قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذي جاء به الأنبياء، وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة والمعرفة والقوة، فهذا ما نفسرها به على جعل الطمس والرد على الأدبار معنويين، وبه قال مجاهد، ولكن أوجز" ا؟.
٥- تأويل الوجوه بالرؤساء والوجهاء:
وقيل إن المقصود بطمس الوجوه ما ذكره الزمخشري بقوله١: "ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم، أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم".
مختار القول: وبعد استعراض الآراء في تفسير الآية استعراضا وافيا، وإن لم نبلغ به حد الاستقصاء، نرى أن أولى الآراء هو حمل الوجه على حقيقته، وأن الطمس على أصل معناه من المحو والإزالة والإخفاء.
وهذا الترجيح هو الذي ارتضاه الطبري حين قال٢: "وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله: ﴿أَلمْ تَرَ إِلى الذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالةَ..﴾ (٤٤: النساء)، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلى أَدْبَارِهَا﴾ الآية.. بأسه٣ وسطوته وتعجيل عقابه لهم، إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به، ولاشك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا" ا؟.
وآثر القاسمي حمل الآية على الحقيقة فقال٤: "ولا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات غير الأول، لا يساعده مقام تشديد الوعيد، وتعميم التهديد، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها، ورد على القائلين بأن قرينة المجاز هي عدم وقوع المتوعد به، بأنه ليس في الآية ما يدل على تحتم وقوع الوعيد إن لم يؤمنوا، ولو فهم
٢ الطبري ج ٨ ص ٤٤٣.
٣ منصوبة بحذرهم في جملة (ثم حذرهم جل ثناؤه).
٤ انظر محاسن التأويل ج ٥ ص ١٢٨٤- ١٢٨٦ بإيجاز.