…ولا يفهم من كلام هؤلاء العلماء أن في القرآن ما لا يفهم معناه، بحيث يكون بالنسبة لذي العلم باللسان العربي، بمثابة الكلام الأعجمي الذي لا يفقه منه شيئا، بل يستفاد من أقوالهم أن هناك أمورا أخبر بها القرآن، كصفات الله وأسمائه مثلا. فهذه فعلا يستحيل على الإنسان فهمها على ما هي عليه في واقع أمرها. وبتعبير آخر لا يدرك الإنسان حقيقتها الخارجية، ولكنه يدرك حقيقتها العلمية بحيث يفهم من كل صفة غير ما يفهمه من الصفات الاخرى. وفي ذلك يقول ابن تيمية ـ مبطلا قول من جعل أسماء وصفات الله سبحانه من المتشابه الذي لا يفهم معناه ـ :" أما الدليل على بطلان ذلك فإني لا أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية(٢)، ونفى أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا : إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا أحاديث الصفات تمر كما جاءت، وينهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه"(١).
…وانطلاقا من هذه النقطة بدأ ابن تيمية يبين الفرق بين تأويل الآية وفهم معناها. وذلك عبر مرحلتين :
المرحلة الأولى:
…ناقش فيها من يدعون أن القرآن يتضمن ما لا يفهم معناه، ومن ثم يتعين عدم الخوض فيه، وذلك حيث يقول :" قال :( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله )(٢). أي كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله : فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به، وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به، فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن، ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله.