﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ ألم تعلم يا محمد ﴿ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ ﴾ [آية: ١] يعني أبرهة بن الأشرم اليمانى وأصحابه، وذلك أنه كان بعث أبا يكسوم بن أبرهة اليمانى الحبشى، وهو ابنه، في جيش كثيف إلى مكة، ومعهم الفيل ليخرب البيت الحرام، ويجعل الفيل مكان البيت بمكة، ليعظم ويعبد كتعظيم الكعبة، وأمره أن يقتل من حال بينه وبين ذلك، فسار أبو يكسوم بمن معه حتى نزل بالمعمس، وهو واد دون الحرم بشىء يسير، فلما أردوا أن يسوقوا الفيل إلى مكة لم يدخل الفيل الحرم، وبرك فأمر أبو يكسوم أن يسقوه الخمر، فسقوه الخمر ويردونه في سياقه، فلما أرادوا أن يسوقوه برك الثانية، ولم يقم، وكلما خلوا سبيله ولى راجعاً إلى الوجه الذى جاء منه يهرول، ففزعوا من ذلك وانصرفوا عامهم ذلك، فلما أن كان بعده بسنة أو بسنتين خرج قوم من قريش في تجارة إلى أرض النجاشي، حتى دنوا من ساحل البحر في سند حقف من أحقافها ببيعة النصارى، وتسميها قريش الهيكل، ويسميها النجاشي وأهله أرضة ما سر حسان، فنزل القوم في سندها، فجمعوا حطباً، وأوقدوا ناراً، وشووا لحماً. فلما أرادوا أن يرتحلوا تركوا النار، كما هي في يوم عاصف، فعجت الريح واضطرم الهيكل ناراً، فانطلق الصريخ إلى النجاشي، وجاءه الخبر فأسف عند ذلك غضباً للبيعة، وسمعت بذلك ملوك العرب الذين هم بحضرته، فأتوا النجاشي منهم حجر بن شرحبيل، وأبو يكسوم الكنديان، وأبرهة بن الصباح الكندى، فقالوا: أيها الملك، لا تكاد ولا تغلب، نحن مؤازرون لك على كعبة قريش التي بمكة، فإنها فخرهم ومعتزهم على من بحضرتهم من العرب، فننسف بناءها، ونبيح دماءها، وننتهب أموالها، ونمتح حفائرها من شئت من سوامك، ونحن لك على ذلك مؤازرون، فاعزم إذا شئت أو أحببت أيها الملك، فأرسل الملك الأسود بن مقصود، فأمر عند ذلك بجنوده من مزارعي الأرض، فأخرج كتائبه جماهير معهم الفيل، واسمه محمود، فسار بهم وبمن معه من ملوك العرب تلقاء مكة في حجائل تضيق عليهم الطرق، فلما ساروا مروا بخيل لعبد المطلب، جد النبي صلى الله عليه وسلم، مسومة وإبل، فاستاقها. فركب الراعي فرساً له أعوجياً كان يعده لعبد المطلب، فأمعن في السير حتى دخل مكة، فصعد إلى الصفا فرقى عليه، ثم نادى بصوت رفيع: يا صباحاه، يا صباحاه، أتتكم السودان معها فيلها، يريدون أن يهدموا كعبتكم، ويدعوا عزكم، ويبيحوا دماءكم، وينتهبوا أموالكم، ويستأصلوا بيضتكم، فالنجاء النجاء، ثم قصد إلى عبدالمطلب، فأخبره الأمر كله، فركب عبدالمطلب فرسه، ثم أمعن جاداً في السير حتى هجم على عسكر القوم، فاستفتح له أبرهة بن الصباح، وحجر بن شراحيل، وكانا خلين، فقالا: لعبد المطلب ارجع إلى قومك، فأخبرهم وأنذرهم أن هذا قد جاءكم حميماً آتياً، فقال عبدالمطلب: واللات والعزى، لا أرجع حتى أرجع معي بخيلي، ولقاحي، فلما عرفا أنه غير راجع ونازع عن قوله قصدا به إلى النجاشي، فقالا: كهيئة المستهزئين يستهزئان به: أيها الملك، أردد عليه أبله وخيله، فإنما هو وقومه لك بالغداة، فأمر بردها. فقال عبدالمطلب للنجاشى: هل لك إلى أن أعطيك أهلي ومالي، وأهل قومي، وأموالهم، ولقاحهم على أن تنصرف عن كعبة الله؟ قال: لا، فسار عبدالمطلب بإبله وخيله، حتى أحرزها، ونزل النجاشي ذا المجاز، موضع سوق الجاهلية، ومعه من العدد والعدة كثير، وانذعرت قريش وأعروا مكة، فلحقوا بجبل حراء وثبير، وما بينها من الجبال، وقال عبدالمطلب لقريش: واللات والعزى لا أبرح البيت حتى يقضي الله قضاءه، فقد نبأنى أجدادى أن للكعبة ربا يمنعها، ولن تغلب النصرانية، وهذه الجنود جنود الله، وبمكة يومئذ أبو مسعود الثقفى جد المختار، وكان مكفوف البصر، يقيظ بالطائف، ويشتو بمكة، وكان رجلاً نبيلاً تستقسم الأمور برأيه، وهو أول فاتق، وأول راتق، كان خلا لعبد المطلب، فقال له عبدالمطلب: يا أبا مسعود، ماذا عندك هذا يوم لا يستغنى عن رأيك، قال له أبو مسعود: اصعد بنا الجبل حتى نتمكن فيه، فصعدا الجبل فتمكنا فيه، فقال أبو مسعود لعبد المطلب: اعمد إلى ما ترى من إبلك، فاجعلها حرماً لله، وقلدها نعالاً، ثم أرسلها في حرم الله، فلعل بعض هؤلاء السودان أن يعقروها، فيغضب رب هذا البيت، فيأخذهم عند غضبه، ففعل ذلك عبدالمطلب، فعمد القوم إلى تلك الإبل، فحملوا عليها وعقروا بعضها، فقال عبدالمطلب عند ذلك، وهو يبكى: يا رب إن العبد يمنع     رحله فأمنع حلالكلا يغلبن صليبهم ومحا    لهم عدواً محالكفإن كنت تاركهم وكعبتنا    فأمر ما بدالكفلم أسمع بأرجس من رجال    أرادوا العز فانتهكوا حرامكثم دعا عليهم فقال: اللهم أخز الأسود بن مقصود، الآخذ الهجمة بعد التقليد، قلبها إلى طاطم سود، بين ثبير فالبيد والمروتين والمشاعر السود، ويهدم البيت الحرام المصمود، قد أجمعوا ألا يكن لك عمود، اخفرهم ربي فأنت محمود. فقال أبو مسعود: إن لهذا البيت رباً يمنعه منعة ونحن له فلا ندري ما منعه، فقد نزل تبع ملك اليمن بصحن هذا البيت، وأراد هدمه، فمنعه الله عن ذلك، وابتلاه وأظلم عليهم ثلاثة أيام، فلما رأى ذلك تبع كساه الثياب البيض من الشطرين وعظمه، ونحر له جزراً، ثم قال أبو مسعود لعبد المطلب: انظر نحو البحر ما ترى؟ فقال: أرى طيراً بيضاً قد انساب مع شاطىء البحر، فقال: ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال: أراها قد أزرت على رءوسنا، فقال: هل تعرفها؟ قال: لا والله ما أعرفها، ما هي بنجدية، ولا تهامية، ولا غربية، ولا شرقية، ولا يمانية، ولا شامية، وإنها تطير بأرضنا غير مؤنسة. قال: ما قدرها؟ قال: أشباه اليعاسيب في مناقيرها الحصى كأنها حصى الخذف قد أقبلت، وهي طير أبابيل يتبع بعضها بعضاً، أمام كل رفقة منها طائر يقودها أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق، حتى إذا جازت بعسكر القوم ركدن فوق رءوسهم، فلما توافتها الرعال كلها هالت الطير ما في مناقيرها من الحجارة على من تحتها، يقال: إنه كان مكتوباً على كل حجر اسم صاحبه، ثم إنها عادت راجعة من حيث جاءت، فقال أبو مسعود: لأمر ما هو