الْمُشْرِكِينَ لَمَّا لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ إِلْحَاقِ الْقُرْآنِ بِصِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ كَلَامِهِمْ أَلْحَقُوهُ بِأَشْبَهِ
الْكَلَامِ بِهِ فَقَالُوا إِنَّهُ شِعْرٌ تَقْرِيبًا لِلدَّهْمَاءِ بِمَا عَهِدَهُ الْقَوْمُ مِنَ الْكَلَامِ الْجَدِيرِ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ حَيْثُ مَا فِيهِ مِنْ دَقَائِقِ الْمَعَانِي وَأَحْكَامِ الِانْتِظَامِ وَالنُّفُوذِ إِلَى الْعُقُولِ، فَإِنَّهُ مَعَ بُلُوغِهِ أَقْصَى حَدٍّ فِي فَصَاحَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَعَ طُولِ أَغْرَاضِهِ وَتَفَنُّنِ مَعَانِيهِ وَكَوْنِهِ نَثْرًا لَا شِعْرًا تَرَى أُسْلُوبَهُ يَجْرِي عَلَى الْأَلْسِنَةِ سَلِسًا سَهْلًا لَا تَفَاوُتَ فِي فَصَاحَةِ تَرَاكِيبِهِ، وَتَرَى حِفْظَهُ أَسْرَعَ مِنْ حِفْظِ الشِّعْرِ. وَقَدِ اخْتَارَ الْعَرَبُ الشِّعْرَ لِتَخْلِيدِ أَغْرَاضِهِمْ وَآدَابِهِمْ لِأَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ من الْوَزْن يلجىء إِلَى التَّدْرِيبِ عَلَى أَلْفَاظٍ مُتَوَازِنَةٍ فَيُكْسِبُهَا ذَلِكَ التَّوَازُنُ تَلَاؤُمًا فَتَكُونُ سَلِسَةً عَلَى الْأَلْسُنِ، فَلِذَلِكَ انْحَصَرَ تَسَابُقُ جِيَادِ الْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ الْمَنْظُومِ، وَفُحُولُ الشُّعَرَاءِ مَعَ ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ فِي سَلَاسَةِ الْكَلَامِ مَعَ تَسَامُحِهِمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ اغْتَفَرَهَا النَّاسُ لَهُمْ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالضَّرُورَاتِ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَتَكَلَّفَ فَصَاحَةً لِمَا يَقُولُهُ مِنْ كَلَامٍ وَيُعَاوِدُ تَنْقِيحَهُ وَتَغْيِيرَ نظمه بإبدال لكلمات أَوْ بِالتَّقْدِيمِ لِمَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ أَوِ التَّأْخِيرِ لِمَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ، أَوْ حَذْفٍ أَوْ زِيَادَةٍ، لَقَضَى زَمَنًا مَدِيدًا فِي تَأْلِيفِ مَا يُقَدَّرُ بِسُورَةٍ مِنْ مُتَوَسِّطِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَلَمَا سَلِمَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ جُمَلٍ يَتَعَثَّرُ فِيهَا اللِّسَانُ. وَلَمْ يَدْعُ مَعَ تِلْكَ الْفَصَاحَةِ دَاعٍ إِلَى ارْتِكَابِ ضَرُورَةٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي بَعْضِ مَا تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ، فَبَنَى نَظْمُهُ عَلَى فَوَاصِلَ وَقَرَائِنَ مُتَقَارِبَةٍ فَلَمْ تَفُتْهُ سَلَاسَةُ الشِّعْرِ وَلَمْ تَرْزَحْ تَحْتَ قُيُودِ الْمِيزَانِ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ كَلَامًا مَنْثُورًا وَلَكِنَّهُ فَاقَ فِي فَصَاحَتِهِ وَسَلَاسَتِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَتَوَافُقِ كَلِمَاتِهِ وَتَرَاكِيبِهِ فِي السَّلَامَةِ مِنْ أَقَلِّ تَنَافُرٍ وَتَعَثُّرٍ عَلَى الْأَلْسِنَةِ. فَكَانَ كَوْنُهُ مِنَ النَّثْرِ دَاخِلًا فِي إِعْجَازِهِ، وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَنْوَاعِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَابْتَكَرَ أَسَالِيبَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا وَإِنَّ لِذَلِكَ التَّنْوِيعِ حِكْمَتَيْنِ دَاخِلَتَيْنِ فِي الإعجاز: أَولا هما ظُهُورُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ قَدْ تَعَارَفَ الْأُدَبَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَظْهَرَ نُبُوغُ نَوَابِغِهِمْ عَلَى أَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ كُلٌّ يُجِيدُ أُسْلُوبًا أَوْ أُسْلُوبَيْنِ. الثَّانِيَة أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ زِيَادَة التحدي المتحدّين بِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ لَمْ تَسْبِقْ لِي مُعَالَجَتُهُ وَلَوْ جَاءَنَا بِأُسْلُوبٍ آخَرَ لَعَارَضْتُهُ.
نَرَى مِنْ أَعْظَمِ الْأَسَالِيبِ الَّتِي خَالَفَ بِهَا الْقُرْآنُ أَسَالِيبَ الْعَرَبِ أَنَّهُ جَاءَ فِي نَظْمِهِ بِأُسْلُوبٍ جَامِعٍ بَيْنَ مَقْصِدَيْهِ وَهُمَا: مَقْصِدُ الْمَوْعِظَةِ وَمَقْصِدُ التَّشْرِيعِ، فَكَانَ نَظْمُهُ يَمْنَحُ بِظَاهِرِهِ السَّامِعِينَ مَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَعْلَمُوهُ وَهُوَ فِي هَذَا النَّوْعِ يُشْبِهُ خُطَبَهُمْ، وَكَانَ فِي مَطَاوِي مَعَانِيهِ مَا يَسْتَخْرِجُ
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٧٣]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِذْنَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ مَا هِيَ الطَّيِّبَاتُ فَجَاءَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ مُبَيِّنًا الْمُحَرَّمَاتِ وَهِيَ أَضْدَادُ الطَّيِّبَاتِ، لِتُعْرَفَ الطَّيِّبَاتُ بطرِيق المضادة المستفادة مِنْ صِيغَةِ الْحَصْرِ، وَإِنَّمَا سَلَكَ طَرِيقَ بَيَانِ ضِدَّ الطَّيِّبَاتِ لِلِاخْتِصَارِ فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قَلِيلَةٌ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْحَصْرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَأَحَلُّوا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ، وَلَمَّا كَانَ الْقَصْرُ هُنَا حَقِيقِيًّا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ مَا يُشْرَعُ لَهُمْ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْقَصْرِ قَلْبُ اعْتِقَادِ أَحَدٍ وَإِنَّمَا حَصَلَ الرَّدُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ.
وإِنَّما بِمَعْنَى مَا وَإِلَّا أَيْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمَيْتَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَمَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا حَرَّمَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ.
وَالْحَرَامُ: الْمَمْنُوعُ مَنْعًا شَدِيدًا.
وَالْمَيْتَةُ بِالتَّخْفِيفِ هِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الذَّاتُ الَّتِي أَصَابَهَا الْمَوْتُ فَمُخَفَّفُهَا وَمُشَدَّدُهَا سَوَاءٌ كَالْمَيِّتِ وَالْمَيْتِ، ثُمَّ خُصَّ الْمُخَفَّفُ مَعَ التَّأْنِيثِ بِالدَّابَّةِ الَّتِي تُقْصَدُ ذَكَاتُهَا إِذَا مَاتَتْ بِدُونِ ذَكَاةٍ، فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ نَقْلِ الشَّرْعِ وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ قِبَلَ الشَّرْعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ بِدَلِيلِ إِطْلَاقِهَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (الْمَيْتَةَ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ.
وَإِضَافَةُ التَّحْرِيمِ إِلَى ذَاتِ الْمَيْتَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا هُوَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُلَقَّبَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِإِضَافَةِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُقْصَدُ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ نَوْعِهَا نَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَقَامِ نَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] فَيُقَدَّرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُضَافٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَوْ يُقَالُ: أُقِيمَ اسْمُ الذَّاتِ مَقَامَ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ مَا تَقْصِدُ لَهُ قُصِرَ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا عُمِّمَ احْتِيَاطًا، فَنَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ مُتَعَيَّنٌ لِحُرْمَةِ تَزَوُّجِهِنَّ وَمَا هُوَ مِنْ تَوَابِع ذَلِك كمات اقْتَضَاهُ السِّيَاقُ، فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنْ يَحْرُمَ تَقْبِيلُهُنَّ أَوْ مُحَادَثَتُهُنَّ، وَنَحْو: فَاجْتَنِبُوهُ [الْمَائِدَة: ٩٠] بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَيْسِرِ
وَفِي الْآيَةِ حُجَّةٌ لِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ.
وَاشْتِقَاقُ أَقْسَطُ مِنْ أَقْسَطَ بِمَعْنَى عَدَلَ، وَهُوَ رُبَاعِيٌّ، وَلَيْسَ مِنْ قَسَطَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى جَارَ، وَكَذَا اشْتِقَاقُ أَقْوَمُ مِنْ أَقَامَ الشَّهَادَةَ إِذَا أَظْهَرَهَا جَارٍ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ بِجَوَازِ صَوْغِ التَّفْضِيلِ وَالتَّعَجُّبِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الْمَهْمُوزِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ نَحْوَ أَعْطَى أَمْ لِغَيْرِ التَّعْدِيَةِ نَحْوَ أَفْرَطَ. وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ أَقْسَطُ مُشْتَقًّا مِنْ قَاسِطٍ بِمَعْنَى ذِي قِسْطٍ أَيْ صِيغَةِ نَسَبٍ وَهُوَ مُشْكِلٌ، إِذْ لَيْسَ لِهَذِهِ الزِّنَةِ فِعْلٌ. وَاسْتُشْكِلَ أَيْضًا بِأَنَّ صَوْغَهُ مِنَ الْجَامِدِ أَشَدُّ مِنْ صَوْغِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ. وَالْجَوَابُ عِنْدِي أَنَّ النَّسَبَ هُنَا لَمَّا كَانَ إِلَى الْمَصْدَرِ شَابَهَ الْمُشْتَقَّ: إِذِ الْمَصْدَرُ أَصْلُ الِاشْتِقَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ أَقْوَمُ مُشْتَقًّا مِنْ قَامَ الَّذِي هُوَ مُحَوَّلٌ إِلَى وَزْنِ فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- الدَّالِّ عَلَى السَّجِيَّةِ، الَّذِي يَجِيءُ مِنْهُ قَوِيمٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها.
اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ أَوِ الْأَكْوَانِ فِي قَوْلِهِ: صَغِيراً أَوْ كَبِيراً. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ
قِيلَ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ الْحَاضِرَةَ لَيْسَتْ مِنَ الدَّيْنِ فِي شَيْءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا كَوْنَ تِجَارَةٍ حَاضِرَةٍ.
وَالْحَاضِرَةُ النَّاجِزَةُ، الَّتِي لَا تَأْخِيرَ فِيهَا، إِذِ الْحَاضِرُ، وَالْعَاجِلُ، وَالنَّاجِزُ: مُتَرَادِفَةٌ.
وَالدَّيْنُ، وَالْأَجْلُ، وَالنَّسِيئَةُ: مُتَرَادِفَةٌ.
وَقَوْلُهُ: تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً بَلِ الْبَيَانُ فِي مِثْلِ هَذَا، أَقْرَبُ مِنْهُ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ مِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي نَوَادِرِهِ، وَقَالَ الْعَيْنِيُّ: يُنْسَبُ إِلَى الْفَرَزْدَقِ:
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو بِالْمَدِينَةِ حَاجَةً | وَبِالشَّامِ أُخْرَى كَيْفَ يَلْتَقِيَانِِِ |
لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي | بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شِيبَانَا |
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ | عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لَوْثَةٍ لَانَا |
«عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ»، أَيْ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُنَافِي تَقْدِيرَ سُؤَالٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ مَا صَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا الْتِزَامَ كَوْنِ (إِذَنْ) حَرْفًا لِجَوَابِ سَائِلٍ، وَالْوَجْهُ أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ مَا يُتَلَقَّى بِهِ كَلَامٌ آخَرُ سَوَاءً كَانَ سُؤَالًا أَوْ شَرْطًا أَوْ غَيْرَهُمَا.
وَقَوْلُهُ: وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ لَفَتَحْنَا لَهُمْ طُرُقَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، لِأَنَّ تَصَدِّيَهُمْ لِامْتِثَالِ مَا أُمِرُوا بِهِ هُوَ مَبْدَأُ تَخْلِيَةِ النُّفُوسِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِأَوْهَامِهَا وَعَوَائِدِهَا الْحَاجِبَةِ لَهَا عَنْ دَرَكِ الْحَقَائِق، فَإِذا ابتدأوا يَرْفُضُونَ هَذِهِ الْمَوَاقِعَ فَقَدِ اسْتَعَدُّوا لِتَلَقِّي الْحِكْمَةِ وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ فَفَاضَتْ عَلَيْهِمُ الْمَعَارِفُ تَتْرَى بِدَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَبِتَيْسِيرِ اللَّهِ صَعْبَهَا بِأَنْوَارِ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّاعَةَ مِفْتَاحُ الْمَعَارِفِ بَعْدَ تعَاطِي أَسبَابهَا.
مِنْ فُهُودٍ وَبُزَاةٍ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، حَكَى عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَصَرَ إِبَاحَةَ أَكْلِ مَا قَتَلَهُ الْجَارِحُ عَلَى صَيْدِ الْكِلَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُكَلِّبِينَ قَالَ: فَأَمَّا مَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الْبُزَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّيْرِ فَمَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ وَإِلَّا فَلَا تَطْعَمْهُ. وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ.
فَأَمَّا الْكِلَابُ فَلَا خِلَافَ فِي إِبَاحَةِ عُمُومِ صَيْدِ الْمُعَلَّمَاتِ مِنْهَا، إِلَّا مَا شَذَّ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ بِكَرَاهَةِ صَيْدِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ، أَيْ عَامُّ السَّوَادِ، مُحْتَجِّينَ
بقول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، مَعَ أَنَّ النَّبِيءَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَمَّاهُ كَلْبًا، وَهَلْ يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ شَيْطَانًا أَنَّهُ مَظَنَّةٌ لِلْعَقْرِ وَسُوءِ الطَّبْعِ. عَلَى أَنَّ مَوْرِدَ الْحَدِيثِ فِي أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي. عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُتَأَوَّلٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِيهِ (أَيْ فِي أَكْلِ صَيْدِهِ) إِذَا كَانَ بَهِيمًا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ بِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَوْلُهُ: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ حَالٌ ثَانِيَةٌ، قُصِدَ بِهَا الِامْتِنَانُ وَالْعِبْرَةُ وَالْمَوَاهِبُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ، إِذْ جَعَلَهُ مُعَلَّمًا بِالْجِبِلَّةِ مِنْ يَوْمِ قَالَ: يَآ آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ [الْبَقَرَة: ٣٣]، وَالْمَوَاهِبُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي بَعْضِ الْحَيَوَانِ، إِذْ جَعَلَهُ قَابِلًا لِلتَّعَلُّمِ. فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِ مُفَادِ هَذِهِ الْحَالِ هُوَ مُفَادُ عَامِلِهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الِامْتِنَانِ فَهِيَ مُؤَسَّسَةٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» «وَفِي تَكْرِيرِ الْحَالِ فَائِدَةٌ أَنَّ عَلَى كُلِّ آخِذٍ عِلْمًا أَنْ لَا يَأْخُذَهُ إِلَّا مِنْ أَقْتَلِ أَهْلِهِ عِلْمًا وَأَنْحَرِهِمْ دِرَايَةً وَأَغْوَصِهِمْ عَلَى لَطَائِفِهِ وَحَقَائِقِهِ وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَضْرِبَ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، فَكَمْ مِنْ آخِذٍ عَنْ غَيْرِ مُتْقِنٍ قَدْ ضَيَّعَ أَيَّامَهُ وَعَضَّ عِنْدَ لِقَاءِ النَّحَارِيرِ أَنَامِلَهُ». اه.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» فَاء الفصيحة فِي قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ إِنْ جَعَلْتَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ وَما عَلَّمْتُمْ مَوْصُولَةً، فَإِنْ جَعَلَتْهَا شُرْطِيَّةً فَالْفَاءُ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ.
وَلِذَلِكَ قَالَ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، فَجُمْلَةُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الشَّرْطِ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
وَالنَّفْسُ تُطْلَقُ عَلَى الْعَقْلِ وَعَلَى مَا بِهِ الْإِنْسَانُ، إِنْسَانٌ وَهِيَ الرُّوحُ الْإِنْسَانِيُّ، وَتُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: تَعْلَمُ مَا أَعْتَقِدُهُ، أَيْ تَعْلَمُ مَا أَعْلَمُهُ لِأَنَّ النَّفْسَ مَقَرُّ الْعُلُومِ فِي الْمُتَعَارَفِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ اعْتِرَاضٌ نَشَأَ عَنْ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي لِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ وَفِي كُلِّ حَالٍ. وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْزِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أثر فِي التبرّي، وَالتَّنَصُّلِ، فَلِذَلِكَ تَكُونُ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً.
وَإِضَافَةُ النَّفْسِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ هَنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، أَيْ وَلَا أَعْلَمُ مَا تَعْلَمُهُ، أَيْ ممّا انْفَرَدت بِعَمَلِهِ. وَقَدْ حَسَّنَهُ هُنَا الْمُشَاكَلَةُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ».
وَفِي جَوَازِ إِطْلَاقِ النَّفْسِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ مُشَاكَلَةٍ خِلَافٌ فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ السَّعْدُ وَالسَّيِّدُ وَعَبْدُ الْحَكِيمِ فِي شُرُوح «الْمِفْتَاح» و «التخليص».
وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ نَحْوَ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمرَان: ٢٨] مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مِثْلَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «التَّفْسِيرِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٤]، وَيَشْهَدُ لَهُ تَكَرُّرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي.
وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلِذَلِكَ جِيءَ
بِ (إِنَّ) الْمُفِيدَةِ التَّعْلِيلِ. وَقَدْ جُمِعَ فِيهِ أَرْبَعُ مُؤَكِّدَاتٍ وَطَرِيقَةُ حَصْرٍ، فَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْحَصْرَ، وَإِنَّ وَصِيغَةُ الْحَصْرِ، وَجَمْعُ الْغُيُوبِ، وَأَدَاةُ الِاسْتِغْرَابِ.
