مطبوعا ومعاذ الله أن تجد فيها متكلفا مصنوعا. والقرآن أعلى في هذا الباب وأجل. ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾.
الجواب الثاني: أن هذه الشبهة تخالف في أساسها ما هو واقع معروف: ذلك أن القرآن الكريم منه ما نزل مفاجأة على غير انتظار وتفكير وبدون تلبث وتدبير وهو أكثره. ومنه ما نزل بعد تشوف واستشراف وطول انتظار وهو أقله. ومع هذا فأسلوبه الأعلى هو أسلوبه الأعلى ونظمه المعجز هو نظمه المعجز في الحالين على سواء.
تأمل ما جاء في سبب نزول قوله سبحانه: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ وهو أن اليهود قالت لقريش: سلوا محمدا عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوه فقال: "ائتوني غدا أخبركم" ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه ثم نزلت الآيات جوابا لتلك الأسئلة بعد تلك المدة الطويلة
التي قدرها بعضهم بأربعين يوما وأنت إذا قرأتها لن تجد فرقا بين أسلوبها وأسلوب كثرة القرآن الغامرة التي نزلت مباغتة مفاجئة.
وهذا الذي يقال في القرآن يقال مثله في الحديث النبوي. فمنه ما كان وليد التفكير والتدبير والمشاورة والمداولة كحديثه ﷺ في شؤون الحرب والصلح ومنه ما كان وحي الساعة وإرسال البديهة كحديثه الكثير فيما هو ظاهر من أمور الدين. ومنه ما كان وحي الله إليه يهبط به الأمين جبريل كحديث المعتمر المتضمخ بالطيب وقد جاء النبي ﷺ يسأله عن طيبه في عمرته هذه. فسكت النبي ﷺ ساعة حتى جاءه الوحي ولما سري عنه قال: "أين السائل عن العمرة" فجيء به فقال عليه الصلاة والسلام: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات. وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" رواه الشيخان.
نعرف هذه الظروف المختلفة لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنها مع اختلافها لم يختلف فيها الأسلوب النبوي بل هو طراز واحد من أرقى الأساليب البشرية إن لم يكن أرقاها وقلما تلحظ فيه تفاوتا كثيرا. لا فرق في ذلك بين ما أرسله على البديهة وما أجال فيه الرأي والاستشارة وما نزل به وحي السنة وما احتفل به احتفالا ممتازا بالمواقف المشهودة والمجامع المحشودة.@


الصفحة التالية
Icon