﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً ﴾ الآية هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جداً وهو أنه ذكر أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين وهذا وعد منه صادق فأقسم على وقوعه في هذه فقال: إن ما توعدون لواقع ولما كان للمقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها وقع الخلاف في تعيين تلك الموصوفات فقال ابن مسعود: والمرسلات الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر، فالعاصفات قال ابن مسعود الشديدات الهبوب والناشرات قال السدي: الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال. فالفارقات قال ابن مسعود: الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام فالملقيات قال ابن عباس: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام والذي يظهر أن المقسم به شيئان ولذلك جاء العطف بالواو في والناشرات والعطف بالواو يشعر بالتغاير بل هو موضوعه في لسان العرب وأما العطف بالفاء إذا كان بالصفات فيدل على أنها رجعة لموصوف واحد كقوله: ﴿ وَٱلْعَادِيَاتِ... فَٱلمُورِيَاتِ... فَٱلْمُغِيرَاتِ ﴾ فإِنها راجعة إلى العاديات وهي الخيل وإذا تقرر هذا فالظاهر أنه أقسم أولاً بالرياح قال تعالى:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ ﴾[الأعراف: ٥٧] فهي مرسلاته ويدل عليه عطف الصفة بالفاء كما قلنا وان العصف من صفات الريح في عدة مواضع من القرآن والقسم الثاني في ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ويكون فالفارقات فالملقيات من صفاتهم كما قلنا في عطف الصفات وإلقاؤهم للذكر وهو ما أنزل الله تعالى يصح إسناده إليهم وما ذكر من اختلاف المفسرين في المراد بهذه الأوصاف ينبغي أن يحمل على التمثيل لا على التعيين وجواب القسم وما عطف عليه قوله: ﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ ﴾ وما موصولة بمعنى الذي.﴿ فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ ﴾ أي أذهب نورها فاستوت مع جرم السماء.﴿ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ ﴾ صار فيها فروج بانفطارها.﴿ وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ ﴾ فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير وقيل كونها هباء.﴿ وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ ﴾ أي بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة.﴿ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ﴾ تعظيم لذلك اليوم وتعجيب مما يقع فيه من الهول والشدّة والتأجيل من الأجل أي ليوم عظيم أخرت.﴿ لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ ﴾ أي بين الخلائق وهو بدل من لأي يوم.﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ﴾ مبالغة في عظم ذلك اليوم من الخلائق وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون.﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ الأمم التي تقدمت قريشاً أجمعها ويكون الآخرين من تأخر من قريش وغيرهم وعلى التشريك يكون الأولين قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام ومن كان معهم والآخرين قوم فرعون ومن تأخر وقرب من مدة الرسول صلى الله عليه وسلم والإِهلاك هنا إهلاك عذاب ونكال ولذلك جاء كذلك نفعل بالمجرمين فأتى بالصفة المقتضية لإِهلاك العذاب وهي الإِجرام ولما ذكر أنباء الأولين والآخرين ذكر ووقف على أصل الخلق التي يقتضي النظر فيها تجويز البعث.﴿ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ أي ضعيف وهو ماء الرجل والمرأة.﴿ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾ هو الرحم.﴿ إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ أي عند الله تعالى وهو وقت الولادة وقرىء:﴿ فَقَدَرْنَا ﴾ بالتشديد والتخفيف قال أبو عبيدة: الكفات الوعاء أي تكفت الخلق أحياءً على ظهرها وأمواتاً في بطنها وانتصب أحياءً وأمواتاً بفعل يدل عليه ما قبله.﴿ رَوَاسِيَ ﴾ جبالاً ثابتات.﴿ شَامِخَاتٍ ﴾ مرتفعات.﴿ وَأَسْقَيْنَاكُم ﴾ جعلناه سقياً لمزارعكم ومنافعكم.﴿ ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ يقال للمكذبين إنطلقوا أي من العذاب.﴿ ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ﴾ أمر تكراراً أو بياناً للمنطلق إليه كأنهم لما أمروا امتثلوا فانطلقوا إذ لا يمكنهم التأخير إذ صاروا مضطرين إلى الإِنطلاق.﴿ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ ﴾ قال عطاء: هو دخان جهنم روي أنه يعلو من ثلاثة مواضع يظن الكافر أنه مغن من النار فيهرعون إليه فيجدونه على أسوأ وصف جمع شرارة.﴿ لاَّ ظَلِيلٍ ﴾ نفي لمحاسن الظل.﴿ وَلاَ يُغْنِي ﴾ أي ولا مغن عنهم من حر اللهب شيئاً.﴿ إِنَّهَا تَرْمِي ﴾ الضمير في انها لجهنم.﴿ بِشَرَرٍ ﴾ جمع شرارة.﴿ كَٱلْقَصْرِ ﴾ كالدار العظيمة المشيدة وقرىء:﴿ جِمَٰلَتٌ ﴾ بضم الجيم وكسرها والجمالات قال ابن عباس هي قلوص السفن وهي حبالها العظام إذا جمعت والصفر تشبيه بلون الشرر وقرىء يوم بالرفع مبتدأ وخبر وبالنصب فيكون هذا إشارة إلى الرمي بالشرر ويوم منصوب باسم الإِشارة.﴿ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ عطف على ولا يؤذن داخل في حيز نفي الاذن أي فلا إذن فاعتذار ولم يجعل الاعتذار متسبباً عن الاذن فينصب وقال ابن عطية: ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي والوجهان جائزان " انتهى ". فنجعل سبب امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال: والوجهان جائزان فيظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وان معناهما واحد وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسبباً بل صريح عطف والنصب يكون فيه متسبباً فافترقا.﴿ هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ﴾ خطاب للكفار والأولين قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء.﴿ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ ﴾ أي في هذا اليوم كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه.﴿ فَكِيدُونِ ﴾ اليوم وهذا تعجيز لهم وتوبيخ.﴿ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ ﴾ خطاب للمؤمنين في الآخرة على إضمار القول ويدل عليه بما كنتم تعملون.﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ ﴾ خطاب للكفار في الدنيا.﴿ قَلِيلاً ﴾ أي زماناً قليلاً إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم.﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ ﴾ من قال انها مكية قال: هي في قريش ومن قال: هي في المنافقين وجاء في هذه السورة بعد كل جملة قوله: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء وبأشياء من أحوال الآخرة وبتغريرات من أحوال الدنيا فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كل جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة والضمير في بعده عائد على القرآن والمعنى أن تضمن من الإِعجاز والبلاغة والإِخبار بالمغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلٰهي فإِذا كانوا مكذبين به فبأي حديث بعده يصدقون به إذ لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذه الحديث الذي هو القرآن.