﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ ﴾ هذه السورة مكية في قول الجمهور وسبب نزولها أنه لما نزل وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمٰن قالوا: ما نعرف الرحمٰن، فنزلت ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر مقر المجرمين في ضلال وسعر ومقر المتقين في جنات ونهر ذكر شيئاً من آثار الملك والقدرة ثم ذكر مقر الفريقين على جهة الإِسهاب إذا كان في آخر السورة ذكره على جهة الاختصار والإِيجاز ولما ذكر قوله﴿ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾[القمر: ٥٥] فأبرز هاتين الصفتين بصورة التنكير فكأنه قيل من المتصف بذلك فقال: " الرحمٰن علم القرآن " فذكر ما نشأ عن صفة الرحمة وهو تعليم القرآن الذي هو شفاء للقلوب والظاهر أن الرحمٰن مرفوع على الابتداء وعلم القرآن خبره ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلم ذكره بعد في قوله: ﴿ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ ﴾ ليعلم أنه هو المقصود بالتعليم ولما كان خلقه من أجل الدين وتعليمه القرآن كان كالسبب في خلقه فقدم على خلقه ثم ذكر تعالى الوصف الذي يتميز به الإِنسان من المنطق المفصح عن الضمير والذي به يمكن قبول التعليم وهو البيان ألا ترى أن الأخرس لا يمكن أن يتعلم شيئاً مما يدرك بالنطق المفصح عن الضمير والذي به يمكن قبول التعليم وهو الباري ولما ذكر تعالى ما أنعم به الإِنسان من تعلميه البيان ذكر ما امتن به وجود الشمس والقمر وما فيها من المنافع العظيمة للإِنسان إذ هما يجريان على حساب معلوم وتقدير سوي في بروجهما ومنازلهما والحسبان مصدر كالغفران وهو بمعنى الحساب وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان فاما على حذف أي جري الشمس والقمر كائن بحسبان ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي لا ساق له والنبات الذي له ساق وكان تقديم النجم وهو ما لا ساق له لأنه أصل القوت والذي له ساق ثمره يتفكه به غالباً ولما أوردت هذه الجمل مورد تعديد النعم ردّ الكلام إلى العطف في وصل ما يناسب وصله والتناسب الذي بين هاتين الجملتين ظاهر لأن الشمس والقمر علويان والنجم والشجر سفليان.﴿ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا ﴾ أي خلقها مرفوعة حيث جعلها مصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه عليهم السلام ونبه بذلك على عظم شأنه وملكه والسماء نصب على الاشتغال روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي يسجدان.﴿ وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ ﴾ الظاهر أن كل ما توزن به الأشياء ويعرف مقاديرها وان اختلفت أشكال الآلات بدأ أولاً بالعلم فذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ثم ذكر ما به التعديل في الأمور وهو الميزان لقوله:﴿ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾[الحديد: ٢٥].
﴿ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ ﴾ أي لأن لا تطغوا فتطغوا منصوب بأن وقال الزمخشري: أو هي أن المفسرة وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون أن مفسرة فيكون تطغوا جزماً بالنهي " انتهى ". ولا يجوز ما قالاه من أن مفسرة لأنه فات أحد شرطيها وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول ووضع الميزان ليس جملة فيها معنى القول والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد واما ما لا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه ولما كانت التسوية مطلوبة جداً أمر تعالى فقال:﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ ﴾ وقرأ الجمهور ولا تخسروا من أخسر أي أفسد ونقص كقوله تعالى:﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾[المطففين: ٣].
أي ينقصون وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه ولما ذكر السماء ذكر مقابلها فقال:﴿ وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ﴾ أي خفضها مدحوة على الماء لينتفع بها والأنام الخلق.﴿ فِيهَا فَاكِهَةٌ ﴾ ضروب مما يتفكه به وبدأ بقوله فاكهة إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى ونكر لفظها لأن الإِنتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها ثم ثنى بالنخل فذكر الأصل ولم يذكر ثمرها وهو الثمر لكثرة الانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر، ثم أتى ثالثاً بالحب الذي هو قوام عيش الإِنسان في أكثر الأقاليم وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق مشعبة على ساقه ووصفه بقوله: ذو العصف تنبيهاً على انعامه عليهم بما يقوتهم به من الحب ويقوت بهائمهم من ورقه وهو التبن وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم وبينهما النخل والحب وليحصل ما به يتفكه وما به يتقوت وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة وذكر النخل باسمها والفاكهة دون شجرها لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل ومن الفاكهة دون شجرها.﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا ﴾ خطاب للثقلين والآلاء النعم ولما خاطب الثقلين ذكر أصلهما فقال: ﴿ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ ﴾.
