عَلَيْهِ نَبِيئَهُ، وَكَانَتِ الْمُصْلِحَةُ فِي سَتْرِهِ، وَقَدِ اطَّلَعَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَعَلِمُوا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِعْرَاضَ عَنْ إِذَاعَةِ ذَلِكَ فَكَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ النِّفَاقِ وَالزَّنْدَقَةِ.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ.
أَتَى بِمَا يُقَابِلُ جَفَاءَ طَبْعِهِمُ انْتِصَارًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْلَا جَفَاءُ قَوْلِهِمْ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ لَمَا تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِسِبَابِهِمْ مَعَ أَنَّ عَادَتَهُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَضْرِبَ الْمَثَلِ: «قُلْتَ فَأَوْجَبْتَ»، وَلِأَنَّهُ مَقَامُ بَيَانِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ فَتَحْسُنُ فِيهِ الصَّرَاحَةُ وَالصَّرَامَةُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي آدَابِ الْخَطَابَةِ، وَأَعْلَنَ ذَلِكَ بِكَلِمَةِ أَلَا الْمُؤْذِنَةُ بِالتَّنْبِيهِ لِلْخَبَرِ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [الْبَقَرَة: ١٢] لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ السَّفَاهَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ إِضَافِيٌّ لَا مَحَالَةَ. وَإِذَا ثَبَتَتْ لَهُمُ السَّفَاهَةُ انْتَفَى عَنْهُمُ الْحِلْمُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ فِي صِفَاتِ الْعُقُولِ.
(إِنَّ) هُنَا لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ وَهُوَ مَضْمُونُ الْقَصْرِ وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِتَأْكِيدِ الْقَصْرِ كَمَا تقدم آنِفا. و (أَلا) كَأُخْتِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ فِي: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِمْ سُفَهَاءَ بِكَلِمَةِ يَعْلَمُونَ دُونَ يَشْعُرُونَ خِلَافًا لِلْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لِأَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِالسَّفَهِ لَيْسَ مِمَّا شَأْنُهُ الْخَفَاءُ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ شُعُورًا وَيَكُونَ الْجَهْلُ بِهِ نَفْيَ شُعُورٍ، بَلْ هُوَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى لِأَنَّ لِقَاءَهُمْ كُلَّ فَرِيقٍ بِوَجْهٍ وَاضْطِرَابَهُمْ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى إِحْدَى الْخَلَّتَيْنِ وَعَدَمُ ثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ ثَبَاتًا كَامِلًا وَلَا عَلَى الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ كَافٍ فِي النِّدَاءِ بِسَفَاهَةِ أَحْلَامِهِمْ فَإِنَّ السَّفَاهَةَ صِفَةٌ لَا تَكَادُ تَخْفَى، وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: السَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا، قَالَ النَّابِغَةُ:

نُبِّئْتُ زَرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا يُهْدَى إِلَيَّ غَرَائِبَ الْأَشْعَارِ
وَقَالَ جَزْءُ بْنُ كِلَابٍ الْفَقْعَسِيُّ:
تَبَغَّى ابْنُ كُوزٍ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا لِيَسْتَادَ مِنَّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيَا
فَظَنُّهُمْ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ رُشْدٌ، وَأَنَّ مَا تَقَلَّدَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْإِيمَانِ سَفَهٌ يَدُلُّ عَلَىُُ

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢١١]

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)
تَتَنَزَّلُ هَاتِهِ الْآيَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبُرْهَانِ عَلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:
هَلْ يَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٠] سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ وَعِيدًا أَوْ وَعْدًا أَمْ تَهَكُّمًا، وَأَيًّا مَا كَانَ مُعَادُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى الْأَوْجُهِ السَّابِقَةِ قد دَلَّ بِكُلِّ احْتِمَالٍ عَلَى تَعْرِيضٍ بِفِرَقٍ ذَوِي غُرُورٍ وَتَمَادٍ فِي الْكُفْرِ وَقِلَّةِ انْتِفَاعٍ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ بِإِلْفَاتِهِمْ إِلَى مَا بَلَغَهُمْ مِنْ قِلَّةِ انْتِفَاعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أُوتُوهُ مِنْ آيَاتِ الِاهْتِدَاءِ مَعَ قِلَّةِ غَنَاءِ الْآيَاتِ لَدَيْهِمْ عَلَى كَثْرَتِهَا، فَإِنَّهُمْ عَانَدُوا رَسُولَهُمْ ثُمَّ آمَنُوا بِهِ إِيمَانًا ضَعِيفًا ثُمَّ بَدَّلُوا الدِّينَ بَعْدَ ذَلِكَ تَبْدِيلًا.
وَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي يَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٠] لِأَهْلِ الْكِتَابِ: أَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ هُنَا إِلَى الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ: بَنِي إِسْرائِيلَ لِزِيَادَةِ النِّدَاءِ عَلَى فَضِيحَةِ حَالِهِمْ وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ أَشَدَّ، أَيْ هُمْ قَدْ رَأَوْا آيَاتٍ كَثِيرَةً فَكَانَ
الْمُنَاسِبُ لَهُم أَن يبادوا بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ، وَعَلَى كُلٍّ فَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُعْتَرِضَاتٌ بَيْنَ أَغْرَاضِ التَّشْرِيعِ الْمُتَتَابِعَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وسَلْ أَمْرٌ مِنْ سَأَلَ يَسْأَلُ أَصْلُهُ اسْأَلْ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِنَقْلِ حَرَكَةِ حَرْفِ الْعِلَّةِ لِشِبْهِ الْهَمْزَةِ بِحَرْفِ الْعِلَّةِ فَلَمَّا تَحَرَّكَ أَوَّلُ الْمُضَارِعِ اسْتَغْنَى عَنِ اجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَقِيلَ: سَلْ أَمْرٌ مِنْ سَأَلَ الَّذِي جُعِلَتْ هَمْزَتُهُ أَلِفًا مِثْلَ الْأَمْرِ مِنْ خَافَ يَخَافُ خَفْ، وَالْعَرَبُ يُكْثِرُونَ مِنْ هَذَا التَّخْفِيفِ فِي سَأَلَ مَاضِيًا وَأَمْرًا إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ تَرَكُوا هَذَا التَّخْفِيفَ غَالِبًا.
وَالْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ هُوَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَرَقَّبُ أَنْ يُجِيبَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْ سُؤَالِهِ إِذْ لَا يعبأون بِسُؤَالِ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّؤَالِ سُؤَالُ التَّقْرِيرِ لِلتَّقْرِيعِ، وَلَفْظُ السُّؤَالِ يَجِيءُ لِمَا تَجِيءُ لَهُ أَدَوَاتُ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْرِيرِ إِظْهَارُ إِقْرَارِهِمْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِمُقْتَضَى الْآيَاتِ فَيَجِيءُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ التَّقْرِيعُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَصْرِيحَهُمْ بِالْإِقْرَارِ بَلْ مُجَرَّدُ كَوْنِهِمْ لَا يَسَعُهُمُ الْإِنْكَارُ.
وَحَرْفُ (فِي) هُنَا لِلتَّعْلِيلِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ التَّعْلِيلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ
مَجْرُورٍ بِحَرْفِ (فِي) وَالتَّقْدِيرُ فِي مُعَامَلَةِ الْأُمِّيِّينَ.
وَمَعْنَى لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي أَكْلِ حُقُوقِهِمْ حَرَجٌ وَلَا إِثْمٌ، فَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأُمِّيِّينَ أَيْ ذَوَاتِهِمْ مُرَادٌ مِنْهُ أَعْلَقُ أَحْوَالِهِمْ بالغرض الَّذِي سبق لَهُ الْكَلَامُ.
فَالسَّبِيلُ هُنَا طَرِيقُ الْمُؤَاخَذَةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ السَّبِيلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازًا مَشْهُورًا عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: ٩١] وَقَالَ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ [التَّوْبَة: ٩٣] وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ الْعَرَبُ بِالطَّرِيقِ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
وَهَلْ أَنَا إِنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحَةٍ مِنَ السَّرْحِ مَوْجُودٌ عَلَيَّ طَرِيق
وقصدهم بذلك أَنْ يُحَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَطَاوَلُوا بِمَا أُوتُوهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ. أَوْ أَرَادُوا الْأُمِّيِّينَ بِمَعْرِفَةِ التَّوْرَاةِ، أَيِ الْجَاهِلِينَ: كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِ دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
وأيّاما كَانَ فَقَدْ أَنْبَأَ هَذَا عَنْ خُلُقٍ عَجِيبٍ فِيهِمْ، وَهُوَ اسْتِخْفَافُهُمْ بِحُقُوقِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الدِّينِ، وَاسْتِبَاحَةُ ظُلْمِهِمْ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْجَاهِلَ أَوِ الْأُمِّيَّ جَدِيرٌ بِأَنْ يُدْحَضَ حَقُّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى هَذَا سُوءُ فَهْمِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ ذَكَرَتْ أَحْكَامًا فَرَّقَتْ فِيهَا بَيْنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ وَغَيْرِهِ فِي الْحُقُوقِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤَاسَاةِ وَالْمُخَالَطَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ: «فِي آخِرِ سَبْعِ سِنِينَ تعْمل إِبْرَاء يبرىء كُلُّ صَاحِبِ دَيْنٍ يَدَهُ مِمَّا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ. الْأَجْنَبِيَّ تُطَالِبُ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَكَ عِنْدَ أَخِيكَ فَتُبْرِئُهُ» وَجَاءَ فِي «الْإِصْحَاحِ» ٢٣ مِنْهُ: «لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبَا فِضَّةٍ أَوْ رِبَا طَعَامٍ وَلِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا» وَلَكِنْ شَتَّانَ بَيْنَ الْحُقُوقِ وَبَيْنَ الْمُؤَاسَاةِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا إِنَّمَا كَانَ لِقَصْدِ الْمُؤَاسَاةِ، وَالْمُؤَاسَاةُ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ مَعَ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَعَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَتِ الْيَهُودُ: الْأَمْوَالُ كُلُّهَا كَانَتْ لَنَا، فَمَا فِي أَيْدِي الْعَرَبِ مِنْهَا فَهُوَ لَنَا، وَإِنَّهُمْ ظَلَمُونَا وَغَصَبُونَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْنَا فِي أَخْذِ أَمْوَالنَا مِنْهُم. وَهَذَا الْخُلُقَانِ الذَّمِيمَانِ اللَّذَانِ حَكَاهُمَا اللَّهُ عَنِ الْيَهُودِ قَدِ اتَّصَفَ بِهِمَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ حُقُوقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَتَأَوَّلُوهَا بِأَنَّهُمْ صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ، فِي حِينِ لَا حَرْبَ وَلَا ضَرْبَ.
