أَلَا طَالَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا خَلِيلَ أُلَاعِبُهُ
فَلَوْلَا حَذَارِ اللَّهِ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ
فَاسْتَدْعَاهَا مِنَ الْغَدِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا أُرْسِلَ فِي بَعْثِ الْعِرَاقِ، فَاسْتَدْعَى عُمَرُ نِسَاءً فَسَأَلَهُنَّ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَسْتَطِيعُ الْمَرْأَةُ فِيهَا الصَّبْرَ عَلَى زَوْجِهَا قُلْنَ شَهْرَانِ وَيَقِلُّ صَبْرُهَا فِي
ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَيَنْفَدُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ فَأَمَرَ عُمَرُ قُوَّادَ الْأَجْنَادِ أَلَّا يُمْسِكُوا الرَّجُلَ فِي الْغَزْوِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ اسْتَرَدَّ الْغَازِينَ وَوَجَّهَ قَوْمًا آخَرِينَ.
[٢٢٨]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً.
عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِشِدَّةِ الْمُنَاسَبَةِ وَلِلِاتِّحَادِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ التَّرَبُّصُ، إِذْ كِلَاهُمَا انْتِظَارٌ لِأَجْلِ الْمُرَاجَعَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقَدِّمْ قَوْلَهُ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة: ٢٢٩] عَلَى قَوْلِهِ:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَ جَاءَتْ مُتَنَاسِقَةً مُنْتَظِمَةً عَلَى حَسَبِ مُنَاسَبَاتِ الِانْتِقَالِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِبْدَاعِ الْأَحْكَامِ وَإِلْقَائِهَا بِأُسْلُوبٍ سَهْلٍ لَا تَسْأَمُ لَهُ النَّفْسُ، وَلَا يَجِيءُ عَلَى صُورَةِ التَّعْلِيمِ وَالدَّرْسِ.
وَسَيَأْتِي كَلَامُنَا عَلَى الطَّلَاقِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ.
وَجُمْلَةُ وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ خَبَرِيَّةٌ مُرَادٌ بِهَا الْأَمْرُ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْشَاءِ وَهُوَ مَجَازٌ فَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَجَازًا مُرْسَلًا مُرَكَّبًا، بِاسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّقَرُّرُ وَالْحُصُولُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: ١٩] بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمُرَكَّبِ الْإِنْشَائِيِّ، بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ بَيْنَ الْأَمْرِ مَثَلًا كَمَا هُنَا وَبَيْنَ الِامْتِثَالِ، حَتَّى يُقَدِّرَ الْمَأْمُورَ فَاعِلًا فَيُخْبِرُ عَنْهُ وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَجَازًا تَمْثِيلِيًّا كَمَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ قَالَ:
«فَكَأَنَّهُنَّ امْتَثَلْنَ الْأَمْرَ بِالتَّرَبُّصِ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ مَوْجُودًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: رَحِمَهُ اللَّهُ ثِقَةً بِالِاسْتِجَابَةِ» قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: فَهُوَ
وَالْفَلْقُ: شَقُّ وَصَدْعُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ عَنْ بَعْضٍ، وَالْمَقْصُودُ الْفَلْقُ الَّذِي تَنْبَثِقُ مِنْهُ وَشَائِجُ النَّبْتِ وَالشَّجَرِ وَأُصُولُهَا، فَهُوَ مَحَلِّ الْعِبْرَةِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَالْحَبُّ اسْمُ جَمْعٍ لِمَا يُثْمِرُهُ النَّبْتُ، وَاحِدُهُ حَبَّةٌ. وَالنَّوَى اسْمُ جَمْعِ نَوَاةِ، وَالنَّوَاةُ قَلْبُ التَّمْرَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الثِّمَارِ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي مِنْهَا يُنْبِتُ شَجَرَهَا مِثْلَ الْعِنَبِ
وَالزَّيْتُونَ، وَهُوَ الْعَجَمُ بِالتَّحْرِيكِ اسْمُ جَمْعِ عُجْمَةَ.
وَجُمْلَةُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فِي مَحَلِّ خَبَرٍ ثَانٍ عَنِ اسْمِ (إِنَّ) تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَيَانِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْفَلْقُ الَّذِي يُخْرِجُ مِنْهُ نَبْتًا أَوْ شَجَرًا نَامِيًا ذَا حَيَاةٍ نَبَاتِيَّةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْحَبَّةُ وَالنَّوَاةُ جِسْمًا صُلْبًا لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا نَمَاءَ. فَلِذَلِكَ رَجَّحَ فَصْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا إِلَّا أَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهَا لِدَلَالَتِهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْحَيَوَانِ مِنْ مَاءِ النُّطْفَةِ أَوْ مِنَ الْبَيْضِ، فَهِيَ خَبَرٌ آخَرُ وَلَكِنَّهُ بِعُمُومِهِ يُبَيِّنُ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ، فَلِذَلِكَ يَحْسُنُ فَصْلُ الْجُمْلَةِ، أَوْ عَدَمُ عَطْفِ أَحَدِ الْأَخْبَارِ.
وَعَطَفَ عَلَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَوْلَهُ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِضِدِّ مَضْمُونِ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَصُنْعٍ آخَرَ عَجِيبٍ دَالٍّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنَافٍ تَصَرُّفَ الطَّبِيعَةِ بِالْخَلْقِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنَ الْعَالِمِ الْمُخْتَارِ يَكُونُ عَلَى أَحْوَالٍ مُتَضَادَّةٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْمُتَوَلِّدِ عَنْ سَبَبٍ طَبْعِيٍّ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ تَكْمِلَةُ بَيَانٍ لِمَا أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، لِأَنَّ فَلْقَ الْحَبِّ عَنِ النَّبَاتِ وَالنَّوَى عَنِ الشَّجَرِ يَشْمَلُ أَحْوَالًا مُجْمَلَةً، مِنْهَا حَالُ إِثْمَارِ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ: حَبًّا يَيْبَسُ وَهُوَ فِي قَصَبِ نَبَاتِهِ فَلَا تَكُونُ فِيهِ حَيَاةٌ، وَنَوَى فِي بَاطِنِ الثِّمَارِ يَبَسًا لَا حَيَاةَ فِيهِ كَنَوَى الزَّيْتُونِ وَالتَّمْرِ، وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ الْبَيَانِ بِإِخْرَاجِ الْبَيْضِ وَاللَّبَنِ وَالْمِسْكِ وَاللُّؤْلُؤِ وَحَجَرِ (الْبَازهرِ) مِنْ بَوَاطِنِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ، فَظَهَرَ صُدُورُ الضِّدَّيْنِ عَنِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ تَمَامَ الظُّهُورِ.
تَأْثِيرِ كَلَامِهِ فِي النُّفُوسِ، وَلَمْ يَزَلْ شَأْنُ أَهْلِ الْخَطَابَةِ وَالْحِكْمَةِ الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ كَلَامِهِمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يُوَاجَهُ بِهِ السَّامِعُونَ لِحُصُولِ فَوَائِدَ مَرْجُوَّةٍ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَمَا تَبَارَى الْخُطَبَاءُ وَالْبُلَغَاءُ فِي مَيَادِينِ الْقَوْلِ إِلَّا لِلتَّسَابُقِ إِلَى غَايَاتِ الْإِقْنَاعِ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ خَارِجَةَ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ؟ «عِنْدِي قِرَى كُلِّ نَازِلٍ، وَرِضَى كُلِّ سَاخِطٍ، وَخُطْبَةٌ مِنْ لَدُنْ تَطَلُعُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ، آمُرُ فِيهَا بِالتَّوَاصُلِ وَأَنْهَى عَنِ التَّقَاطُعِ». وَقَدْ ذَكَرَ أَرِسْطُو فِي الْغَرَضِ مِنَ الْخَطَابَةِ أَنَّهُ إِثَارَةُ الْأَهْوَاءِ وَقَالَ: «إِنَّهَا انْفِعَالَاتٌ فِي النَّفْسِ تُثِيرُ فِيهَا حُزْنًا أَوْ مَسَرَّةً».
وَقَدِ اقْتَضَى قَوْلُهُ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ وَهِيَ الْمَعَانِي الْمَوْسُومَةُ بِالْجَزَالَةِ الَّتِي تُثِيرُ فِي النُّفُوسِ رَوْعَةً وَجَلَالَةً وَرَهْبَةً تَبْعُثُ عَلَى امْتِثَالِ السَّامِعِينَ لَهُ وَعَمَلِهِمْ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَكُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِحَالَةٍ تُقَارِنُ انْفِعَالَ الْخَشْيَةِ وَالرَّهْبَةِ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا
ارْتَاعَ وَخَشِيَ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ أَثَرِ الِانْفِعَالِ الرَّهْبَنِيِّ، فَمَعْنَى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ تَقْشَعِرُّ مِنْ سَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ، فَإِنَّ السَّمَاعَ وَالْفَهْمَ يَوْمَئِذٍ مُتَقَارِنَانِ لِأَنَّ السَّامِعِينَ أَهْلُ اللِّسَانِ. يُقَالُ:
اقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، إِذَا تَقَبَّضَ تَقَبُّضًا شَدِيدًا كَالَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ شِدَّةِ بَرْدِ الْجَسَدِ وَرِعْدَتِهِ. يُقَالُ:
اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، إِذَا سَمِعَ أَوْ رَأَى مَا يُثِيرُ انْزِعَاجَهُ وَرَوْعَهُ، فَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ كِنَايَةٌ عَنْ وَجِلِ الْقُلُوبِ الَّذِي تَلْزَمُهُ قَشْعَرِيرَةٌ فِي الْجِلْدِ غَالِبًا.
وَقَدْ عَدَّ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ: الرَّوْعَةَ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْهَيْبَةَ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَهَابَهُ سَامِعُهُ، قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الْحَشْر: ٢١].
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَصْحَابُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ. وَخَصُّ الْقُشَعْرِيرَةُ بِالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا سَيُرْدَفُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ كَمَا يَأْتِي، قَالَ عِيَاضٌ: «وَهِيَ، أَيِ الرَّوْعَةِ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِهِ أَعْظَمُ حَتَّى كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ١٥]

فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ تَتِمَّةِ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ اسْتِمْرَارًا فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ. وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، فَمَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ بَيِّنٌ وَالْعِلْمُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا تُؤْخَذَ فِدْيَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا حَاصِلٌ مِمَّا يَسْمَعُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْأَقْضِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ بَيْنَ الْخَلْقِ بِحَيْثُ صَارَ مَعْلُومًا لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ، أَوْ هُوَ عِلْمٌ مُتَقَرِّرٌ فِي نُفُوسِهِمْ مِمَّا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مُوجِبُ عَطْفَ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا تَعْبِيرًا عَمَّا عَلِمُوهُ بِأَسْرِهِ وَهُوَ عَطْفٌ مُعْتَرِضٌ جَرَّتْهُ الْمُنَاسَبَةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا صَادِرًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ تَأْيِيسًا لَهُمْ مِنَ الطَّمَعِ فِي نَوَالِ حَظٍّ مِنْ نُورِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الْفَاءُ مِنْ عَطْفِ التَّلْقِينِ عَاطِفَةً كَلَامَ أَحَدٍ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ اتِّحَادِ مَكَانِ الْمُخَاطَبَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إِبْرَاهِيم: ٤٠].
وَيَكُونُ عَطْفُ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا جَمْعًا لِلْفَرِيقَيْنِ فِي تَوْبِيخٍ وَتَنْدِيمٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْكُفْرِ.
وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ فَالْيَوْمَ لِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا كَانُوا يُضْمِرُونَهُ فِي الدُّنْيَا حِينَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ رِيَاءً وَتَقِيَّةً. وَهُوَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: ٩٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يُؤْخَذُ بِيَاءِ الْغَائِبِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ فِدْيَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ بِالظَّرْفِ فَحَصَلَ مُسَوِّغَانِ لِتَرْكِ اقْتِرَانِ الْفِعْلِ بِعَلَامَةِ الْمُؤَنَّثِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ جَرْيًا عَلَى تَأْنِيثِ الْفَاعِلِ فِي اللَّفْظِ، وَالْقِرَاءَتَانِ سَوَاءٌ.
وَكَنَّى بِنَفْيِ أَخْذِ الْفِدْيَةِ عَنْ تَحَقُّقِ جَزَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَبْذُلُوا فِدْيَةً، وَلَا كَانَ النِّفَاقُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِدْيَةِ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى الْكِنَايَةِ لِمَا هُوَ
الشَّرُّ الْمُسْتَطِيرُ الْمَذْكُورُ آنِفًا، وَقَاهُمْ إِيَّاهُ جَزَاءً عَلَى خَوْفِهِمْ إِيَّاهُ وَأَنَّهُ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا جَزَاءً
عَلَى مَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا الْجَامِعُ لِأَحْوَالِ التَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كُلِّهِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَحَمُّلِ النَّفْسِ لِتَرْكِ مَحْبُوبٍ أَوْ فِعْلٍ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ إِطْعَامُ الطَّعَامِ عَلَى حُبِّهِ.
ولَقَّاهُمْ مَعْنَاهُ: جَعَلَهُمْ يَلْقَوَنَ نَضْرَةً وَسُرُورًا، أَيْ جَعَلَ لَهُمْ نَضْرَةً وَهِيَ حُسْنُ الْبَشَرَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ فَرَحِ النَّفْسِ وَرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [الْقِيَامَة: ٢٢] فَمُثِّلَ إِلْقَاءُ النَّضْرَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ بِزَجِّ أَحَدٍ إِلَى لِقَاءِ أَحَدٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ.
وَضَمِيرُ الْغَائِبَةِ ونَضْرَةً مَفْعُولَا (لَقَّى) مِنْ بَابِ كَسَا.
وَبَيْنَ (وَقَاهُمْ) ولَقَّاهُمْ الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ.
