وقال آخرون إن القوم لما قيل لهم: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالمِينَ﴾ استعفوا منها فلم تنزل.
وعزا الطبري هذا الرأي إلى الحسن.
وقد تعرض ابن كثير١ لرأي المنكرين لنزولها؛ فقال عنه من حيث الإسناد: وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن.
ثم ارتأى ابن كثير أن يعرض حجج المنكرين لنزولها والمثبتين؛ فقال محتجا لدعوى الإنكار: وقد يتقوى ذلك (يعني إنكار نزولها) بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى وليس هو في كتابهم٢، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا، ولا أقل من الآحاد والله أعلم.
ثم قال عن رأي المثبتين: "إنه هو الذي عليه الجمهور، وهو الذي اختاره ابن جرير، ونقل حجة ابن جرير في الإثبات، ثم بين ابن كثير موقفه هو بقوله: وهذا القول - والله أعلم - الصواب، وكما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف" ا؟.
٢- رأي ابن جرير الطبري:
استعرض ابن جرير رأي المثبتين لنزولها والمنكرين، ثم انتهى إلى تقرير موقفه٣ وهو: "والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله - تعالى ذكره - أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه؛ وإنما قلنا ذلك للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله ﷺ وأصحابه، وأهل التأويل من بعدهم، غير من انفرد بما ذكرنا عنه.
وبعد؛ فإن الله - تعالى ذكره - لا يخلف وعده، ولا يقع في خبره الخلف، وقد قال - تعالى ذكره - مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى ﷺ حين سأله ما سأله من ذلك: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَليْكُمْ﴾، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَليْكُمْ﴾ ثم لا ينزلها؛ لأن ذلك منه - تعالى ذكره - خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر، ولو جاز أن يقول: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَليْكُمْ﴾ ثم لا ينزلها عليهم جاز أن يقول: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالمِينَ﴾، ثم يكفر منهم بعد ذلك فلا يعذبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة، وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك" ا؟.

١ انظر تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١١٩ ط الحلبي.
٢ ليس للنصارى الآن كتاب واحد بل هي أسفار شتى، كتبها آحاد بأيديهم ورواها عنهم آحاد، وصلتها بالوحي منقطعة.
٣ انظر تفسير ابن جرير الطبري ج ١١ ص ٢٣١- ٢٣٢.


الصفحة التالية
Icon