قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا؛ لمسجد المدينة.
قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره)(١٦).
أخيراً..
هذه بعض الأمثلة للتفسير النبوي، والموضوع يحتاج إلى جمع وتأمل لتحديد نوع المثال، مما يفيد في معرفة ماكان يحتاجه الصحابة من البيان النبوي للقرآن، ولعل أقرب ما يذكر هنا هو ندرة ماورد عنه ﷺ من بيان معنى غريب القرآن؛ مما يترتب عليه أن فهم عربية القرآن كان موكولًا للصحابة (رضي الله عنهم)، والله أعلم.
المسألة الثالثة: ما يستفاد من التفسير النبوي في أصول التفسير:
إن النظر في التفسير النبوي، واستنطاق الأمثلة التفسيرية فيه يفيد في جوانب عدة، ومما يفيده هنا أن طريقة التفسير النبوي أصل معتمد في التفسير، فإذا ورد عنه تعميم للفظ، أو تفسير بمثاٍل، أو غير ذلك، حُكِم بصحة هذه الأساليب التفسيرية في التفسير، وأنها في المجال الذي يمكن الاقتداء به ولاقياس عليه.
كما أنه يفيد في بيان صحة بعض الأساليب التي اعتمدها المفسرون من السلف.
ثم إن هذا يفيد في تصحيح بعض مرويات السلف التي جاءت مخالفة للعبارة النبوية في التفسير، ذلك أن تحرير هذه الأساليب في التفسير النبوي يبين مدى احتمال النص لغير عبارة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيما أظن ـ حسب علمي ـ أن (فِقهَ النصّ التفسيري) من التفسير النبوي لم يلق عناية من هذا الجانب، ولذا قمت بهذه المحاولة الاجتهادية لبيان هذه الفكرة من خلال أمثلة توضح ذلك.
إن مثل هذه الدراسة السريعة لا تكفي في تأصيل قضية كهذه، ولكنه جهد المقل، وبذرة ألقيها لتجد طريقها إلى النماء ـ إن شاء الله ـ وإليك أخي القارئ عرض الأمثلة:
* المثال الأول:
ـ وفي قوله تعالى: ((وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا)) [الإسراء: ٢٤]. عموم يشمل كل أبٍ: مسلم وكافر، وهو مخصوص بقوله تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى)) [التوبة: ١١٣]. فخرج بهذا الاستغفار للأبوين الكافرين، وظهر أن المراد بها الأبوان المؤمنان(١٢).
٢- الآية المبيّنة لآية مجملة:
ـ أجمل الله القدر الذي ينبغي إنْفَاقُهُ في قوله تعالى: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) [البقرة: ٣]، وبين في مواضع أخر: أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد عن الحاجة وسدّ حاجة الخَلّة التي لابد منها، وذلك كقوله: ((وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ)) [البقرة: ٢١٩] والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابدّ منها، على أصحّ التفسيرات، وهو مذهب الجمهور...(١٣).
ـ وفي قوله تعالى: ((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)) [المائدة: ١]، إجمال في المتلو، وقد بيّنه قوله تعالى: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)) [المائدة: ٣].
٣- الآية المقيدة لآية مطلقة:
ـ أطلق الله استغفار الملائكة لمن في الأرض، كما في قوله تعالى: ((وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُون لِمَن فِي الأَرْضِ)) [الشورى: ٥]، وقد قيّد هذا الإطلاق بالمؤمنين في قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) [ غافر: ٧].
لقد ظهر ـ خلاف أمرهم في الخلاف ـ فيمن بعدهم من أصحاب العقائد الباطلة؛ كالخوارج، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، وغيرهم، فظهر في أقوالهم مجانبةُ الحق، وكثر الخلاف بسبب كثرة الآراء الباطلة، مما جعل القرآنَ عُرضةً للتحريف والتأويل، إذ كلّ يصرفه إلى مذهب، وهذا مما سلم منه جيل الصحابة، فلم يتلوّث بمثل هذه الخلافات.
ولهذا جاء تفسيرهم بعيداً عن إشكالات التأويل، وصرف اللفظ القرآني إلى ما يناسب المذهب، أو غيرها من الانحرافات في التفسير.
الهوامش :
١- المدخل إلى السنن الكبرى، ص ١٦.
٢- انظر: المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، ص١٠٩ ـ ١١٠.
٣- انظر: بدائع التفسير، جـ٢ ص٢١٦، وجـ٣ ص٣١٣، ٤٠٢، ٤٠٤، وشفاء العليل، ص٥٤.
٤- انظر: الموافقات بتحقيق محيي الدين عبد الحميد، جـ٣ ص ٢١٨ ـ ٢١٩.
٥- الموافقات، جـ٣ ص ٢٢٥ (بتصرف).
٦- الدرر المنثور، جـ٣ ص ١٦١، وانظر: المستدرك.
٧- الموافقات، جـ٣ ص ٢٢٩، وقد أحال في هذه المسألة على النوع الثاني من المقاصد (جـ٢ص٤٤)، والموافقات، جـ٣ ص ٢٢٧.
٨- انظر: فتح الباري، جـ٨ ص٣٤.
٩- انظر: فتح الباري، جـ٨ ص ٣٥.
