وبهذا يمكن القول أنه لما لم يكن في تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- مايدل على التخصيص، دل ذلك على أن مراده التمثيل، ولما مثل للقوة ذكر أعلى القوة وأشدها.
وإذا كان ذلك كذلك فإن روايات السلف لاتكون معارضة للتفسير النبوي، ولذا يصح قبولها والتفسير بها؛ لأنها تدخل في عموم القوة.
ونتيجة القول: أن التفسير بالمثال أسلوب صحيح في التفسير؛ لأنه وارد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا الحديث، والله أعلم
* المثال الثاني:
عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: مفاتح الغيب خمس: ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان: ٣٤](. ٢).
في هذا المثال تجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسر (مفاتح الغيب) في قوله تعالى: ((َوَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ...)) [الأنعام: ٥٩] بآية لقمان: ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ...)) [لقمان: ٣٤].
ويمكن القول: إن تفسير القرآن بالقرآن مسلك صحيح من مسالك التفسير بناء على هذا المثال.
ولعلك تقول: إن هذا المسلك واضح ومعروف مشهور.
فأقول لك: إن المراد هنا تأصيله بوروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ في وروده عنه ماينبه إلى استعمال هذا المسلك.
ومما يدل على ذلك أن الصحابة لما استشكلوا قوله (تعالى): ((الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام: ٨٢] قال لهم: إنه ليس بذاك ألا تسمعُ إلى قول لقمان لابنه: ((إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: ١٣](٢١).
سبق مثال في ذلك، وهو: مراحل خلق آدم(١٧)، ومن أمثلته عصا موسى (عليه الصلاة والسلام)؛ حيث وصفها مرة بأنها ((حَيَّةٌ تَسْعَى)) [طه: ٢٠]، ومرة بأنها ((تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانّ)) [النمل: ١٠]، ومرة بأنها ((ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ)) [الأعراف: ١٠٧]، فاختلف الوصف والحدث واحد، وقد جمع المفسرون بين هذه الآيات: أن الله (سبحانه) جعل عصا موسى كالحية في سعيها، وكالثعبان في عِظَمها، وكالجان (وهو: صغار الحيّات) في خِفّتِها(١٨).
٢- تتميم أحداث القصة:
إذا تكرر عرض قصة ما في القرآن فإنها لا تتكرر بنفس أحداثها، بل قد يزاد فيها أو ينقص في الموضع الآخر، ويَعْمَدُ بعض المفسرين إلى ذكر أحداث القصة متكاملة كما عرضها القرآن في المواضع المختلفة، ومثال ذلك:
قوله (تعالى): ((إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ)) [طه: ٤٠]، حيث ورد في سورة القصص ثلاثة أمور غير واردة في هذه الآية، وهي:
١- أنها مرسلة من قبل أمها.
٢- أنها أبصرته من بُعدٍ وهم لا يشعرون.
٣- أن الله حرّم عليه المراضع.
وذلك في قوله (تعالى): ((وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)) [القصص: ١١، ١٢](١٩).
٣- جمع الآيات المتشابهة في موضوعها:
قال الشنقيطي في قوله (تعالى): ((قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ)) [الأنعام: ٣٣].
٢) أخرجه أحمد، جـ١ص٢٦٦، وصحح إسناده أحمد شاكر، ح/٢٣٩٧، ح/٢٨٨١. البيان
٣) جامع الأصول، جـ٢ص٤.
٤) انظر : الدر المنثور، جـ ٨ ص٤٣٠.
٥) انظر : فتح الباري، جـ ٨ ص٢٥١.
٦) انظر أقوالهم في تفسير الطبري، جـ٣٠ ص١٠٦، ١٠٧..
٧)انظر مروياتهم في تفسير الطبري، جـ٣٠ ص١٢٢، ١٢٤.
٨) أخرجه أحمد وأبو داود.
٩) تفسير الطبري، جـ ٢٦ ص٥٨.
١٠) انظر رواية ذلك في صحيح البخاري (فتح الباري، جـ ١ ص١١٠، جـ ٦ ص٤٤٨).
١١) انظر روايته في صحيح البخاري (فتح الباري، جـ ٨ ص٢٣١)..
١٢) انظر : عون المعبود، جـ ٦ ص٢٠٤، ٢٠٥.
١٣) انظر : فتح الباري، جـ ٨ ص٣٧.
١٤) معرفة علوم الحديث، ص٢٠.
١٥) أشار إلى روايتهما ابن حجر في الفتح (جـ ٨ص٤٧)، وقد صحح إسناد أبي موسى.