سورة الحجرات مدنيةوهي ثمان عشرة آيةأي بالإجماع، وهذه أوائل السور المسماة بالمفصل، واختلف في تسميته بذلك، فقيل: لكثرة الفصل فيه بين السور، وقيل: لكون جميعه محكماً لا نسخ فيه، قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ذكر هذه اللفظة في هذه السورة خمس مرات، اعتناء بشأن المؤمنين في الأوامر والنواهي، نظير خطابات لقمان لابنه في قوله:﴿ يٰبُنَيَّ ﴾[لقمان: ١٦] ولئلا يتوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً، وذكر﴿ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾[الحجرات: ١٣] مرة خطابا لما يعم المؤمن والكافر، لمناسبة ما يترتب عليه من قوله تعالى﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ ﴾[الحجرات: ١٣] وهذه السورة جمعت آداباً ظاهرية وباطنية، وأوامر ونواهي ظاهرية وباطنية، عامة وخاصة، فهي متضمنة طريقة الصوفية التي من تمسك بها وصل. قوله: (من قدم بمعنى تقدم) العامة على ضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة، وفيها وجهان أحدهما: إنه متعد حذف مفعوله اقتصاراً كقولهم: هو يعطي ويمنع، وكلوا واشربوا، والأصل لا تقدموا ما لا يصلح، والثاني: أنه لازم نحو وجه وتوجه، ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك ﴿ لاَ تُقَدِّمُواْ ﴾ بالفتح في الثلاثة، والأصل لا تتقدموا، فحذفت إحدى التائين، وفي الآية استعارة تمثيلية، حيث شبه تجري الصحابة على الحكم، في أمر من أمور الدين، بغير إذن من الله ورسوله، بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريقه من غير إذن، فإنه في العاة مستهجن، ثم استعمل في في جانب المشبه ما كان في جانب المشبه به من الألفاظ، والغرض التنفير من التجري بغير إذن الله ورسوله، ومثله قوله تعالى في حق الملائكة﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ ﴾[الأنبياء: ٢٧] أصله لا يسبق قولهم قوله، فمدحهم بنفي السبق، تنبيهاً على استهجان السبق، أو المراد بين يدي رسول الله، وذكر لفظ الله تعظيماً للرسول، وإشعاراً بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله، وعلى هذا فلا استعارة. قوله: (بقول أو فعل) مثال القول ما ذكره المفسر في سبب النزول أيضاً، من أنهم ذبحوا يوم النحر قبل رسول الله، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وقال: من ذبح قبل الصلاة، فإنما هو لحم عجله لأهله، ليس من النسك في شيء، وما ورد عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك، أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم، وقال الضحاك: وهو عام في القتال وشرائع الدين، أي لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله، وهو الأولى. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي في التقدم الذي نهاكم عنه. قوله: (على النبي) الأولى أن يقول عند النبي، ففي الحديث، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا أن يؤمر عليهم واحداً منهم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا أي تخاصما، حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت تلك الآيات الخمس إلى قوله: ﴿ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ومعنى قول عمر: ما أردت مخالفتك تعنتاً، وإنما أردت أن تولية الأقرع أصلح بهم، ولك يظهر لك ذلك. قوله: (ونزل فيمن رفع صوته) الخ، كأبي بكر وعمر في القصة المذكورة، كما أن قوله: (ونزل فيمن كان يخفض صوته عند النبي) أي كأبي بكر وعمر، حين بلغهما النهي عن رفع الصوت، فصار يخفضان صوتهما عند النبي، كما أن قوله: (ونزل في) الخ، هم بنو تميم الذين تكلم في شأنهم أبو بكر وعمر، فتلخص أنه لما اختلف أبو بكر وعمر في تأمير الأمير على الوفد المذكور، ولم يصبرا حتى يكون رسول الله هو الذي يشير بذلك، نزل قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ الآية، ولما رفعا أصواتهما في تلك القضية، نزل قوله تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ ﴾ الآية، ولما خفضا أصواتهما بعد ذلك نزل ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ﴾ الآية، ولما نادى الركب المذكور النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات