك هذا الشيخ بهذه الكلمات. فقلت: واللات والعزى لأقتلنك، وأنشأت أقول:
رويدك لا تعجل، رميت بصارم... سليل مغاوير كرام قماقم
أإن زل عمرو زلة أعجمية... ولما يكن يوماً لحرب بحائم
فمالك فابذل دون نفسك تسلمن... بنفسك أو فاصبر لحز الحلاقم
فما دون ما تحويه للنفس مطمع... سوى أن أحز الرأس منك بصارم
#٥٠١#
قال: فوثب إلي ثانية وهو مغضب فاجتذبني جذية فصرت تحته. ثم قال: أأقتلك أم أخلي عنك؟ فقلت: بل خل عني. قال: لا والله حتى أجز ناصيتك. ثم قال: الجلمين يا جارية، فعرضت عليه مائة من الإبل فأبى، وأنشأ يقول:
مننا على عمرو فعاد لحينه... وثنى فثنينا كفعل ذوي الفضل
وعاد بضعف الرأي منه سفاهةً... فلم يلق عفواً من فعال أبي شبل
وفي عفو ذي الآلاء فخر ومنعة... ومحترز لو كان عمرو أخا عقل
قال: فكنت عنده اثني عشر شهراً في فضل ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. فلما تمت السنة نظر إلي وقال: والله يا عمرو ما لي إليك من وحشة، وما كنت متخذ المضلين عضداً، ولكني أريد أن أريك فضل ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. #٥٠٢# فاتبعني، فخرجت أقفو أثره في البرية حتى أشرفنا على وادٍ وحشٍ وعرٍ كثير الوحش، فنادى بأعلى صوته: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، فوالله ما بقي ذو أربع إلا خرج هارباً على وجهه، ثم نادى الثانية بها بأعلى صوته، فإذا أنا بأسود بعيد ما بين طرفيه كالنخلة السحوق، شفته العليا مستلقية على السفلى، والسفلى على صدره وعيناه كالياقوتتين الحمراوين، فلما رأيته قلت: هلكت وهلك صاحبي. فقال: يا عمرو لا تقل هذا، فإنه شيطان فإذا رأيتنا قد تآخذنا فقل: غلبه صاحبي بقول: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. فاستفوهتها من قول الشيخ ورجوت أن يغلبه الشيطان فلما تواخذا قلت: غلبه صاحبي باللات والعزى خلافاً لقول الشيخ. فلا الشيخ غلب ولا الشيطان، ثم أقبل الشيخ نحوي وقد غضب غضباً شديداً فلطمني لطمة ظننت والله يا أمير المؤمنين أنه قد اقتلع الذي فيه عيناني، ثم قال: قاتلك الله يا غدار، ألم أقل لك: إذا رأيتنا قد تآخذنا فقل: غلبه صاحبي بقول: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. فقلت: أنا أفعل ذلك يا عم، ثم تآخذا فوالله ما أتممت الكلمة حتى ذبحه الشيخ. فقال: يا عمرو، رأيت الجارية التي في الخدر؟ قلت: نعم. قال: تلك الفارعة #٥٠٣# بنت المستورد، أبوها رجل من الجن زوجنيها، وهؤلاء بنو عمها يغزوني في كل عام منهم رجل فيقاتلني حسداً عليها، فأقلته بهؤلاء الكلمات. ثم قال لي: يا عمرو، هل أنت ملتمس لي شيئا من الغذاء فقد أصابتني مجاعةٌ شديدةٌ فقلت: نعم. فخرجت ألتمس فما أصبت إلا بيض النعام، فانصرفت وهو نائمٌ وتحت رأسه جذع نخرٌ، فضربت بعيني في الجذع فإذا أنا بالصمصامة فأخذتها فإذا هي كالخشبة فضربته بها ضربة أبريت بها قوائمه، وتركته مختضباً بدمه. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قاتلك الله يا عمرو يا غدار لو كنت آخذ في الإسلام بما فعل في الجاهلية لأمرت بضرب عنقك. ثم أنشأ عمر يقول:
العجم تأنف مما جئت والعرب... تبا لما جئته في السيد الأرب
مثلت غدراً أخا الإسلام عن كثب... ما أن سمعت بذا في سالف الحقب
#٥٠٤#
إني لأعجب أني نلت قتلته... أم كيف -ويحك- مما جئت لم تتب
لو كنت آخذ في الإسلام ما فعلوا... في الجاهلية أهل الشرك والنصب
إذاً لنالك من فعلي مجرعة... يدعى لذائقها بالويل والحرب
ثم قال عمر: أتم الحديث يا عمرو. قلت: نعم يا أمير المؤمنين ثم مضيت إلى الجارية مسرعاً فلما رأتني قالت: ما فعل الشيخ؟ فقلت: قتله الشيطان. فقالت: هيهات كذبت. ما كان والله ليقتله وقد أعطاه الله كلمات من كنوز عرشه، بل أنت قتلته ومكرت به، يا غدار. ثم أنشأت تقول:
عيني جودي على الفتى المغوار... واندبيه بواكفات غزار
لا تملي البكاء إن خانك الدهر... لحامي حقيقة صبار
واندبي خير من رمته المنايا... عن رحاها بالخائن الغدار
ناله بعد إذ عفاه مراراً... ومراراً فالقلب يكوى بنار
#٥٠٥#
لهف نفسي على بقائك عمرو... أسلمتك الأقدار للأعمار
فجزاك الإله بالغدر شرا... ثم ما عشت عشت في تصغار
فلقد خست بالكريم فعالاً... بعد أسرٍ وذلة وصغار
قال: فقلت لها: أولست أغض منه شباباً، وأحسن وجهاً؟ فقالت: ما تشاء يا عمرو؟ فقلت: أكون لك أفضل مما كان الشيخ. فقالت: مكانك فدخلت الخدر فنادت بأعلى صوتها: خل بيني وبينه بقول: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. فكان والله يا أمير المؤمنين آخر العهد بها. فانصرفت على غير شيء أصبت.


الصفحة التالية
Icon