كائن، فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل إلى الأرض فمشيا ربوة أو ربوتين، فلم يؤنسا أحداً، ثم دنوا فمشيا ربوة، أو ربوتين أيضاً، فلم يسمعا همساً، فقالا: عند ذلك بات القوم سامدين فاصبحوا نياماً لا يسمع لهم ركزاً، وكانا قبل ذلك يسمعان صياحهم، وجلبة في أسواقهم، فلما دنيا من عسكرهم، فإذا هم خامدون، يقع الحجر في بيضة الرجل فيخرقها، حتى يقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة، حتى يغيب في الارض من شدة وقعه، فعمد عبدالمطلب، فأخذ فأساً من فئوسهم فحفر حتى عمق في الأرض وملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيد، وحفر أيضاً لصاحبه فملأه من الذهب والجوهر. ثم قال لأبي مسعود: هات خاتمك، واختر أيهما شئت، خذ إن شئت حفرتي، وإن شئت حفرتك، وإن شئت فهما لك، فقال أبو مسعود: اختر لي، فقال عبدالمطلب: إنى لم أجعل أجود المتاع في حفرتى وهي لك، وجلس كل واحد منهما على حفرة صاحبه، ونادى عبدالمطلب في الناس، فتراجعوا فأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعاً، وساد عبدالمطلب بذلك قريشاً، وأعطوه المقادة، فلم يزل عبدالمطلب وأبو مسعود وأهلوهما في غنى من ذلك المال، ودفع الله عز وجل عن كعبته وقبلته وسلط عليهم جنوداً لا قبل لهم بها، وكان لهم بالمرصاد والأخذة الرابية، وأنزل فيهم ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾، يعني يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ ﴾ يعني الأسود بن مقصود، ومن معه من الجيش وملوك العرب. ثم أخبرهم عنهم، فقال: ﴿ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾ [آية: ٢] الذى أرادوا من خراب الكعبة واستباحة أهلها.
﴿ فِي تَضْلِيلٍ ﴾ يعني خسار ﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ ﴾ [آية: ٣] يعني متتابعة كلها تترى بعضها على إثر بعض ﴿ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [آية: ٤] يعني بحجارة خلطها الطين ﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ﴾ [آية: ٥] فشبههم بورق الزرع المأكول يعني البالي، وكان أصحاب الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، وهلكوا عند أدنى الحرم، ولم يدخلوه قط. قال عكرمة بن خالد: حبست رب الجيش والأفيال    وقد رعوا بمكة الأجبالقد خشينا منهم القتال   كل كريم ماجد بطاليمشى يجر المجد والأذيال   ولا يبالي حيلة المختالتركتهم ربي بشر حال   وقد لقوا أمراً له فعالوقال صفوان بن أمية المخزومى: يا واهب الحى الحلال الأحمس    وما لهم من طارق ومنفسأنت العزيز ربنا لا تدنس   أنت حبست الفيل بالمعمسحبست فإنه هكروس   وقال ابن أبي الصلت: إن آيات ربنا بينات    لا يمارى بهن إلا الكفورحابس الفيل بالمعمس حتى    ظل يحبو كأنه معقوروأسقى حلقه الحراب كما   قطر من ضحر كبكب محدورحوله من ملوك كندة فتيان   ملاويث في الهياج صقورحالفوه ثم انذعروا عنه    عظمه خلف ساقه مكسوركل دين يوم القيامة عند    الله دين الحنيفة بور


الصفحة التالية
Icon