قوله: ﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ ﴾ المجيء في الأصل اسم للموجود الغائب إذا حضر، والمراد حصل وتحقق، ففيه استعارة تبعية، حيث شبه حصول النصر عند حضور وقته بالمجيء، ثم اشتق منه لفظ جاء بمعنى حصل، وعبر بالمجيء إشعاراً بأن الأمور متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها، وأن ما قدر الله حصوله فهو كالحاصل، كأنه موجود حضر من غيبته.
﴿ إِذَا ﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، منصوب بسبح الواقع جوابها، وهي على بابها إن كانت السورة نزلت قبل الفتح، فإن كان النزول بعد الفتح فـ ﴿ إِذَا ﴾ بمعنى إذ، متعلقة بمحذوف تقديره أكمل الله الأمر، وأتم النعمة على العباد، إذا جاء نصر الله.
﴿ نَصْرُ ٱللَّهِ ﴾ مضاف لفاعله، ومفعوله محذوف قدره المفسر بقوله: (نبيه). قوله: ﴿ وَٱلْفَتْحُ ﴾ أل فيه عوض عن المضاف إليه عند الكوفيين، أي وفتحه، أو العائد محذوف عند البصريين، أي والفتح منه، وعطفه على النصر عطف خاص على عام. قوله: (فتح مكة) أي التي حصل به أعظم فتوح الإسلام، وأعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه ولتبشر به أهل السماء، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وسببها:" أنه وقع الصلح بالحديبية، على أنه صلى الله عليه وسلم لا يتعرض لمن دخل في عقد قريش، وأنهم لا يتعرضون لمن دخل في عقده، وكان ممن دخل في عقده خزاعة، وفي عقدهم بنو بكر، وكانا متعاديين، فخرج بعض بني بكر وبني خزاعة فاقتتلوا، فأمدت قريش بني بكر، فخرج أربعون من خزاعة إليه صلى الله عليه وسلم يخبرونه ويستنصرونه، فقام وهو يجر رداءه ويقول: لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر به نفسي، ولما أحس أبو سفيان جاء إلى المدينة ليجدد العهد ويزيد في المدة، فأبى صلى الله عليه وسلم فرجع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، وأعلم الناس أنه سائر إلى مكة وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نبغتها في بلادها، فتجهز الناس، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم عامداً إلى مكة لعشر مضين في رمضان، وقيل: لليلتين مضتا منه سنة ثمان من الهجرة، فصام رسول الله والناس معه، حتى إذا كان بالكديد أفطر، عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل، ثم مضى حتى نزل مر الظهران المسمى الآن بوادي فاطمة في عشرة آلاف، وقيل: أثني عشر ألفاً من المسلمين، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار عنه أحد، فلما نزل به أمرهم أن يوقدوا عشرة آلاف نار كل نار على حدة، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، وكان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مهاجراً بعياله، فلما رأى ذلك الأمر قال: والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة قبل أن يستأمنوه، لهلكت قريش إلى آخر الدهر، قال العباس: فركبت بغلة رسول الله البيضاء، وخرجت لأجد حطاباً أو ذا حاجة يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله، ليخرجوا إليه فيستأمنوه، قبل أن يدخلهم عليهم عنوة، وإذا أنا بأبي سفيان فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم، قال: مالك فداك أبي وأمي، قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله قد جاءكم بما لا قبل لكم به، بعشرة آلاف من المسلمين، قال: وما الحيلة، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله فأستأمنه لك، فأردفته ورجع حاصباه، فخرجت أركض به بغلة رسول الله، كلما مررت بنار من نيران المسلمين نظروا وقالوا: عم رسول الله صلى الله عليه سلم على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: يا أبا سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله، وركضت البغلة فسبقته؛ فلما وصلت النبي صلى الله عليه وسلم دخلت عليه ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله، قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه، قال: فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به، قال: فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، فما زال به حتى أسلم، قال العباس: يا رسول الله إن إبا سفيان رجل الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهوآمن، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه سلم: أحبسه بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله، قال: ففعلت ومرت به القبائل على راياتها، كلها مرت به قبيلة قال: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي، ولسليم، ثم تمر قبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ فلا تمر قبيلة إلا سألني عنها، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، فقال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، قلت: ويحك إنها النبوة، قال: فنعم إذاً، فقلت: الحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعاً حتى أتى مكة، فصرخ في المسجد بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. قالوا: وكيف السبيل؟ قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: وحيك وما تغني عنا دارك، قال: من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما وبايعاه، ثم بعثهما رسول الله بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وضرب قبته بأعلى مكة، وأمر خالد بن الوليد فيمن أسلم من خزاعة بني سليم، أن يدخلوا من أسفل مكة وقال لهم: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس، فقال سعد: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة أي الحرب، اليوم تستحل الحرمة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأمره على لسان علي كرم الله وجهه أن يدفع الراية لابنه قيس، وأخبر أبا سفيان أنه لم يأمر بقتل قريش، وأن اليوم يوم المرحمة، وأن الله يعز قريشاً، وخشي سعد أن ابنه يقع منه شيء أيضاً، فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فدفعها للزبير، وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين مع الزبير أيضاً، فبعثه ومعه المهاجرون وخيلهم، وأمره أن يدخل من أعلى مكة، وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه، وأما خالد بن الوليد فقدم على قريش، وبني بكر والأحابيش بأسفل مكة، فقاتلوهم فهزمهم الله، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك، فقتل من المشركين اثنا عشر رجلاً، أو ثلاثة عشر رجلاً، ولم يقتل من المسلمين إلا ثلاثة، وكان قد أمرهم النبي أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا نفراً سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم: عبد الله بن سعد، وعبد الله بن خطل، كانا قد أسلما ثم ارتدا، ومنهم: قينتان كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن خطل، ومنهم الحويرث بن وهب، ومقيس بن صبابة، وإناس آخر، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لما اطمأن بالناس، حتى جاء البيت فطاف به سبعاً على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكن له الناس في المسجد، فقال: لا إله الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزب وحده، ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ خيراً، أخر كريم، وابن أخ كريم، ثم قال: اذهبوا أنتم الطلقاء، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكن منهم عنوة، فبذلك سمي أهل مكة الطلقاء، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب، ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجمع لنا بين الحجابة والسقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي لي، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر، واجتمع الناس للبيعة فجلس إليهم رسول الله على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا، لما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم به؟ قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة، ثم خرج إلى هوازن وثقيف ". قوله: ﴿ يَدْخُلُونَ ﴾ نصب على الحال إن كانت رأى بصرية، أو مفعول ثان إن كانت عملية. قوله: ﴿ أَفْوَاجاً ﴾ حال من فاعل ﴿ يَدْخُلُونَ ﴾ وهو جمع فوج. والمعنى: يدخلون زمراً زمراً من غير قتال، وقوله: (جاءه العرب) لا مفهوم له بل وغيرهم. قوله: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ أي قل: سبحان الله والحمد لله، تعجباً مما رأيت من عجيب إنعامه عليك. قوله: ﴿ وَٱسْتَغْفِرْهُ ﴾ أي سل الله الغفران، وإنما أمر الله تعالى نبيه بالاستغفار، مع أنه معصوم من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، ليترقى ويرجع إلى حضرة الحق، فإنه وإن كان مشغولاً بهداية الخلق، إلا أن مقام الصفوة والحضور والأنس أعلى وأجل، فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، ليزداد في التواضع والافتقار، وليكون ختام عمله التنزيه والاستغفار، وفيه تشريع للأمة، إذا طعن أحدهم في السن، فالغالب قرب أجله، فليكثر من ذلك ليختم عمله به. قوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾ أي ولم يزل، فكان للدلالة على ثبوت خبرها لاسمها، ومعنى كونه ﴿ تَوَّاباً ﴾ أنه يكثر قبول التوبة، وبهذا اندفع ما يقال: إن كان للدلالة على ثبوت خبرها لاسمها في الماضي، وإذا كان كذلك فلا يصح أن يكون علة للاستغفار في الحال أو المستقبل. قوله: (وعلم بها أنه قد اقترب أجله) أي لقول مقاتل لما نزلت قرأها النبي صلى عليه وسلم على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص والعباس، ففرحوا واستبشروا وبكى العباس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا عم؟ قال: نعيت إليك نفسك، قال: إنه كما قلت، فعاش بعدها ستين يوماً، ما رئي فيها ضاحكاً. وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق في حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: هذا يوم فرح، فقالا: بل فيه نعي النبي صلى الله عليه وسلم، أي إخبار بموته. وعن ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزل:﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾[المائدة: ٣] فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوماً، ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزل﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٨١] فعاش بعدها إحدى وعشرين يوماً، وقيل: سبعة أيام، وقيل: غير ذلك قوله: (توفي صلى الله عليه وسلم سنة عشر) إن قلت: إن سنة عشر حج فيها وتوفي فيها ولده إبراهيم، فالصواب سنة إحدى عشرة. وأجيب: بأن المراد على تمام عشر من الهجرة إلى المدينة، وذلك لأن الهجرة كانت لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول، وكانت وفاته لاثنتي عشرة خلت من ربيع أول، فكانت وفاته صلى الله عليه وسلم على رأس العاشرة، بالنظر لجعل التاريخ من الهجرة، وإن كانت لشهرين وشيء مضت من الحادية عشرة، إذا اعتبر التاريخ من أول السنة الشرعية وهو المحرم، فيصح أن يقال: توفي سنة إحدى عشرة، بالنظر لجعل التاريخ من المحرم، وتوفي سنة عشرة بالنظر لجعل التاريخ من يوم دخول المدينة.