نزل﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ ﴾[الحجرات: ٤] الآيتين. قوله: (إذا نطقتم) أي تكلمتم، وقوله: (إذا نطق) أي تكلم. قوله: ﴿ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ ﴾ لما كانت هذه الجملة كالمكررة مع ما قبلها، مع أن العطف يأباه، أشار المفسر إلى أن المراد بالأول، إذا نطق ونطقتم، فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم حداً يبلغه صوته، بل يكن كلامكم دون كلامه، والمراد بالثاني أنكم إذا كلمتموه وهو صامت، فلا ترفعوا أصواتكم، كما ترفعونها فيما بينكم. قوله: (ناجيتموه) أي كلمتموه وهو صامت. قوله: (بل دون ذلك) راجع لكل من النهيين، أي بل اجعلوا أصواتكم دون صوته، ودون جهر بعضكم لبعض، وقوله: (إجلالاً له) تعليل لما تضمنه قوله: (بل دون ذلك). قوله: ﴿ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ﴾ أي يبطل ثوابها، وقوله: ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ أي بحبوطها. قوله: (أي خشية ذلك) أشار إلى ﴿ أَن تَحْبَطَ ﴾ على حذف مضاف، أي خشية الحبوط، والخشية منهم وقد تنازعه، لا ترفعوا ولا تجهروا، فيكون مفعولاً لأجله، والعامل فيه الثاني أو الأول. قوله: (بالرفع والجهر) الباء سببية متعلقة باسم الإشارة، لأنه واقع على الحبوط، فكأنه قال: أي خشية الحبوط بسبب الرفع والجهر، لأن في الرفع والجهر استخفافاً بجانبه، فيؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم له قصد الإهانة وعدم المبالاة. روي أنه لما نزلت هذه الآية، قعد ثابت في الطريق يبكي، فمر به ابن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في، وأنا رفيع الصوت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول فقال لها: اذهب فادعه لي، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضبة، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره قال: فادعه لي، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضبة، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يبكبك؟ فقال: أنا صيّت، وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، فأنزل الله ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ﴾ الآية، قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة، رأى ثابت من المسلمين بعد انكسار، وانهزمت طائفة منهم، قال: أف لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا، واستشهد ثابت لسالم مولى حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، ثم تبتا وقاتلا حتى قتلا، واستشهد ثابت وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له: اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين، نزع درعي فذهب بها، وهي في ناحية من العسكر، عند فرس يستن في طيله، وقد وضع على درعي برمة، فائت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي، وائت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قل له: إن علي ديناً حتى يقضي عني، وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالداً، فوجد الدرع والفرس على ما وصفه، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا، فأجاز أبو بكر وصيته، قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. قوله: (فيمن كان يخفض صوته) أي مخالفة النهي السابق، وإجلالاً وتعظيماً. قوله: (كأبي بكر وعمر) الخ، أي فكان الجميع يخفضون أصواتهم عند رسول الله، إجلالاً له وتعظيماً. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ﴾ الخ، اسم الإشارة مبتدأ، والموصول بعد خبره، والجملة خبر ﴿ إِنَّ ﴾ وجملة ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ مستأنفة لبيان ما أعد لهم. قوله: ﴿ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ الامتحان افتعال، من محنت الأديم محناً أوسعته، ومعنى ﴿ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ ووسعها. قوله: (أي لتظهر منهم) أي فإنها لا تظهر، إلا بالاصطبار على أنواع المحن والتكاليف الشاقة، فالاختبار يظهر ما كان كامناً في النفس من التقوى، كما أن سماع الألحان، يظهر ما كان كامناً في النفس من الحب فتدبر. قوله: (ونزل في قوم) أي وهم وفد بني تميم.


الصفحة التالية
Icon