﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها ان في آخر ما قبلها كلا بل لا يخافون الآخرة وفيها كثير من أحوال القيامة فذكر هنا يوم القيامة وجملاً من أحوالها هي التي تلوم صاحبها في ترك الطاعة ونحوه وجواب القسم ما يدل عليه قوله:﴿ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ ﴾ تقديره ليبعثن والإِنسان هنا الكافر المكذب بالبعث قيل نزلت في أبي جهل كان يقول أيزعم محمد أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرقها ويعيدها خلقاً جديداً. وإن هي المخففة من الثقيلة سدت مسد مفعولي أيحسب لما ذكر الأخبار بقوله:﴿ بَلَىٰ قَادِرِينَ ﴾ أي نجمعها قادرين انتقل من هذا الأخبار إلى الأخبار عن الإِنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة وهي نجمعها قادرين ليتبين ما هو عليه الإِنسان من عدم الفكر في الآخرة وأنه معني بشهواته ومفعول يريد محذوف يدل عليه التعليل في ليخبر تقديره بلوغ شهواته.﴿ يَسْأَلُ أَيَّانَ ﴾ أي متى.﴿ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ سؤال استهزاء وتكذيب وتعنيت ويوم مبتدأ وأيان إسم إستفهام في موضع الخبر والجملة في موضع نصب بيسأل وقرىء:﴿ فَإِذَا بَرِقَ ﴾ وبرق معناه شق.﴿ وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ ﴾ خسف يكون لازماً ومتعدياً تقول خسف القمر ذهب نوره وخسفه الله أذهب نوره. وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } لم تلحق التاء في جمع لأن تأنيث الشمس مجاز أو لتغليب القمر وهو مذكر وجمعها إلقاؤهما في النار وقيل غير ذلك.﴿ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ ﴾ مبتدأ وأين ظرف في موضع الخبر والجملة في موضع نصب محكية بيقول والظاهر أن قوله:﴿ كَلاَّ لاَ وَزَرَ ﴾ وهو من كلام الله تعالى لا حكاية عن الإِنسان.﴿ إِلَىٰ رَبِّكَ ﴾ أي إلى حكمه.﴿ بِمَا قَدَّمَ ﴾ قال ابن عباس: في حياته.﴿ وَأَخَّرَ ﴾ من سنة يعمل بها بعده.﴿ بَصِيرَةٌ ﴾ خبر عن الإِنسان أي شاهد والهاء للمبالغة وعلى نفسه متعلق به والمعاذير عند الجمهور الإِعذار فالمعنى ولو جاء بكل معذرة يتعذر بها عن نفسه فإِنه هو الشاهد عليها والحجة البينة عليها وقال الزمخشري: قياس معذرة معاذر فالمعاذير ليس بجمع معذرة إنما هو إسم جمع لها ونحوه المنكر " انتهى ". وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جمع التكسير فهو كذاكير وملاقيح وملاميح والمفرد منها لمحة ولقحة وذكر ولم يذهب أحد إلى أنها من أسماء الجموع بل قيل هي جمع للقحة ولمحة وذكر على غير قياس أو هي جمع لمفرد لم ينطق به وهو مذكار وملمحة وملقحة وأجاز النحويون فيما كان على حركات مفاعل أن تلحقها الياء فقالوا في جمع صيرف صياريف وفي جمع سابغة سوابيغ.﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ﴾ في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شدّة وكان مما يحرك شفته مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه فنزلت والضمير في به للقرآن دل عليه مساق الآية.﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ﴾ أي في صدرك.﴿ وَقُرْآنَهُ ﴾ أي قراءته أي قراءتك إياه.﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ﴾ أي الملك المبلغ عنا.﴿ فَٱتَّبِعْ ﴾ أي بذهنك وفكرك أي فاستمع قراءته قاله ابن عباس: ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر فكر البعث وقيامة معرضاً عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه ناصر شهواته على الفجور وغير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها جاء قبوله إياها فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها وبضدها تمييز الأشياء ولما كان عليه السلام لمثابرته على ذلك كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه له.