صُورَةِ الْحَالِ كَأَنْ يُقَالَ قَائِلِينَ لِشَيَاطِينِهِمْ إِذَا خَلَوْا وَلَمْ نَحْمِلِ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا عَلَى الْحَالِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ لَمَّا كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يُعْتَبَرَ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً دَالَّةً عَلَى النِّفَاقِ قُصِدَ بِالْعَطْفِ
اسْتِقْلَالُ كِلْتَيْهِمَا لِأَنَّ الْغَرَضَ تَعْدَادُ مَسَاوِيهِمْ فَإِنَّ مَضْمُونَ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا مُنَادٍ وَحْدُهُ بِنِفَاقِهِمْ فِي هَاتِهِ الْحَالَةِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ: وَإِذا لَقُوا الدَّالُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَصْلَ اتِّحَادُ مَوْقِعِ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَمَاثِلَتَيْنِ لَفْظًا.
وَلِمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي وَجْهِ الْعُدُولِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْحَالِ.
وَالشَّيَاطِينُ جَمْعُ شَيْطَانٍ، جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَحَقِيقَةُ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، طَبِيعَتُهَا الْحَرَارَةُ النَّارِيَّةُ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْلِيسَ: كانَ مِنَ الْجِنِّ [الْكَهْف: ٥٠] وَقَدِ اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَيُطْلَقُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُفْسِدِ وَمُثِيرِ الشَّرِّ، تَقُولُ الْعَرَبُ فُلَانٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِنْ شَيَاطِينِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ، وَكَذَلِكَ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى قَادَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي النِّفَاقِ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ [الْأَنْعَام: ١١٢] إِلَخْ.
وَوَزْنُ شَيْطَانٍ اخْتَلَفَ فِيهِ الْبَصْرِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ هُوَ فَيْعَالٌ مِنْ شَطَنَ بِمَعْنَى بَعُدَ لِأَنَّهُ أُبْعِدَ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَنِ الْجَنَّةِ فَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ هُوَ فَعْلَانُ مِنْ شَاطَ بِمَعْنَى هَاجَ أَوِ احْتَرَقَ أَوْ بَطَلَ وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ ظَاهِرٌ. وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْخِلَافَ إِلَّا أَنَّهُ بَحْثٌ عَنْ صِيغَةِ اشْتِقَاقِهِ فَحَسْبُ أَيِ الْبَحْثُ عَنْ حُرُوفِهِ الْأُصُولِ وَهل إِن نُونُهُ أَصْلٌ أَوْ زَائِدٌ وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِنُحَاةِ الْكُوفَةِ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَصْفِ الَّذِي فِيهِ زِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ مِثْلُ غَضْبَانَ، كَيْفَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ مَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [الْحجر: ١٧]. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيَرُدُّ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ حَكَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ تَشَيْطَنَ إِذَا فَعَلَ الشَّيْطَانِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ شَطَنَ وَإِلَّا لَقَالُوا تَشَيَّطَ اهـ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : جَعَلَ سِيبَوَيْهِ نُونَ شَيْطَانٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَصْلِيَّةً وَفِي آخَرَ زَائِدَةً اهـ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ تَشَيْطَنَ لَمَّا كَانَ وَصْفًا مُشْتَقًّا مِنَ الِاسْمِ كَقَوْلِهِمْ تَنَمَّرَ أَثْبَتُوا فِيهِ حُرُوفَ الِاسْمِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْجَامِدِ دُونَ الْمُشْتَقِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُشْتَقًّا مِمَّا اشْتُقَّ مِنْهُ الِاسْمُ بَلْ مِنْ حُرُوفِ الِاسْمِ فَهُوَ اشْتِقَاقٌ حَصَلَ بَعْدَ تَحْقِيقِ الِاسْتِعْمَالِ
وَصَارَ التَّعْلِيقُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِهِ لَمَا صَحَّ كَوْنُ جُمْلَتِهِ مَعْمُولَةً لِلْعَامِلِ الْمُعَلَّقِ.
قَالَ الرَّضِيُّ: «إِنَّ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ مُفِيدَةً لِاسْتِفْهَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا لِلُزُومِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ عَلِمْتُ وَأَزَيْدٌ قَائِمٌ بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَعْنَى عَلِمْتُ الَّذِي يَسْتَفْهِمُ النَّاسُ عَنْهُ» اهـ، فَيَجِيءُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ قَوْلَكَ عَلِمْتُ أَزَيْدٌ قَائِمٌ يَقُولُهُ: مَنْ عَلِمَ شَيْئًا يَجْهَلُهُ النَّاسُ أَوْ يَعْتَنُونَ بِعِلْمِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ عَلِمْتُ زَيْدًا قَائِمًا، وَقَدْ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ الْوَارِدُ بَعْدَ السُّؤَالِ حِكَايَةً لِلَفْظِ السُّؤَالِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ بَيَانًا لِجُمْلَةِ السُّؤَالِ قَالَ صَدْرُ الْأَفَاضِلِ فِي قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ «سَأَلْنَاهُ أَنَّى اهْتَدَيْتَ إِلَيْنَا» أَيْ سَأَلْنَاهُ هَذَا السُّؤَالَ اهـ. وَهُوَ يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ سَلْ مَعْنَى الْقَوْلِ، أَيْ فَيَكُونُ مَفْعُولُهُ الثَّانِي كَلَامًا فَقَدْ أُعْطِيَ سَلْ مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُنَاسِبٌ لِمَعْنَى لَفْظِهِ وَالْآخَرُ مُنَاسِبٌ لِمَعْنَى الْمُضَمَّنِ.
وَجَوَّزَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» أَنَّ جُمْلَةَ كَمْ آتَيْناهُمْ بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ السُّؤَالِ، أَيْ سَلْهُمْ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ، قَالَ السَّلْكُوتِيُّ فِي «حَاشِيَةِ الْمُطَوَّلِ» : فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ، أَيْ وَلَا تَعْلِيقَ فِي الْفِعْلِ.
وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ تَكُونَ (كَمْ) خَبَرِيَّةً، أَيْ فَتَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَقَدْ قُطِعَ
فِعْلُ السُّؤَالِ عَنْ مُتَعَلِّقِهِ اخْتِصَارًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَيْ سَلْهُمْ عَنْ حَالِهِمْ فِي شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَبِذَلِكَ حَصَلَ التَّقْرِيعُ. وَيَكُونُ كَمْ آتَيْناهُمْ تَدَرُّجًا فِي التَّقْرِيعِ بِقَرِينَةِ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَلِبُعْدِ كَوْنِهَا خَبَرِيَّةً أَنْكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ عَلَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَقَالَ إِنَّهُ يُفْضِي إِلَى اقتطاع الْجُمْلَة الَّتِي فِيهَا كَمْ عَنْ جُمْلَةِ السُّؤَالِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ السُّؤَالُ عَنِ النِّعَمِ.
ومِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ تَمْيِيزُ (كَمْ) دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الَّتِي يَنْتَصِبُ تَمْيِيزُ كَمِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى مَعْنَاهَا وَالَّتِي يُجَرُّ تَمْيِيزُ كَمِ الْخَبَرِيَّةِ بِتَقْدِيرِهَا ظَهَرَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَصْرِيحًا بِالْمُقَدَّرِ، لِأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ يَنْصِبُ مُضْمَرًا يَجُوزُ ظُهُورُهُ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ مِثْلَ إِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ حَتَّى، قَالَ الرَّضِيُّ: إِذَا فُصِلَ بَيْنَ كَمِ الْخَبَرِيَّةِ والاستفهامية وَبَين مميزهما بِفِعْلٍ مُتَعَدٍّ وَجَبَ جَرُّ التَّمْيِيزِ بِمِنْ (أَيْ ظَاهِرِهِ) لِئَلَّا يَلْتَبِسَ التَّمْيِيزُ بِالْمَفْعُولِ نَحْو قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدُّخان: ٢٥] ووَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الْقَصَص: ٥٨] اهـ أَيْ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِمَفْعُولِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْفَاصِلِ، أَوْ هُوَ لِلتَّنْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لَا مَفْعُولٌ إِغَاثَةً لِفَهْمِ السَّامِعِ وَذَلِكَ مِنْ بَلَاغَةِ الْعَرَبِ، وَعِنْدِي أَنَّ مُوجِبَ ظُهُورِ مِنْ فِي حَالَةِ الْفَصْلِ هُوَ بعد المميّز عَن الْمُمَيَّزِ لَا غَيْرَ، وَقِيلَ: ظُهُورُ (مِنْ)
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧٤]. فَعَلِمْنَا أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَالِكَ وَجْهَ تَسْمِيَةِ دِينِهِمْ بِالْعَهْدِ وَبِالْمِيثَاقِ، فِي مَوَاضِعَ، لِأَنَّ مُوسَى عَاهَدَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَبَيَّنَا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالْأَخْبَارِ.
