قوله: ﴿ قُلْ أَعُوذُ ﴾ أي أتحصن، والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ويتناول غيره من أمته، لأن أوامر القرآن ونواهيه لا تخص فرداً دون فرد. قوله: ﴿ ٱلنَّاسِ ﴾ أصله إما أناس حذفت الهمزة، أو نوس مأخوذ إما من ناس إذ تحرك خص بالبشر، لأنه المتحرك الحركة المعتد بها الناشئة عن رؤية وتدبر، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفاً أو من الإنس ضد الوحشة لأنه يؤنس به؛ أو من النسيان لكونه شأن وطبعه. قوله: (خالقهم) أي موجدهم من العدم. قوله: (خصوا بالذكر) أي وإن كان رب جميع الخلائق. قوله: (تشريفاً لهم) أي من حيث إنه تعالى أخذ لهم ملائكة قدسه، وجعل لهم ما في الأرض جميعاً، وأمدهم بالعقل والعلم وكلفهم بخدمته، فإن قاموا بتلك الوظيفة، كان لهم العز دنيا وأخرى، وإن لم يقوموا بها، ردوا لأسفل السافلين، فلم يساووا كلباً ولا خنزيراً، وإذا علمت بذلك أنه رب الناس، فهو رب الناس، فهو رب غيرهم بالأولى. قوله: (ومناسبته للاستعاذة) الخ، أي فكأنه قال: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم المالك لهم. قوله: ﴿ مَلِكِ ٱلنَّاسِ ﴾ بإسقاط الألف هنا باتفاق القراء، بخلاف الفاتحة ففيها قراءتان سبعيتان ثبوت الألف وحذفها، ومعنى الملك: المتصرف فيهم بأنواع التصرفات، من إعزاز وإذلال وإغناء وإفقار وغير ذلك. قوله: ﴿ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ ﴾ هذا الترتيب بديع، وذلك أن الإنسان أولاً يعرف أن له رباً لما شاهده من أنواع التربية، ثم إذا تأمل، عرف أن هذا الرب متصرف في خلقه، غني عن غيره فهو الملك، ثم إذا زاد تأمله، عرف أنه يستحق أن يعبد، لأنه لا يعبد إلا الغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه. قوله: (زيادة للبيان) حاصله أنه ورد إشكال وهو: لم كرر لفظ الناس ثانياً وثالثاً، ولم يكتف بضميرهم، مع أن اتحاد اللفظين في اللفظ، والمعنى معيب كالإبطاء في الشعر. فأجاب المفسر بقوله: (زيادة للبيان) وهو جواب خفي، وأحسن منه أن يقال: إن التكرار لإظهار شرف الناس وتعظيمهم والاعتناء بشأنهم، كما أنه حسن التكرار للتلذذ، وإظهار فضل المكرر في قول بعضهم: محمد ساد الناس كهلاً ويافعاً   وساد على الأملاك أيضا محمدمحمد كل الحسن من بعض حسنه   وما حسن كل الحسن إلا محمدمحمد ما أحل شمائله وما   ألذ حديثاً راح فيه محمدوهذا تسليم أن المراد بالناس في الجميع شيء واحد، وأما إن أريد بالناس. الأول: الصغار وأضيفوا للرب؛ لاحتياجهم إلى التربية أكثر من غيرهم. وبالثاني: الشباب وأضيفوا للملك، لأن شأنهم الطغيان والطيش، فهم محتاجون لملك يسوسهم ويكسر هيجان شبوبيتهم. وبالثالث: الشيوخ أضيفوا للإله، لأن شأنهم كثرة العبادة، لقرب ارتحالهم وقدومهم على ربهم وفناء شهواتهم، فهم أقرب من غيرهم للتعلق بالإله، فلا اتحاد في المعنى. قوله: ﴿ مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ﴾ متعلق بـ ﴿ أَعُوذُ ﴾ إن قلت: ما الحكمة في وصف الله تعالى في هذه السورة نفسه بثلاثة أوصاف، وجعل المستعاذ منه شيئاً واحداً، وفي السورة قبلها بعكس ذلك، لأن وصف نفسه بوصف واحد؛ وجعل المستعاذ منه أربعة أشياء. أجيب: بأنه في السورة المتقدمة المستعاذ منه أمور تضر في ظاهر البدن، وهنا وإن كان أمراً واحداً، إلا أنه يضر الروح، وما كان يضر الروح يهتم بالاستعاذة منه. إن قلت: كان مقتضى الظاهر تقديم ما به الاهتمام، وهو الاستعاذة من شر الوسواس، إذ سلامة الروح مقدمة على البدن. أجيب: بأن سلامة البدن وسيلة للمقصود بالذات؛ وهو سلامة الروح. قوله: (سمي بالحدث) أي المصدر، وقوله: (لكثرة ملابسته له) أي ملازمته للوسوسة، فهو على حد: زيد عدل، وما ذكره المفسر بمتعين، فإن الوسواس بالفتح، كما يستعمل اسم مصدر بمعنى الحدث، يطلق على نفس الشيطان الموسوس، ويطلق أيضاً على ما يخطر بالقلب من الشر. واعلم أن خواطر القلب أربعة: رحماني وملكي ونفسي، وشيطاني، فالرحماني ما يلزم طاعة بعينها، والملكي ما يلزم طاعة لا بعينها، والنفسي ما يلزم معصية بعينها، والشيطاني ما يلزم معصية لا بعينها فتمسك بهذا الميزان. قوله: (لأنه