﴿ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ ﴾ لما فرغ من خطابه عليه السلام رجع إلى حال الإِنسان السابق ذكره المفكر للبعث وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة إذ هو منكر لذلك وقرىء: تحبون وتذرون بتاء الخطاب لكفار قريش وكلا ردّ عليه وعلى أقوالهم أي ليس كما زعمتم وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حباً تتركون معه الآخرة والنظر في أمرهم ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة تخلص إلى شىء من أحوال الآخرة فقال:﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ وعبر بالوجه عن الجملة وقوله:﴿ إِلَىٰ رَبِّهَا ﴾ جملة هي في موضع خبر ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في علم أصول الدين.﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾ يجوز في وجوه أنه مبتدأ خبره باسرة وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر. والفاقرة قال ابن المسيب: قاصمة الظهر وتظن بمعنى توقن.﴿ كَلاَّ ﴾ ردع لهم عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة والضمير في بلغت عائد على النفس الدال عليها سياق الكلام ذكرهم تعالى بصعوبة الموت وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح.﴿ ٱلتَّرَاقِيَ ﴾ والتراقي جمع ترقوة وهي عظام الصدر فلكل إنسان ترقوتان وهو موضع الحشرجة وهو إستفهام إستبعاد وإنكار أي قد بلغ مبلغاً لا أحد يرتقيه كما تقول عند اليأس من الذي يقدر أن يرقى هذا المشرف على الموت واحتمل أن يكون القائل الملائكة أي من يرقي بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب قاله ابن عباس:﴿ وَظَنَّ ﴾ أي المريض.﴿ أَنَّهُ ﴾ أي ما نزل به.﴿ ٱلْفِرَاقُ ﴾ أي فراق الدنيا التي هي محبوبته والظن هنا على بابه وقيل فراق الروح الجسد.﴿ وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ ﴾ قال ابن عباس استعارة لشدّة كرب الدنيا في آخر يوم منها وشدّة كرب الآخرة في أول يوم منها لأنه في أول الحالين قد اختلطا به وجواب إذا محذوف تقديره وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر.﴿ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ ﴾ إلى موعد ربك المساق والمرجع والمصير والمساق مفعل من السوق فهو إسم مصدر إما إلى جنة وإما إلى نار.﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ ﴾ الجمهور أنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله يتمطى فإِنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم وكان يكثر منها فلا صدق بالرسول والقرآن ولا صلى نفى عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب وحمل فلا صدق على نفي التصديق بالرسالة يقتضي أن يكون.﴿ وَلَـٰكِن كَذَّبَ ﴾ تكراراً ولزم أن يكون لكن استدرا كأبعد ولا صلى لا بعد فلا صدق لأنه كان يتساوى الحكم في فلا وفي كذب ولا يجوز ذلك إذ لا تقع لكن بين متوافقين.﴿ وَتَوَلَّىٰ ﴾ أعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب بما جاء به.﴿ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ ﴾ أي إلى قومه.﴿ يَتَمَطَّىٰ ﴾ يتبختر في مشيته روي" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل يوماً في البطحاء فقال له: إن الله يقول لك أولى لك فأولى "فنزل القرآن على نحوها وتقدّم الكلام على أولى في القتال وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا قرر له أحواله في بدايته ليتأملها فلا ينكر معها البعث من القبور.﴿ يُمْنَىٰ ﴾ أي النطفة يمنيها الرجل.﴿ فَخَلَقَ ﴾ أي الله تعالى منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة.﴿ فَسَوَّىٰ ﴾ أي فسواه شخصاً مستقلاً.﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ﴾ أي النوعين أو المزدوجين من البشر.﴿ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَلِكَ ﴾ أي الخالق المسوي.﴿ بِقَادِرٍ ﴾ وفي توقيف وتوبيخ لمنكر البعث بلى قادر.﴿ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾.