وكان للتشبيه والاستعارة عند القوم المكان القصيّ، والقدر العَلِيّ في باب البلاغة، وبه فاق امرؤُ القيس، ونَبُهَتْ سمعته، وقد جاء في القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله: [وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً] وقوله: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ] وقوله: [وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ] وقوله _تعالى_: [ابْلَعِي مَاءَكِ] وقوله: [صِبْغَةَ اللَّهِ] إلى غير ذلك من وجوه البديع. ١/١٠٩
٦_ ومما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن ينظم الكلام على خصوصيات بلاغية، هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام، وخاصة في إعجاز القرآن؛ فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المفسر عن دواعيها، وما يقتضيها؛ فيتصدى لِتَطَلُّب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلفة، أو مغصوبة؛ ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية، في حال أن مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية. ١/١١١
٧_ ومرجع هذا الصنف من الإعجاز إلى ما يسمى في عرف علماء البلاغة بالنكت البلاغية؛ فإن بلغاءهم كان تنافُسُهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت، وبذلك تفاضل بلغاؤهم، فلما سمعوا القرآن انثالت على كل من سمعه من بلغائهم من النكت التي تَفَطَّن لها ما لم يجد من قدرته قِبَلاً بمثله.
وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل اللسان؛ فَعُلِمَ ألا مَبْلَغَ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد من ذوق زميله، هذا كله بحسب ما بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم من التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه. ١/١١١_١١٢


الصفحة التالية
Icon