اسْتِخْفَافِ الْأَعْدَاءِ بِهِمْ، وَطَمَعِهِمْ فِيهِمْ، وَذَهَابِ عِزِّهِمُ الْمُفْضِي إِلَى اسْتِعْبَادِهِمْ، أَمَّا الْمَقَامُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ لِبَيَانِ حُكْمِ مَنْ حَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجِهِ مَا كَرِهَهُ فِيهَا، وَرَامَ فِرَاقَهَا، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ مَيْلٌ إِلَى غَيْرِهَا، فَكَانَ حَالُهُ مُقْتَضِيًا بَيَانَ مَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَحْبُوبَةِ شُرُورًا لِكَوْنِهِ فَتْحًا لِبَابِ التَّعَلُّلِ لَهُمْ بِمَا يَأْخُذُونَ مِنَ الطَّرَفِ الَّذِي يَمِيلُ إِلَيْهِ هَوَاهُمْ. وَأُسْنِدَ جَعْلُ الْخَيْرِ فِي الْمَكْرُوهِ هُنَا لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً الْمُقْتَضِي أَنَّهُ جَعْلٌ عَارِضٌ لِمَكْرُوهٍ خَاصٍّ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٦] قَالَ: وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّ تِلْكَ بَيَانٌ لِمَا يُقَارِنُ بَعْضَ الْحَقَائِقِ مِنَ الْخَفَاءِ فِي ذَاتِ الْحَقِيقَةِ، لِيَكُونَ رَجَاءُ الْخَيْرِ مِنَ الْقِتَالِ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَيْرَ حَاصِلٍ بِجَعْلٍ عَارِضٍ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ على الزَّوْجَة الموذية أَوِ الْمَكْرُوهَةِ إِذَا كَانَ لِأَجْلِ امْتِثَالِ أَمْرِ الله بِحسن معاشرتها، يَكُونُ جَعْلُ الْخَيْرِ فِي ذَلِكَ جَزَاءً مِنَ اللَّهِ على الِامْتِثَال.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
لَا جَرَمَ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ تَعْقُبُهَا إِرَادَةُ اسْتِبْدَالِ الْمَكْرُوهِ بِضِدِّهِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ الشَّرْطَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ اسْتِطْرَادًا وَاسْتِيفَاءً لِلْأَحْكَامِ.
فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِبْدَالِ طَلَاقُ الْمَرْأَةِ السَّابِقَةِ وَتَزَوُّجُ امْرَأَةٍ أُخْرَى.
والاستبدال: التَّبْدِيلُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١] أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبٌ لِلْفِرَاقِ إِلَّا إِرَادَةَ اسْتِبْدَالِ
زوج بِأُخْرَى فيلجيء الَّتِي يُرِيدُ فِرَاقَهَا، حَتَّى تخالعه، ليجد مَا لَا يُعْطِيهِ مَهْرًا لِلَّتِي رَغِبَ فِيهَا، نَهَى عَنْ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَوْهُ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ مَهْرٍ وَغَيْرِهِ

[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٧٦]

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَانَتْ جُمْلَةُ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ مُسْتَأْنِفَةً، أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَا عَنَوْا بِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَتَعْبُدُونَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ مَنْ يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّغْلِيطِ مَجَازًا.
وَمَعْنَى مِنْ دُونِ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ. فَمِنْ لِلتَّوْكِيدِ، وَ (دُونَ) اسْمٌ لِلْمُغَايِرِ، فَهُوَ مُرَادِفٌ لِسِوَى، أَيْ أَتَعْبُدُونَ مَعْبُودًا هُوَ غَيْرُ اللَّهِ، أَيْ أَتُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَتَعْبُدُونَ مَعْبُودًا وَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ. وَانْظُرْ مَا فَسَّرْنَا بِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٨]، فَالْمُخَاطَبُونَ كُلُّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَهُمْ مَا عَبَدُوا الْمَسِيحَ إِلَّا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ حَلَّ فِيهِ فَقَدْ عَبَدُوا اللَّهَ فِيهِ، فَشَمَلَ هَذَا الْخِطَابُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَنَصَارَى الْعَرَبِ كُلِّهِمْ.
