﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ هذه السورة مكية كلها، وقيل إلا ثلاث آيات فإِنها مدنية ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال فوربك لنسألنهم أجمعين كان ذلك تنبيهاً على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما اجترموه في دار الدنيا فقيل: أتى أمر الله وهو يوم القيامة على قول الجمهور. وعن ابن عباس المراد بالأمر نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهوره على الكفار وأتى قيل باق على معناه من المضي والمعنى أتى أمر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً. قال ابن عباس: الروح الوحي ينزل به الملائكة على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ونظيره قوله: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وان مصدرية وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم كتبت إليه بأن قم وهو بدل من الروح أي بإِنذاره وقيل: ان تفسيرية بمعنى أي فلا موضع لها من الإِعراب قال الزمخشري: وان انذروا بدل من الروح أي ننزلهم بأن أنذروا وتقديره بأنه أنذروا أي بأن الشأن. أقول لكم أنذروا أقول لكم أنذروا انه لا إله إلا الله " انتهى ". جعلها المخففة من الثقيلة وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن وقدر إضمار القول حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول ولا حاجة إلى هذا التكليف مع سهولة كونها الشافية التي من شأنها نصب المضارع وقوله: إلا أنا انتقل من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم في قوله إلا أنا وإذا هنا للمفاجأة بعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاصمة إلا بعد أحوال تطور فيها فتلك الأحوال محذوفة وتقع المفاجأة بعدها وخصيم مبين يحتمل وجهين أحدهما أن يراد به الذم وهو مخاصمته لأنبياء الله صلى الله عليهم وأوليائه بالحجج الداحضة وأكثر ما ذكر الإِنسان في القرآن في معرض الذم أو مردفاً بالذم والوجه الثاني أن يراد به المدح لأنه تعالى قواه على منازعة الخصوم وجعله مبين الحق من الباطل ونقله من تلك الحالة الجمادية وهو كونه نطفة إلى الحالة الشريفة وهي حالة النطق والإِنابة ولما ذكر تعالى خلق الإِنسان ذكر ما امتنّ به عليه في قوام معيشته فذكر أولاً أكثرها منافع والزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك لإِنعام وتقدم شرح الانعام في الانعام والذي يظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع به من جهتها ولذلك قابله بقوله: ولكم فيها جمال ودفء مبتدأ ولكم خبره ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالاً من دفء إذ لو تأخر كان صفة وجوز أيضاً إذ يكون لكم حالاً من دفء وفيها الخبر وهذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها لا يجوز قائماً في الدار زيد فإِن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف والدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن وتقول العرب دفىء يومنا فهو دفىء إذا حصلت فيه سخونة تزيل البرد قال الزمخشري: فإِن قلت: تقدم الظرف في قوله: ومنها تأكلون مؤذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها. قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمدوه الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجاري مجرى التفكه " انتهى ". وما قاله بناء منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص وقد رددنا عليه ذلك في قوله:﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾[الفاتحة: ٥].
جمال مصدر جمل بضم الميم حين تريحون يقال: أراح الماشية ردها بالعشي من المرعى وسرحها يسرحها سرحاً وسروحاً أخرجها غدوة إلى مرعى وسرحت هي ويكون متعدياً ولازماً وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذ أسقط الغيث وكثر الكلأ وخرجوا للنجعة وقدّم الإِراحة على السرح لأن الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر بخلاف وقت سرحها وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية وتجاوب فيها الرغاء والثغاء فيأنس أهلها ويفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها وتكسبهم الجاه والحرمة والأثقال الأمتعة واحدها ثقل وقوله: إلى بلد لا يراد به معين أي إلى أي بلد بعيد توجهتم إليه لاغراضكم وبالغيه صفة للبلد إلا بشق الأنفس أي إلا بمشقتها وناسب الامتنان بهذه النعمة من حملها الأثقال الختم بصفة الرأفة والرحمة لأن من رأفتيه تيسير هذه المصالح وتسخير الانعام لكم ولما ذكر تعالى مننه بالانعام ومنافعها الضرورية ذكر الامتنان بمنافع الحيوان التي ليست بضرورية ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز أكل الخيل خلافاً لمن استدل بذلك وانتصب وزينة ولم يكن باللام ووصل الفعل إلى الركوب بواسطة الحرف وكلاهما مفعول من أجله لأن التقدير خلقها والركوب من صفات المخلوق لهم وذلك فانتفى شرط النصب وهو اتحاد الفاعل فعدي باللام والزينة من وصف الخالق فاتحد الفاعل فوصل الفعل إليه بنفسه ولما ذكر الحيوان الذي ينتفع به انتفاعاً ضرورياً وغير ضروري أعقب بذكر الحيوان الذي لا ينتفع به غالباً على سبيل الإِجمال إذ تفاصيله خارجة عن الإِحصاء والعدو القصد مصدر ويوصف به يقال: سبيل قصد وقاصد إذا كان مستقيماً كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه والسبيل هنا مفرد اللفظ والجائز العادل عن الهداية والاستقامة كما قال طرفة: يجور بها الملاح طوراً ويهتدي ولو شاء مفعول شاء محذوف تقديره هدايتكم قال ابن عطية قال الزجاج: يعرض لكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإِيمان " انتهى ". وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون الله تعالى لا يخلق أفعال العباد لم يحصله الزجاج ووقع فيه رحمة الله تعالى من غير قصد " انتهى ". لم يعرف ابن عطية أن الزجاج المعتزلي فلذلك تأول عليه أنه لم يحصله وأنه وقع فيه من غير قصد.﴿ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً ﴾ الآية مناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما امتن عليهم بإِيجادهم بعد العدم الصرف وإيجاد ما ينتفعون به من الانعام وغيرها من المركوب ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع وما عطف عليه فذكر منها الأغلب ثم عمم بقوله: ومن كل الثمرات، ثم اتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم والنهار الذي هو معاشهم فيه ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإِرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه ثم بما ذرأ في الأرض والظاهر أن لكم في موضع الصفة لما يتعلق بمحذوف ويرتفع شراب به إلى ماء كائناً لكم منه شراب ويجوز أن يتعلق بانزل ويجوز أن يكون استئنافاً وشراب مبتدأ لما ذكر الماء أخذ في تقسيمه والشراب هو المشروب والتبعيض في منه شراب ظاهر وأما في منه شجر فجاز لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء ومنه تسيمون يقال أسام الماشية وسومها جعلها ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت وبدأ بالزرع لأن قوت أكثر العالم ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه والاطلاء بدهنه ثم بالنخيل لأن ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد ثم بالاعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال: ومن كل الثمرات أتى بلفظ من التي للتبعيض لأن كل الثمرات لا يكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة وختم ذلك بقوله تعالى: ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ لأن النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل واستعمال فكر ألا ترى أن الجنة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به فيشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق ثم ينمو الأعلى ويقوى ونخرج الأوراق والأزهار والأكمام والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوان والرواح والأشكال والمنافع وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى وأفرد في قوله: الآية استدلالاً بإِنبات الماء وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات، وقرأ الجمهور: والشمس وما بعده منصوباً وانتصب مسخرات على أنها حال مؤكدة وقرىء: والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر وقرأ: حفص والنجوم مسخرات برفعها على الابتداء والخبر وجمع الآيات عند ذكر العقل لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة ما ذرأ معطوف على الليل والنهار يعني ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلفاً ألوانه من البياض والسواد وغير ذلك وختم هذا بقوله: يذكرون ومعناه الاعتبار والاتعاظ كان علمهم بذلك سابق طرأ عليه النسيان فقيل يذكرون أي يتذكرون وما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض وأفرد الآية هنا لأن الذي ذكره مفرد في قوله ما ذرأ ووصفه بمفرد وهو قوله مختلفاً.