وَمَعْنَى وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ إِذْ قَدْ شَاعَ نَفْيُ
الْكَلَامِ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْغَضَبِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي الْإِقْبَالِ وَالْعِنَايَةِ، وَنَفْيُ النَّظَرِ فِي الْغَضَبِ فَالنَّظَرُ الْمَنْفِيُّ هُنَا نَظَرٌ خَاصٌّ. وَهَاتَانِ الْكِنَايَتَانِ يَجُوزُ مَعَهُمَا إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ أَيْ لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَا يُقْلِعُونَ عَنْ آثَامِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ مِنْ رِقَّةِ الدِّيَانَةِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ، فَكَيْفَ يُرْجَى لَهُ صَلَاحٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَا يُنَمِّيهِمْ أَيْ لَا يُكْثِرُ حُظُوظَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ.
وَفِي مَجِيءِ هَذَا الْوَعِيدِ، عَقِبَ الصِّلَةِ، وَهِيَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الْآيَةَ، إِيذَانٌ بِأَنَّ مَنْ شَابَهَهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِمْ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ حَلَفَ يَمِينًا بَاطِلَةً، وَكُلٌّ يَظُنُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا يَعْرِفُهُ مِنْ قِصَّةِ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ،
فَفِي «الْبُخَارِيِّ»، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلْفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ الْآيَةَ فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ: «مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عبد الرحمان» قُلْنَا: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي» فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيِّنَتَكَ أَوْ يَمِينَهُ- قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفُ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ
الْحَدِيثَ.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ»، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الْآيَةَ.
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَاتِهِ الْآيَةَ فِي قِصَّةٍ وَجَبَتْ فِيهَا يَمِينٌ لردّ دَعْوَى:
سُوءَ السُّمْعَةِ فتبذل للزَّوْج مَا لَا فِدَاءً ليطلّقها، حكى ذَاك فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، فَصَارَ أَخْذُ الْمَالِ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ مَظِنَّةٌ بِأَنَّهَا أَتَتْ مَا لَا يُرْضِي الزَّوْجَ، فَقَدْ يَصُدُّ ذَلِكَ الرَّاغِبِينَ فِي التَّزَوُّجِ عَنْ خِطْبَتِهَا، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لِلْأَزْوَاجِ بِأَخْذِ الْمَالِ إِذَا أَتَتْ أَزْوَاجُهُمْ بِفَاحِشَةٍ، صَارَ
أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُنَّ بِدُونِ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي مَحَلِّ الْإِذْنِ بِأَخْذِهِ، هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي جعل هَذَا الْأَخْذِ بُهْتَانًا.
وَأَمَّا كَوْنُهُ إِثْمًا مُبِينًا فَقَدْ جُعِلَ هُنَا حَالًا بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الِانْتِسَابِ إِلَى صَاحِبِهَا حَتَّى يُصْبِحَ الْإِنْكَارُ بِاعْتِبَارِهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ كَوْنَهَا إِثْمًا مُبِينًا قَدْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً، أَوْ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٩] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَوْ مِمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْوَالِ أَنْ لَا تَحِلَّ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ.
وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ اسْتِفْهَام تعجيبي بَعْدَ الْإِنْكَارِ، أَيْ لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ تَطْمَعُوا فِي أَخْذِ عِوَضٍ عَنِ الْفِرَاقِ بَعْدَ مُعَاشَرَةِ امْتِزَاجٍ وَعَهْدٍ مَتِينٍ. وَالْإِفْضَاءُ الْوُصُولُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَضَاءِ، لِأَنَّ فِي الْوُصُولِ قَطْعَ الْفَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَوَاصِلِينَ وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَلَى نِيَّةِ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَدَوَامِ الْأُلْفَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى حَالِ مَوَدَّةٍ وَمُوَالَاةٍ، فَهِيَ فِي الْمَعْنَى كَالْمِيثَاقِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ.
وَالْغَلِيظُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ غَلُظَ- بِضَمِّ اللَّامِ- إِذَا صَلُبَ، وَالْغِلْظَةُ فِي الْحَقِيقَةِ صَلَابَةُ الذَّوَاتِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ إِلَى صُعُوبَةِ الْمَعَانِي وَشِدَّتِهَا فِي أَنْوَاعِهَا، قَالَ تَعَالَى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التَّوْبَة: ١٢٣]. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيم هُوَ كَون أَخْذُ الْمَالِ عِنْدَ طَلَبِ اسْتِبْدَالِ الزَّوْجَةِ بِأُخْرَى، فَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ خِلَافًا لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ إِذْ لَا إبِْطَال لمدلول هَذِه الْآيَة.
[٢٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النِّسَاء: ١٩]، وَالْمُنَاسَبَةُ

[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٧٧]

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
الْخِطَابُ لِعُمُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَالْغُلُوُّ مَصْدَرُ غَلَا فِي الْأَمْرِ: إِذَا جَاوَزَ حَدَّهُ الْمَعْرُوفَ. فَالْغُلُوُّ الزِّيَادَةُ فِي عَمَلٍ عَلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْعَقْلِ أَوِ الْعَادَةِ أَوِ الشَّرْعِ.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ الْحَقِّ مَنْصُور عَلَى النِّيَابَةِ عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ لِفِعْلِ تَغْلُوا أَيْ غُلُوًّا غَيْرَ الْحَقِّ، وَغَيْرُ الْحَقِّ هُوَ الْبَاطِلُ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ بَاطِلًا إِلَى غَيْرَ الْحَقِّ لِمَا فِي وَصْفِ غَيْرِ الْحَقِّ مِنْ تَشْنِيعِ الْمَوْصُوفِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ الْمَعْرُوفِ فَهُوَ مَذْمُومٌ لِأَنَّ الْحَقَّ مَحْمُودٌ فَغَيْرُهُ مَذْمُومٌ. وَأُرِيدَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلصَّوَابِ احْتِرَازًا عَنِ الْغُلُوِّ الَّذِي لَا ضَيْرَ فِيهِ، مِثْلَ الْمُبَالَغَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ لِمَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧١]. فَمِنْ غُلُوِّ الْيَهُودِ تَجَاوزُهُمُ الْحَدَّ فِي التَّمَسُّكِ بِشَرْعِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ رِسَالَةِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَمِنْ غُلُوِّ النَّصَارَى دَعْوَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى وتكذيبهم مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنَ الْغُلُوِّ الَّذِي لَيْسَ بَاطِلًا مَا هُوَ مِثْلُ الزِّيَادَةِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى ثَلَاثِ غَسَلَاتٍ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْغُلُوِّ، وَهُوَ عَطْفُ عَامٍّ مِنْ وَجْهٍ عَلَى خَاصٍّ مِنْ وَجْهٍ فَفِيهِ فَائِدَةُ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَهَذَا نَهْيٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْحَاضِرِينَ عَنْ مُتَابَعَةِ تَعَالِيمِ الْغُلَاةِ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمُ الَّذِينَ أَسَاءُوا فَهْمَ الشَّرِيعَةِ عَنْ هَوًى مِنْهُمْ مُخَالِفٍ لِلدَّلِيلِ. فَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَغَالِيهِمْ أَهْوَاءً، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا أَهْوَاءٌ فَضَلُّوا وَدَعَوْا إِلَى ضَلَالَتِهِمْ
وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ انْتِقَالِهِمْ إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ بِالْخَوْضِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَحَدَّثُونَ إِلَّا فِيمَا لَا جَدْوَى لَهُ مِنْ أَحْوَالِ الشِّرْكِ وَأُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وغَيْرِهِ صِفَةٌ لِ حَدِيثٍ. وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْخَوْضِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَدِيثًا حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وَصْفُ حَدِيثٍ بِأَنَّهُ غَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ عَطْفُ حَالَةِ النِّسْيَانِ زِيَادَةٌ فِي تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ. وَأَسْنَدَ الْإِنْسَاءَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ آثَارِ الْخِلْقَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا حظّا الْعلم الشَّيْطَانِ. كَمَا وَرَدَ أَنَّ التَّثَاؤُبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ، فَالنِّسْيَانُ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي غَيْرِ تَبْلِيغِ مَا أُمِرُوا بِتَبْلِيغِهِ، عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» : إِنَّ كِبَارَ الرَّافِضَةِ هُمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النِّسْيَانِ اهـ. وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَعُزِيَ إِلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ فِيمَا حَكَاهُ نُورُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحٍ لِلْقَصِيدَةِ النُّونِيَّةِ» لِشَيْخِهِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ كَمَا يَظْهَرُ مِمَّا حَكَاهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَنَسِيَ آيَاتٍ مِنْ بَعْضِ السُّوَرِ تَذَكَّرَهَا لَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي»
فَذَلِكَ نِسْيَانُ اسْتِحْضَارِهَا بَعْدَ أَنْ بُلِّغَهَا. وَلَيْسَ نَظَرُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَظَرُنَا فِي إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا لَهُ أَثَرٌ فِي نَفْسِ
الرَّسُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي يَجُوزُ طُرُوُّهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ، كَمَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَعْرَاضِ مَوْكُولَةً لِلْمَلَائِكَةِ، وَيَكُونُ النِّسْيَانُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى الشَّيَاطِينِ كَمَا تَكَرَّرَ إِسْنَادُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا. وَهَذَا مِثْلُ كَوْنِ التَّثَاؤُبِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِ ذَاتِ الْجَنْبِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ص: ٤١]، وَحِينَئِذٍ فَالْوَجْهُ أَنَّ الْأَعْرَاضَ الْبَشَرِيَّةَ الْجَائِزَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي لَا تُخِلُّ بِتَبْلِيغٍ وَلَا تُوقِعُ فِي الْمَعْصِيَةِ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا مِنْ أَثَرِ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ تَحَرُّفٍ أَيْ مُجَانَبَةٍ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، أَيْ لِأَجْلِ إِعْمَالِهِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ الِاسْمَ، أَوْ لِأَجْلِ إِعَادَةِ الْمُقَاتَلَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ الْمَصْدَرَ، وَتَنْكِيرُ قِتَالٍ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الثَّانِي، فَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّحَرُّفِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَرِّ لِأَجْلِ الْكَرِّ فَإِنَّ الْحَرْبَ كَرٌّ وَفَرٌّ، وَقَالَ عَمْرو بن معديكرب:
وَلَقَدْ أَجْمَعُ رِجْلَيَّ بِهَا حَذَرَ الْمَوْتِ وَإِنِّي لَفَرُورُ
وَلَقَدْ أَعْطِفُهَا كَارِهَةً حِينَ لِلنَّفْسِ مِنَ الْمَوْتِ هَرِيرُ
كُلُّ مَا ذَلِكَ مِنِّي خُلُقٌ وَبِكُلٍّ أَنَا فِي الرَّوْعِ جَدِيرُ
وَالتَّحَيُّزُ طَلَبُ الْحَيِّزِ فَيْعِلٌ مِنَ الْحَوْزِ، فَأَصْلُ إِحْدَى يَاءَيْهِ الْوَاوُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ
وَالْيَاءُ وَكَانَتِ السَّابِقَةُ سَاكِنَةً قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنْهُ تَحَيُّزٌ، فَوَزْنُهُ تَفَيْعُلٌ وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» جَرْيًا عَلَى الْقِيَاسِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَجَوَّزَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ تَفَعُّلُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الْكَلِمَةِ الْوَاقِعِ فِيهَا الْإِبْدَالُ وَالْإِدْغَامُ وَهِيَ الْحَيِّزُ، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِمْ: «تَدَيُّرٌ» بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ فِي الدَّارِ، فَإِنَّ الدَّارَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدَّوَرَانِ وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ عَلَى دُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِي جَمْعِهَا دِيَارٌ وَدِيَرَةٌ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ مَا عَيْنُهُ يَاءٌ، فَقَالُوا مِنْ ذَلِكَ تَدَيَّرَ بِمَعْنَى أَقَامَ فِي الدَّارِ وَهُوَ تَفَعَّلَ مِنَ الدَّارِ، وَاحْتَجَّ بِكَلَامِ ابْنِ جِنِّيٍّ وَالْمَرْزُوقِيِّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ»، يَعْنِي مَا قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ جَابِرِ بْنِ حَرِيشٍ:
إِذْ لَا تَخَافُ حُدُوجُنَا قَذْفَ النَّوَى قَبْلَ الْفَسَادِ إِقَامَةً وَتَدَيُّرَا
«التَّدَيُّرُ تَفَعُّلٌ مِنَ الدَّارِ وَقِيَاسُهُ تَدَوَّرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ دِيَارَ أَنِسُوا بِالْيَاءِ وَوَجَدُوا جَانِبَهَا أَوْطَأَ حِسًّا وَأَلْيَنَ مَسًّا فَاجْتَرُّوا عَلَيْهَا فَقَالُوا تَدَيُّرٌ» وَمَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ «الْأَصْلُ فِي تَدَيُّرٍ الْوَاوُ وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى دِيَارٍ لِإِلْفِهِمْ لَهُ بِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ فِي كَلَامِهِمْ».
فَمَعْنَى مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أَنْ يَكُونَ رَجَعَ الْقَهْقَرَى لِيَلْتَحِقَ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَتَقَوَّى بِهِمْ.
وَالْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩] فِي قَوْلِهِ:
الْأَفْهَامِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِقْهِ، أَيْ إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ، أَيْ فَآثَرُوا نِعْمَةَ الدَّعَةِ عَلَى سُمْعَةِ الشُّجَاعَةِ وَعَلَى ثَوَابِ الْجِهَادِ إِذْ لَمْ يُدْرِكُوا إِلَّا الْمَحْسُوسَاتِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا فَاقِهِينَ وَذَلِكَ أَصْلُ جَمِيعِ الْمَضَارِّ فِي الدَّارَيْنِ.
وَجِيءَ فِي إِسْنَادِ نَفْيِ الْفَقَاهَةِ عَنْهُمْ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقَوِّي الْخَبَرِ وَتَحْقِيقِ نِسْبَتِهِ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ وتمكّنه مِنْهُم.
[٨٨]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٨٨]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨)
افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ نَقِيضُ مَضْمُونِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ أَصْلًا وَتَفْرِيعًا. فَلَمَّا كَانَ قُعُودُ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْجِهَادِ مُسَبَّبًا عَلَى كُفْرِهِمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ. وَابْتُدِئَ وَصْفُ أَحْوَالِهِمْ بِوَصْفِ حَالِ الرَّسُولِ لِأَنَّ تَعَلُّقَهُمْ بِهِ وَاتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُ هُوَ أَصْلُ كَمَالِهِمْ وَخَيْرِهِمْ، فَقِيلَ: لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا.
وَقَوْلُهُ: بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [التَّوْبَة:
٨٦].
وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَطُبِعَ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ
[التَّوْبَة: ٨٧] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ نُصْرَةِ الْمُنَافِقِينَ بِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّسُولَ كَقَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الْأَنْعَام: ٨٩].
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ بِالْأَمْوَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: ٤١].
وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُجَاهِدُوا دُونَ عُذْرٍ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْمُ يُونُسَ هُمْ أَهْلُ قَرْيَةِ نَيْنَوَى (١) مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ. وَهُمْ خَلِيطٌ مِنَ الْآشُورِيِّينَ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي أُسَرِ مُلُوكِ بَابِلَ بَعْدَ بُخْتُنَصَّرَ. وَكَانَتْ بِعْثَةُ يُونُسَ إِلَيْهِمْ فِي أول الْقرى الثَّامِنِ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ يُونُسَ وَتَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَلَمَّا كَذَّبَهُ أَهْلُ نَيْنَوَى تَوَعَّدَهُمْ بِخَسْفِ مَدِينَتِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ غَاضِبًا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا خَرَجَ خَافُوا نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَتَابُوا وَآمَنُوا بِاللَّهِ فَقَبِلَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ وَلَمْ يُعَذِّبْهُمْ. وَالْمَذْكُورُ أَنَّهُمْ رَأَوْا غَيْمًا أَسْوَدَ بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ تَوَعَّدَهُمْ يُونُسُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِحُلُولِ الْعَذَابِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ مُقَدِّمَةُ الْعَذَابِ فَآمَنُوا وَخَضَعُوا لِلَّهِ تَعَالَى فَأَمْسَكَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ مَا حَلَّ بِيُونُسَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي خُرُوجِهِ ذَلِكَ مِنِ ابْتِلَاعِ الْحُوتِ إِيَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالْكَشْفُ: إِزَالَةُ مَا هُوَ سَاتِرٌ لِشَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الرَّفْعِ. وَالْمُرَادُ: تَقْدِيرُ الرَّفْعِ وَإِبْطَالُ الْعَذَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْكَشْفِ تَنْزِيلًا لِمُقَارَبَةِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ وَالذُّلُّ. وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْخِزْيِ يَجُوزُ كَوْنُهَا بَيَانِيَّةً لِأَنَّ الْعَذَابَ كُلَّهُ خِزْيٌ، إِذْ هُوَ حَالَةٌ مِنَ الْهَلَاكِ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ فَإِذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ لِقَوْمٍ فَقَدْ أَرَادَ إِذْلَالَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْإِضَافَة حَقِيقَة لِلتَّخْصِيصِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْخِزْيِ الْحَالَةُ الْمُتَصَوَّرَةُ مِنْ حُلُولِهِ. وَهِيَ شَنَاعَةُ الْحَالَةِ لِمَنْ يُشَاهِدُهُمْ مِثْلُ الْخَسْفِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ، وَأَشْنَعُ الْخِزْيِ مَا كَانَ بِأَيْدِي أُنَاسٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ الَّذِي حَلَّ بِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالَّذِي كَادَ أَنْ يَحِلَّ بِجَمِيعِ قُرَيْشٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَنَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا نَجَّى قَوْمَ يُونُسَ.
_________
(١) بِفَتْح النونين بَينهمَا يَاء تحتية سَاكِنة وَبعد النُّون الثَّانِيَة وَاو مَفْتُوحَة بعْدهَا ألف، هِيَ إِحْدَى مدن بِلَاد أشور من الْعرَاق كائنة على الضفة الْيُسْرَى من الدجلة بناها الْملك أشور سنة ٢٢٢٩ قبل الميلاد وَكَانَت مصطافا لملوك أشور من عهد شلمناصر الأول.
عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ شِدَّةِ تَشَوُّقِهِ إِلَى حُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ قَالَ الْمَلِكُ لِلنِّسْوَةِ.
وَوُقُوعُ هَذَا بَعْدَ جُمْلَةِ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [سُورَة يُوسُف: ٥٠] إِلَى آخِرِهَا مُؤْذِنٌ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ الْمَلِكَ فَأَحْضَرَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ اللَّائِي كَانَتْ جَمَعَتْهُنَّ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ لَمَّا أعتدت لهنّ متّكأ فَقَالَ لَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ إِلَى آخِرِهِ.
وَأُسْنِدَتِ الْمُرَاوَدَةُ إِلَى ضَمِيرِ النِّسْوَةِ لِوُقُوعِهَا مِنْ بَعْضِهِنَّ غَيْرَ مُعَيِّنٍ، أَوْ لِأَنَّ الْقَالَةَ الَّتِي شَاعَتْ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ مَخْلُوطَةً ظَنًّا أَنَّ الْمُرَاوَدَةَ وَقَعَتْ فِي مَجْلِسِ الْمُتَّكَأِ.
وَالْخَطْبُ: الشَّأْنُ الْمُهِمُّ مِنْ حَالَةٍ أَوْ حَادِثَةٍ. قِيلَ: سُمِّيَ خَطْبًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُخَاطِبَ الْمَرْءُ صَاحِبَهُ بِالتَّسَاؤُلِ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخُطْبَةِ، أَيْ يَخْطُبُ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْخُطْبَةُ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، فَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَخْطُوبٌ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ قُلْنَ مَفْصُولَةٌ لِأَجْلِ كَوْنِهَا حِكَايَةَ جَوَابٍ عَنْ كَلَامِ الْمَلِكِ أَيْ قَالَتِ النِّسْوَةُ عَدَا امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ.
وحاشَ لِلَّهِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّفْيِ وَالتَّنْزِيهِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّبَرُّؤُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِنَّ مِنَ الْمُرَاوَدَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا آنِفًا وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِيهَا.
وَجُمْلَةُ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ النَّفْيِ الَّذِي فِي حاشَ لِلَّهِ. وَهِيَ جَامِعَةٌ لِنَفْيِ مُرَاوَدَتِهِنَّ إِيَّاهُ وَمُرَاوَدَتِهِ إِيَّاهُنَّ لِأَنَّ الْحَالَتَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ السُّوءِ.
وَنَفْيُ عِلْمِهِنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ دَعْوَتِهِنَّ إِيَّاهُ إِلَى السُّوءِ وَنَفْيِ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُنَّ إِلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُنَّ، ثُمَّ إِنَّهُنَّ لَمْ يَزِدْنَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِسُؤَالِ الْمَلِكِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْنَ لِإِقْرَارِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي مَجْلِسِهِنَّ بِأَنَّهَا رَاوَدَتْهُ

[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٠٥]

إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: ١٠١] بِقَلْبِ مَا زَعَمُوهُ عَلَيْهِمْ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [سُورَة النَّحْل: ١٠٣] جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠٣]. فَبَعْدَ أَنْ نَزَّهَ الْقُرْآنَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى وَالْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرِيًا ثُنِيَ الْعِنَانُ لِبَيَانِ مَنْ هُوَ الْمُفْتَرِي. وَهَذَا مِنْ طَرِيقَةِ الْقَلْبِ فِي الْحَالِ.
وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُنَزَّلٌ إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَصَارُوا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُؤَكِّدُونَ بِمَضْمُونِهِ قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ يُؤَكِّدُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الْقَوْلَ الْآخَرَ، فَلَمَّا رَدَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بِقَوْلِهِ:
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [سُورَة النَّحْل: ١٠١- ١٠٢]. وَرَدَتْ مَقَالَتُهُمُ الْأُخْرَى فِي صَرِيحِهَا بِقَوْلِهِ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَرَدَ مَضْمُونُهَا هُنَا بِقَوْلِهِ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ، حَاصِلًا بِهِ رَدُّ نَظِيرِهَا أَعْنِي قَوْلَهُمْ إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بِكَلَامٍ أَبْلَغَ مِنْ كَلَامِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَتَوْا فِي قَوْلِهِمْ إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بِصِيغَةِ قَصْرٍ هِيَ أَبْلَغُ مِمَّا قَالُوهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ قَصْرٌ لِلْمُخَاطَبِ عَلَى صِفَةِ الِافْتِرَاءِ الدَّائِمَةِ، إِذِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ تَقْتَضِي الثَّبَاتَ وَالدَّوَامَ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِصِيغَةٍ تَقْصُرُهُمْ عَلَى الِافْتِرَاءِ الْمُتَكَرِّرِ الْمُتَجَدِّدِ، إِذِ الْمُضَارِعُ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ.
وَأَكَّدَ فِعْلَ الِافْتِرَاءِ بِمَفْعُولِهِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطلق لكَونه آئلا إِلَيْهِ الْمَعْنَى.
وَعُرِّفَ الْكَذِبَ بِأَدَاةِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ الدَّالَّةِ عَلَى تَمَيُّزِ مَاهِيَّةِ الْجِنْسِ وَاسْتِحْضَارِهَا، فَإِنَّ تَعْرِيفَ اسْمِ الْجِنْسِ أَقْوَى مِنْ تَنْكِيرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سُورَة الْفَاتِحَة: ٢].
وَالَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِالْمَدِينَةِ، فَضَمِيرُ أَمْرَهُمْ يَعُودُ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ فَقالُوا، أَي الَّذين غَلَبُوا عَلَى أَمْرِ الْقَائِلِينَ: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا.
وَإِنَّمَا رَأَوْا أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ مَسْجِدًا لِيَكُونَ إِكْرَامًا لَهُمْ وَيَدُومَ تَعَهُّدُ النَّاسِ كَهْفَهُمْ. وَقَدْ كَانَ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى قُبُورِ الصَّالِحِينَ مِنْ سُنَّةِ النَّصَارَى، وَنَهَى عَنهُ النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم كَمَا فِي الْحَدِيثِ يَوْمَ وَفَاةِ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: «وَلَوْلَا ذَلِكَ لِأُبْرِزَ قَبْرُهُ»، أَيْ لِأُبْرِزَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَلَمْ يُجْعَلْ وَرَاءَ جِدَارِ الْحُجْرَةِ.
وَاتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَالصَّلَاةُ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى عِبَادَةِ صَاحِبِ الْقَبْرِ أَوْ شَبِيهٌ بِفِعْلِ مَنْ يَعْبُدُونَ صَالِحِي مِلَّتِهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الذَّرِيعَةُ مَخْصُوصَةً بِالْأَمْوَاتِ لِأَنَّ مَا يَعْرِضُ لِأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْأَسَفِ عَلَى فُقْدَانِهِمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِيمَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُ إِكْرَامٌ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، ثُمَّ يُتَنَاسَى الْأَمْرُ وَيَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ لِخَاصِّيَّةٍ فِي ذَلِكَ الْمَيِّتِ. وَكَانَ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ سُنَّةً لِأَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ شَرْعًا لَهُمْ فَقَدْ نَسَخَهُ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً مِنْهُمْ فِي دِينِهِمْ فَأَجْدَرُ.
[٢٢]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٢٢]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢)
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.
لَمَّا شَاعَتْ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ حِينَ نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ صَارَتْ حَدِيثَ النَّوَادِي، فَكَانَتْ
مَثَارَ تَخَرُّصَاتٍ فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ، وَحَصْرِ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ فِي كَهْفِهِمْ، وَرُبَّمَا أَمْلَى عَلَيْهِمُ الْمُتَنَصِّرَةُ مِنَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ قِصَصًا، وَقَدْ نَبَّهَهُمُ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِكَ وَأَبْهَمَ
وَتِلْكَ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ، فِي حَالِ أَنَّ هَارُونَ قَدْ وَعَظَهُمْ وَنَبَّهَهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِذْ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُ فِتْنَةٌ فَتَنَهُمْ بِهَا السَّامِرِيُّ، وَأَنَّ ربّهم هُوَ الرحمان لَا مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا فَضْلًا عَنِ الرَّحْمَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَّبِعُوا أَمْرَهُ، وَتِلْكَ دَلَالَةٌ سَمْعِيَّةٌ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَلَامِ الْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ إِبْطَالِ مَا فِي كِتَابِ الْيَهُودِ مِنْ أَنَّ هَارُونَ هُوَ الَّذِي صَنَعَ لَهُمُ الْعَجَلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عِبَادَتَهُ. وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنه كَانَ يستهزىء بِهِمْ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ إِفْكٌ عَظِيمٌ فِي كِتَابِهِمْ.
وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (قَبْلُ) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مُوسَى وَيُنْكِرَ عَلَيْهِمْ.
وَافْتِتَاحُ خِطَابِهِ بِ يَا قَوْمِ تَمْهِيدٌ لِمَقَامِ النَّصِيحَةِ.
وَمَعْنَى إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ: مَا هُوَ إِلَّا فِتْنَةٌ لَكُمْ وَلَيْسَ رَبًّا، وَإِن ربّكم الرحمان الَّذِي يَرْحَمُكُمْ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَاكِفِينَ عَلَى عِبَادَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى فَيُصَرِّحُ لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعِجْلَ لَيْسَ هُوَ رَبَّهُمْ.
وَرَتَّبَ هَارُونُ خِطَابَهُ عَلَى حَسَبِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَهُ بِزَجْرِهِمْ عَنِ الْبَاطِلِ وَعَنْ عِبَادَةِ مَا لَيْسَ بِرَبٍّ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ إِذْ كَانَ رَسُولًا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِالشَّرَائِعِ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا التَّصْمِيمُ عَلَى اسْتِمْرَارِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فَأَجَابُوا هَارُونَ جَوَابًا جَازِمًا.
وعَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِ عاكِفِينَ قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ، أَوْ أَرَادُوا: لَنْ نَبْرَحَ نَخُصُّهُ بِالْعُكُوفِ لَا نَعْكُفُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالْعُكُوفُ: الْمُلَازَمَةُ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ وَالتَّعَبُّدِ، وَكَانَ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ يَلْزَمُونَهَا ويطوفون بهَا.
وَغَالِبُ الْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِضَمِيرِ الشَّأْنِ اقْتِرَانُهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّفْيِ وَحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ بِجَعْلِ فَقْدِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ الْمُسَمَّى بِالْعَمَى كَأَنَّهُ غَيْرُ عَمًى، وَجَعْلِ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى دَلَالَةِ الْمُبْصَرَاتِ مَعَ سَلَامَةِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ هُوَ الْعَمَى مُبَالَغَةً فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِهَذَا الِاسْمِ الَّذِي اسْتُعِيرَ إِلَيْهِ، فَالْقَصْرُ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَفَانِينُ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ وَبَدَاعَةِ النَّظْمِ.
والَّتِي فِي الصُّدُورِ صفة ل الْقُلُوبُ تُفِيدُ تَوْكِيدًا لِلَفْظِ الْقُلُوبُ. فَوِزَانُهُ وِزَانُ الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨]. وَوِزَانُ الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ:
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمرَان: ١٦٧] فَهُوَ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّشْخِيصِ.
وَيُفِيدُ هَذَا الْوَصْفُ وَرَاءَ التَّوْكِيدِ تَعْرِيضًا بِالْقَوْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَفْئِدَتِهِمْ مَعَ شِدَّةِ اتِّصَالِهَا بِهِمْ إِذْ هِيَ قَارَّةٌ فِي صُدُورِهِمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَالْآنَ أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ»، فَإِنَّ كَوْنَهَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَحَبَّ الْأَشْيَاء إِلَيْهِ.
[٤٧]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٤٧]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ [الْحَج: ٤٢] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ فَإِنَّ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْوَعِيدِ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِي وَعِيدِهِ لَعَجَّلَ لَنَا وَعِيدَهُ، فَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ التَّعْجِيلَ بِنُزُولِ الْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً،
(٥٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَحْقِيقِ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور:
٥٥]، فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَزَالُوا فِي قُوَّةٍ وَكَثْرَةٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَزَالُوا يَخَافُونَ بَأْسَهُمْ فَرُبَّمَا كَانَ الْوَعْدُ بِالْأَمْنِ مِنْ بَأْسِهِمْ مُتَلَقًّى بِالتَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْطَاءِ الشَّبِيهِ بِالتَّرَدُّدِ فَجَاءَ قَوْلُهُ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ تَطْمِينًا وَتَسْلِيَةً.
وَالْخِطَابُ لِمَنْ قَدْ يُخَامِرُهُ التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِبْطَاءُ دُونَ تَعْيِينٍ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ هَذَا الْحُسْبَانِ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ.
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: تَحْسَبَنَّ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحْدَهُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَصَارَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَاعِلَ يَحسبن فَيبقى ليحسبن مَفْعُولٌ وَاحِدٌ هُوَ مُعْجِزِينَ.
فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ خَطَأٌ أَوْ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْحُسْبَانِ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ جُرْأَةٌ عَلَى قِرَاءَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
أَنْفُسَهُمْ، وَقَدْ وُفِّقَ لِأَنَّ الْحَذْفَ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي الْكَلَامِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنْ فِي الْأَرْضِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، أَيْ لَا يَحْسَبُوا نَاسًا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ (يَعْنِي مَا مِنْ كَائِنٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ فِي مُتَنَاوَلِ قُدْرَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، أَيْ فَلَا مَلْجَأَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا) قَالَ: «وَهَذَا مَعْنًى قَوِيٌّ جَيِّدٌ».
وَالْمُعْجِزُ: الَّذِي يُعْجِزُ غَيْرَهُ، أَيْ يَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَنْ غَلَبِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٤]. وَكَذَلِكَ الْمُعَاجِزُ بِمَعْنَى الْمُحَاوِلِ عَجْزَ ضِدِّهِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٥١].
وَالْأَرْضُ: هِيَ أَرْضُ الدُّنْيَا، أَيْ هُمْ غَيْرُ غَالِبِينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا حَسِبُوا أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّةَ عَالَمٌ آخَرُ. وفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِ مُعْجِزِينَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَعَلَى بَعْضِ التَّوْجِيهَاتِ مِنْ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَابْنِ عَامِرٍ، أَوْ هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى بَعْضِ التَّوْجِيهَاتِ كَمَا
عَلِمْتَ.

[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ١٦]

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦)
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: ١٣] وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى أُسْلُوبِ التَّقَاوُلِ وَالتَّجَاوُبِ، وَمَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ إِلَى قَوْله مَسْؤُلًا [الْأَحْزَاب: ١٤- ١٥] اعْتِرَاضٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَيْ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ مَا أَرَدْتُمْ إِلَّا الْفِرَارَ جُبْنًا وَالْفِرَارُ لَا يَدْفَعُ عَنْكُمُ الْمَوْتَ أَوِ الْقَتْلَ، فَمَعْنَى نَفْيِ نَفْعِهِ: نَفْيُ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ لِأَنَّ نَفْعَ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ مَا يُقْصَدُ لَهُ.
فَقَوْلُهُ مِنَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِ الْفِرارُ وفَرَرْتُمْ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ يَنْفَعَكُمُ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ يَنْفَعَكُمُ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ، فَالْفَائِدَةُ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ الْمُتَعَلِّقِ، أَيْ: لَنْ يَنْفَعَكُمْ بِالنَّجَاةِ.
وَمَعْنَى نَفْيِ نَفْعِ الْفِرَارِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعَاطِي سَبَبِ النَّجَاةِ، هَذَا السَّبَبُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ لِوُجُوبِ الثَّبَاتِ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَمَحَّضُ فِي هَذَا الْفِرَارِ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ مَا قُدِّرَ لِلْإِنْسَانِ مِنَ اللَّهِ إِذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الْفِرَارُ مَأْذُونًا فِيهِ لِجَازَ
مُرَاعَاةُ مَا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مَأْمُورِينَ بِثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْعَدُوِّ فَكَانَ حِينَئِذٍ الْفِرَارُ مِنْ وَجْهِ عَشَرَةِ أَضْعَافِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وَأُذِنَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِأَنْ يَثْبُتَ الْمُسْلِمُونَ لِضِعْفِ عَدَدِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ فَالْفِرَارُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْمُسْلِمُونَ زَحْفًا فَإِنَّ الْفِرَارَ حَرَامٌ سَاعَتَئِذٍ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ كَانَ قَبْلَ النَّسَخِ فَلِذَلِكَ وَبَّخَ اللَّهُ الَّذِينَ أَضْمَرُوا الْفِرَارَ فَإِنَّ عَدَدَ جَيْشِ الْأَحْزَابِ يَوْمَئِذٍ كَانَ بِمِقْدَارِ أَرْبَعَةِ أَمْثَالِ جَيش الْمُسلمُونَ وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ زَحْفًا فَإِنَّ الْحَالَةَ حَالَةُ حِصَارٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَيْضًا: أَنَّكُمْ إِنْ فَرَرْتُمْ فَنَجَوْتُمْ مِنَ الْقَتْلِ لَا يَنْفَعُكُمُ الْفِرَارُ مِنَ الْمَوْتِ بِالْأَجَلِ وَعَسَى أَنْ تَكُونَ آجَالُكُمْ قَرِيبَةً.
وَالْإِطْلَاقُ فِي الْقُرْبَى يَشْمَلُ قَرِيبَ الْقَرَابَةِ كَالْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس: ٣٤، ٣٥].
وَهَذَا إِبْطَالٌ لِاعْتِقَادِ الْغَنَاءِ الذَّاتِيِّ بِالتَّضَامُنِ وَالتَّحَامُلِ فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقِيسُونَ أُمُورَ الْآخِرَة على أُمُور الدُّنْيَا فَيُعَلِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ إِذَا هُدِّدُوا بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ شُفَعَاءَ وَأَنْصَارًا، فَهَذَا سِيَاقُ تَوْجِيهِ هَذَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ هُوَ بِعُمُومِهِ يَنْسَحِبُ حُكْمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ إِثْمَهُ. وَهَذَا لَا يُنَافِي الشَّفَاعَةَ الْوَارِدَةَ فِي الْحَدِيثِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارًا لكرامة نبيئه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُنَافِي مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ من مكفّرات للذنوب كَمَا وَرَدَ أَنَّ أَفْرَاطَ الْمُؤْمِنِينَ يَشْفَعُونَ لِأُمَّهَاتِهِمْ، فَتِلْكَ شَفَاعَةٌ جَعْلِيَّةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ كَرَامَةً لِلْأُمَّهَاتِ الْمُصَابَةِ مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ.
إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
اسْتِئْنَاف بياني لِأَن الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُرُ فِي نَفْسِهِ التَّعَجُّبُ مِنْ عَدَمِ تَأَثُّرِ أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ بِإِنْذَارِهِ فَأُجِيبَ بِأَنَّ إِنْذَارَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ تَهَيَّأُوا لِلْإِيمَانِ.
وَإِيرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَوْعِظَةُ الْمُشْرِكِينَ وَتَخْوِيفُهُمْ، وَإِبْلَاغُ الْحَقِيقَةِ إِلَيْهِمْ لِاقْتِلَاعِ مَزَاعِمِهِمْ وَأَوْهَامِهِمْ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. فَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ لِيَشْعُرَ بِأَنَّ تِلْكَ المواعظ لم تَجِد فيهم وَأَنَّهَا إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ أَيْضًا يُؤَكِّدُ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ التَّعْرِيضِ بِتَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اقْتَضَاهُ عُمُومُ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ.
وَأُطْلِقَ الْإِنْذَارُ هُنَا عَلَى حُصُولِ أَثَرِهِ، وَهُوَ الِانْكِفَافُ أَوِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْإِنْذَارِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ صَادِقَةٌ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهِيَ قَرِينَةُ تَكَرُّرِ الْإِنْذَارِ لِلْمُشْرِكِينَ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْذَرَ الْمُشْرِكِينَ طُولَ مُدَّةِ دَعْوَتِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْفِعْلِ الْمَقْصُورِ عَلَيْهِ بِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ تَعَلُّقٌ عَلَى مَعْنَى حُصُولِ أَثَرِ الْفِعْلِ.
بِضِدِّهِ، كَانَ قَوْلُهُ «بِهِمْ» بَيَانًا لِمَنْ وُجِّهَ الدُّعَاءُ لَهُمْ، أَيْ إِيضَاحًا لِلسَّامِعِ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى أَصْحَابِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فَكَانَتِ الْبَاءُ فِيهِ لِلتَّبْيِينِ. قَالَ فِي «الْكَشَّاف» : و «بهم» بَيَانٌ لِمَدْعُوٍّ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْهَمَذَانِيُّ فِي شَرْحِهِ «لِلْكَشَّافِ» : يَعْنِي: الْبَيَانَ الْمُصْطَلَحَ، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: بِمَنْ يَحْصُلُ هَذَا الرَّحْبُ؟ فَيَقُولُ: بِهِمْ. وَهَذَا كَمَا فِي هَيْتَ لَكَ [يُوسُف: ٢٣]. يَعْنِي أَنَّ الْبَاءَ فِيهِ بِمَعْنَى لَامِ التَّبْيِينِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَغْفَلَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي مَعَانِي الْبَاءِ. وَأَشَارَ الْهَمَذَانِيُّ إِلَى
أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنْ مَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْبَاءَ فِي مِثْلِهِ فِي كَلَامِهِمْ فَصَارَ كَالْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ إِنْشَاءَ دُعَاءٍ لَمْ تَبْقَ مَعَهُ مُلَاحَظَةُ الْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الرَّحْبِ مَعَهُمْ أَوْ بِسَبَبِهِمْ كَمَا يَتَّجِهُ بِالتَّأَمُّلِ.
وَجُمْلَةُ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا عِلَّةٌ لِقَلْبِ سَبَبِ الشَّتْمِ إِلَيْهِمْ، أَيْ لِأَنَّكُمْ قَدَّمْتُمُ الْعَذَابَ لَنَا، فَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَدَّمْتُمُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ الْمُشَاهَدِ، وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الذِّهْنِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ، مِثْلُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢]. وَوُقُوعُ أَنْتُمْ قَبْلَ قَدَّمْتُمُوهُ الْمُسْنَدُ الْفِعْلِيُّ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ لَمْ يُضِلَّنَا غَيْرُكُمْ فَأَنْتُمْ أَحِقَّاءُ بِالْعَذَابِ.
وَالتَّقْدِيمُ: جَعْلُ الشَّيءِ قُدَّامَ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمرَان: ١٨١، ١٨٢]. فَتَقْدِيمُ الْعَذَابُ لَهُمْ جَعْلُهُ قُدَّامَهُمْ، أَيْ جَعْلُهُ حَيْثُ يَجِدُونَهُ عِنْدَ وُصُولِهِمْ. وَإِسْنَادُ تَقْدِيمِ الْعَذَابِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الرُّؤَسَاءَ كَانُوا سَبَبًا فِي تَقْدِيمِ الْعَذَابِ لِأَتْبَاعِهِمْ بِإِغْوَائِهِمْ وَكَانَ الْعَذَابُ جَزَاءً عَنِ الْغَوَايَةِ. وَجُعِلَ الْعَذَابُ مُقَدَّمًا وَإِنَّمَا الْمُقَدَّمُ الْعَمَلُ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ، وَهَذَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي الْمَفْعُولِ فَاجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ: قَدَّمْتُمُوهُ مَجَازَانِ عَقْلِيَّانِ.
وَقَوْلُهُ: فَبِئْسَ الْقَرارُ مَوْقِعُهُ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ آنِفًا فَبِئْسَ الْمِهادُ [ص: ٥٦]. وَهُوَ ذَمٌّ لِإِقَامَتِهِمْ فِي جَهَنَّمَ تَشْنِيعًا عَلَيْهِمْ فِيمَا تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: فَبِئْسَ الْقَرَارُ مَا قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا، أَيْ الْعَذَابُ. والقرار: الْمكْث.
الثَّنَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِثْرَ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَذَمِّهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا بَيَانُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ مَرْتَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنَ الصِّفَةِ فَتَلَمُّحُ الصِّفَةِ مُقَارِنٌ لَهُ، فَالْحَسَنَةُ حَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالسَّيِّئَةُ حَالَةُ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى كَمَعْنَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ [غَافِر: ٥٨]، فَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ الَّتِي يَجْمَعُهَا غَرَضٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] الْوَاقِعَةِ بَعْدَ جُمْلَةِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥] إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: ٥] فَإِنَّ ذَلِكَ مُثِيرٌ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّجَرَ مِنْ إِصْرَارِ الْكَافِرِينَ عَلَى كَفْرِهِمْ وَعَدَمِ التَّأَثُّرِ بدعوة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ بِحَالٍ مِنْ تَضَيُّقِ طَاقَةِ صَبْرِهِ عَلَى سَفَاهَةِ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ، فَأَرْدَفَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الضِّيقَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ الْآيَةَ.
فَالْحَسَنَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ جِنْسِهَا وَأُولَاهَا تَبَادُرًا إِلَى الْأَذْهَانِ حَسَنَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهَا مِنْ جَمِّ الْمَنَافِعِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَتَشْمَلُ صِفَةُ الصَّفْحِ عَنِ الْجَفَاءِ الَّذِي يَلْقَى بِهِ الْمُشْرِكُونَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الصَّفْحَ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَفِيهِ تَرْكُ مَا يُثِيرُ حَمِيَّتَهُمْ لِدِينِهِمْ وَيُقَرِّبُ لِينَ نُفُوسِ ذَوِي النُّفُوسِ اللَّيِّنَةِ. فَالْعَطْفُ عَلَى هَذَا مِنْ عَطْفِ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَهِيَ تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ عَقِبَهَا ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْآيَةَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ وَنَحْوَهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُرَادُ بِهِ غَالِبًا تَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا عَلَى مُقَابِلِهِ بِحَسَبَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: ١٨]. وَقَوْلِ الْأَعْشَى:
مَا يُجْعَلُ الْجُدُّ الضَّنُونُ الَّذِي جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِبِ الْمَاطِرِ

وَالْمُشْرِكِينَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ كَمَا اسْتَعَاذَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الْأَعْرَاف: ١٥٥]. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُخْرِجُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِأَهْلِهَا هَذَا الْعَذَابُ، فَهَذَا التَّلْقِينُ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَة:
٢٨٦] الْآيَاتِ. وَعَلَيْهِ فَجُمْلَةُ إِنَّا مُؤْمِنُونَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، أَيْ إِنَّا مُتَلَبِّسُونَ بِمَا يَدْفَعُ عَنَّا عَذَابَ الْكَافِرِينَ، وَفِي تَلْقِينِهِمْ بِذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِشَرَفِ الْإِيمَانِ، وَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ جَارٍ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ كَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ لِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اسْتِعْمَالِ حَرْفِ (إِنَّ) مِنْ مَعْنَى الْإِخْبَارِ دُونَ الْوَعْدِ، وَمِنَ التَّعْلِيلِ دُونَ التَّأْكِيدِ، وَلِمَا يَقْتَضِيهِ اسْم الْفَاعِل فِي زَمَنِ الْحَالِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِأَنَّ سِيَاقَهُ خطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرَقُّبِ إِعَانَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، كَمَا كَانَ يَدْعُو «أَعْنِي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسِنِي يُوسُفَ» فَمُقْتَضَى الْمَقَامِ تَأْمِينُهُ مِنْ أَنْ يُصِيبَ الْعَذَابُ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَاهِرُ مَادَّةِ الْكَشْفِ تَقْتَضِي إِزَالَةَ شَيْءٍ كَانَ حَاصِلًا فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنَّ الْكَشْفَ هُنَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ كَانَ مَجَازُهُ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي منع حُصُول شَيْء يُخْشَى حُصُولُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [يُونُس: ٩٨] فَإِنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمْ يَحُلَّ بِهِمْ عَذَابٌ فَزَالَ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ تُوُعِّدُوا بِهِ فَبَادَرُوا بِالْإِيمَانِ فَنَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ:
مِثْلَ الْفُرَاتِيِّ إِذَا مَا طَمَا يَقْذِفُ بِالْبُوصِيِّ وَالْمَاهِر
لَا يَكْشِفُ الْغَمَاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
أَرَادَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ بِسُوءٍ، وَمُحْتَمِلًا لِلِاسْتِعْمَالِ فِي زَوَالِ شَيْءٍ كَانَ حَصَلَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ السِّيَرِ وَالْآثَارِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وعدوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ إِنْ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُم الْقَحْط.
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل:
٥، ٦].
[٨]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٨]
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)
مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِلْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها [ق: ٦] وَقَوْلِهِ: مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها [ق: ٧] إِلَخْ، عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لَهَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ طَرِيقَةِ التَّنَازُعِ، أَيْ لِيَكُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَمَعْمُولَاتِهَا تَبْصِرَةً وَذِكْرَى، أَيْ جَعَلْنَاهُ لِغَرَضِ أَنْ نُبَصِّرَ بِهِ وَنَذْكُرَ كُلَّ عَبْدٍ مُنِيبٍ.
وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُتَبَصَّرَ فِي شَأْنِهِ بِدَلَائِلِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، وَأَهَمُّ ذَلِكَ فِيهِمْ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ كَمَا هُوَ السِّيَاقُ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا.
وَإِنَّمَا كَانَتِ التَّبْصِرَةُ وَالذِّكْرَى عِلَّةً لِلْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ التَّبْصِرَةَ وَالذِّكْرَى مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَمِ الَّتِي أَوْجَدَ اللَّهُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَجْلِهَا. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ انْحِصَارَ حِكْمَةِ خَلْقِهَا فِي التَّبْصِرَةِ وَالذِّكْرَى، لِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا حِكَمٌ كَثِيرَةٌ عَلِمْنَا. بَعْضَهَا وَخَفِيَ عَلَيْنَا بَعْضٌ.
وَالتَّبْصِرَةُ: مَصْدَرُ بَصَّرَهُ. وَأَصْلُ مَصْدَرِهِ التَّبْصِيرُ، فَحَذَفُوا الْيَاءَ التَّحْتِيَّةَ مِنْ أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ وَعَوَّضُوا عَنْهَا التَّاءَ الْفَوْقِيَّةَ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ كَمَا قَالُوا: جَرَّبَ تَجْرِبَةً وَفَسَّرَ تَفْسِرَةً، وَذَلِكَ يَقِلُّ فِي الْمُضَاعَفِ وَيَكْثُرُ فِي الْمَهْمُوزِ نَحْوَ جَزَّأَ تَجْزِئَةً، وَوَطَّأَ تَوْطِئَةً. وَيَتَعَيَّنُ فِي الْمُعْتَلِّ نَحْوَ: زَكَّى تَزْكِيَةً، وَغَطَّاهُ تَغْطِيَةً.
وَالتَّبْصِيرُ: جَعْلُ الْمَرْءِ مُبْصِرًا وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي إِدْرَاكِ النَّفْسِ إِدْرَاكًا ظَاهِرًا لِلْأَمْرِ الَّذِي كَانَ خَفِيًّا عَنْهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ تُبْصِرْهُ ثُمَّ أَبْصَرَتْهُ.
وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرِ ذَكَرَ، إِذَا جَعَلَهُ يَذْكُرُ مَا نَسِيَهُ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى مُرَاجَعَةِ النَّفْسِ مَا عَلِمَتْهُ ثُمَّ غَفَلَتْ عَنْهُ.
وعَبْدٍ بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ، أَيْ مَخْلُوقٍ، وَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْإِنْسَانِ. وَجَمْعُهُ: عِبَادٌ دُونَ عَبِيدٍ.
كَثِيرًا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ وَالرَّاغِبِ وَصَاحِبِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» وَصَاحِبِ «الْقَامُوسِ» وَالزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْأَسَاسِ»، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» إِنَّ الثُّلَّةَ: الْأُمَّةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ وَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَفْسِيرَ مَعْنَاهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَفْسِيرَ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ.
وَلِمَا فِي هَذَا الْاِعْتِرَاضِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْعِزَّةِ قَدَّمَ عَلَى ذِكْرِ مَا لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ كَيْفِيَّتِهِ الْمُنَاسِبَةِ لوصفهم ب (السَّابِقين) بِخِلَافِ مَا يَأْتِي فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
وَمَعْنَى: الْأَوَّلِينَ قَوْمٌ مُتَقَدِّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الزَّمَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ مَا كَالْوُجُودِ أَوِ الْأَحْوَالِ عَلَى غَيْرِ الَّذِي هُوَ الْآخَرِ أَوِ الثَّانِي، فَالْأَوَّلِيَّةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يُبَيِّنُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ حَيْثُمَا وَقَعَ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ هَنَا مُرَادٌ بِهِمُ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الْوَاقِعَة: ٧] خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ نَاسٌ لِأَنَّ الْمُنْقَرِضِينَ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ مِنْ أَمَةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ أَوْ أَهْلِ نحلة يدعونَ بالأوليين كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَمُهَلْهَلُ الشُّعَرَاءِ ذَاكَ الْأَوَّلُ وَقَالَ تَعَالَى: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الْوَاقِعَة: ٤٨] الَّذِينَ هُمْ يَخْلِفُونَهُمْ وَيَكُونُونَ
مَوْجُودِينَ، أَوْ فِي تَقْدِيرِ الْمَوْجُودِينَ يُدْعَوْنَ الْآخِرِينَ.
وَقَدْ وُصِفَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ بِالْآخِرِينَ
فِي حَدِيثِ فَضْلِ الْجُمْعَةِ «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا»
الْحَدِيثَ. وَإِذْ قَدْ وُصِفَ السَّابِقُونَ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ السَّبْقِ إِلَى الْخَيْرِ وَوُصِفَتْ حَالُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ عَقِبَ ذَلِكَ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الصَّالِحِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ عَصْرِ آدَمَ إِلَى بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاء: ٦٩].
فَلَا جَرَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِ الْأَوَّلِينَ الْأُمَمُ الْأُولَى كُلُّهَا، وَكَانَ مُعْظَمُ تِلْكَ الْأُمَمِ

[سُورَة التغابن (٦٤) : الْآيَات ١٧ الى ١٨]

إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن: ١٦]، فَإِنَّ مُضَاعَفَةَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِنْفَاقِ مَعَ الْمَغْفِرَةِ خَيْرٌ عَظِيمٌ، وَبِهَذَا الْمَوْقِعِ يَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ الْقَرْضَ أُطْلِقَ عَلَى الْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِطْلَاقًا بِالِاسْتِعَارَةِ، وَالْمَقْصُودُ الِاعْتِنَاءُ بِفَضْلِ الْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ اهْتِمَامًا مُكَرَّرًا فَبَعْدَ أَنْ جُعَلَ خَيْرًا جُعِلَ سَبَبَ الْفَلَاحِ وَعُرِّفَ بِأَنَّهُ قَرْضٌ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَكَفَى بِهَذَا تَرْغِيبًا وَتَلَطُّفًا فِي الطَّلَبِ إِذْ جُعِلَ الْمُنْفِقُ كَأَنَّهُ يُعْطِي اللَّهَ تَعَالَى مَالًا وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَقَدْ بَينه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ إِذْ قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
فَمِمَّا يَنْضَوِي تَحْتَ مَعْنَى عِبَادَةِ اللَّهِ عِبَادَةُ مَنْ يَرَاهُ أَنْ يَسْتَشْعِرَ الْعَبْدُ أَنَّ امْتِثَالَ أَمْرِ رَبِّهِ بِالْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْهُ كَأَنَّهُ مُعَامَلَةٌ بَيْنَ مُقْرِضٍ وَمُسْتَقْرِضٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضاعِفْهُ بِأَلِفٍ بَعْدَ الضَّادِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ يُضَعِّفَهُ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مُضَارِعُ ضَعَّفَ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ لَفْظِيُّ الضِّعْفِ.
وَالْمُضَاعَفَةُ: إِعْطَاءُ الضِّعْفِ بِكَسْرِ الضَّادِ وَهُوَ مِثْلُ الشَّيْءِ فِي الذَّاتِ أَوِ الصِّفَةِ.
وَتَصَدُقُ بِمِثْلٍ وَبَعْدَهُ أَمْثَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: ٢٤٥].
وَجعل الْإِنْفَاق سَبَب لِلْغُفْرَانَ كَمَا
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا كَمَا يطفىء الْمَاءُ النَّارَ»
. وَالشَّكُورُ: فَعُولُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مُبَالَغَةً، أَيْ كَثِيرِ الشُّكْرِ وَأُطْلِقَ الشُّكْرُ فِيهِ عَلَى الْجَزَاءِ
بِالْخَيْرِ عَلَى فِعْلِ الصَّالِحَاتِ تَشْبِيهًا لِفِعْلِ الْمُتَفَضِّلِ بِالْجَزَاءِ بِشُكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلَى نِعْمَةٍ وَلَا نِعْمَةَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ عِبَادُهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ. فَإِنَّمَا نَفْعُهَا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِذَلِكَ حَثًّا عَلَى صَلَاحِهِمْ فَرَتَّبَ لَهُمُ الثَّوَابَ بِالنَّعِيمِ عَلَى تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَلَطَّفَ لَهُمْ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الثَّوَابُ شُكْرًا وَجَعَلَ نَفْسَهُ شَاكِرًا.
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: ١٨]،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ (١) إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». وَقَالَ: «مَنْ تَعَارَّ (٢) مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ»
. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ، أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ شَدِيدُ الرَّحْمَة. وَالْمَقْصُود من هَذَا التَّعْلِيلِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ بِأَنَّهُ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْوَصْفَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ إِيمَاءٌ إِلَى الْوَعْدِ بِالْإِجَابَةِ.
_________
(١) هَذَا من الْمُتَشَابه، وتأويله: أَنه ينزل رِضَاهُ على عباده.
(٢) التعارر: التقلب على الْفراش لَيْلًا بعد نوم حِين ينتبه النَّائِم فيبدل جنبا عوض جنب.
وَيَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ مِنَ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَالْإِيثَارُ: اخْتِيَارُ شَيْءٍ مِنْ بَيْنِ مُتَعَدِّدٍ.
وَالْمَعْنَى: تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِعِنَايَتِكُمْ وَاهْتِمَامِكُمْ.
وَلَمْ يُذْكَرِ الْمُؤْثَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، أَيْ لَا تَتَأَمَّلُونَ فِيمَا عَدَا حَيَاتِكُمْ هَذِهِ وَلَا تَتَأَمَّلُونَ فِي حَيَاةٍ ثَانِيَةٍ، فَالْمُشْرِكُونَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِّرُوا بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَأُخْبِرُوا بِهَا لَمْ يُعِيرُوا سَمْعَهُمْ ذَلِكَ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَهَذَا مَوْرِدُ التَّوْبِيخِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ عَلَى طُولِ الدَّهْرِ، وَذَلِكَ حَظٌّ مُنَاسِبٌ لِمِقْدَارِ مَا يُفَرِّطُ فِيهِ أَحَدُهُمْ مِمَّا يُنْجِيهِ فِي الْآخِرَةِ إِيثَارًا لِمَا يَجْتَنِيهِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا الَّتِي تَجُرُّ إِلَيْهِ تَبِعَةً فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَأَمَّا الِاسْتِكْثَارُ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَعَ عَدَمِ إِهْمَالِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ فَذَلِكَ مَيْدَانٌ لِلْهِمَمِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحَلِّ ذَمٍّ قَالَ تَعَالَى:
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [الْقَصَص: ٧٧].
وَجُمْلَةُ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّوْبِيخِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَزِيدُ إِنْشَاءَ التَّوْبِيخِ تَوْجِيهًا وَتَأْيِيدًا بِأَنَّهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ حَيَاةٍ آخِرَةٍ قَدْ أَعْرَضُوا عَمَّا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
وأَبْقى: اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَيْ أَطْوَلُ بَقَاءً،
وَفِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ جَرِّ الْإِزَارِ «وَلْيَكُنْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَإِنَّهُ أتقى وَأبقى»
. [١٨، ١٩]
[سُورَة الْأَعْلَى (٨٧) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَتَنْوِيهٌ بِهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ النَّافِعِ الثَّابِتِ فِي كُتُبِ إِبْرَاهِيمَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَصَدَ بِهِ الْإِبْلَاغَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ رِسَالَةَ إِبْرَاهِيمَ وَرِسَالَةَ مُوسَى، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ هَذَا الْخَبَرَ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ مَسُوقٌ إِلَى الْمُنْكِرِينَ.


الصفحة التالية
Icon