وَلِذَلِكَ جِيءَ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ دُونَ (مَنْ) لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَشْيَاءُ لَا تَعْقِلُ، وَقَدْ غَلَبَ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ. وَلَوْ أُرِيدَ بِ مَا لَا يَمْلِكُ عِيسَى وَأُمُّهُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَغَيْرِهِ وَجُعِلَ الْخِطَابُ خَاصًّا بِالنَّصَارَى كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِ مَا صَحِيحًا لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَال (من)، وَكثير فِي الْكَلَامِ بِحَيْثُ يَكْثُرُ عَلَى التَّأْوِيلِ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ التَّعْبِيرُ بِمَنْ أَظْهَرَ.
وَمَعْنَى لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى الْمِلْكِ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِدُونِ مُعَارِضٍ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى اسْتِطَاعَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَشْيَاءِ بِدُونِ عَجْزٍ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨]، وَهُوَ شَامِلٌ لِوَعِيدِ الْآخِرَةِ وَوَعِيدِ الدُّنْيَا وَلِكُلٍّ مُسْتَقَرٌّ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: اسْتَقَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ مَا كَانَ يَعِدُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَعَطْفُ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَلَى جُمْلَةِ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أَيْ تَعْلَمُونَهُ، أَيْ هُوَ الْآنَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَتَعْلَمُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ حُلُولِهِ بِكُمْ. وَهَذَا أَظْهَرُ فِي وَعِيدِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا.
[٦٨]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٦٨]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الْأَنْعَام: ٦٦]. وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالضَّمِيرِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ اسْمُ الْمَوْصُولِ، فَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، يَدُلُّ على أنّ الَّذِي يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ فَرِيقٌ خَاصٌّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْعَذَابِ.
فَعُمُومُ الْقَوْمِ أَنْكَرُوا وَكَذَّبُوا دُونَ خَوْضٍ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَأُولَئِكَ قِسْمٌ، وَالَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ قِسْمٌ كَانَ أَبْذَى وَأَقْذَعَ، وَأَشَدَّ كُفْرًا وَأَشْنَعَ، وَهُمُ الْمُتَصَدُّونَ لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ.
وَهَؤُلَاءِ أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ وَتَرْكِ مُجَالِسِهِمْ حَتَّى يَرْعَوُوا عَنْ ذَلِكَ.
وَلَوْ أُمِرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَمِيعِ الْمُكَذِّبِينَ لَتَعَطَّلَتِ الدَّعْوَةُ وَالتَّبْلِيغُ.
وَمَعْنَى إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي حَالِ خَوْضِهِمْ. وَجَاءَ تَعْرِيفُ هَؤُلَاءِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ الْخَائِضِينَ أَوْ قَوْمًا خَائِضِينَ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ غَرِيبٌ، إِذْ شَأْنُ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ يُمَارِسَ النَّاسَ لِعَرْضِ دَعْوَةِ الدِّينِ، فَأَمْرُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْجِيهٍ وَاسْتِئْنَاسٍ. وَذَلِكَ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي أَفَادَهُ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ، أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا.
وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ بَاقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِآيَةِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً- إِلَى قَوْلِهِ- بِإِذْنِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦].
وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِيَغِ عُمُومٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ مُطْلَقَةٌ فِي حَالَةِ اللِّقَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَتَكُونُ آيَاتُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦] مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ هَاتِهِ الْآيَةِ بِمِقْدَارِ الْعَدَدِ وَمُقَيِّدَةً لِإِطْلَاقِهَا اللِّقَاءَ بِقَيْدِ حَالَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَنَافِعٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَالُوا إِنَّ حُكْمَهَا نسخ بِآيَة الضُّعَفَاء آيَةِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ [الْأَنْفَال: ٦٥] الْآيَةَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة، ومآل الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي فِقْهِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ انْتِظَامِ آيِ السُّورَةِ، وَلَوْ صَحَّ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ الثَّانِي لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَأُلْحِقَتِ الْآيَةُ بِهَا، وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَثَرِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ: إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ الْآيَةَ مُحْكَمٌ عَامٌّ فِي الْأَزْمَانِ، لَا يُخَصَّصُ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا يخص بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ، وَنَسَبَ ابْنُ الْفُرْسِ، عَنِ النَّحَّاسِ، إِلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَالَ ابْنُ الْفُرْسِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْنَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ، وَأَنَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَسْتَقِرَّ مِنْ عَمَلِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، فِي غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ الْأُمَرَاءِ الصَّالِحِينَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مَا يَنْضَبِطُ بِهِ مَدَى الْإِذْنِ أَوِ الْمَنْعِ مِنَ الْفِرَارِ، وَقَدِ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَنَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمرَان: ١٥٥] وَمَا عَفَا عَنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَحَقُّوا الْإِثْمَ، وَلَمَّا انْكَشَفُوا عِنْدَ لِقَاءِ هَوَازِنَ
فِي تَقْرِيعِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ نِفَاقًا وَتَخْذِيلًا لِلْمُسْلِمِينَ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: ٣٨] ثُمَّ قَوْلِهِ: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً [التَّوْبَة: ٤٢] وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْصُودٌ بِهِ الْمُنَافِقُونَ.
وَلِأَجْلِ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ غَرضا جَدِيدا ابتدأت بِذِكْرِ نُزُولِ سُورَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هَذِهِ السُّورَةُ، أَيْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ السُّورَةِ عَلَيْهَا فِي أَثْنَائِهَا قَبْلَ إِكْمَالِهَا مَجَازٌ مُتَّسَعٌ فِيهِ كَإِطْلَاقِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ:
ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢] وَقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: ٩٢] فَهَذَا الْوَصْفُ وَصْفٌ مُقَدَّرٌ شَبِيهٌ بِالْحَال المقدّرة.
وابتدأ بِذِكْرِ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ.
وَالسُّورَةُ طَائِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ لَهَا مَبْدَأٌ وَنِهَايَةٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا آنِفًا وَقُبَيْلَ هَذَا.
وَلَمَّا كَانَتِ السُّورَةُ أَلْفَاظًا وَأَقْوَالًا صَحَّ بَيَانُهَا بِبَعْضِ مَا حَوَتْهُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ فَقَوْلُهُ: أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ تَفْسِيرٌ لِلسُّورَةِ وأَنْ فِيهِ تَفْسِيرِيَّةٌ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: ١١٧] وَيَجُوزُ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِبَعْضِهِ شَبَهُ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَفْظُ آمِنُوا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بَلْ مَا يُرَادُ فَهُمَا مِثْلُ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣٨] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [التَّوْبَة: ٤٤].
والطّول: السِّعَةُ فِي الْمَالِ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ [النِّسَاء: ٢٥] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الطَّوْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولِي الطَّوْلِ مُرَادٌ بِهِمْ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْجِهَادِ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ. فَبِوُجُودِ الطَّوْلِ انْتَفَى عُذْرُهُمْ إِذْ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا بِبَدَنِهِ لَا يَنْظُرُ إِلَى كَوْنِهِ ذَا طَوْلٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [التَّوْبَة: ٩١].
وَرُؤْيَةُ الْعَذَابِ، كِنَايَةٌ عَنْ حُلُولِهِ بِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا حِين لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ نُزُولَ الْعَذَابِ هُوَ ابْتِدَاءُ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَيْسَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُجَازَاةِ عَفْوٌ.
وَمِنْ بَرَكَةِ هَذَا الدِّينِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ قَدْ هَدَاهُمُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ بهم عذَابا.
[٩٨]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٩٨]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ التَّغْلِيطِ عَلَى امْتِنَاعِ أَهْلِ الْقُرَى مِنَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ فَإِنَّ أَهْلَ الْقُرَى مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ بِأَنْ لَا يُؤْمِنُوا. وَالْغَرَضُ مَنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْقُرَى التَّعْرِيضُ بِالْمَقْصُودِ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ فَكَانَ ذَلِكَ كَالتَّخَلُّصِ بِالتَّعْرِيضِ إِلَى الْمَخْصُوصِينَ بِهِ، وَلِلْإِفْضَاءِ بِهِ إِلَى ذِكْرِ قَوْمِ يُونُسَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ.
وَ (لَوْلَا) حَرْفٌ يَرِدُ لَمَعَانٍ مِنْهَا التَّوْبِيخُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ التَّوْبِيخِ كِنَايَةً عَنِ التَّغْلِيطِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى قَدِ انْقَضَوْا، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى (لَوْلَا) التَّحْضِيضُ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ بِحَثٍّ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ قَدْ فَاتَ وُقُوعُهُ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّغْلِيطِ وَالتَّنْدِيمِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى تَفْوِيتِهِ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فِعْلَ مُضِيٍّ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا [النُّور: ١٦]. وَإِذَا تَوَجَّهَ الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ (لَوْلَا) إِلَى غَيْرِ صَاحِبِ الْفِعْلِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ، كَقَوْلِه: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّور: ١٣]

[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٥٠]

وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠)
قَالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ لَمَّا أَبْلَغَهُ السَّاقِي صُورَةَ التَّعْبِيرِ. وَالْخِطَابِ لِلْمَلَأِ لِيُرْسِلُوا مَنْ
يُعِينُونَهُ لِجَلْبِهِ. وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ. فَالتَّقْدِيرُ: فَأَرْسَلُوا رَسُولًا مِنْهُمْ.
وَضَمِيرَا الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: بِهِ وَقَوْلِهِ: جاءَهُ عَائِدَانِ إِلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَضَمِيرُ قالَ الْمُسْتَتِرُ كَذَلِكَ.
وَقَدْ أَبَى يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْخُرُوجَ مِنَ السِّجْنِ قَبْلَ أَنْ تَثْبُتَ بَرَاءَتُهُ مِمَّا رُمِيَ بِهِ فِي بَيْتِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ بَلَغَ الْمَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِئَلَّا يَكُونَ تَبْرِيزُهُ فِي التَّعْبِيرِ الْمُوجِبِ لِإِطْلَاقِهِ مِنَ السِّجْنِ كَالشَّفِيعِ فِيهِ فَيَبْقَى حَدِيثُ قَرَفِهِ بِمَا قُرِفَ بِهِ فَاشِيًا فِي النَّاسِ فَيَتَسَلَّقُ بِهِ الْحَاسِدُونَ إِلَى انْتِقَاصِ شَأْنِهِ عِنْدَ الْمَلِكِ يَوْمًا مَا، فَإِنَّ تَبْرِئَةَ الْعِرْضِ مِنَ التُّهَمِ الْبَاطِلَةِ مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ، وَلِيَكُونَ حُضُورُهُ لَدَى الْمَلِكِ مَرْمُوقًا بِعَيْنٍ لَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِشَائِبَةِ نَقْصٍ.
وَجَعَلَ طَرِيقَ تَقْرِيرِ بَرَاءَتِهِ مُفْتَتَحَةً بِالسُّؤَالِ عَنِ الْخَبَرِ لِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ مِنْ أَوله، فَمَعْنَى فَسْئَلْهُ بَلِّغْ إِلَيْهِ سُؤَالًا مِنْ قِبَلِي. وَهَذِهِ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَحِقُّ بِأَنْ يُؤْتَسَى بِهَا. وَهِيَ تَطَلُّبُ الْمَسْجُونِ بَاطِلًا أَنْ يَبْقَى فِي السِّجْنِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ بَرَاءَتُهُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي سُجِنَ لِأَجْلِهِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى التَّحَلِّي بِالصَّبْرِ حَتَّى يَظْهَرَ النَّصْر.
وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَبِثْتُ مَا لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ»
، أَيْ دَاعِيَ الْمَلِكِ وَهُوَ الرَّسُولُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ، أَيْ لَمَّا رَاجَعْتُ الْمَلِكَ.
فَهَذِهِ إِحْدَى الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [سُورَة يُوسُف: ٧].
تَعَالَى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٠]. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْهَمْزَةُ كَقَوْلِهِمْ: أَلْحَدَ الْمَيِّتَ، لِأَنَّ تِلْكَ لِلْجَعْلِ ذَا لَحْدٍ.
وَاللِّسَانُ: الْكَلَامُ. سُمِّيَ الْكَلَامُ بِاسْمِ آلَتِهِ. وَالْأَعْجَمِيُّ: الْمَنْسُوبُ إِلَى الْأَعْجَمِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُبَيِّنُ عَنْ مُرَادِهِ مِنْ كُلِّ نَاطِقٍ لَا يَفْهَمُونَ مَا يُرِيدُهُ. وَلِذَلِكَ سَمَّوُا الدَّوَابَّ الْعَجْمَاوَاتِ. فَالْيَاءُ فِيهِ يَاءُ النَّسَبِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَصْفًا كَانَ النَّسَبُ لِتَقْوِيَةِ الْوَصْفِ.
وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ أَبَانَ، إِذَا صَارَ ذَا إِبَانَةٍ، أَيْ زَائِدٌ فِي الْإِبَانَةِ بِمَعْنَى الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، فَحَصَلَ تَمَامُ التَّضَادِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ.
[١٠٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٠٤]
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَوُرُودُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ اخْتِلَاقِ الْمُتَقَعِّرِينَ عَلَى الْقُرْآنِ الْمُرْجِفِينَ بِالْقَالَةِ فِيهِ بَين الدهماء يومىء إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ لَا يُؤْمِنُونَ هُمْ أُولَئِكَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ آنِفًا. وَهُمْ فَرِيقٌ مَعْلُومٌ بِشدَّة الْعَدَاوَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالتَّصَلُّبِ فِي التَّصَدِّي لِصَرْفِ النَّاسِ عَنْهُ بِحَيْثُ بَلَغُوا مِنَ الْكُفْرِ غَايَةً مَا وَرَاءَهَا غَايَةٌ، فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ يَوْمَئِذٍ وَلَكِنَّهُمْ مُشَارٌ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، وَتَكْشِفُ عَنْ تَعْيِينِهِمْ عَوَاقِبُ أَحْوَالِهِمْ.
فَقَدْ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ وَأَبُو سُفْيَانَ. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ أَطْوَلَ مُدَّةً فِي الْكُفْرِ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَلَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ يَخْلِطُ كُفْرَهُ بِأَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَنَقِ عَلَيْهِ.
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الِانْتِصَارِ لِدِينِهِ وَلِقَوْمِهِ وَدَفَعَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَغْلِبُوهُمْ فَحَرَمَ اللَّهُ أَبَا جَهْلٍ الْهِدَايَةَ فَأَهْلَكَهُ كَافِرًا، وَهَدَى أَبَا سُفْيَانَ فَأَصْبَحَ مِنْ خِيرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَشَرَّفَ بِصِهْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
وَالْعُثُورُ عَلَى الشَّيْءِ: الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَالظَّفَرُ بِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ. وَقَدْ كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ فِي تِلْكَ الْمَدِينَة يتناقله أَهلهَا فَيَسَّرَ اللَّهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْعُثُورَ عَلَيْهِمْ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ الْآيَةَ.
وَمَفْعُولُ أَعْثَرْنا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الْكَهْف:
٢٠]. تَقْدِيرُهُ: أَعْثَرْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِمْ.