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ ﴾ الآية، لما ذكر الاستدلال بما ذرأ في الأرض ذكر ما أمتن به من تسخير البحر ومعنى تسخيره كونه يتمكن الناس من الانتفاع به للركوب في المصالح والغوص في استخراج ما فيه للاصطياد لما فيه والبحر جنس يشمل الملح والعذب وبدأ أولاً من منافعه بما هو الأهم وهو الأكل ومنه على حذف مضاف أي لتأكلوا من حيوانه لحماً طرياً ثم ثنى بما يتزين به وهو الحلية من اللؤلؤ والمرجان ونبه على غاية الحلية وهو اللبس وفيه منافع غير اللبس فاللحم الطري من الملح ولما ذكر تعالى نعمة الأكل منه ونعمة الاستخراج للحلية ذكر نعمة تصرف الفلك فيه مواخر أي شاقة فيه أو ذات صوت لشق الأنفس بحمل الأمتعة والأقوات للتجارة وغيرها وأسند الرؤية إلى المخاطب المفرد فقال: وقرىء: وجعلها جملة معترضة بين التعليلين تعليل الاستخراج وتعليل الابتغاء فلذلك عدل عن جمع المخاطب والظاهر عطف ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه والفضل هنا الأرباح بالتجارة والوصول إلى البلاد الشاسعة وفي هذا دليل على جواز ركوب البحر ولعلكم تشكرون على ما منحكم من هذه النعم والسبل الطرق. قال ابن عطية: قوله: وأنهاراً، منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو خلق أنهاراً وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإِضمار. " انتهى ". وأي إجماع في هذا وقد حكى هو على المتأولين أن ألقي بمعنى خلق وجعل.﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ الآية، ذكر تعالى التباين بين من يخلق وهو الباري وبين من لا يخلق وهي الأصنام وجيء بمن في الثاني الاشتمال المعبود غير الله على من يعقل وما لا يعقل أو لاعتقاد الكفار أن لها تأثيراً وأفعالاً فعوملت معاملة أولى العلم أو المشاكلة بينه وبين من يخلق.﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ﴾ الآية، تقدم الكلام عليه وأخبر تعالى أنه يعلم ما يسرون وضمنه الوعيد لهم والاخبار بعلمه تعالى وفيه التنبيه على نفي هذه الصفة الشريفة عن آلهتهم ولما أظهر تعالى التباين بين الخالق وغيره نص على أن آلهتهم لا تخلق وعلى أنها مخلوقة وأخبر أنهم أموات وأكد ذلك بقوله غير أحياء ثم ثنى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم فضلاً عن العلم الذي يتصف به العقلاء وعبر بالذين وهو العاقل عومل غيره معاملته لكونها عبدت وأعتقد فيها الألوهية وايان ظرف زمان وعن ابن عباس: ان الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بكلهم إلى النار وتقدم الكلام في لا جرم في سورة هود ولا يحب المستكبرين عام في الكافرين والمؤمنين.﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ الآية، قيل سبب نزولها أن النضر بن الحرث سافر من مكة إلى الحيرة وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة واخبار اسنفديار ورستم فجاء إلى مكة وكان يقول إنما يحدث محمد بأساطير الأولين وحدثني أجمل من حديثه فنزلت وماذا كلمة استفهام مفعول بأنزل أو ما مبتدأ خبره بمعنى الذي وعائده في أنزل محذوف أي شىء الذي أنزله. وأجاز الزمخشري أن يكون ماذا مرفوعاً بالابتداء قال: يعني أي شىء أنزله ربكم وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر والضمير في لهم عائد على كفار قريش وما أنزل ليس مفعولاً لقيل على مذهب البصريين لأنه جملة والجملة لا تقع موقع المفعول الذي لم يسم فاعله كما لا تقع موقع الفاعل والمفعول الذي لم يسمع فاعله قيل هو ضمير المصدر المفهوم من قبل تقديره قيل: هو أي القول والجملة بعده تفسير لذلك الضمير لا انها هي المفعول الذي لم يسم فاعله واللام في ليحملوا لام الأمر على معنى الختم عليهم والصغار الموجب لهم وكاملة حال أي لا ينقص منها شىء ومن في من أوزار للتبعيض فالمعنى أنه يحمل من وزر كل من أصل أي بعض وزر من ضل بإِضلالهم. وقال الواحدي: ليست من للتبعيض لأنه يستلزم تخفيف الأوزار عن الاتباع وذلك غير جائز لقوله صلى الله عليه وسلم من غير أن ينقص من أوزارهم شىء لكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الاتباع " انتهى ". ولا تتقدر من التي لبيان الجنس هذا الذي قدّره الواحدي وإنما يقدر الأوزار التي هي أوزار الذي يضلونهم فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش: وان اختلفا في التقدير. قال الزمخشري: بغير علم حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال " انتهى ". وقال غيره: حال من الفاعل وهو أولى إذ هو المحدث عنه والمسند إليه الإِضلال على جهة الفاعلية والمعنى أنهم يقدمون على هذا الاضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على الإِضلال ثم أخبر تعالى عن سوء ما يتحملونه للآخرة وتقدم الكلام على نظير إعراب الإِساء ما يزرون.