وَبَعْدَ أَنْ تَبَرَّأَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِمَا اخْتَلَقُوهُ انْتَقَلَ فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ حَسْبَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ، فَقَوْلُهُ: مَا قُلْتُ لَهُمْ ارْتِقَاءٌ فِي الْجَوَابِ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ إِلَخْ... صَرَّحَ هُنَا بِمَا قَالَهُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ مَقَالِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا تَجَاوَزْتُ
سَفَهٌ. التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِك ظنّا مِنْهُم أنّهم أَصَابُوا فِيمَا فعلوا، وأنّهم علمُوا كَيفَ يرأبون مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَيُنَظِّمُونَ حَيَاتَهُمْ أَحْسَنَ نِظَامٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَغْرُورُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَجَاهِلُونَ بِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الْكَهْف: ١٠٤]. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَأْدِ آنِفًا، وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ- بِتَخْفِيفِ التَّاءِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِشِدَّةٍ، وَلَيْسَتْ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مُفِيتَةً هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ تَسْلِيطَ فِعْلِ الْقَتْلِ عَلَى الْأَوْلَادِ يُفِيدُ أَنَّهُ قَتْلٌ فَظِيعٌ.
وَقَوْلُهُ: وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ نَعَى عَلَيْهِمْ خُسْرَانَهُمْ فِي أَنْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، فَحُرِمُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَحَرَمُوا النَّاسَ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، بِخِلَافِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ. وَالْمَوْصُولُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ يَصِحُّ فِي الْعَطْفِ عَلَى صِلَتِهِ أَنْ تَكُونَ الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ مَعَ الصِّلَةِ مُوَزَّعَةً عَلَى طَوَائِفِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمرَان: ٢١].
وَانْتَصَبَ افْتِراءً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ حَرَّمُوا: لِبَيَانِ نَوْعِ التَّحْرِيمِ بِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ لِلَّهِ كَذِبًا.
وَجُمْلَةُ قَدْ ضَلُّوا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِزِيَادَةِ النِّدَاءِ عَلَى تَحَقُّقِ ضَلَالِهِمْ.
وَالضَّلَالُ: خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمُوصِّلِ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَهُمْ رَامُوا الْبُلُوغَ إِلَى مَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى شُرَكَائِهِمْ، فَوَقَعُوا فِي الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ، وَأَبْعَدَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا كَمَنْ رَامَ الْوُصُولَ فَسَلَكَ طَرِيقًا آخَرَ.
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ وَيُصَادِفَهُمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَلْبِ الْمَبْنِيِّ عَلَى عَكْسِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِ رُؤْبَةَ:
وَمَهْمَهٍ مُغْبَرَّةٍ أَرْجَاؤُهُ | كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ |
وَالنَّصِيبُ الْحَظُّ الصَّائِرُ لِأَحَدِ الْمُتَقَاسِمِينَ مِنَ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٢]، وَقَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧].
وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ، فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مُسْتَعْمَلًا حَقِيقَةً فَهُوَ الْقُرْآنُ، وَنَصِيبُهُمْ مِنْهُ هُوَ نَصِيبُهُمْ مِنْ وَعِيدِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: ٣٦]، وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مَجَازًا فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْد: ٣٨] أَيِ الْكِتَابُ الثَّابِتُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ إِحْقَاقِ كَلِمَةِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، فَنَصِيبُهُمْ مِنْهُ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ قَدَّرَهُ لَهُمْ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ مَا سَبَقَ تَقْدِيرُهُ لَهُمْ مِنَ الْإِمْهَالِ وَذَلِكَ هُوَ تَأْجِيلُهُمْ إِلَى أَجَلٍ أَرَادَهُ ثُمَّ اسْتِئْصَالُهُمْ بَعْدَهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ آنِفًا بِقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الْأَعْرَاف: ٣٤].
وَحَمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ النَّصِيبَ عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالْإِمْهَالِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ وَلَا أَحْسَبُ الْحَادِيَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِيَكُونَ نَوَالُ النَّصِيبِ حَاصِلًا فِي مُدَّةٍ مُمْتَدَّةٍ لِيَكُونَ مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ لِتَوَفِّيهِمْ غَايَةً لِانْتِهَاءِ ذَلِكَ النَّصِيبِ، اسْتِبْقَاءً لِمَعْنَى الْغَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي (حَتَّى). وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ، فَإِنَّ حَتَّى الِابْتِدَائِيَّةَ لَا تُفِيدُ مِنَ الْغَايَةِ مَا تُفِيدُهُ الْعَاطِفَةُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْمَعْنَى: إِمَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَيُصِيبُهُ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى قَدْرِ عُتُوِّهِ فِي تَكْذِيبِهِ وَإِعْرَاضِهِ، فَنَصِيبُهُ هُوَ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُ
وَالْأَمْرُ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ وَهُوَ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ: مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَانْتِظَارِ رُجُوعِهِ، فَلَمْ يُتِّمُوا ذَلِكَ وَاسْتَعْجَلُوا فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى سَبَقَ أَيْ بَادَرْتُمْ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الشَّأْنِ أَيِ الْغَضَبِ وَالسُّخْطِ كَقَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١] وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [هود: ٤٠] فَالْأَمْرُ هُوَ الْوَعِيدُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَذَّرَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَوَعَّدَهُمْ، فَكَانَ الظَّنُّ بِهِمْ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، فَلَمَّا فَعَلُوا مَا نُهُوا عَنْهُ بِحِدْثَانِ عَهْدِ النَّهْيِ، جُعِلُوا سَابِقِينَ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ: شُبِّهُوا فِي مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى أَسْبَابِ الْغَضَبِ وَالسُّخْطِ بِسَبْقِ السَّابِقِ الْمَسْبُوقَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَوْضَحُ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ، فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طه [٨٦]، حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي. وَقَدْ تَعَرَّضَتِ التَّوْرَاةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «وَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى رَأَيْتُ هَذَا الشَّعْبَ فَإِذَا هُوَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ فَالْآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ فَأُفْنِيَهُمْ».
وَإِلْقَاءُ الْأَلْوَاحِ رَمْيُهَا مِنْ يَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْإِلْقَاءِ آنِفًا. وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمُنَاجَاةِ كَانَتِ الْأَلْوَاحُ فِي يَدِهِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ.
ثُمَّ إِنَّ إِلْقَاءَهُ إِيَّاهَا إِنَّمَا كَانَ إِظْهَارًا لِلْغَضَبِ، أَوْ أَثَرًا مِنْ آثَارِ فَوَرَانِ الْغَضَبِ لَمَّا شَاهَدَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمَا ذَكَرَ الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْإِلْقَاءَ إِلَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِذْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ فَوَائِدِ الْعِبْرَةِ فِي الْقِصَّةِ إِلَّا ذَلِكَ، فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُ مَنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّ الْإِلْقَاءَ لِأَجْلِ إِشْغَالِ يَدِهِ بِجَرِّ رَأْسِ أَخِيهِ، لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ لَا جُرُورَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعُطِفَ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ بِالْفَاءِ.
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ، وَكَانَ شَدِيدًا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَلِذَلِكَ وَكَزَ الْقِبْطِيَّ فَقَضَى عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَظَاعَةِ الْفِعْلِ الَّذِي شَاهَدَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى الْفَظَاعَةِ، وَتَشْنِيعٌ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ تَأْدِيبًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَأْدِيبُهُمْ بِإِلْقَاءِ أَلْوَاحٍ كُتِبَ فِيهَا مَا يُصْلِحُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ تَصَرُّفَ النُّبُوءَةِ (وَلِذَلِكَ جَزَمْنَا بِأَنَّ إِعْرَاضَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِتَابَةِ الْكِتَابِ الَّذِي هَمَّ بِكِتَابَتِهِ قُبَيْلَ وَفَاتِهِ لَمْ يَكُنْ تَأْدِيبًا لِلْقَوْمِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ عِنْدَهُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَرَأَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ كِتَابَتِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنِ الدِّينُ مُحْتَاجًا
إِلَيْهِ) وَوَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ
وَانْسِلَاخُهَا انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ الْمُتَتَابِعَةِ مِنْهَا، وَقَدْ بَقِيَتْ حُرْمَتُهَا مَا بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبِيلَةٌ، لِمَصْلَحَةِ الْفَرِيقَيْنِ، فَلَمَّا آمَنَ جَمِيعُ الْعَرَبِ بَطَلَ حُكْمُ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَارِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَغْنَتْ عَنْهَا.
وَالْأَمْرُ فِي فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لِلْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ عَلَى حِدَةٍ، أَيْ فقد أذن لكل فِي قَتْلِهِمْ، وَفِي أَخْذِهِمْ، وَفِي حِصَارِهِمْ، وَفِي مَنْعِهِمْ مِنَ الْمُرُورِ بِالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ يَعْرِضُ الْوُجُوبُ إِذَا ظَهَرَتْ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْ صُوَرِ الْوُجُوبِ مَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
[التَّوْبَة: ١٢] وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْعَهْدِ قَدْ زَالَتْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ شُرِعُ الْجِهَادُ وَالْإِذْنُ فِيهِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرُ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ آيَاتِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ. وَقَدْ عَمَّتِ الْآيَةُ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ وَعَمَّتِ الْبِقَاعَ إِلَّا مَا خَصَّصَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالْأَخْذُ: الْأَسْرُ.
وَالْحَصْرُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْقُعُودُ مَجَازٌ فِي الثَّبَاتِ فِي الْمَكَانِ، وَالْمُلَازَمَةِ لَهُ، لِأَنَّ الْقُعُودَ ثُبُوتٌ شَدِيدٌ وَطَوِيلٌ.