١٠- انظر: فتح الباري، جـ٨ ص ٣٧.
١١- انظر: الموافقات، جـ٣ ص ٢١٨.
١٢- يعني ابن مسعود (رضي الله عنه).
١٣- فتح الباري، جـ٨ ص٢٤٩.
١٤- المستدرك، جـ٢ ص٢٥٨.
١٥- المستدرك.
١٦- بدائع التفسير، جـ٣ ص٤٠٤.
١٧- وأيضاً التابعين وأتباعهم ممن لهم عناية بالتفسير.
ألم يكونوا يميّزون هذه الإسرائيليات التي استطاع المتأخرون تمييزها؟!، وإذا كان ذلك كذلك؟ فما الضرر من روايتها؟.
ألا يكفي المفسر بأن يحكم على الخبر بأنه إسرائيلي، مما يجعله يتوقف في قبول الخبر؟.
إن بحث(الإسرائيليات) يحتاج إلى إعادة نظر فيما يتعلق بمنهج سلف الأمة في روايتهم لها، ومن أهم ما يجب بحثه في ذلك ما يلي:
١- جَمْعُ مروياتهم فيها، وجَعْلُ مرويات كل مفسرٍ على حِدَةٍ.
٢- محاولة معرفة طريق تحمّل المفسر لها، وكيفية أدائه لها، فهل كان يكتفي بعرضها ثقةً منه بتلاميذه الناقلين عنه؟.
أو هل كان ينقدها، ويبين لتلاميذه ما فيها؟.
٣- ما مدى اعتماد المفسر عليها؟.
وهل كان يذكرها على سبيل الرواية لما عنده في تفسير هذه الآية، من غير نظر إلى صحة وضعف المروي؟.
أوْ هل كان يرويها على سبيل الاستئناس بها في التفسير؟.
أو هل يعتمد عليها، ويبني فهم الآية على ما يرويه منها؟.
تلك المسائل وغيرها لا يتأتّى إلا بعد جمع المرويات، واستنطاقها لإبراز جوابات هذه الأسئلة وغيرها مما يمكن أن يَثُورَ مع البحث.
ثم بعد هذا يمكن استنباط منهج السلف وموقفهم من الإسرائيليات في التفسير. والله أعلم.
الهوامش :
١- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العلم: إما نقلٌ مُصَدّقٌ، وإما استدلال محقّقٌ) (مقدمة في أصول التفسير، ص٥٥).
٢- رواه البخاري (فتح الباري، جـ٨ ص٢٤ ـ ٢٥).
٣- رواه البخاري (فتح الباري، جـ٨ ص٣٧).
٤- رواه مسلم في صحيحه (رقم ١٣٩٨).
٥- انظر: البخاري (فتح الباري، جـ٨ ص٤٠٢).
٦- رواه البخاري (فتح الباري، جـ٨ ص٥٢٧).
٧- انظر روايتهما في: صحيح البخاري(فتح الباري، جـ٨ ص ٣٦٠).
* جواب هذا السؤال يحتاج بحثاً خاصّاً، والمراد هنا الإشارة إلى هذا الإشكال فقط.
٨ ـ تفسير الطبري، جـ١٩ ص ١٤٣. وانظر: سؤال ابن عباس لأبي الجلد في تفسير الطبري: جـ١ ص ١٥١، ١٣، ١٢٣.
٩ ـ رواه البخاري(فتح الباري، جـ١ ص١٦٧).
فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنّا نُؤتى على حرفٍ، فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شَرِيَ (انتشر) أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله (عز وجلّ): ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)) [البقرة: ٢٢٣] أي: مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك: موضع الولد).(١٢)
ـ وروى البخاري عن جابر في نزول هذه الآية ما يلي: (كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)))(١٣).
ففي هذين السببن ترى ما يلي:
١- أنها تحكي حالاً من أحوال من نزل فيهم القرآن، وقد سبق أن السبب قد يكون في ذكر حالٍ من أحوال العرب.
٢- أن ابن عباس ذكر السبب في قضية طريقة الجماع في خبر الرجل القرشي والأنصارية.
٣- أن جابر ذكر السبب في نتيجة إحدى طرق الجماع.
وقد أنزل الله هذه الآية لإبطال هذين الحالين اللذين كان يعمل بهما اليهود والأنصار.
هذا، وقد أخبر الحاكم أن سبب النزول له حكم الرفع؛ فقد قال بعد حديث جابر السابق: (هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا، فإنه حديث مسند).(١٤)
* كما يحترز في المغيبات من أن تكون من مرويات بني إسرائيل، فإذا سلمت من ذلك فإن لها حكم المرفوع؛ لأن الأمور الغيبية لا يمكن القول فيها بالاجتهاد.
ومن أمثلته: ما روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) في تفسير (الكرسي) بأنه (موضع قدمي الرحمن).
فهذا المثال يتعلق بصفات الله (عز وجل) ولا سبيل للوصول إليها إلا بالنقل، ولا مجال للاستنباط فيها.
فإن قيل: إن ابن عباس قد اشتهر عنه الأخذ من مرويات بني إسرائيل، وعليه: فإن هذا التفسير يحتمل أن يكون مما تلقّاه عنهم؟.