وَضَمِيرُ لِيَعْلَمُوا عَائِدٌ إِلَى الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ الْمُقَدَّرِ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ كَالْمَذْكُورِ.
وَوَعْدُ اللَّهِ هُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى لِلْبَعْثِ. وَأَمَّا عِلْمُهُمْ بِأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا، أَيْ سَاعَةَ الْحَشْرِ، فَهُوَ إِنْ صَارَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ تَزُولُ بِهَا خَوَاطِرُ الْخَفَاءِ الَّتِي تَعْتَرِي الْمُؤْمِنَ فِي اعْتِقَادِهِ حِينَ لَا يَتَصَوَّرُ كَيْفِيَّةَ الْعَقَائِدِ السَّمْعِيَّةِ وَمَا هُوَ بِرَيْبٍ فِي الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَهُوَ الْوَارِدُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْطُرُ إِلَّا لِصِدِّيقٍ وَلَا يَدُومُ إِلَّا عِنْدَ زِنْدِيقٍ.
إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ أَعْثَرْنا، أَيْ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ حِينَ تَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ. وَصِيغَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الظَّرْفِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اتِّصَالِ التَّنَازُعِ فِي أَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ بِالْعُثُورِ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ تَبَادَرُوا إِلَى الْخَوْضِ فِي كَرَامَةٍ يَجْعَلُونَهَا لَهُمْ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِذِكْرِ نِزَاعٍ جَرَى بَيْنَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ فِي أُمُورٍ شَتَّى جَمَعَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْرَهُمْ فَضَمِيرُ يَتَنازَعُونَ وبَيْنَهُمْ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ اللَّهُ ضَمِيرَ لِيَعْلَمُوا.
وَضَمِيرُ أَمْرَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ.

[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٨٩]

أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا وَلَيْسَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الْقَوْمِ، فَهُوَ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [طه: ٨٧] وَجُمْلَةِ قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: ٩٢، ٩٣] إِلَخْ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ، أَيْ لِتَفْرِيعٍ الْإِخْبَارٍ لَا لِتَفْرِيعِ الْمُخْبِرِ بِهِ، وَالْمُخْبِرُ مُتَعَدِّدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِخِطَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ وَهُمْ كُبَرَاؤُهُمْ وَصُلَحَاؤُهُمْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنَ التَّوْحِيدِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارِيٌّ، نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَرَى الْعِجْلَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْبَصَرِ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ رُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ، أَيْ كَيْفَ يَدَّعُونَ الْإِلَهِيَّةَ لِلْعِجْلِ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَسْتَطِيعُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ مُكَنًّى بِهَا أَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ الْإِدْرَاكِ فَآلَتْ إِلَى مَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَالْعِلْمِ، وَلَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ لِجُمْلَةِ وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُرَى بالبصر بِخِلَاف أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا. وَرُؤْيَةُ انْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ مُرَادٌ بِهَا رُؤْيَةُ أَثَرِ انْتِفَائِهِمَا بِدَوَامِ عَدَمِ التَّكَلُّمِ وَانْتِفَاءِ عَدَمِ نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ مُسَلَّطٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ إِلَهُهُمْ فَيَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ لَهُمْ ضَرًّا وَنَفْعًا.
وَمَعْنَى يَرْجِعُ يَرُدُّ، أَيْ يُجِيبُ الْقَوْلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلَّ الْعِبْرَةِ مِنْ فُقْدَانِهِ صِفَاتَ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ وَيُمَجِّدُونَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَشْكُرُ لَهُمْ وَلَا يَعِدُهُمْ بِاسْتِجَابَةٍ، وَشَأْنُ الْكَامِلِ إِذَا سَمِعَ ثَنَاءً أَوْ تَلَقَّى طِلْبَةً أَنْ يُجِيبَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مَنْ هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدُوا مَا
فِيهِ نَفْعُهُمْ
بِهَا، أَيِ انْتَفَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ وَآذَانٌ بِهَذِهَ الْمَثَابَةِ لِانْتِفَاءِ سَيْرِهِمْ فِي الْأَرْضِ. وَهَذَا شَأْنُ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ بَعْدَ النَّفْيِ أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ عَلَى مَا هُوَ مُسَبَّبٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ لَوْ كَانَ ثَابِتًا وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمَعَرِّيِّ:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرَ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
وَقِيلَ أَفَادَ بِالْأَسْفَارِ مَالًا فَقُلْنَا هَلْ أَفَادَ بِهَا فُؤَادَا
وَهَذَا شَأْنُ الْأَسْفَارِ أَنْ تُفِيدَ الْمُسَافِرَ مَا لَا تُفِيدُهُ الْإِقَامَةُ فِي الْأَوْطَانِ مِنِ اطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ الْأَقْوَامِ وَخَصَائِصِ الْبُلْدَانِ وَاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ، فَهِيَ تُفِيدُ كُلَّ ذِي هِمَّةٍ فِي شَيْءٍ فَوَائِدَ تَزِيدُ هِمَّتَهُ نَفَاذًا فِيمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَأَعْظَمُ ذَلِكَ فَوَائِدُ الْعبْرَة بِأَسْبَاب النجاج وَالْخَسَارَةِ.
