ولما كان الرواة الثقات يعتنون بأمور الديانة، ومسائل الأحكام الظاهرة التي يُخَاطب بها الناس في حياتهم، وحرصوا عليها، ونقلوها، وشدَّدوا بالنقل، تساهلوا- لما كان العمر يضيق بالكل – بغيرها، فاعتَنوا بالأهم. ولَمَّا حُفظت الشريعة وبُدئ بتدوينها، ظهرت العناية بعلوم التفسير والسِّير والتاريخ والفتن والمغازي وغيرها، وهي في التابعين أظهرُ من الصحابة وفي أتباع التابعين أظهرُ من التابعين وفي أتباع أتباع التابعين أظهرُ من أتباع التابعين وهكذا، حتى توسَّعت العلوم.
وفي الغالب فالمبرزون في التفسير والسير والمغازي لا يصلون لمتوسطي الثقات من رواة أحاديث الأحكام، ولهذا كثُر في أسانيد التفسير الضعيفُ والواهي والمنكَرُ والموضوع، فلم يحملْه الكبار ولم يعتنوا به؛ كشعبةَ وسفيانَ ومالكٍ وابن مهدي، وغيرهم من الأئمة الحفَّاظ الكبار الأثبات، وإن كانوا قد روَوْا جملةً مِن ذلك.
والأئمة يتساهلون في التفسير، ولا يتساهلون في أمور الأحكام.
يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال، تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام، تشدَّدنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال".
ويقول يحيى بن سعيد: " تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثِّقونهم في الحديث - ثم ذكر ليثَ بن أبي سُلَيْم وجُوَيْبِرَ بن سعيدٍ والضَّحَّاك، ومحمد بن السائب. وقال: - هؤلاء لا يُحْمَدُ أمرُهم، ويكتب التفسيرُ عنهم". رواه الخطيب عنه في "الجامع".
والكتابة عنهم في التفسير تُحتمل؛ لأنهم قد اعتَنوا بذلك، فصاروا مِن أئمة التفسير، وكذلك مِن أئمة اللغة.
ويُحَّدث عن هؤلاء الضعفاء، وإن كان بعضهم لا يُعْتَمدُ عليه.
سبب عدم عناية الأوائل بالتفسير
وسبب عدم عناية الحفاظ الأوائل بالتفسير يرجع إلى أمور:
أولاً: الانشغال بالأحكام والمسائل الأصول وفروع الأحكام التعبُّديِّة كما تقدم بيانه.