﴿ مِن صَلْصَالٍ ﴾ وهو آدم عليه السلام.﴿ وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ ﴾ وهو إبليس والمارج المختلط ومن الأولى لابتداء الغاية والثانية في من نار للتبعيض.﴿ رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره هو رب وعن ابن عباس للشمس مشرق في الصيف مصعد ومشرق في الشتاء منحدر تنتقل فيهما مصعدة ومنحدرة والمغربان مغرب الشفق ومغرب الشمس.﴿ مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ ﴾ تقدّم في الفرقان والظاهر التقاؤهما أي يتجاوران بلا فصل بينهما في رؤية العين.﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ ﴾ أي حاجز من قدرة الله تعالى.﴿ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ لا يتجاوزان حديهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالمماجره.﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا ﴾ قال الجمهور: إنما يخرج من الاجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فناسب إسناد ذلك إليهما وهذا مشهور عند الغواصين وقال ابن عباس وعكرمة: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر فلذلك قال منهما اللؤلؤ وقيل هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان واللؤلؤ كبار الجوهر والمرجان إسم أعجمي معرب والجواري السفن.﴿ كَٱلأَعْلاَمِ ﴾ كالجبال شبهها بالجبال وعبر بمن في قوله.﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ تغليباً لمن يعقل والضمير في عليها قيل عائد على الأرض وقد تقدم ذكرها والغناء عبارة عن إعدام جميع الموجودات من حيوان وغيره والوجه يعبر به عن حقيقة الشىء، والجارحة منفية عن الله تعالى والظاهر أن الخطاب في قوله: وجه ربك للرسول عليه السلام وفيه تشريف عظيم له عليه السلام فمعنى ذو الجلال الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم والاكرام للمخلصين من عباده.﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ حوائجهم وما يتعلق بمن في السماوات من أمر الدين وما استعبدوا به ومن في الأرض من أمر دينهم ودنياهم والظاهر أن قوله يسأله استئناف أخبار.﴿ كُلَّ يَوْمٍ ﴾ أي كل ساعة ولحظة وذكر اليوم لأن الساعات واللحظات في ضمنه.﴿ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ قال ابن عباس: في شان يمضيه من الخلق والرزق والاحياء والاماتة وانتصب كل يوم على الظرف والعامل فيه العامل في قوله في شأن وهو مستقر المحذوف نحو يوم الجمعة زيد قائم.﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ ﴾ أي ننظر في أموركم يوم القيامة لا أنه تعالى كان له شغل فهو يفرغ منه وجرى هذا على كلام العرب في أن المعنى سنقصد لحسابكم فهو استعارة من قول الرجل لمن يتهدده سأفرغ لك أي سأتجرد للإِيقاع بك من كل ما يشغلني عنه حتى لا يكون لي شغل سواه والمراد التوفر على الانتقام منه والظاهر أن قوله يا معشر الآية خطاب من الله تعالى إياهم يوم القيامة وقوله:﴿ يٰمَعْشَرَ ﴾ كالترجمة لقوله ايه الثقلان.﴿ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾ أن تهربوا من قضائي وتخرجوا عن ملكوتي ومن سمائي وأرضي فافعلوا ثم قال لا تقدرون على النفوذ.﴿ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾ يغني بقوة وغلبة وأنى لكم ذلك ونحوه وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وفانفذوا أمر تعجيز.﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا ﴾ قال ابن عباس: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر والشواظ لهب النار والنحاس الصفر المعروف.﴿ فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ ﴾ جواب إذاً محذوف تقديره فما أعظم الهول وانشقاقها انفطارها يوم القيامة.﴿ فَكَانَتْ وَرْدَةً ﴾ أي محمرة كالوردة وقال ابن عباس: كالدهان كالأديم الأحمر.﴿ فَيَوْمَئِذٍ ﴾ التنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة والتقدير فيوم إذا انشقت والناصب ليومئذٍ لا يسأل ودل هذا على انتفاء السؤال ووقفوهم أنهم مسؤولون وغيرها من الآيات على وقوع السؤال وقيل هي مواطن يسأل في بعضها وسيماهم سواد الوجوه وزرقة العيون والبكم والعمى والصم.