﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ ﴾ هذه السورة مكية ولما ذكر فيما قبلها فذكر وذكر النار والآخرة قال: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ ﴾ والغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يعني القيامة وهذا استفهام رقيق فائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر.﴿ خَاشِعَةٌ ﴾ ذليلة.﴿ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾ عاملة في النار ناصبة تعبة فيها لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا وعملها في النار جرها السلاسل والأغلال وخوضها في النار كما تخوض الإِبل في الوحل.﴿ حَامِيَةً ﴾ مستعرة.﴿ آنِيَةٍ ﴾ قد انتهى حرها كقوله: ﴿ حَمِيمٌ ﴾ آن والضريع في اللغة يبيس العرفج إذا تحطم. قال ابن عباس: شجر من النار، وقال الزمخشري:﴿ لاَّ يُسْمِنُ ﴾ مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع يعني أن طعامهم من شىء ليس من طعام الإِنس إنما هو شوك والشوك مما ترعاه الإِبل وتتولع به وهذا النوع منه تنفر عنه ولا تقربه به ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن " انتهى ". فقوله: مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع أما جره على وصفه لضريع فيصح لأنه مثبت منفي عنه السمن والإِغناء من الجوع وأما رفعه على وصفه لطعام فلا يصح لأن الطعام منفي ولا يسمن منفي فلا يصح تركيبه إذ يصير التقدير ليس لهم طعام لا يسمن ولا يغني من جوع إلا من ضريع فيصير المعنى أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير الضريع كما تقول ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو فمعناه أن له مالاً ينتفع به من غير مال عمرو.﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ﴾ صح الابتداء في هذا وفي قوله: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴾ بالنكرة لوجود مسوغ ذلك وهو التفصيل ناعمة لحسنها ونظارتها أو متنعمة.﴿ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ﴾ أي لعملها في الدنيا بالطاعة راضية إذ كان ذلك العمل جزاؤه الجنة.﴿ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴾ أي مكاناً ومكانة وقرىء.﴿ لاَّ تَسْمَعُ ﴾ بتاء التأنيث مبنياً للمفعول.﴿ لاَغِيَةً ﴾ رفع أي كلمة لاغية وقرىء لا تسمع بتاء الخطاب عموماً لاغية بالنصب.﴿ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴾ عين اسم جنس أي عيون أو مخصوصة ذكرت تشريفاً لها.﴿ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴾ من رفعة المنزلة أو رفعة المكان ليرى ما حوله ربه في الملك والنعيم.﴿ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ﴾ أي باشربتها معدة لا تحتاج إلى مالىء.﴿ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ﴾ أي وسائد صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والإِتكاء عليها.﴿ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴾ أي متفرقة هنا وهنا في المجالس والزرابي بسط عراض فاخرة ولما ذكر تعالى أمر القيامة وانقسام أهلها إلى أشقياء وسعداء وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة الصانع الحكيم أتبع ذلك بذكره هذه الدلائل وذكر ما العرب مشاهدوه وملابسوه دائماً فقال:﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ ﴾ وهي الجمال فإِنه اجتمع فيها ما تفرق من المنافع في غيرها من أكل لحمها وشرب لبنها والحمل عليها والتنقل عليها إلى البلاد الشاسعة وعيشها بأي نبات أكلته وصبرها على العطش حتى أن فيها ما يرد الماء لعشر وطواعيتها لمن يقود ونهضتها وهي باركة بالأحمال الثقال وكثرة حنينها وتأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها ولا شىء من الحيوان جمع هذه الخصال غيرها ولكونها أفضل ما عند العرب حتى جعلوها دية القتل وناسب التنبيه بالنظر إليها إلى ما حوت من عجائب الصفات ما ذكراها معها من السماء والجبال والأرض لانتظام هذه الأسماء في نظر العرب في أوديتهم وبواديهم وليدل على أن الاستدلال على إثبات الصانع ليس مختصاً بنوع دون نوع بل هو عام في كل موجوداته كما قيل: وفي كل شىء له آية   تدل على أنه واحدوكيف خلقت جملة استفهامية في موضع البدل وينظرون تعدّى إلى الإِبل بواسطة إلى أي إلى كيف خلقت على سبيل التعليق وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم عرفت زيداً أبو من هو على الأصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف فحكي أنهم قالوا: أنظر إلى كيف يصنع وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت وإذا علق الفعل عن ما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته.﴿ سُطِحَتْ ﴾ أي صارت كالمهاد للمتقلب عليها ولما حضهم على النظر أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتذكيرهم فقال:﴿ فَذَكِّرْ ﴾ ولا يهمنك كونهم لا ينظرون.﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴾ كقوله إن عليك إلا البلاغ.﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ أي بمسلط كقوله:﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾[ق: ٤٥].
﴿ إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ﴾ إلا حرف استثناء فقيل متصل أي فأنت مسيطر عليه وقيل منقطع من فذكر أي فذكر إلا من انقطع طعمك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض وقرأ ابن عباس: إلا حرف تنبيه واستفتاح ومن مبتدأ والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم.﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴾ أي إلى جزائنا رجوعهم وأتى بلفظ علينا دليلاً على تحتم الحساب منه تعالى عليهم.


الصفحة التالية
Icon