قوله تعالى: ﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ الآية، هذه السورة مدنية كلها، وقيل: إلا آيتان من آخرها فإِنهما نزلتا بمكة، وهكذا قول الجمهور. ويقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة. ومنه برئت من الدين. وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذين عاهدتم، ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة أو على إضمار مبتدأ، أي هذه براءة. وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب، قال ابن عطية: أي الزموا. وفيه معنى الإِغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة إلى الذين عاهدتم. قال ابن إسحاق وغيره: كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً عاماً على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات. فنقض ذلك بهذه الآية وأجّل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع رسول الله عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر أتم له عهده، وإذا كان ممن تحسس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة. يسيح في الأرض، أي يذهب فيها سوحاً آمناً. وظاهر من المشركين العموم فدخل فيه مشركوا قريش وغيرهم. " فسيحوا " في الأرض أمر إباحة، وفي ضمنه تهديد، وهو التفات من غيبة إلى خطاب، أي قل لهم يسيحوا. ويقال: ساح سياحة وسيوحاً وسيحاناً، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط. قال ابن عباس: أول الأشهر شوال حين نزلت الآية، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين. فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان.﴿ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ ﴾ أي لا تفوتونه وإن أمهلكم وهو مخزيكم، أي مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وفي الآخرة بالعذاب.﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ قرىء: وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال. وقرىء: ان الله بكسر الهمزة وفتحها، فالفتح على تقدير بأنّ الله، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين أو، لأن الاذان في معنى القول، فكسرت على مذهب الكوفيين. وحكى أبو عمرو عن أهل نجد أنهم يقرؤون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين واتباعاً لكسرة الميم. والظاهر أن يوم الحج الأكبر يوم واحد. فقال عمر وجماعة: هو يوم عرفة. وروي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو موسى وجماعة: هو يوم النحر. وقيل: يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها، قاله سفيان بن عيينة. والذي تظاهرت به الأحاديث أن علياً رضي الله عنه أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر رضي الله عنه، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالاسماع فتتبّعهم بالاذان بها يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر من يعينه بها كأبي هريرة وغيره، وتتبّعوا بها أيضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره، وبهذا يترجح قول سفيان. وجملة براءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة، وجملة واذان من الله ورسوله اخبار بوجوب الاعلام بما ثبت فافترقنا، وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم، وعلق الاذان بالناس لشموله معاهداً وغيره ناكثاً وغيره مسلماً وكافراً.﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ معطوف على موضع اسم انّ إذ كان قبل دخول انّ كان في موضع رفع على الابتداء وفي العطف على هذا الموضع خلاف، ويجوز أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في قوله: بريء، تقديره بريء هو ورسوله، والأجود أن يكون مرفوعاً على الابتداء وخبره محذوف تقديره ورسوله بريء منهم، وحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه.﴿ فَإِن تُبْتُمْ ﴾ أي من الشرك الموجب لتبرىء الله ورسوله منكم.﴿ فَهُوَ ﴾ أي التوب.﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار.﴿ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي عن الإِسلام.﴿ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ ﴾ أي لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته.﴿ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم.﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم ﴾ الأظهر أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى لكن، ويبعد أن يكون متصلاً وان كان قد قال به قوم لعسر ظهور المستثنى منه قبله الذي هؤلاء بعض منه.﴿ فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ﴾ أي إلى انقضاء مدة عهدهم. والظاهر أن قوله: إلى مدتهم، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروا بإِتمام العهد إلى تمام المدة. وعن ابن عباس: كان بقي لحيّ من كنانة تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم. ﴿ وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً ﴾، أي لم يعينوا عليكم أحداً كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتموا بإِلى لتضمنه معنى فادوا، أي فأدوه تامّاً كاملاً.