ولئن كانت البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الطفل على الفصاحة أهم هذه الوسائل، وكانت هذه البيئة غير متحققة في عصرنا الحاضر، فإن حفظ الكلام البليغ وقراءته والاستماع إليه يعد أهم الوسائل في عصرنا، ويعد الحفظ في حصول الملكة أهم من القراءة والاستماع، وأكد ذلك أهل العلم، كما قال ابن خلدون: (حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب؛ حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسج هو عليه، ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم، وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم)(١)، ثم قال: (لا بد من كثرة الحفظ، لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه، وكثرته من قلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ... ، وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع، تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ فى طبقته من الكلام، ترتقي الملكة الحاصلة؛ لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى الملكة بتغذيتها. وذلك أن النفس، وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات)(٢).
أثر القرآن في اكتساب الملكة اللسانية.
يأتي في قمة الكلام الفصيح البليغ: القرآن الكريم، الذي أنزله الله - عز وجل - بلسان عربي مبين، وبلغ من الفصاحة والبلاغة ما يعجز عن الإتيان بمثله البلغاء، وتقصر عنه همة الفصحاء، وقد قال الله - عز وجل -: ؟ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ؟ [الإسراء: ٨٨].
(٢) مقدمة ابن خلدون: ٢/٢٨١-٢٨٢.