كلامه حتى يستعين بهذا على استجابة الناس لطاعته وإنفاذ أوامره، فإنه صدر عنه كلام نسبه لنفسه فيما يسمى بالحديث النبوي ولم ينقص ذلك من لزوم طاعته شيئًا، ولو كان الأمر كما يتوهمون لجعل كل أقواله من كلام الله تعالى.
وهذا الادعاء يفترض في رسول الله أنه كان من أولئك الزعماء الذين يعبرون الطريق في الوصول إلى غايتهم على قنطرة من الكذب والتمويه، وهو افتراض يأباه الواقع التاريخي في سيرته عليه الصلاة والسلام، وما اشتهر به من صدق وأمانة شهد له بهما أعداؤه قبل أصدقائه.
لقد اتهم المنافقون زوجه عائشة بحديث الإفك، وهي أحب زوجاته إليه، واتهامها يمس كرامته وشرفه، وأبطأ الوحي، وتحرَّج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتحرَّج صحابته معه حتى بلغت القلوب الحناجر، وبذل جهده في التحري والاستشارة، ومضى شهر بأكمله، ولم يزد على أنه قال لها آخر الأمر: "أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فيسيبرِّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله" ١، وظل هكذا إلى أن نزل الوحي ببراءتها، فماذا كان يمنعه لو أن القرآن كلامه من أن يقول كلامًا يقطع به ألسنة المتخرصين، ويحمي عرضه؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ ٢.
واستأذن جماعة في التخلف عن غزوة تبوك وأبدوا أعذارًا، وكان منهم مَن انتحل هذه الأعذار من المنافقين وأذن لهم، فنزل القرآن الكريم معاتبًا له لخطأ رأيه: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ ٣. ولو كان هذا العتاب صادرًا عن وجدانه تعبيرًا عن ندمه حين تبين له فساد رأيه لما أعلنه عن نفسه بهذا التعنيف الشديد والعتاب القاسي.
ونظير هذا معاتبته -صلى الله عليه وسلم- في قبول الفداء من أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ@