…وقد لخص الإمام الزركشي آراء العلماء في مناقضة هذه الأحاديث، فحمل النهي فيها على تأويل الخطاب القرآني بمجرد الرأي والهوى، أي من غير أن يكون هناك منهج علمي يقيم الدليل، ويقرع الحجة بالحجة، بل هو مجرد رأي مجتث الجذور لا أصل له ولا قاعدة، مخالف للمنطق والوقع والعلم لأنه نابع عن تعصب أعمى للذات والهوى، مما يحجب عنها الحقيقة التي لا تتجلى إلا لمن أخلص في طلبها من أجل ذاتها لا لأي مقصد او هدف آخر. يقول الزركشي :"ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى :﴿لا تقف ما ليس لك به علم﴾(٤). وقوله :﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ (٥). وقوله تعالى :﴿ لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ (٦) فأضاف البيان إليهم.
…وعليه حملوا قوله ( :( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)(١) رواه البيهقي من طرق من حديث ابن عباس. وقوله ( :(من تكلم في القرآن برأيه فاصاب فقد أخطأ)(١)، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال غريب من حديث ابن جندب.
…وقال البيهقي في "شعب الإيمان "هذا إن صح فإنما أراد -والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل. وكذلك لا يجوز تفسيره القرآن به.
…وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز، وهذا معنى قول الصديق :" أي سماء تظللني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي"(٢).
…وقد بحث علماء أهل السنة الأسباب التي تجعل من هذا التأويل تأويلا مقبولا، ومن الآخر تأويلا مردودا، وهي ما يمكن أن نصطلح عليه بمرتكزات التفريق بين التأويل المردود والتأويل المقبول، وسنحاول أن نعرض آراء هؤلاء العلماء وذلك لما تفصح عنه من دقة منهجية وأصالة علمية، وشمولية في التفكير، وفي معالجة القضايا المشكلة، ولما تتضمنه من موضوعية حقة تتحقق في أبحاث كثير من دعاة العلمية والموضوعية.


الصفحة التالية
Icon