وهو _أيضاً_ إذا أراد أن يصنع قصيدة، أو ينشئ رسالة _وقد فاته هذا العلم_ مزج الصفو بالكدر، وخلط الغُرر بالعُرر(١) واستعمل الوحشي العكر؛ فجعل نفسه مهزأة(٢) للجاهل، وعبرةً للعاقل؛ كما فعل ابن جحدر في قوله:

حلفتُ بما أرقَلَتْ حَوْلَهُ هَمَرْجَلَةٌ خَلْقُها شَيْظَمُ(٣)
وما شَبْرَقَتْ من تَنُوفيَّةٍ بها مِنْ وَحَى الجنِّ زِيزَيَمُ(٤)
وأنشده ابن الأعرابي، فقال: إن كنت كاذباً فالله حسيبك.
وكما ترجم بعضهم كتابه إلى بعض الرؤساء: مُكَركَسَة تَرَبُوتَا ومحبوسة بِسَرِّيتا.
فدلَّ على سخافة عقله، واستحكام جهله؛ وضرَّه الغريب الذي أتقنه ولم ينفعه، وحطه ولم يرفعه لمَّا فاته هذا العلم، وتخلف عن هذا الفن.
وإذا أراد _أيضاً_ تصنيف كلام منثور، أو تأليف شعر منظوم، وتخطى هذا العلم ساء اختياره له، وقبحت آثاره فيه؛ فأخذ الرديء المرذول، وترك الجيد المقبول، فدل على قصور فهمه، وتأخر معرفته وعلمه.
وقد قيل: اختيار الرجل قطعة من عقله؛ كما أن شعرَه قطعةٌ من علمه+(٥).
هذا العلم كان مندرجاً في جملة علم الأدب، وكانت مسائله شُعْبَةً من شعب النحو والأدب؛ وكانت مبثوثة في تضاعيف مؤلفات العلماء ككتاب سيبويه، وكطبقات الشعراء لابن سلام، والبيان والتبيين للجاحظ، والبديع لابن المعتز، ونقد الشعر لقدامة بن جعفر، والموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني.
(١) _ الغرة: النفيس من كل شيء، والعرة: القذر.
(٢) _ هزؤاً.
(٣) _ أرقلت: أسرعت، والهمرجلة: الناقة، والشيظم: الطويل الجسيم الفتيّ من الإبل والخيل والناس.
(٤) _ شبرقت. الشبرقة: عدو الدابة وخْدَاً. والتنوفية: المفازة والأرض الواسعة البعيدة الأطراف، والوَحَى: الصوت الخفي، وزيزيم: صوت الجن.
(٥) _ كتاب الصناعتين ص٢_٣.


الصفحة التالية
Icon