نزعته الاعتزالية، ودراسته الكلامية؛ فقد كان من المثبتين للمسخ، المحتجين لوقوعه بحجج النقل والعقل، فتكلم عن بعض أسباب المسخ، ولماذا عاقب الله الممسوخين بأن جعلهم قردة وخنازير؟
فقال عن الخنزير١: "فأما قبح وجهه فلو أن القبح والغدر والكذب تجسدت ثم تصورت لما زادت على قبح الخنزير، وكل ذلك بعض الأسباب التي مسخ لها الإنسان خنزيرا، وإن القرد لسمج الوجه، قبيح كل شيء، وكفاك أنه للمثل المضروب.. " يعني أن القرد قد ضرب مثلا للقبح.
ثم عاد٢ إلى ذكر مقابح الخنزير؛ فبين أن الخنزير ينزو ذكره على ذكره، وأن الله سبحانه سمى لحمه رجسا وإن كان غير ميتة ولو ذكر الذابح عليه اسم الله، ولوصفه بهذا الوصف (الرجس) يقول الجاحظ: "ولا نعلم لهذا الوصف وجها إلا الذي خص الله به من ذكر المسخ، فأراد تعظيم شأن العقاب، ونزول الغضب، وكان ذلك القول ليس مما يضر الخنزير، وفيه الزجر عن محارمه، والتخويف من مواضع عذابه".
ثم ذكر الجاحظ "أن المسخ لا يتناسل ولا يبقى إلا بقدر ما يكون موعظة وعبرة".
ثم تكلم عن إنكار الدهرية للمسخ؛ فقال٣: "فمنهم من جحد المسخ، وأقر بالخسف والريح والطوفان، وجعل الخسف كالزلازل، وزعم أنه يقر من القذف بما كان من البَرَد الكبار، فأما الحجارة فإنها لا تجيء من جهة السماء.. إلى آخر أضاليل الدهرية..".
وهكذا رأينا قطبين من مدرسة الاعتزال - هما (الزمخشري والجاحظ) - يؤمنان بالمسخ على حقيقته، ولا يتأولانه على غير وجهه.
٥- رأي الفخر الرازي:
وأما (الفخر الرازي) فهو وإن لم ينتصر لرأي مجاهد ويجنح إليه، إلا أنه لم يجد في قبوله غضاضة، ويجدر بنا أن نلم برأيه لما له من منهج خاص.
فقد قال٤: ".. قوله ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ ليس بأمر لهم؛ لأنهم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة، بل المراد سرعة التكوين، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (٤٠: النحل)، وكقوله: ﴿قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (١١: فصلت)، والمعنى أنه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء، بل قال لهم،: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾، أي لما أراد ذلك بهم صاروا كما أراد.
٢ انظر الصفحات ٥١، ٥٦، ٦٠، ٦١، من الجزء الرابع من الحيوان، والنقل ببعض تصرف.
٣ انظر الحيوان ج ٤ ص ٧٠.
٤ انظر التفسير الكبير (مفاتح الغيب) للفخر الرازي ج ٣ ص ١١٠ وما بعدها ط دار الكتب العلمية طهران.