يخنس) من باب جخل، أي يتوارى ويختفي بعد ظهوره المرة بعد المرة. قوله: (كلما ذكر الله) أي فالذكر له كالقامع الذي يقمع المفسد، فهو شديد النفور منه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً، وعن بعض السلف: أن المؤمن يفني شيطانه، كما يفني الرجل بعيره في السفر. قال قتادة: ﴿ ٱلْخَنَّاسِ ﴾ له خرطوم كخرطوم الكلب، وقيل: كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال: رأسه كرأس الحية، واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وتأخر، وإذا غفل رجع، وهل المراد الحقيقة. أو خرطوم الكلب والخنزير كناية عن قبحه وخبثه ونجاسته، ورأس الحية كناية عن شدة الأذية، ووضعه على الفؤاد كناية عن شدة التمكن؟ كل محتمل. قوله: (إذا غفلوا عن ذكر الله) أي بقلوبهم ولو كانوا ذاكرين بألسنتهم، وذلك لأن الوسوسة حالة في القلب، فلا يطردها إلا الذكر في الحال في القطر، فمن كان من أهل الذكر، فلا تسلط للشيطان عليه، قال تعالى:﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾[الحجر: ٤٢]، ولا يترك الإنسان الذكر اللساني إذا وجد الغفلة والوسواس في قلبه، بل يكثر الذكر ويديمه، فلعله يستيقظ قلبه ويتنور، قال العارفون: الذكر اللساني كقدح الزناد، فإذا تكرر أصاب، قال بعضهم في ذلك: اطلب ولا تضجرن من مطلب   فآفة الطالب أن يضجراأما ترى الحبل لتكراره   في الصخرة الصماء قد أثراقوله: ﴿ مِنَ ٱلْجِنَّةِ ﴾ اسم جنس جمعي، يفرق بينه وبين واحده بالياء، فيقال: جن وجني، كزنج وزنجي، وغالباً يفرق بالتاء كتمر وتمرة، وزيدت التاء في الجنة لتأنيث الجماعة، سموا بذلك لاجتنانهم أي استتارهم عن العيون، وهم أجسام نارية هوائية، يتشكلون بالصور الشريفة والخسيسة، وتحكم عليهم الصورة وتقدم ما فيهم. قوله: (بيان للشيطان الموسوس) أي المذكور بقوله: ﴿ مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ﴾ فـ ﴿ مِن ﴾ بيانية مشوبة بتبعيض، أي بعض الجنة وبعض الناس. قوله: (كقوله تعالى) الخ، أي ويشهد له حديث:" تعوذوا بالله من الشياطين الجن والإنس ". قوله: (والناس) عطف على الوسواس، أي ولفظ ﴿ شَرِّ ﴾ مسلط عليه كأنه قال: من شر الوسواس الذي يوسوس وهو الجنة، ومن شر الناس، وعليه فالناس لا يصدر منهم وسوسة. قوله: (وعلى كل) أي من الاحتمالين، وقوله: (يشمل) أي الشر المستعاذ منه شر لبيد الخ. قوله: (المذكورين) أي في السورة السابقة، وفيه تغليب المذكر وهو لبيد، على المؤنث وهو بناته. قوله: (واعترض الأول) أي وهو أنه بيان للشيطان الموسوس. قوله:(لا يوسوس في صدورهم الناس) كذا في بعض النسخ، والمناسب كما في بعضها لا يوسوسون في صدور الناس. قوله: (بمعنى يليق بهم) أي كالنميمة ويخنسون إذا زجروا. قوله: (المؤدي) أي الموصل إلى ثبوتها في القلب. قوله: (والله أعلم) أشار بذلك إلى تمام القرآن، وفي ختم القرآن بهذه السورة إشارة حسنة كأنه قيل: ما أنزلناه كاف، ما فرطنا في الكتاب من شيء، فلا تطلب بعده شيئاً، بل اقتصر على العمل به، واستعذ بالله من الشيطان والحاسد، لأن العبد إذا تمت نعمة الله عليه، كثرت حساده إنساً وجناً، قيل: عده حروف هذه السورة غير المكرر ثلاث وعشرون حرفاً، وكذا عدد الفاتحة بعدد السنين التي أنزل فيها القرآن، وهو سر بديع، وأول القرآن باء البسملة، وآخره سين والناس، كأنه قال: بس أي تم وكمل، ثم اعلم أن الجلال المحلي رضي الله عنه، بعد أن ختم هذا النصف الأخير، وابتداؤه من سورة الكهف، شرع في تفسير النصف الأول، وأوله سورة الفاتحة، فقال في شروعه: فيه سورة الفاتحة الخ، ولم يفتتحه بخطبة على عادة المؤلفين، مشتملة على حمد وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، قصداً للاختصار، وروماً للاقتصار على محط الفائدة. ثم إنه لما فرغ من تفسير سورة الفاتحة، توفي إلى رحمة الله تعالى، فقيض الله تعالى تلميذه الجلال السيوطي لتتميم تفسيره، فابتدأ بأول سورة البقرة، وختم بالإسراء، كما ذكر في خطبته، فسار تفسيره الفاتحة في نسخ الجلال، مضموماً لتفسير آخر القرآن لا أوله، ليكون تفسير المحلي مضموماً بعضه لبعض، رضي الله عن الجميع ونفعنا بهم.


Icon