نيل المرام من تفسير آيات الأحكام، ص : ٣٥٢
و ظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مرتبة، وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح، فإن طاعتهم واجبة، حيث لم يكن ما أمروا به من معصية اللّه.
ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية اللّه.
ومن جملة ما يأمرون به الجهاد وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم وإقامة الحدود على من وجبت عليه.
وبالجملة فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم، فكل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية اللّه، ولا بد في مثل هذا من المخالطة لهم والدخول عليهم ونحو ذلك مما لا بد منه، ولا محيص عن هذا الذي ذكرناه من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة لتواتر الأدلة الواردة به بل وقد ورد به الكتاب العزيز : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء : ٥٩]، بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الإطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا، كما في بعض الأحاديث الصحيحة :«أعطوهم الذي لهم واسألوا اللّه الذي لكم» «١».
بل ورد الأمر بطاعة السلطان وبالغ في ذلك النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حتى قال :«و إن أخذ مالك وضرب ظهرك» «٢».
وإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون، فمجرد هذه الطاعة المأمور بها مع ما يستلزمه من المخالطة عن ميل وسكون، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهرا وباطنا، فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر بأمر يقتضي ذلك شرعا، كالطاعة أو للتقيّة مخافة الضرر منهم، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة، أو لدفع مفسدة عامة أو خاصة، إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ولا محبة ولا رضا بأفعالهم.
قلت : أما الطاعة على عمومها لجميع أقسامها - حيث لم تكن في معصية اللّه - فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها مخصّصة لعموم النهي عنه، ولا شك في هذا
(٢) حديث صحيح : رواه مسلم (١٢/ ٢٣٧، ٢٣٨)، عن حذيفة مرفوعا.