﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ الآية هذه السورة مكية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر قل كل متربص فتربصوا قال مشركو قريش محمد يهددنا بالبعث والجزاء على الأعمال وليس بصحيح فأنزل الله اقترب للناس حسابهم واقترب افتعل بمعنى الفعل المجرد وهو قرب كما تقول كما تقول ارتقب ورقب والناس مشركو مكة وغيرهم ممن ينكر البعث * والحساب في اللغة الكمية من مبلغ العدد وقد يطلق على المحسوب وجعل ذلك اقتراباً لأن كل ما هو آت وإن طال وقت انتظاره قريب والواو في:﴿ وَهُمْ ﴾ واو الحال وأخبر عنهم بخبرين ظاهرهما التنافي لأن الغفلة عن الشىء والإِعراض عنه متنافيان لكن يجمع بينهما باختلاف حالين أخبر عنهم أولاً بأنهم لا يتفكرون في عاقبة بل هم غافلون عما يؤول إليه أمرهم ثم أخبر عنهم ثانياً أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يؤول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك * والذكر هنا ما ينزل من القرآن شيئاً بعد شىء ومن زائدة وذكر فاعل ووصفه بالحدوث إذ كان القرآن لنزوله وقتاً بعد وقت. و ﴿ ٱسْتَمَعُوهُ ﴾ جملة حالية من الضمير المنصوب في يأتيهم تقديره إلا مستمعيه.﴿ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ جملة حالية من ضمير استمعوه. و ﴿ لاَهِيَةً ﴾ حال من ضمير يلعبون أو من ضمير استمعوه فيكون حالاً بعد حال واللاهية من قول العرب لها عنه إذا ذهل وغفل يقال لها يلهى لهياً ولهياناً أي وان فطنوا فلا يجدي ذلك لاستيلاء الغفلة والذهول وعدم التبصر بقولهم. و ﴿ ٱلنَّجْوَى ﴾ من التناجي ولا يكون إلا خفية والواو في وأسروا فاعل ضمير يعود على ما قبله. و ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ بدل منه.﴿ هَلْ هَـٰذَآ ﴾ قبله حال محذوفة تقديره قائلين هل هذا إلا بشر وهو استفهام معناه التعجب أي خص دونكم بالبنون مع مماثلته لكم في البشرية.﴿ أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ ﴾ استفهام معناه التوبيخ والسحر عنوا به ما ظهر على يديه من المعجزات التي أعظمها القرآن وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقان بقوله: وأسروا النجوى وأنهما محكيتان للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى.﴿ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ جملة حالية وللزمخشري فيه تخبيط رددناه عليه في البحر.﴿ قُلْ ﴾ أمر لنبيه صلى الله عليه وسلم والقول أعم من أن يكون سراً وجهراً ثم ثنى ذلك بقوله: وهو السميع لأقوالكم العليم بما انطوت عليه ضمائركم.﴿ بَلْ قَالُوۤاْ ﴾ ذكر اضطرابهم في مقالاتهم فذكر أنهم أضربوا عن نسبة السحر إليه وقالوا: ما يأتي به إنما هو أضغاث أحلام وتقدّم تفسيرها في يوسف ثم أضربوا عن هذا فقالوا: بل افتراه أي اختلقه أي وليس من عند الله ثم أضربوا عن هذا فقالوا بل هو شاعر وهكذا المبطل لا يثبت على قول بل يبقى متحيراً وهذه الأقوال الظاهر أنها صدرت من قائلين متفقين انتقلوا من قول إلى قول أو مختلفين قال كل منهم مقالة والكاف في كما أرسل يجوز أن تكون في موضع النعت لآية وما أرسل في تقدير المصدر والمعنى بآية مثل آية إرسال الأولين وفي قولهم كما أرسل الأولون دلالة على معرفتهم إيتان الرسل.﴿ مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ ﴾ المراد بهم قوم صالح وقوم فرعون وغيرهما ومعنى أهلكناها حكمنا بإِهلاكها بما اقترحوا من الآيات.﴿ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ استبعاد وإنكار أي هؤلاء أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا.﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ ﴾ الآية تقدم الكلام على مثله في يوسف.﴿ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ أي بشراً ولم يكونوا ملاكئة كما اعتقدتم ثم أحالهم على أهل الذكر وهم اخبار أهل الكتابين وشهادتهم تقوم بها الحجة في إرسال الله البشر.﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً ﴾ أي ذوي جسد ولما ثبت أنهم كانوا أجساداً يأكلون الطعام بين أن مآلهم إلى الفناء والنفاد ونفى عنهم الخلود وهو البقاء السرمدي أي هؤلاء الرسل بشر أجساد يطعمون ويموتون كغيرهم من البشر والذي صاروا به رسلاً هو ظهور المعجزة على أيديهم وعصمتهم من الصفات القادحة في التبليغ وغيره.﴿ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ ٱلْوَعْدَ ﴾ فكذلك يصدق نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما وعدهم به من النصر وظهور الكلمة وهذه عدة للمؤمنين ووعيد للكافرين وصدقناهم الوعد من باب اختار وهو ما يتعدى الفعل فيه إلى واحد وإلى الآخر بحرف الجر ويجوز حذف ذلك الحرف أي في الوعد.﴿ وَمَن نَّشَآءُ ﴾ هم المؤمنون والمسرفون هم الكفار ولما توعدهم في هذه الآية أعقب ذلك بوعده بنعمته عليهم فقال:﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ والكتاب هو القرآن وعن ابن عباس ذكر شرفكم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ ﴾ كم خبرية معناه كثيراً والقصم أفظع الكسر عبر به عن الإِهلاك الشديد وكم منصوبة بقصمنا.﴿ مِن قَرْيَةٍ ﴾ هو على حذف مضاف أي من أهل قرية.﴿ كَانَتْ ﴾ أي كان أهلها.﴿ وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا ﴾ أي بعد إهلاك أهلها وعن ابن عباس أن القرية هي حضوراء قرية باليمن ومن حديثها أن الله بعث إليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشاً فهزموه ثم بعث إليهم آخر فهزموه فخرج إليهم بنفسه فهزمهم في الثالثة فلما أخذ القتل فيهم ركضوا هاربين.﴿ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ ﴾ أي باشروه بالإِحساس والضمير في أحسوا عائد على أهل المحذوف من قوله: وكم قصمنا من قرية والضمير في منها عائد على القرية والظاهر أنهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين وإذا الفجائية جواب قوله: فلما * وقوله: لا تركضوا، قال ابن عطية: يحتمل أن تكون من قول رجال بخت نصر فالمعنى على هذا أنهم فدعوهم واستهزؤوا بهم بأن قالوا للهاربين منهم لا تفروا وارجعوا إلى منازلكم لعلكم تسألون صلحاً أو جزية أو أمراً يتفق عليه فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادي فيهم بالثارات للنبي المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم " انتهى " ويجوز أن يكون لا تركضوا من كلام بعضهم لبعض لما هزموا الجيش ثاني مرة.﴿ وَمَسَاكِنِكُمْ ﴾ معطوف على ما الموصولة بأترفتم والإِتراف إبطار النعمة والتقدير وإلى مساكنكم وفي قوله: لعلكم تسألون، دليل على أن من كان قاراً في مسكنه مترفاً فيه جدير بأن يكون يسأل في المهمات ويعتمد عليه فيها ونداء الويل هو على سبيل المجاز كأنهم قالوا يا هلكتنا وتقدم تفسير الويل في البقرة والظلم هنا الإِشراك وتكذيب الرسل وإيقاع أنفسهم في الهلاك واسم زالت هو اسم الإِشارة وهو تلك وهو إشارة إلى الجملة المقولة ودعواهم الخبر ويجوز العكس قاله الزجاج وبعض أصحابنا إذا لم يكن مبين الاسم والخبر الأول جعل الاسم والثاني الخبر كما قالوا في ضرب موسى عيسى أي فما زالت تلك الدعوى دعواهم قال المفسرون: فما زالوا يكررون تلك الكلمة فلم تنفعهم كقوله تعالى:﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾[غافر: ٨٥] والدعوى مصدر دعا يقال دعا دعوى ودعوة لأن المذلول كأنه يدعو الويل وقوله: حصيداً أي بالعذاب تركوا كالحصيد خامدين أي موتى دون أرواح مشبهين بالنار إذا أطفئت ولما ذكر تعالى قصم تلك القرى الظالمة اتبع ذلك بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه ومجازاة على ما فعلوا وأنه ما أنشأ هذا العالم العلوي المحتوي على عجائب صنعه وغرائب من فعله وهذا العالم السفلي وما أودع فيه من عجائب الحيوان والنبات والمعادن وما بينهما من الهواء والسحاب والرياح على سبيل اللعب بل لفوائد دينية تقضي بسعادة الأبد أو بشقاوته ودنياوية لا تعد ولا تحصى كقوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾[ص: ٢٧].
﴿ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً ﴾ أصل اللهو ما تسرع إليه الشهوة ويدعو إليه الهوى وقال ابن عباس وغيره اللهو هنا الولد.﴿ بَلْ نَقْذِفُ ﴾ أي ترمي بسرعة وهذا من مجاز التمثيل شبه الحق بالصخرة الصلبة والباطل بالرخو وأنه قذف الصخرة على الرخو.﴿ فَيَدْمَغُهُ ﴾ أي يصيب دماغه وذلك مهلك في البشر وكذلك الحق يهلك الباطل.﴿ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ ﴾ خطاب للكفار أي الخزي والهم.﴿ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ أي تصفونه بما لا يليق به تعالى من اتخاذ الصاحبة والولد والظاهر أن قوله: وله من في السماوات والأرض استئناف اخبار بأن جميع العالم ملكه وعند هنا لا يراد بها ظرف المكان لأنه تعالى منزه عن المكان بل المعنى شرف المكانة وعلو المنزلة.﴿ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ جملة حالية.﴿ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ﴾ أي لا يكلون ولا يسامون وبينه ما بعده من قوله:﴿ يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ * أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ آلِهَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ﴾ لما ذكر الدلائل على وحدانيته وأن من في السماوات والأرض ملك له وأن الملائكة المكرمين هم في خدمته عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم وأم هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة وفيها إضراب وانتقال من خبر إلى خبر واستفهام معناه التعجب والإِنكار أي اتخذوا آلهة من الأرض يتصفون بالاحياء ويقدرون عليها وعلى الاماتة أي لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف بل اتخذوا آلهة جماداً لا تتصف بالقدرة على شىء فهي غير آلهة لأن من صفة الإِله القدرة على الإِحياء والإِماتة.﴿ هُمْ يُنشِرُونَ ﴾ صفة لقوله: آلهة بعد وصفه بالمجرور الذي هو من الأرض والضمير في فيهما عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم والا صفة لآلهة أي آلهة غير الله وكون الا يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشده سيبويهوكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدانأي وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه وقال أبو العباس المبرد في إلا الله أن يكون بدلاً لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى والبدل في غير الواجب أحسن من الوصف والذي يظهر أن معنى الآية وجود الفساد فيهما مرتباً على وجود الآلهة المغايرة لله وهذا الوجود لم يقع فلا يقع ما يترتب عليه وهو الفساد.