قوله: ﴿ وَٱلضُّحَىٰ ﴾ الخ، قدم ﴿ ٱلضُّحَىٰ ﴾ هنا على ﴿ ٱللَّيْلِ ﴾ وفي السورة التي قبلها قدم الليل، وذلك لأن في كل مزية تقتضي تقديمه، فقدم هذا تارة، والآخر أخرى، فالليل به السكون والهدوء، ومحل الخلوات والعطايا الربانية، والنهار به النور والسعي في المصالح واجتماع الناس، أو لأن السورة المتقدمة سورة أبي بكر، وهو قد سبق له الكفر، فقدم الليل، وهذه سورة محمد صلى الله عليه وسلم وهو محض نور، فقدم فيها ﴿ ٱلضُّحَىٰ ﴾.
إن قلت: ما الحكمة في ذكر ﴿ ٱلضُّحَىٰ ﴾ وهو ساعة، وذكر ﴿ ٱللَّيْلِ ﴾ بجملته؟ أجيب: بأن ذلك إشارة إلى أن ساعة من النهار، توازي جميع الليل، كما أن محمدا يوازي جميع الخلق، وأيضا الضحى وقت سرور، والليل وقت وحشة، ففيه إشارة إلى أن سرور الدنيا أقل شرورها. قوله: (أو كله) أي وعليه، ففيه مجاز من إطلاق الجزء على الكل. قوله: ﴿ إِذَا سَجَىٰ ﴾ ﴿ إِذَا ﴾ لمجرد الظرفية، والعامل فيها فعل القسم المقدر كما تقدم نظيره. قوله: (غطى بظلامه) أي كل شيء. قوله: (أو سكن) إسناد السكون له مجاز عقلي، والمعنى: سكن أهله من إسناد الشيء لزمانه. قوله: ﴿ مَا وَدَّعَكَ ﴾ بالتشديد في قراءة العامة من التوديع، وهو في الأصل مفارقة المحبوب مع التألم، أطلق وأريد منه مطلق الترك، بدليل القراءة الشاذة بالتخفيف مع الودع وهو الترك. قوله: ﴿ وَمَا قَلَىٰ ﴾ مضارعة من باب ضرب وقتل. قوله: (نزل هذا) الخ، اختلف في سبب نزول هذه الآية على أربعة أقوال، الأول: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم اشتكى ليلتين أو ثلاثاً فجاءت أم جميل امرأة أبي لهب وقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فنزلت. الثاني: أبطأ الوحي حتى شق عليه، فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، وأنزل عليه الآية. الثالث: ما روي أن خولة كانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال صلى الله عليه وسلم: يا خولة ما حدث في بيتي؟ إن جبريل لا يأتيني، قالت خولة: فكنست فأوهيت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه، وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال: يا خولة دثريني، فلما نزل جبريل عليه سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التأخر فقال: أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة؟ الرابع: ما روي أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف فقال صلى الله عليه وسلم: سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه السلام، بقوله تعالى:﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾[الكهف: ٢٣-٢٤] وأخبره بما سأل، ونزلت هذه الآية. قوله: (خمسة عشر يوماً) هذا قول ابن عباس، وقال ابن جرير: اثني عشر يوماً، وقال مقاتل: أربعون يوماً روي أنه لما جاءه جبريل قال له: ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبريل: إن كنت إليك أشوق، ولكني عبد مأمور، وأنزل عليه﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾[مريم: ٦٤].
قوله: ﴿ وَلَلآخِرَةُ ﴾ اللام للابتداء مؤكدة لمضمون الجملة. قوله: ﴿ خَيْرٌ لَّكَ ﴾ إنما قيد بقوله: ﴿ لَّكَ ﴾ لأنها ليست خيراً لكل أحد، بل الناس على أربعة أقسام: منهم من له الخير في الدارين، وهم أهل الطاعة الأغنياء. ومنهم من له الشر فيهما، وهم الكفرة الفقراء. ومنهم من له صورة خير في الدنيا، وشر في الآخرة، وهما الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شر في الدنيا وخير في الآخرة، وهم الفقراء المؤمنون. قال بعض أهل الإشارات: الآية اشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم دائما يترقى في الكمالات إلى غير نهاية، فمقامه في المستقبل أعلى منه في الماضي وهكذا، ويدل لذلك أيضاً قوله في الحديث:" إني ليغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة "فاستغفاره لكونه ارتقى مقاماً أعلى من الأول، فرأى أن الذي انتقل منه بالنسبة للذي انتقل إليه ذنباً. قوله: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ ﴾ (في الآخرة) المناسب أن يبقى على عمومها، لأن اعطاءه حتى يرضى، ليس قاصراً على الآخرة، بل عام في الدنيا والآخرة، فهو وعد شامل، لما أعطاه له من كمال النفس وظهور الأمور واعلاء الدين، ولما ادخر له ما لا يعلم كنهه سواه تعالى، وقيل: عطاؤه هو الشفاعة، وقيل: يعطيك ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابها المسك، وفيها ما يليق بها، والحق التعميم بما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. قوله: (وواحد من أمتي) أي الموحدين، فالمراد أمة الإجابة وقد أشار لذلك بعض العارفين بقوله: قرأنا في الضحى ولسوف يعطى فسر قلوبنا ذاك العطاءوحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء