﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ ﴾ الآية، هذه السورة مكية في قول: وقيل مدنية واستثنى في كل قول آيات ذكرت في البحر وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أوائل السور في أول البقرة فليطالع هناك قال الزمخشري: تلك إشارة إلى الآيات السورة المراد بالكتاب السورة أي تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها وقيل تلك إشارة إلى جميع كتب الله المنزلة ويكون المعنى تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك والظاهر أن قوله والذي مبتدأ والحق خبره ومن ربك متعلق بأنزل وأكثر الناس عام في كفار مكة وغيرهم ولما ذكر انتفاء الإِيمان من أكثر الناس ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجد بهم إلى إلإِيمان مما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع والجلالة مبتدأ والذي هو الخبر والضمير في ترونها عائد على السماوات أي تشاهدون السماوات خالية عن عمد واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاماً مستأنفاً واحتمل أن يكون جملة حالية أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين وقيل ضمير النصب في يرونها عائد على عمد أي بغير عمد مرئية فترونها صفة للعمد وتقدم تفسير ثم استوى على العرش في الاعراف.﴿ كُلٌّ يَجْرِي ﴾ قال ابن عباس: منازل الشمس والقمر وهي الحدود الذي لا تتعداها قدّر لكل منهما سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء. " انتهى ". والأجل مسمى هو يوم القيامة فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى:﴿ إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾[التكوير: ١] وقال:﴿ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ﴾[القيامة: ٩] ومعنى تدبير الأمر إنفاذه وإبرامه وعبر بالتدبير تقريباً للإِفهام إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر والأمر أمر ملكوت وربوبيته وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك. وتفصيل الآيات جعلها فصولاً مبينة مميزاً بعضها عن بعض والآيات هنا دلالاته وعلاماته في سماواته على وحدانيته وهاتان الجملتان استئناف اخبار عن الله تعالى والخطاب في لعلكم للكفرة وتوقنون بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ ﴾ الآية، لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية وقوله: مدّ الأرض يقتضي أنها بسيطة لا كروية وهذا هو ظاهر الشريعة، قال أبو عبد الله الرازي: ثبت بالدليل أن الأرض كرة ولا ينافي ذلك قوله: مدّ الأرض وذلك أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى ألا ترى أنه قال:﴿ وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً ﴾[النبأ: ٧] مع أن العالم والناس عليها يستقرون فكذلك هنا وأيضاً ليستدل به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت على ما قيل أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال فتأويل مدّ الأرض أنه جعلها مختصة بمقدار معين وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه والاختصاص بذلك المقدار المعني لا بد أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع " انتهى " ملخصاً والرواسي الثوابت والمعنى جبالاً رواسي وأيضاً فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي وصارت الصفة تغني عن الموصوف فجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وكاهل وكانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم قيل من جهة أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم ومن جهة ما يحصل منها في المعادن الجوهرية والرخامية وغيرهما كالنفظ والكبريت يكون الجبل واحداً في الطبع وتأثير الشمس واحد دليل على أن ذلك بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة الممكنات ومن جهة تولد الأنهار منها قيل وذلك لأن الجبل جسم صلب وتتصاعد أبخرة قعر الأرض إليه وتحتبس هناك فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة فلقوتها تشق الأرض وتخرج وتسيل على وجه الأرض ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية وقوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً ﴾[المرسلات: ٢٧]﴿ وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً ﴾[النحل: ١٥] قال المفسرون: الأنهار المياه الجارية في الأرض وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل البقرة.﴿ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ متعلق بجعل ولما ذكر الأنهار الجارية في الأرض وذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين يعني أنه حين مدّ الأرض جعل ذلك ثم تكثرت وتنوعت.﴿ وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ الآية، قطع جمع قطعة وهي الجزء متجاورات متلاصقة متدانية قريب بعضها من بعض قال ابن عباس: أرض طيبة وأرض سبخة تنبت هذه وهذه إلى جنبها لا تنبت وقرىء: وزرع ونخيل صنوان برفع الأربعة عطفاً على جنات وبالجر عطفاً على من أعناب الصنو الفرع بجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل ومنه قيل للعم صنو وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان وبضمها في لغة بني تميم وقيس كذئب وذؤبان ويقال: صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته.﴿ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ ﴾ ماء مطر أو ماء بحر أو ماء نهر أو ماء عين أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض التفضيل في الأكل وان كانت متفاضلة في غيره لأنه غالب وجوه الانتفاعات من الثمرات ألا يرى إلى تفاوتها في الأشكال والألوان والروائح والمنافع وما يجري مجرى ذلك قيل: نبه تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته وأنه المدير للأشياء كلها وذلك أن الشجر تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً وليس من طبعه إلا التسفل ثم يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه ثم تختلف طعوم الثمار والماء واحد والشجر جنس واحد وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه لا يشبه المخلوقات.﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾ قال ابن عباس: في اختلاف الألوان والروائح والطعوم.﴿ لآيَاتٍ ﴾ لحججاً ودلالات.﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع والجنات وسقيها وتفصيلها جاء ختمها بقوله: لقوم يعقلون، بخلاف الآية التي قبلها فإِن الاستدلال بها يحتاج إلى تأمل وتدبر نظر جاء ختمها بقوله: لقوم يتفكرون.﴿ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ﴾ الآية، لما أقام الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنكار المشركين وحدانيته وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل وإن تعجب قال ابن عباس: وان تعجب من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك انك من الصادقين فهذا أعجب. وقال الزمخشري: وان تعجب يا محمد في قولهم من إنكار البعث فقولهم: عجيب حقيق بأن يتعجب منه لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعن بخلقهن كانت الإِعادة أهون شىء عليه وأيسره فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب " انتهى ". وليس مدلول اللفظ ما ذكر لأنه جعل متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث فاتحد الشرط والجزاء إذ صار التقدير وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فأعجب من قولهم في إنكار البعث وإنما مدلول اللفظ ان يقع منك عجب فليكن من قولهم أئذا متنا الآية. وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه هو إنكار البعث لأنه تعالى المخترع للأشياء ومن كان قادراً على إبرازها من العدم الصرف كان قادراً على الإِعادة كما قال تعالى:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾[الروم: ٢٧] أي هين عليه وقوله: فعجب خبر مقدم واجب التقديم واختلف القراء في الاستفهامين إذ اجتمعا في أحد عشر موضعاً منها هذا الموضع والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكي به وقال الزمخشري: أئذا متنا إلى آخر قولهم: يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم " انتهى ". وهذا إعراب متكلف وعدول عن الظاهر وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقديره انبعث أو نحشر.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى قائلي تلك المقالة وهي تقدير مصمم على إنكار البعث فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته عن إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم والظاهر أن الأغلال تكون في أعناقهم حقيقة في الآخرة كما قال تعالى:﴿ إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ﴾[غافر: ٧١] ولما كانوا متوعدين بالعذاب ان أصروا على الكفر وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا فأمطر علينا حجارة وقالوا: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً؟ قال ابن عباس: السيئة العذاب والحسنة العافية.﴿ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ ﴾ أي يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة وهذا يدل على سخف عقولهم إذ يستعجلون العذاب والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر ولكنهم لا يعتبرون فيستهزئون. قال ابن عباس: المثلات العقوبات المستأصلات كمثلة قطع الأنف والاذن ونحوهما.﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ﴾ ترجية للغفران على ظلمهم في موضع الحال والمعنى أنه يغفر لهم مع ظلمهم باكتساب الذنوب أي الظالمين أنفسهم. قال ابن عباس: ليس في القرآن آية أرجى من هذه. و ﴿ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ تخويف وإرهاب بعد ترجية. وقال سعيد بن المسيب لما فنزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم:" لولا عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش ولولا عقابه لاتكل كل أحد ". وفي حديث آخر:" ان العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة الله ".﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ الآية، عن ابن عباس" لما نزلت وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي رضي الله عنه. وقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي من بعدي ".