قوله: (استفهام تقرير) أي وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد النفي، لأن الاستفهام إذا دخل على منفي قرره فصار معناه: قد شرحنا، ولذلك عطف عليه الماضي، وليس معناه الإنشاء حتى يقال: يلزم عليه عطف الخبر على الإنشاء، فيما لا محل له من الإعراب، وهو مردود أو ضعيف، بل المراد لازمه، وهو الإخبار بشرح الصدر وما بعده، فهذه السورة من جملة النعم التي أمر بالتحدث بها في السورة قبلها. قوله: (أي شرحنا) الشرح في الأصل بسط اللحم ونحوه، يقال: شرحت اللحم، بسطته وشققته، والمراد هنا توسعة الصدر بالنور الإلهي، ليسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، فصار مهبط الرحمات ومنبع البركات. قوله: (بالنبوة وغيرها) روي أن جبريل عليه السلام أتاه وهو عند مرضعته حليمة، وهو ابن ثلاث سنين أو أربع، فشق صدره وأخرج قلبه وغسله ونقاه وملأ علماً وإيماناً، ثم رده في صدره، وحكمة ذلك لينشأ على أكمل حال، ولا يعبث كالأطفال، وشق أيضاً عند بلوغه عشر سنين، ليأتي عليه البلوغ، وهو على أجمل الأخلاق وأطيبها، وعند البعثة ليتحمل القرآن والعلوم، وليلة الإسراء ليتهيأ لملاقاة أهل الملأ الأعلى، ومناجاة الحق جل جلاله ومشاهدته وتلقيه عنه، فمرات الشق أربع، زيادة في تنظيفه وتطهيره، ليكون كاملاً مكملاً، لا يعلم قدره غير ربه، والحكمة في قوله: ﴿ لَكَ ﴾ ولم يقل ألم نشرح صدرك، التنبيه على أن منافع الرسالة عائدة عليه صلى الله عليه وسلم، لا لغرض يعود عليه، تعالى الله عن الأغراض والعلل. قوله: ﴿ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴾ معطوف على مدلول الجملة السابقة كأنه قال: قد شرحنا لك صدرك.
﴿ وَوَضَعْنَا ﴾ و ﴿ عَنكَ ﴾ متعلق بـ ﴿ وَضَعْنَا ﴾، وقدمه على المفعول الصريح تعجيلاً للمسرة، وتشويقاً إلى المؤخر. قوله: ﴿ ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴾ الإنقاض في الأصل الصوت الخفي الذي يسمع من الرحل فوق البعير من شدة الحمل، والمراد لازمه وهو الثقل. قوله: (وهذا كقوله تعالى يلغفر لك) الخ، أي فهو مصروف عن ظاهره، فيجاب عنه بأجوبة منها: أن المراد ﴿ وَوَضَعْنَا عَنكَ ﴾ وزر أمتك، وإنما أضافها إليه لاشتغال قلبه بها، قال تعالى:﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾[التوبة: ١٢٨] فأوزار أمته قبل إسلامهم، موضوعة عنهم بالإسلام، فلا يؤاخذون بها، لأن الإسلام يجب ما قبله، وبعد الإسلام توضع عنهم التوبة أو بشفاعته صلى الله عليه وسلم لمن مات مصراً. ومنها: أن المراد ﴿ وَضَعْنَا عَنكَ ﴾ أثقال النبوة والتبليغ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان في ابتداء البعثة، يشق عليه الأمر ويقول: أخاف ألا أقوم بحق الدعوة، فوضعه الله عنه، ومنها: أن المراد بالوزر خلاف الأولى، فكان إذا ارتبكه وعاتبه الله عليه، ثقل ذلك الأمر عليه وشق، وتسميته وزراً بالنسبة لمقامه، من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، كإذنه للمنافقين في التخلف حين اعتذروا، وأخذه الفداء من أسارى بدر، ونحو ذلك. ومنها: أن المراد بالوضع العصمة، فالمعنى: عصمناك من الوزر ابتداء وانتهاء، فلم نقدر عليك وزراً أصلاً. وكل من هذه الأجوبة صحيح، ولا مانع من حمل الآية على الجميع. قوله: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ أي أعلناه، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا دينك يظهر عليه، وأخذنا على الأنبياء العهد إن ظهرت وأحدهم حي، ليؤمنن بك ولينصرنك، وهم يأخذون على أممهم ذلك العهد، كما تقدم في قوله تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾[آل عمران: ٨١] الآية، وفي هذه المعنى قال البوصيري: ما مضت من الرسل إلا   بشرت قومها بك الأنبياءوالحكمة في زيادة لك ما سبق، مع أن رفع الذكر عائد ثمرته عليه، لا لغرض يعود عليه تعالى. قوله: (والخطبة) أي على المنابر، وخطبة النكاح. قوله: (وغيرها) أي كيوم الفطر الأضحى ويوم عرفة وأيام التشريق وعند رمي الجمار وعلى الصفا والمروة ومشارق الأرض ومغاربها، ولو أن رجلاً، عبد الله تعالى، وصدق بالجنة والنار، وكل شيء، ولم يشهد أن محمداً رسول الله، لم ينتفع بشيء وكان كافراً.


الصفحة التالية
Icon