وَجُمْلَةُ وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً، عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَوَقاهُمُ وَجُمْلَةِ وَلَقَّاهُمْ لِتَمَاثُلِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ فِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْمُضِيِّ وَهُمَا مُحَسِّنَانِ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْوَصْلِ.
وَالْحَرِيرُ: اسْمٌ لِخُيُوطٍ مِنْ مُفْرَزَاتِ دُودَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَكَانَ الْجَزَاءُ بِرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ إِذْ جَعَلَهُمْ فِي أَحْسَنِ الْمَسَاكِنِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَكَسَاهُمْ أَحْسَنَ الْمَلَابِسِ وَهُوَ الْحَرِيرُ الَّذِي لَا يَلْبَسُهُ إِلَّا أَهْلُ فَرْطِ الْيَسَارِ، فَجُمِعَ لَهُمْ حُسْنُ الظَّرْفِ الْخَارِجِ وَحُسْنُ الظَّرْفِ الْمُبَاشِرِ وَهُوَ اللِّبَاسُ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَرِيرِ هُنَا: مَا يَنْسَجُ مِنْهُ.
ومُتَّكِئِينَ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي جَزاهُمْ، أَيْ هُمْ فِي الْجَنَّةِ مُتَّكِئُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ.
وَالِاتِّكَاءُ: جِلْسَةٌ بَيْنَ الْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ يَسْتَنِدُ فِيهَا الْجَالِسُ عَلَى مِرْفَقِهِ وَجَنْبِهِ وَيَمُدُّ رِجْلَيْهِ وَهِيَ جِلْسَةُ ارْتِيَاحٍ، وَكَانَتْ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الْبَذَخِ، وَلِهَذَا
قَالَ
بِهِ أَنَّ الْقِصَّةَ مِمَّا تَشْمَلُهُ الْآيَةُ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ»
وَلَمَّحَ إِلَيْهَا بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ النُّحَيْلَةَ إِذْ يَمِيلُ بِهَا الْهَوَى كَالْعِذْقِ مَالَ عَلَى أبي الدحداح
[١٢، ١٣]
[سُورَة اللَّيْل (٩٢) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣)
اسْتِئْنَافٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى إِلَى قَوْله:
لِلْعُسْرى [اللَّيْل: ٥- ١٠]، وَذَلِكَ لِإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى مَنْ صَارَ إِلَى الْعُسْرَى بِأَنَّ اللَّهُ أَعْذَرَ إِلَيْهِ إِذْ هَدَاهُ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْخَيْرِ فَأَعْرَضَ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِاخْتِيَارِهِ اكْتِسَابَ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ التَّيْسِيرَ لِلْيُسْرَى يَحْصُلُ عِنْدَ مَيْلِ الْعَبْدِ إِلَى عَمَلِ الْحَسَنَاتِ، وَالتَّيْسِيرَ لِلْعُسْرَى يَحْصُلُ عِنْدَ مَيْلِهِ إِلَى عَمَلِ السَّيِّئَاتِ. وَذَلِكَ الْمَيْلُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَسْبِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَسَمَّاهُ الْمُعْتَزِلَةُ: قُدْرَةَ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ فَسَمَّوْهُ الْجَبْرَ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ وَلَام الِابْتِدَاء يومىء إِلَى أَنَّ هَذَا كَالْجَوَابِ عَمَّا يَجِيشُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الضَّلَالِ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِنْذَارِ السَّابِقِ مِنْ تَكْذِيبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ مِنْهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ لَأَلْجَأَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَحَرْفُ (عَلَى) إِذَا وَقَعَ بَيْنَ اسْمٍ وَمَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلٍ يُفِيدُ مَعْنَى اللُّزُومِ، أَيْ لَازِمٌ لَنَا هُدَى النَّاسِ، وَهَذَا الْتِزَامٌ مِنَ اللَّهِ اقْتَضَاهُ فَضْلُهُ وَحِكْمَتُهُ فَتَوَلَّى إِرْشَادَ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخِذَهُمْ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي هِيَ فَسَادٌ فِيمَا صَنَعَ اللَّهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَنْظِمَةِ الَّتِي أَقَامَ عَلَيْهَا فِطْرَةَ نِظَامِ الْعَالَمِ، فَهَدَى اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِأَنْ خَلَقَهُ قَابِلًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ ثُمَّ عَزَّزَ ذَلِكَ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا مُبَيِّنِينَ لِمَا قَدْ يَخْفَى أَمْرُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوْ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ فَسَادُهُ بِصَلَاحِهِ وَمُنَبِّهِينَ النَّاسَ لِمَا قَدْ يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِنْ سَابق مَا علموه.
وَعَطْفُ وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى تَتْمِيمٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَعَهُّدَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِالْهُدَى فَضْلٌ مِنْهُ وَإِلَّا فَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ مِلْكُهُِِ


الصفحة التالية
Icon