إنكاريا، فكان بمعنى النفي قال: ﴿إلا سنت الأولين﴾ أي طريقتهم في سرعة أخذ الله لهم وإنزال العذاب بهم.
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس، عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق، تنبيهاً على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره، فسبب عن حصر النظر أو الانتظار في ذلك قوله، مؤكداً لأجل اعتقاد الكفرة الجازم بأنهم لا يتغيرون عن حالهم وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم: ﴿فلن تجد﴾ أي أصلاً في وقت من الأوقات ﴿لسنت الله﴾ أي طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها، وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين ﴿تبديلاً﴾ أي من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون بدلاً لها لأنه لا مكافئ له ﴿ولن تجد لسنت الله﴾ أي الذي لا أمر لأحد معه ﴿تحويلاً *﴾ أي من حالة إلى أخفى منها لأنه لا مرد لقضائه، لأنه لا كفوء له، وفي الآية أن أكثر حديث النفس الكذب، فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيراً ولا أن يقضي على غائب إلا أن يعلقه بالمشيئة تبرؤاً من الحول والقوة لعل الله يسلمه في عاقبته.
ولما بيّن أن حالهم موجب ولا بد للإيقاع بهم لما ثبت من أيام الله، وأنكر ذلك عليهم، وكان التقدير: ألم يسمعوا أخبار الأولين المرة وأحوالهم المستمرة من غير تخلف اصلاً في أن من كذب
رسولاً أخذ، فقال عاطفاً عليه استشهاداً على الخبر عن سنته في الأولين بما يذكر من آثارهم: ﴿أولم يسيروا﴾ أي فيما مضى من الزمان ﴿في الأرض﴾ أي التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق ﴿فينظروا﴾ أي فيتسبب لهم عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوماً من الأيام، فإن العاقل من إذا رأى شيئاً تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عنه ما جرى من مقاله، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله ﴿كيف كان عاقبة﴾ أي آخر أمر ﴿الذين﴾ ولما كان عواقب الدمار في بعض ما مضى من الزمان، أثبت الجار فقال: ﴿من قبلهم﴾ أي على أيّ حالة كان أخذهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم، وهذا معنى يس ﴿أنهم إليهم لا يرجعون﴾ [يس: ٣١] سواء كما يأتي أن شاء الله تعالى بيانه. ولما كان السياق لاتصافهم بقوتي الظاهر من الاستكبار والباطن من المكر الضار مكّن قوة الذين خوفهم بمثل مآلهم بوصفهم بالأشدية في جملة حالية فقال: ﴿وكانوا﴾ أي أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا والحال أنهم كانوا ﴿أشد منهم﴾ أي من هؤلاء ﴿قوة﴾ في قوتي الاستكبار والمكر الجارّ بعد العار إلى النار.
ولما كان التقدير: فما أعجز الله أمر أمة منهم، ولا أمر أحد من أمة حين كذبوا رسولهم، وما خاب له ولي ولا ربح ولا عدو، عطف عليه قوله، مؤكداً إشارة إلى تكذيب الكفرة في قطعهم بأن دينهم لا يتغير، وأنهم لا يغلبون أبداً لما لهم من الكثرة والمكنة وما للمسلمين من القلة والضعف: ﴿وما كان الله﴾ أي الذي له جميع العظمة؛ وأكد الاستغراق في النفي بقوله: ﴿ليعجزه﴾ أي مريداً لأن يعجزه، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى! وأبلغ في التأكيد بقوله: ﴿من شيء﴾ أي قل أو جل! وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله: ﴿في السماوات﴾ أي جهة العلو، وأكد بإعادة النافي فقال: ﴿ولا في الأرض﴾ أي جهة السفل. ولما كان منشأ العجز الجهل، علل بقوله مؤكداً لما ذكر في أول الآية: ﴿إنه كان﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿عليماً﴾ أي شامل العلم ﴿قديراً *﴾ أي كامل القدرة، فلا يريد شيئاً إلا كان.
ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء فيقولون: ما له لا يهلكنا، علم أن التقدير: لو عاملكم الله معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم، فعطف عليه قوله إظهاراً للحكم مع العلم: ﴿ولن يؤاخذ الله﴾ أي بما له من صفات العلو ﴿الناس﴾ أي من فيه نوس أي حركة واضطراب من المكلفين عامة.
ولما كان السياق هنا لأفعال الجوارح لأن المكر والكبر إنما تكره آثارهما لا الاتصاف بهما، بخلاف الذي هو سياق النحل فإنه ممنوع من الاتصاف وإن لم يظهر به أثر من آثار الجوارح، عبر هنا بالكسب


الصفحة التالية
Icon