فَمَعْنَى الْقُعُودِ فِي الْآيَةِ الْمُرَابَطَةُ فِي مَظَانِّ تَطَرُّقِ الْعَدُوِّ الْمُشْرِكِينَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَفِي مَظَانِّ وُجُودِ جَيْشِ الْعَدُوِّ وَعُدَّتِهِ.
وَالْمَرْصَدُ مَكَانُ الرَّصْدِ. وَالرَّصْدُ: الْمُرَاقَبَةُ وَتَتَبُّعُ النَّظَرِ.
وكُلَّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَعْمِيمِ الْمَرَاصِدِ الْمَظْنُونِ مُرُورُهُمْ بِهَا، تَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إِضَاعَتِهِمُ الْحِرَاسَةَ فِي الْمَرَاصِدِ فَيَأْتِيهِمُ الْعَدُوُّ مِنْهَا، أَوْ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي بَعْضِ مَمَارِّ الْعَدُوِّ فَيَنْطَلِقُ الْأَعْدَاءُ آمِنِينَ فَيَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتَسَامَعُ جَمَاعَاتُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا بِذَوِي بَأْسٍ وَلَا يَقَظَةٍ، فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى كُلَّ هُنَا إِلَى مَعْنَى الْكَثْرَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْمَرَاصِدِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي | إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ |
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يخْطر بَيْننَا | لَا علم مَنْ جَبَّانُهَا مِنْ شجاعها |
وَإِنَّمَا جَعَلَ اسْتِخْلَافَهُمْ فِي الْأَرْضِ عِلَّةً لِعِلْمِ اللَّهِ بِأَعْمَالِهِمْ كِنَايَةً عَنْ ظُهُورِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْوَاقِعِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ أَوْ مِمَّا لَا يُرْضِيهِ فَإِذَا ظَهرت أَعْمَالهم عَملهَا اللَّهُ عِلْمَ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ سَيَقَعُ عِلْمًا أَزَلِيًّا، كَمَا أَنَّ بَيْتَ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ مَعْنَاهُ لِيَظْهَرَ الْجَبَانُ مِنَ الشُّجَاعِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِتَعْلِيلِ الْإِقْدَامِ حُصُولَ عِلْمِهِ بِالْجَبَانِ وَالشُّجَاعِ وَلَكِنَّهُ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ ظُهُورِ الْجَبَانِ وَالشُّجَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ فِي سُورَةِ آل عمرَان [١٤٠].
[١٥]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ١٥]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ [يُونُس: ١١] إِلَخْ لِأَن ذَلِك ناشىء عَنْ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] كَمَا تَقَدَّمَ فَذَلِكَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ التَّكْذِيبِ. ثُمَّ حُكِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُسْلُوبٌ آخَرُ مِنْ أَسَالِيبِ تَكْذِيبِهِمُ
وَالصَّيْحَةُ: الصَّاعِقَةُ أَصَابَتْهُمْ.
وَمَعْنَى كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا.
وَتَقَدَّمَ شُعَيْبٌ فِي الْأَعْرَافِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَلَا إِنَّ ثَمُودًا» - بِالتَّنْوِينِ- عَلَى اعْتِبَارِ ثَمُودٍ اسْمِ جَدِّ الْأُمَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبَ، بِدُونِ تَنْوِينٍ عَلَى اعْتِبَارِهِ اسْمًا لِلْأُمَّةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ.
وَهُمَا طَرِيقَتَانِ مَشْهُورَتَانِ لِلْعَرَبِ فِي أَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ الْمُسَمَّاةِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْدَادِ الْأَعْلَيْنَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بُعْداً فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: ٤٤].
[٦٩- ٧٣]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٦٩ إِلَى ٧٣]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: ٢٥].
الْمُبْصَرَاتِ، وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ كَحَالِ الْبَصَرِ فِي الْعِلْمِ وَكَحَالِ النُّورِ فِي الْإِفَاضَةِ وَالْإِرْشَادِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مُرَاعَاةً لِتَأْنِيثِ الظُّلُمَاتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ وَذَلِكَ وَجْهٌ فِي الْجَمْعِ غَيْرِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ.
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أَمْ للإضراب الِانْتِقَال فِي الِاسْتِفْهَام مُقَابل قَوْلِهِ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا، فَالْكَلَامُ بَعْدَ (أَمْ) اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ لِدَلَالَةِ (أَمْ) عَلَيْهَا. وَالتَّقْدِيرُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. وَالْتَفَتَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ لِمَا مَضَى مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّغْلِيطِ. فَالْمَعْنَى: لَوْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ يَخْلُقُونَ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ لَكَانَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي الِاغْتِرَارِ وَاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً، أَيْ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ، فَجُمْلَةُ خَلَقُوا صِفَةٌ لِ شُرَكاءَ.
وَشِبْهُ جُمْلَةِ كَخَلْقِهِ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ خَلَقُوا خَلْقًا مِثْلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ.
وَالْخَلْقُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرٌ.
وَجُمْلَةُ فَتَشابَهَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَهِيَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ شُرَكاءَ،
وَالرَّابِطُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْخَلْقُ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَشَابَهَ خَلْقُهُمْ عَلَيْهِمْ. وَالْوَصْفَانِ هُمَا مصب التهكم والتغليط.
وَجُمْلَةُ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَنَتِيجَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ فِي أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [سُورَة الرَّعْد: ١٦] وَفِي أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كَانَ
تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [سُورَة النَّحْل: ٥] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [سُورَة النَّحْل: ٨] الْآيَةَ.
وَأُسْنِدَ الْإِنْبَاتُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْمُلْهِمُ لِأَسْبَابِهِ وَالْخَالِقُ لِأُصُولِهِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى دَفْعِ غُرُورِهِمْ بِقُدْرَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لِكَثْرَةِ مَا تَحْتَ ذَلِكَ مِنَ الدَّقَائِقِ.
وَذِكْرُ الزَّرْعِ وَالزَّيْتُونِ وَمَا مَعَهُمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي سُورَة الْأَنْعَام.
والتفكّر تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٠].
وَإِقْحَامُ لَفْظِ «قَوْمٍ» لِلدَّلَالَةِ على أَن التفكّر مِنْ سَجَايَاهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عَطْفٌ عَلَى الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ، أَيْ وَيُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ من كل الثَّمَرَاتِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هُنَا.
وَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ: أَجْنَاسُ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي يُنْبِتُهَا الْمَاءُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنَ النَّاسِ ثَمَرَاتُ أَرْضِهِمْ وَجَوِّهِمْ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ قُصِدَ مِنْهَا تَنْوِيعُ الِامْتِنَانِ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ بِمَا نَالَهُمْ مِنْ نِعَمِ الثَّمَرَاتِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى الزَّرْعِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي تَنْبُتُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَذْيِيلٌ.
وَالْآيَةُ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُبْدِعُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ هِيَ إِنْبَاتُ أَصْنَافٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ: تسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤].
وَنِيطَتْ دَلَالَةُ هَذِهِ بِوَصْفِ التَّفْكِيرِ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ خَفِيَّةٌ لِحُصُولِهَا بِالتَّدْرِيجِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَتَفَكَّرُونَ.
وَقَدْ مَثَّلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ تُفَّاحَةً وَاحِدَةً فَتِلْكَ التُّفَّاحَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ (أَيْ جَوَاهِرُ فَرْدَةٌ)، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ دَلِيلٌ تَامٌّ مُسْتَقِلٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ صِفَاتٌ مَخْصُوصَةٌ مِنَ الطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ هُوَ مِنَ الْجَائِزَاتِ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصَّصٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ التُّفَّاحَةِ دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَدَدُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَأَحْوَالُ تِلْكَ الصِّفَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
وَلَعَلَّ إِيثَارَ فِعْلِ لَا تَفْقَهُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَا تَعْلَمُونَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ عِلْمٌ دَقِيقٌ فَيُؤَيِّدُ مَا نَحَّاهُ فَخْرُ الدِّينِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَبِّحُ- بِيَاءِ الْغَائِب- وقرأه أَبُو عَمْرٌو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بتاء جمَاعَة الْمُؤَنَّث- وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ فِي جُمُوعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَغَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً اسْتِئْنَافٌ يُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ مَقَالَتَهُمْ تَقْتَضِي تَعْجِيلَ
الْعِقَابِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ بِالْحِلْمِ وَالْإِمْهَالِ. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْحَثِّ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ مَقَالَتِهِمْ لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
وَزِيَادَةُ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحِلْمَ وَالْغُفْرَانَ صِفَتَانِ لَهُ محققتان.
[٤٥]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٤٥]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥)
عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَقِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَوَّهَ بِالْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاء: ٩]، ثُمَّ أَعْقَبَ بِمَا اقْتَضَاهُ السِّيَاقُ مِنَ
وأَبَتِ
: أَصْلُهُ أَبِي، حَذَفُوا يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ وَعَوَّضُوا عَنْهَا تَاءً تَعْوِيضًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَهُوَ خَاصٌّ بِلَفْظِ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً، وَلَعَلَّهُ صِيغَةٌ بَاقِيَةٌ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ. وَرَأَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ التَّاءَ تَصِيرُ فِي الْوَقْفِ هَاءً، وَخَالَفَهُ الْفَرَّاءُ فَقَالَ: بِبَقَائِهَا فِي الْوَقْفِ. وَالتَّاءُ مَكْسُورَةٌ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الْيَاءِ وَالْيَاءُ بِنْتُ الْكَسْرَةِ وَلَمَّا كَسَرُوهَا فَتَحُوا الْيَاءَ وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَر: (يأبت) - بِفَتْحِ التَّاءِ- دُونَ أَلِفٍ بَعْدَهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ (يَا أَبَتَا) بِأَلِفٍ بَعْدِ التَّاءِ لِأَنْ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا نُودِيَ يَجُوزُ فَتْحُهَا وَإِشْبَاعُ فَتَحْتِهَا فَقَرَأَهُ عَلَى اعْتِبَارِ حَذْفِ الْأَلِفِ تَخْفِيفًا وَبَقَاء الفتحة.
[٤٣]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٤٣]
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣)
إِعَادَةُ نِدَائِهِ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ تَأْكِيدٌ لِإِحْضَارِ الذِّهْنِ وَلِإِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«ثُمَّ ثَنَّى بِدَعْوَتِهِ إِلَى الْحَقِّ مُتَرَفِّقًا بِهِ مُتَلَطِّفًا، فَلَمْ يُسَمِّ أَبَاهُ بِالْجَهْلِ الْمُفْرِطِ وَلَا نَفْسَهَ بِالْعِلْمِ الْفَائِقِ وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَعِي طَائِفَةً مِنَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ مَعَكَ، وَذَلِكَ عِلْمُ الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ، فَلَا تَسْتَنْكِفْ، وَهَبْ أَنِّي وَإِيَّاكَ فِي مَسِيرٍ وَعِنْدِي مَعْرِفَةٌ بِالْهِدَايَةِ دُونَكَ فَاتَّبِعْنِي أُنْجِكَ مِنْ أَنْ تَضِلَّ وَتَتِيهَ» اه. ذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَرَى نَفْسَهَ عَلَى عِلْمٍ عَظِيمٍ لِأَنَّهُ كَانَ كَبِيرَ دِيَانَةِ قَوْمِهِ. وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ عِلْمَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوءَةِ.
وَتَفْرِيعُ أَمْرِهِ بِأَنْ يَتَّبِعَهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَقِّيَّةَ الْعَالَمِ بِأَنْ يُتَّبَعَ مَرْكُوزَةٌ فِي غَرِيزَةِ الْعُقُولِ لَمْ يَزَلِ
وَلَمْ يَكُنْ نَبِيئًا، وَأَمَّا تَدْبِيرُ الْأُمُورِ فَكَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْقُضَاةِ مثل (صمويل).
فداوود أَوَّلُ مَنْ جُمِعَتْ لَهُ النُّبُوءَةُ وَالْمُلْكُ فِي أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَبَلَغَ مُلْكُ إِسْرَائِيلَ فِي مُدَّة دَاوُود حَدًّا عَظِيمًا مِنَ الْبَأْسِ وَالْقُوَّة وإخضاع الْأَعْدَاء. وأوتي دَاوُود الزَّبُورَ فِيهِ حِكْمَةٌ وَعِظَةٌ فَكَانَ تَكْمِلَةً لِلتَّوْرَاةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْلِيمَ شَرِيعَةٍ، فاستكمل زمن دَاوُود الْحِكْمَةَ وَرَقَائِقَ الْكَلَامِ.
وَأُوتِيَ سُلَيْمَانُ الْحِكْمَةَ وَسُخِّرَ لَهُ أَهْلُ الصَّنَائِعِ وَالْإِبْدَاعِ فَاسْتَكْمَلَتْ دَوْلَةُ إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ عَظَمَةَ النِّظَامِ وَالثَّرْوَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالتِّجَارَةِ فَكَانَ فِي قصَّتهَا مَثَلٌ.
وَكَانَتْ تِلْكَ الْقِصَّةُ مُنْتَظِمَةً فِي هَذَا السِّلْكِ الشَّرِيفِ سِلْكِ إِيتَاءِ الْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالرُّشْدِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ.
وَكَانَ فِي قصَّة دَاوُود وَسُلَيْمَانَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَصْلِ الِاجْتِهَادِ وَعَلَى فِقْهِ الْقَضَاءِ فَلذَلِك خص دَاوُود وَسُلَيْمَانُ بِشَيْءٍ مِنْ تَفْصِيلِ أَخْبَارِهِمَا فَيَكُونُ داوُدَ عَطْفًا عَلَى نُوحاً فِي قَوْله وَنُوحاً [الْأَنْبِيَاء: ٧٦]، أَي وآتينا دَاوُود وَسُلَيْمَانَ حُكْمًا وَعِلْمًا إِذْ يَحْكُمَانِ... إِلَى آخِرِهِ. فَ إِذْ يَحْكُمانِ مُتَعَلِّقٌ بِ (آتَيْنَا) الْمَحْذُوفِ، أَيْ كَانَ وَقْتُ حُكْمِهِمَا فِي قَضِيَّةِ الْحَرْثِ مَظْهَرًا مِنْ مظَاهر حكمهمَا وعلمهما.
وَالْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ، وَهُوَ النُّبُوءَةُ. وَالْعِلْمُ: أَصَالَةُ الْفَهْمِ. وإِذْ نَفَشَتْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَحْكُمانِ.
فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْآيَةُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْعَدْلِ وَمَبَالِغِ تَدْقِيقِ فِقْهِ الْقَضَاءِ، وَالْجَمْعُ بَين الْمصَالح والتفاضل بَيْنَ مَرَاتِبِ الِاجْتِهَادِ،
تَامَّةٌ فَكَانَ كُلُّ إِلَهٍ خَالِقًا لِمَخْلُوقَاتٍ لِثُبُوتِ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، فَلَا جَائِزَ أَنْ تَتَوَارَدَ الْآلِهَةُ عَلَى مَخْلُوقٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ: إِمَّا لِعَجْزٍ عَنِ الِانْفِرَادِ بِخَلْقِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا لَا يُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ، وَإِمَّا تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ إِلَهٍ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَلْنَفْرِضَ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَاتُ كُلِّ إِلَهٍ مُسَاوِيَةً لِمَخْلُوقَاتِ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَعْلَمُهَا الْإِلَهُ الْخَالِقُ لَهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ لَا تَكُونَ لِلْإِلَهِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْ طَائِفَةً مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ رُبُوبِيَّةً عَلَى مَا لَمْ يَخْلُقْهُ وَهَذَا يُفْضِي إِلَى نَقْصٍ فِي كُلٍّ مِنَ الْآلِهَةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الْكَمَالَ لَا النَّقْصَ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ سَتَكُونُ بَعْدَ خَلْقِهَا مُعَرَّضَةً لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ مَا يَحُفُّ بِهَا عَنْ عَوَارِضِ الْوُجُودِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْهَا الْمَخْلُوقَاتُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاحِدِ. وَلَا مَنَاصَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ خَالِقَ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْدَعَ فِيهَا خَصَائِصَ مُلَازِمَةً لَهَا كَمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، فَتِلْكَ الْمَخْلُوقَاتُ مَظَاهِرٌ لِخَصَائِصِهَا لَا مَحَالَةَ فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَفَوُّقَ مَخْلُوقَاتِ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى مَخْلُوقَاتِ بَعْضٍ آخَرَ بِعَوَارِضَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْمُقَارَنَاتِ لَازِمَةً لِذَلِكَ، لَا جَرَمَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كُلُّهُ لَازِمَيْنِ بَاطِلَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِلَهٍ مُخْتَصًّا بِمَخْلُوقَاتِهِ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَلَا يَتَصَرَّفُ هُوَ فِي مَخْلُوقَاتِ غَيْرِهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ إِلَهٍ مِنَ الْآلِهَةِ عَاجِزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَخْلُوقَاتِ غَيْرِهِ. وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ لِأَنَّ الْعَجْزَ نَقْصٌ وَالنَّقْص يُنَافِي حَقِيقَة الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا دَلِيلٌ بُرْهَانِيٌّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّهُ أَدَّى إِلَى اسْتِحَالَةِ ضِدِّهَا. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ.
وَثَانِي: اللَّازِمَيْنِ أَنْ تَصِيرَ مَخْلُوقَاتُ بَعْضِ الْآلِهَةِ أَوْفَرَ أَوْ أَقْوَى مِنْ مَخْلُوقَاتِ إِلَهٍ آخَرَ بِعَوَارِضَ تَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْأَعْمَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَآثَارِ الْأَقْطَارِ وَالْحَوَادِثِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاحِدِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى اعْتِزَازِ الْإِلَهِ الَّذِي تَفَوَّقَتْ مَخْلُوقَاتُهُ عَلَى الْإِلَهِ
وَقَوْلُهُ: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أَيْ فِرَارًا مُبْتَدِئًا مِنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ سَبَبُ فِرَارِهِ، وَهُوَ بِتَقْدِيرِ
مُضَافٍ، أَيْ مِنْ خَوْفِكُمْ. وَالضَّمِيرُ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ ائْتَمَرُوا عَلَى قَتْلِ مُوسَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [الْقَصَص: ٢٠]. وَالْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ، وَأَرَادَ بِهَا النُّبُوءَةَ وَهِيَ الدَّرَجَةُ الْأُولَى حِينَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ. ثُمَّ قَالَ: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَيْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ لَهُ الْمُعْجِزَةَ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الْأَعْرَاف: ١٤٤] أَرْسَلَهُ بِقَوْلِهِ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه:
٢٤].
ثُمَّ عَادَ إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ فَكَّرَ عَلَى امْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ فَأَبْطَلَهُ وَأَبَى أَنْ يُسَمِّيَهُ نِعْمَةً، فَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الِامْتِنَانُ فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ إِذِ الِامْتِنَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنِعْمَةٍ.
ثُمَّ إِنْ جُعِلَتْ جُمْلَةُ أَنْ عَبَّدْتَ بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ كَانَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْمَعْنَى مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ مَقْصُودِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحجر: ٦٦] إِذْ قَوْلُهُ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: ذلِكَ الْأَمْرَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ عَبَّدْتَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَالتَّقْدِيرِ: لِأَنَّ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقِيلَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامٌ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. وَمَعْنَى عَبَّدْتَ ذَلَّلْتَ، يُقَالُ: عَبَّدَ كَمَا يُقَالُ: أَعْبَدَ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. أَنْشَدَ أَيِمَّةُ اللُّغَةِ:
حَتَّامَ يُعْبِدْنِي قَوْمِي وَقَدْ كَثُرَتْ | فِيهِمْ آبَاعِرُ مَا شَاءُوا وَعُبْدَانُ |
فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ.
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْعَصَا وَبَيَاضِ الْيَدِ. وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ. ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ، وإِلى لِلِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيْ حُجَّتَانِ عَلَى أَنْ أُرْسِلَ بِهِمَا إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ لِتَضَمُّنِهَا أَنَّهُمْ بِحَيْثُ يُقْرَعُونَ بِالْبَرَاهِينِ فَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَمَكَّنُ الْكُفْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ حَتَّى كَانَ كَالْجِبِلَّةِ فِيهِمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ كانُوا. وَقَوله قَوْماً كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]. وَالْفِسْقُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَذانِكَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ (ذَانِكَ) عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّثْنِيَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَشْدِيدِ نُونِ فَذانِكَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ.
وَعَلَّلَهَا النَّحْوِيُّونَ بِأَنَّ تَضْعِيفَ النُّونِ تَعْوِيضٌ عَلَى الْأَلْفِ مِنْ (ذَا) وَ (تَا) الْمَحْذُوفَةِ لِأَجْلِ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ التَّشْدِيدَ عِوَضٌ عَنْ لَامِ الْبُعْدِ الَّتِي تَلْحَقُ اسْمَ الْإِشَارَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ «فَالْمُخَفَّفُ مُثَنَّى ذَاكَ وَالْمُشَدَّدُ مُثَنَّى ذَلِكَ». وَهَذَا أحسن.
[٣٣]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٣٣]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣)
جَرَى التَّأْكِيدُ عَلَى الْغَالِبِ فِي اسْتِعْمَالِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْغَرِيبَةِ لِيَتَحَقَّقَ السَّامِعُ وُقُوعَهَا وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الْقَصَص:
٣٢]. وَالْمَعْنَى: فَأَخَافَ أَنْ يَذْكُرُوا قَتْلِيَ الْقِبْطِيَّ فَيَقْتُلُونِي. فَهَذَا كَالِاعْتِذَارِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ رِسَالَةَ اللَّهِ لَا يُتَخَلَّصُ مِنْهَا بِعُذْرٍ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْنٍ إِلَهِيٍّ مِنْ أَعْدَائِهِ. فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالدُّعَاءِ، وَمُقَدِّمَةٌ لِطَلَبِ تَأْيِيدِهِ بهَارُون أَخِيه.
شَرِيعَتِهِ، وَوَعَدَ بِأَنْ يَأْتِيَهُ النَّصْرُ كَقَوْلِهِ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحجر: ٩٩]، مَعَ التَّعْرِيضِ بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الشِّرْكِ بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الْقَيِّمِ، أَيِ الْحَقِّ. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الْوَجْهِ لِلدِّينِ فِي قَوْلِهِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الرّوم: ٣٠]، فَإِنَّ ذَلِكَ لما فرع على قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرّوم: ٩]، وَمَا اتَّصَلَ مَنْ تَسَلْسُلِ الْحُجَجِ وَالْمَوَاعِظِ فُرِّعَ أَيْضًا نَظِيرُهُ هَذَا عَلَى قَوْلِهِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ [الرّوم: ٤٢] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ وَعَلَى مَعْنَى إِقَامَةِ الْوَجْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الرّوم: ٣٠].
والْقَيِّمِ بِوَزْنِ فَيْعِلٍ، وَهِيَ زِنَةٌ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ مَا تُصَاغُ مِنْهُ، أَيِ: الشَّدِيدُ الْقِيَامِ، وَالْقِيَامُ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِصَابَةِ لِأَنَّ الصَّوَابَ يُشَبَّهُ بِالْقِيَامِ، وَضِدَّهُ يُشَبَّهُ بِالْعِوَجِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْف: ١، ٢] فَوُصِفَ الْإِسْلَامُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِالْحَنِيفِ وَالْفِطْرَةِ وَوُصِفَ هُنَا بِالْقَيِّمِ. وَبَيْنَ أَقِمْ والْقَيِّمِ مُحْسِنٌ الْجِنَاسُ.
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْأَمْرِ إِعْرَاضٌ عَنْ صَرِيحِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاةُ. يُؤْخَذُ هَذَا التَّعْرِيضُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدَّوَامِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ الْآيَةَ.
وَالْمَرَدُّ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنَ الرَّدِّ وَهُوَ الدَّفْعُ، ولَهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ، ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ يَأْتِيَ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْمُرَادُ (بِالْيَوْمِ) يَوْمُ عَذَابٍ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ لَا يَرُدُّهُ عَنِ الْمُجَازَيْنِ بِهِ رَادٌّ لِأَنَّهُ آتٍ مِنَ اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ يَوْمُ بَدْرٍ.
ويَصَّدَّعُونَ أَصْلُهُ يَتَصَدَّعُونَ فَقُلِبَتِ التَّاءُ صَادًا لِتُقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِتَأْتِيَ التَّخْفِيفَ بِالْإِدْغَامِ. وَالتَّصَدُّعُ: مُطَاوِعُ الصَّدْعِ، وَحَقِيقَةُ الصَّدْعِ: الْكَسْرُ وَالشَّقُّ، وَمِنْهُ تَصَدَّعَ الْقَدَحُ.
وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ: يَوْمُ الْحَشْرِ. وَالتَّصَدُّعُ: التَّفَرُّقُ وَالتَّمَايُزُ. وَيَكُونُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، أَيْ يَوْمئِذٍ يَفْتَرِقُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْكَافِرِينَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الرّوم: ١٤- ١٦].
الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ وَمِنَ الْيَهُودِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ كُلَّ كَافِرٍ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فصيغة الْمَاضِي فِي فِعْلِ لَعَنَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْوُقُوعِ، شِبْهِ الْمُحَقَّقِ حُصُولُهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي حَصَلَ فَاسْتُعِيرَ لَهُ صِيغَةُ الْمَاضِي مَثَلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ
[النَّحْل: ١] لِأَنَّ اللَّعْنَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ. وَأَمَّا حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَمِثْلُ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَمَتَّعُونَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَيَاةٍ وَرِزْقٍ وَمَلَاذٍ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: ١٩٦، ١٩٧]. وَقَدْ يَكُونُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ مُتَمَسَّكٌ لِلشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ بِانْتِفَاءِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَنِ الْكَافِرِينَ خِلَافًا لِلْمَاتُرِيدِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّهُ مُتَمَسَّكٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ حَقِيقَةَ النِّعْمَةِ تَرْجِعُ إِلَى مَا لَا يُعْقِبُ أَلَمًا.
وَالسَّعِيرُ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الْإِيقَادِ. وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ، أَيْ مَسْعُورَةٌ.
وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى السَّعِيرِ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها مُؤَنَّثًا لِأَنَّ سَعِيراً مِنْ صِفَاتِ النَّارِ وَالنَّارُ مُؤَنَّثَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَجُمْلَةُ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خالِدِينَ أَيْ خَالِدِينَ فِي حَالَةِ انْتِفَاءِ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ عَنْهُمْ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هم ينْصرُونَ.
[٦٦]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٦٦]
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦)
يَوْمَ ظَرْفٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ لَا يَجِدُونَ [الْأَحْزَاب: ٦٥] أَيْ إِنْ وَجَدُوا أَوْلِيَاءَ وَنُصَرَاءَ فِي الدُّنْيَا مِنْ يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ فَيَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يَرْثِي لَهُمْ وَلَا نَصِيرًا يُخَلِّصُهُمْ. وَتَكُونُ جُمْلَةُ يَقُولُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يَقُولُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الظَّرْفُ بِفعل يَقُولُونَ على أَن تكون جملَة يَقُولُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَا يَجِدُونَ.
وَذَلِكَ اللَّوْنُ أَحْسَنُ أَلْوَانِ النِّسَاءِ، وَقَدِيمًا شَبَّهُوا الْحِسَانَ بِبَيْضِ النَّعَامِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا | تَمَتَّعَتْ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غير معجل |
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥٧]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَجَالِسِينَ فِي مَسَرَّةٍ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ مَعَ الْأَصْحَابِ وَالْمُنْتَدِمِينَ لَذَّةً كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فَيَّاضٍ:
وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلَّا | أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الشَّرَابِ |
وَالتَّسَاؤُلُ: أَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحُذِفَ الْمُتَسَاءَلُ عَنْهُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَ نَحْوًا مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:
٤٠، ٤٢].
وَوَصْفُ: شَفِيعٍ بِجُمْلَةِ يُطاعُ وَصْفٌ كَاشِفٌ إِذْ لَيْسَ أَنَّ الْمُرَادَ لَهُمْ شُفَعَاءُ لَا تُطَاعُ شَفَاعَتُهُمْ لِظُهُورِ قِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ شَأْنُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلشَّفَاعَةِ أَنْ يَثِقَ بِطَاعَةِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ لَهُ. وَأَتْبَعَ شَفِيعٍ بِوَصْفِ يُطاعُ لِتَلَازُمِهِمَا عُرْفًا فَهُوَ مِنْ إِيرَادِ نَفْيِ الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ. وَالْمَقْصُودُ: نَفِيُ الْمَوْصُوفِ بِضَرْبٍ مِنِ الْكِنَايَةِ التَّلْمِيحِيَّةِ كَقَوْلِ ابْنِ أَحْمَرَ:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ (١) أَيْ لَا ضَبَّ فِيهَا فَيَنْجَحِرُ، وَذَلِكَ يُفِيدُ مُفَادَ التَّأْكِيدِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّفِيعَ إِذَا لَمْ يُطِعْ فَلَيْسَ بِشَفِيعٍ. وَالله لَا يجترىء أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا من يطاع.
[١٩]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٩]
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [غَافِر: ١٧] عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ [غَافِر: ١٥]. وَمَجْمُوعُ الظَّاهِرِ وَالْمُقَدَّرِ اسْتِئْنَافٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْخَفَايَا كَانَ إِنْذَارًا بَالِغًا يَقْتَضِي الْحَذَرَ مِنْ كُلِّ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ نَهَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَبَعْدَ أَنْ أيأسهم من شَفِيع يسْعَى لَهُم فِي عدم الْمُؤَاخَذَة بِذُنُوبِهِمْ أَيْأَسَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ إِخْفَاءَ شَيْءٍ مِنْ نَوَايَاهُمْ أَوْ أَدْنَى حَرَكَاتِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [غَافِر: ١٧]، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا مَرَّ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ.
_________
(١) أَوله: لَا تفزع الأرنب أهوالها.
يصف مفازة قاحلة لَا ضَب فِيهَا وَلَا أرنب.
وَ (سَيِّئَةٍ) صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ فِعْلَةٌ تَسُوءُ مَنْ عُومِلَ بِهَا. وَوَزْنُ سَيِّئَةٍ فَيْعَلَةٌ مُبَالَغَةً فِي الْوَصْفِ مِثْلَ: هَيِّنَةٍ، فَعَيْنُهَا يَاءٌ وَلَامُهَا هَمْزَةٌ، لِأَنَّهَا مِنْ سَاءَ، فَلَمَّا صِيغَ مِنْهَا وَزْنُ فَيْعَلَةَ الْتَقَتْ يَاءَانِ فَأُدْغِمَتَا، أَي أَن المجازئ يجازيء مَنْ فَعَلَ مَعَهُ فِعْلَةً تَسُوءُهُ بِفِعْلَةٍ سَيِّئَةٍ مِثْلِ فِعْلَتِهِ فِي السُّوءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ هُنَا الْمَعْصِيَةَ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي إِطْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى الْأَذَى الَّذِي يُلْحَقُ بِالظَّالِمِ.
وَمَعْنَى مِثْلُها أَنَّهَا تَكُونُ بِمِقْدَارِهَا فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ، فَقَدْ تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْغَرَضِ وَالصُّورَةِ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ وَتِلْكَ حَقِيقَةُ الْمُمَاثَلَةِ مِثْلَ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ ظُلْمًا بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ، وَمِنَ الْمُعْتَدِي بِجِرَاحِ عَمْدٍ، وَقَدْ تَتَعَذَّرُ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ فَيُصَارُ إِلَى الْمُشَابَهَةِ فِي الْغَرَضِ، أَيْ مِقْدَارِ الضُّرِّ وَتِلْكَ هِيَ الْمُقَارَبَةُ مِثْلَ تَعَذُّرِ الْمُشَابِهَةِ التَّامَّةِ فِي جَزَاءِ الْحُرُوبِ مَعَ عَدُوِّ الدِّينِ إِذْ قَدْ يُلْحَقُ الضُّرُّ بِأَشْخَاصٍ لَمْ يُصِيبُوا أَحَدًا بِضُرٍّ وَيَسْلَمُ أَشْخَاصٌ أَصَابُوا النَّاسَ بِضُرٍّ، فَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْحَرْبِ هِيَ انْتِقَامُ جَمَاعَةٍ مِنْ جَمَاعَةٍ بِمِقْدَارِ مَا يَشْفِي
نُفُوسَ الْغَالِبِينَ حَسْبَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النَّاسُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِتْلَافُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ بِسَبَبِ ضَرْبٍ عَلَى الرَّأْسِ أَوْ عَلَى الْعَيْنِ فَيُصَارُ إِلَى الدِّيَةِ إِذْ لَا تُضْبَطُ إِصَابَةُ حَاسَّةِ الْبَاغِي بِمِثْلِ مَا أَصَابَ بِهِ حَاسَّةَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إِعْطَاءُ قِيَمِ الْمَتْلَفَاتِ مِنَ الْمُقَوَّمَاتِ إِذْ يَتَعَسَّرُ أَنْ يُكَلَّفَ الْجَانِي بِإِعْطَاءِ مِثْلِ مَا أَتْلَفَهُ.
وَمِنْ مَشَاكِلِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْعُقُوبَةِ مَسْأَلَة الْجَمَاعَة يتمالؤون عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ عَمْدًا، أَوْ عَلَى قَطْعِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَإِنِ اقْتُصَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ إِفْلَاتًا لِبَقِيَّةِ الْجُنَاةِ مِنْ عُقُوبَةِ جُرْمِهِمْ، وَإِنِ اقْتُصَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَنَوْا عَلَى وَاحِدٍ.
فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَنَظَرَ إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَنَى عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَاسْتَحَقَّ الْجَزَاءَ بِمِثْلِ مَا أَلْحَقَهُ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ التَّعَدُّدَ مُلْغًى وَرَاعَى فِي ذَلِكَ سَدَّ ذَرِيعَةِ أَنْ يَتَحَيَّلَ الْمُجْرِمُ عَلَى التَّنَصُّلِ مِنْ جُرْمِهِ بِضَمِّ جَمَاعَةٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَخْذًا مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَوْلِهِ: لَوِ اجْتَمَعَ عَلَى قَتْلِهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَاقْتَصَصْتُ مِنْهُمْ.
وَالِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: تَمْثِيلٌ لِلرَّاجِعِ إِلَى الْكفْر بعد لإيمان بِحَالِ مَنْ سَارَ لِيَصِلَ إِلَى مَكَانٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فِي طَرِيقِهِ. وَلَمَّا كَانَ الِارْتِدَادُ سَيْرًا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانَتْ وَرَاءَ السَّائِرِ جُعِلَ الِارْتِدَادُ إِلَى الْأَدْبَارِ، أَيْ إِلَى جِهَةِ الْأَدْبَارِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ عَلى لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِارْتِدَادَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ جِهَةِ الْأَدْبَارِ كَمَا يُقَالُ: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَالْهُدَى: الْإِيمَانُ، وَتَبَيَّنَ الْهُدَى لَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْه تبيّن حَقِيقِيّ لِأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ هُدَى الْإِيمَانِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ لَيْسَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصِّلَةِ بَعْضُ الَّذِينَ كَانَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ، عُبِّرَ عَنْ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ مُشَارَكَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحْوَالِهِمْ فِي مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّلَاةِ مَعَهُ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْمَوَاعِظِ بِالِارْتِدَادِ لِأَنَّهُ مُفَارَقَةٌ لِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الطَّيِّبَةِ، أَيْ رَجَعُوا إِلَى أَقْوَالِ الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ وَذَلِكَ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، وَتَبَيُّنُ الْهُدَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَوْنُهُ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ بَيِّنٌ لَهُمْ لِوُضُوحِ أَدِلَّتِهِ وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ، فَهَذَا التَّبَيُّنُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢]، أَيْ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُوجِبُ رَيْبَ الْمُرْتَابِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّ الْقِتَالَ حَقٌّ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، وَعَلَيْهِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ:
الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ انْخَزَلُوا يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَالِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ مَوْقِعِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَنْ نَزَلُوا بِهِ فَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ خَلْفَهُمْ. وَهَذَا عِنْدِي أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ وَأَلْيَقُ بِقَوْلِهِ بَعْدُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ إِلَى قَوْله: وَأَدْبارَهُمْ [مُحَمَّد: ٢٦، ٢٧]. وَالْهُدَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ الْحَقُّ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا عَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ.
وَأُوثِرَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ (إِنَّ) جُمْلَةً لِيَتَأَتَّى بِالْجُمْلَةِ اشْتِمَالُهَا عَلَى خَصَائِصِ الِابْتِدَاءِ بِاسْمِ الشَّيْطَانِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ فِي غَرَضِ ذَمِّهِمْ، وَأَنْ يُسْنَدَ إِلَى اسْمِهِ مُسْنَدٌ فِعْلِيٌّ لِيُفِيدَ تَقَوِّيَ الْحُكْمِ نَحْوُ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ.
بِالْآخِرَةِ وَقد تَوَاتر إِثْبَاتهَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئَةِ، فَالْمَوْصُولِيَّةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ وَالتَّهَكُّمِ نَظِيرَ حِكَايَةِ اللَّهِ عَنْهُمْ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] إِلَّا أَنَّ التَّهَكُّمَ المحكي هُنَا لَك تَهَكُّمُ الْمُبْطِلِ بِالْمُحِقِّ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ وُقُوعَ الصِّلَةِ، وَأَمَّا التَّهَكُّمُ هُنَا فَهُوَ تَهَكُّمُ الْمُحِقِّ بِالْمُبْطِلِ لِأَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ ثَابِتٌ لَهُمْ.
وَالتَّسْمِيَةُ مُطْلَقَةُ هُنَا عَلَى التَّوْصِيفِ لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدْلُولِ الْمُسَمَّى ذَاتًا كَانَ أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِ لَبِيدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا أَيِ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: ١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الْإِنْسَان: ١٨] أَيْ تُوصَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي حُسْنِ مَآبِهَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَم: ٦٥]، أَيْ لَيْسَ لِلَّهِ مَثِيلٌ. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ تَفْسِيرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ [١].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَذَلِكَ تَوْصِيفٌ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩]، وَكَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦] وَقَالَ:
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: ١٥٨].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأُنْثى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْمُتَعَدِّدِ وَالَّذِي دَعَا إِلَى هَذَا النَّظْمِ مُرَاعَاةُ الْفَوَاصِلِ لِيَقَعَ لَفْظُ الْأُنْثى فَاصِلَةً كَمَا وَقَعَ لَفْظُ الْأُولى وَلَفْظُ يَرْضى وَلَفْظُ شَيْئاً.
وَجُمْلَةُ وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ حَالٌ من ضمير لَيُسَمُّونَ، أَيْ يُثْبِتُونَ للْمَلَائكَة صِفَات الْإِنَاث فِي حَالِ انْتِفَاءِ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ تَخَيُّلٌ وَتَوَهُّمٌ إِذِ الْعِلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ لَهُمْ فَنَفْيُ الْعِلْمِ مُرَادٌ بِهِ نَفْيُهُ وَنَفْيُ الدَّلِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ.
وَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا الْكِنَايَةُ عَنِ الْبَوْنِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ.
وَتَعْيِينُ الْمُفَضَّلِ مِنَ الشَّيْئَيْنِ مَوْكُولٌ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ كَمَا فِي قَوْلِ السَّمَوْأَلِ:
فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَوْلُ أَبِي حِزَامٍ غَالِبِ بْنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِي:
وَأَعْلَمُ أَنَّ تَسْلِيمًا وتركا | لَا مُتَشَابِهَانِ وَلَا سَوَاءُ |
أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةُ [٩٥] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِلَى تَعْمِيمِ نَحْوِ لَا يَسْتَوُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: ١٨] فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَلِي وِلَايَةَ النِّكَاحِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيَّةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَرْضِيٍّ، وَقَدْ أَبَاهُ الْحَنَفِيَّةُ وَوَافَقَهُمْ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فِي غَيْرِ «جَمْعِ الْجَوَامِعِ».
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّ فَوْزَهُمْ أَبَدِيٌّ فَاعْتَبَرَ فَوْزَ غَيْرِهِمْ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا كَالْعدمِ.
[٢١]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ٢١]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
لَمَّا حَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَهْوَاةِ نِسْيَانِ اللَّهِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْفَاسِقُونَ، وتوعد الدَّين نَسُوا اللَّهَ بِالنَّارِ، وَبَيَّنَ حَالَهُمْ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ سَوَّلَ لَهُمُ الْكُفْرَ. وَكَانَ الْقُرْآنُ
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ اسْتِئْنَافٌ، وَهُوَ تذكير بِمَا حَلَّ بِثَمُودَ وَعَادٍ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِتَهْدِيدِهِمْ أَن يحِق عَلَيْهِم مِثْلُ مَا حَلَّ بِثَمُودَ وَعَادٍ فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١] إِلَخْ تَوْطِئَةً لَهُ وَتَمْهِيدًا لِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ الْعَظِيمَةِ اسْتِرْهَابًا لِنُفُوسِ السَّامِعِينَ.
وَإِنْ جَعَلْتَ الْكَلَامَ مُتَّصِلًا بِجُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ وَعَيَّنْتَ لَفْظَ الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١] لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرًا ثَالِثًا عَنِ الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١].
وَالْمَعْنَى: الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ بِهَا ثَمُودُ وَعَادٌ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١] فَيُقَالُ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِهَا، فَعَدَلَ إِلَى إِظْهَارِ اسْمِ (الْقَارِعَةِ) لِأَنَّ (الْقَارِعَةِ) مُرَادِفَةُ الْحَاقَّةُ فِي أَحَدِ مَحْمَلَيْ لَفْظِ الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١]، وَهَذَا كَالْبَيَانِ لِلتَّهْوِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ٣].
وَ (الْقَارِعَةِ) مُرَادٌ مِنْهَا مَا أُرِيدَ ب الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١].
وَابْتُدِئَ بِثَمُودَ وَعَادٍ فِي الذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ شُهْرَةً عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْأُمَمِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِأَنَّ دِيَارَهُمَا مُجَاوِرَةٌ شَمَالًا وَجَنُوبًا.
وَالْقَارِعَةُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَرَعَهُ، إِذَا ضَرَبَهُ ضَرْبًا قَوِيًّا، يُقَالُ: قَرَعَ الْبَعِيرَ. وَقَالُوا:
الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالْعَصَا، وَسُمِّيَتِ الْمَوَاعِظُ الَّتِي تَنْكَسِرُ لَهَا النَّفْسُ قَوَارِعَ لِمَا فِيهَا مِنْ زَجْرِ النَّاسِ عَنْ أَعْمَالٍ. وَفِي الْمَقَامَةِ الْأُولَى «وَيَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ بِزَوَاجِرِ وَعْظِهِ»، وَيُقَالُ لِلتَّوْبِيخِ تَقْرِيعٌ، وَفِي الْمَثَلِ «لَا تُقْرَعُ لَهُ الْعَصَا وَلَا يقلقل لَهُ الحصاء»، وَمَوْرِدُهُ فِي عَامِرِ بْنِ الظَّرِبِ الْعَدَوَانِيِّ فِي قِصَّةٍ أَشَارَ إِلَيْهَا الْمُتَلَمِّسُ فِي بَيْتٍ.
فِ (الْقَارِعَةُ) هُنَا صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ لَفْظُهُ مُؤَنَّثًا لِيُوَافِقَ وَصْفَهُ الْمَذْكُورَ نَحْوُ السَّاعَةِ أَوِ الْقِيَامَةِ. الْقَارِعَةُ: أَيِ الَّتِي تُصِيبُ النَّاسَ بِالْأَهْوَالِ وَالْأَفْزَاعِ، أَوِ الَّتِي تُصِيبُ الْمَوْجُودَاتِ بِالْقَرْعِ مِثْلُ دَكِّ الْجِبَالِ، وَخَسْفِ الْأَرْضِ، وَطَمْسِ النُّجُومِ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ كُسُوفًا لَا انْجِلَاءَ لَهُ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِالْقَرْعِ.
وَوصف السَّاعَةِ [الْأَعْرَاف: ١٨٧] أَو الْقِيامَةِ [الْبَقَرَة: ٨٥] بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ مِنْ إِسْنَادِ الْوَصْفِ إِلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ بِتَأَوُّلٍ لِمُلَابَسَتِهِ مَا هُوَ لَهُ إِذْ هِيَ زَمَانُ الْقَرْعِ قَالَ تَعَالَى:
فِي نَفْسِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ مِنْ وَاجِبِ التَّبْلِيغِ.
وَضمير إِنَّها عَائِد إِلَى الدَّعْوَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: ٦].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ تَذْكِرَةٌ لَكَ وَتَنْبِيهٌ لِمَا غَفَلْتَ عَنْهُ وَلَيْسَتْ مَلَامًا وَإِنَّمَا يُعَاتِبُ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مُوَجَّهًا إِلَى مَنْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ قُبَيْلَ نُزُولِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا لَا يَسْتَجِيبُونَ إِلَى مَا دَعَاهُمْ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ، فَتَكُونُ (كَلَّا) إِبْطَالًا لِمَا نَعَتُوا بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
فَيَكُونُ ضَمِيرُ إِنَّها تَذْكِرَةٌ عَائِدًا إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي قَرَأَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ أُعِيدَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ بِالتَّذْكِيرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آيَاتُ الْقُرْآنِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] الْآيَاتِ حَيْثُ سَاقَ لَهُمْ أَدِلَّةَ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ.
فَكَانَ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ نُكْتَةً خُصُوصِيَّةً لِتَحْمِيلِ الْكَلَامِ هَذِهِ الْمَعَانِي.
وَالضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: ذَكَرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى تَذْكِرَةٌ لِأَن مَا صدقهَا الْقُرْآنُ الَّذِي كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهُ عَلَى صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قُبَيْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ إِعَادَةَ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ ذِكْرِ مَعَادِهِ فِي الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ شُؤُونَهُ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ نَزَلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهَا فَهُوَ مَلْحُوظٌ لِكُلِّ سَامِعٍ لِلْقُرْآنِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ اللَّهَ وَتَوَخَّى مَرْضَاتَهُ.
وَالذِّكْرُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ تَوَخِّي الْوُقُوفِ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (ذَكَرَ) إِلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ.
الصفحة التالية