وَأُطْلِقَتِ الْقُلُوبُ عَلَى تَقَاسِيمِ الْعَقْلِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مُفِيضُ الدَّمِ- وَهُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ- على الْأَعْضَاء الرئيسية وَأَهَمُّهَا الدِّمَاغُ الَّذِي هُوَ عُضْوُ الْعَقْلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَعْقِلُونَ بِها وَإِنَّمَا آلَةُ الْعَقْلِ هِيَ الدِّمَاغُ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ جَرَى أَوَّلُهُ عَلَى مُتَعَارَفِ أَهْلِ اللُّغَةِ ثُمَّ أُجْرِيَ عَقِبَ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّةِ فَقَالَ: يَعْقِلُونَ بِها فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقُلُوبَ هِيَ الْعَقْلُ.
وَنُزِّلَتْ عُقُولُهُمْ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ كَمَا نُزِّلَ سَيْرُهُمْ فِي الْأَرْضِ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ.
وَأَمَّا ذِكْرُ الآذان فلأنّ الْأذن آلَةُ السَّمْعِ وَالسَّائِرُ فِي الْأَرْضِ يَنْظُرُ آثَارَ الْأُمَمِ وَيَسْمَعُ أَخْبَارَ فَنَائِهِمْ فَيَسْتَدِلُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَرَتُّبِ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا عَلَى أَنَّ حَظَّ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَحَدَّثِ إِلَيْهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُسَافِرُوا أَنْ يَتَلَقَّوُا الْأَخْبَارَ مِنَ الْمُسَافِرِينَ فَيَعْلَمُوا مَا عَلِمَهُ الْمُسَافِرُونَ عِلْمًا سَبِيلُهُ سَمَاعُ الْأَخْبَارِ.
وَفِي ذِكْرِ الْآذَانِ اكْتِفَاءٌ عَنْ ذِكْرِ الْأَبْصَارِ إِذْ يُعْلَمُ أَنَّ الْقُلُوبَ الَّتِي تَعْقِلُ إِنَّمَا طَرِيقُ عِلْمِهَا مُشَاهَدَةُ آثَارِ الْعَذَابِ وَالِاسْتِئْصَالِ كَمَا أَشَارَ
خَوْفٍ فِي الْأُمَّةِ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ كَالْخَوْفِ الَّذِي اعْتَرَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ ثَوْرَةِ أَهْلِ مِصْرَ الَّذِينَ قَادَهُمُ الضَّالُّ مَالِكٌ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، وَمِثْلِ الْخَوْفِ الَّذِي حَدَثَ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْحَرَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَوَادِثِ وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ مُسَبَّبَاتٍ عَنْ أَسْبَابٍ بَشَرِيَّةٍ وَإِلَى اللَّهِ إِيَابُهُمْ وَعَلَى اللَّهِ حِسَابُهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَجُمْلَةُ: يَعْبُدُونَنِي حَالٌ مِنْ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَيْ هَذَا الْوَعْدُ جَرَى فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّايَ. وَفِي هَذِهِ الْحَالِ إِيذَانٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ جَزَاءٌ لَهُمْ، أَيْ وَعَدْتُهُمْ هَذَا الْوَعْدَ الشَّامِلَ لَهُمْ وَالْبَاقِي فِي خَلَفِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَنِي عِبَادَةً خَالِصَةً عَنِ الْإِشْرَاكِ.
وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْمُنَافِقِينَ إِذْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ.
وَجُمْلَةُ: لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يَعْبُدُونَنِي تَقْيِيدًا لِلْعِبَادَةِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ. وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ هُوَ الشَّرِيطَةُ فِي كَفَالَةِ اللَّهِ لِلْأُمَّةِ هَذَا الْوَعْدَ.
وَجُمْلَةُ: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تَحْذِيرٌ بَعْدَ الْبِشَارَةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْبِشَارَةِ بِالنِّذَارَةِ وَالْعَكْسُ دَفْعًا لِلِاتِّكَالِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ ذلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ هُنَا بِ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْبِشَارَةِ عَلَيْهِ فَهُمُ الْفَاسِقُونَ عَنِ الْحَقِّ.
وَصِيغَةُ الْحَصْرِ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ مُسْتَعْمِلَةٌ مُبَالَغَةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْفِسْقُ الْكَامِلُ.
تَعَالَى وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: ٧٦] وَقَالَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات:
١٣٧، ١٣٨].
وَظَرْفُ إِذْ يَتَعَلَّقُ بِ (أَرْسَلْنَا) أَوْ بِ (اذْكُرْ) الْمُقَدَّرَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْتُونَ إِنْكَارِيٌّ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ حَالٌ زِيَادَةٌ فِي التَّشْنِيعِ، أَيْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَنًا يُبْصِرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ التَّجَاهُرَ بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهَا وَذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بالنواهي.
وَقَوله: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ [٨١] إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ، فَهُنَا جِيءَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَمَا فِي الْأَعْرَافِ جَاءَ الْخَبَرُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْكَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْحِكَايَةِ لِاخْتِلَافِ الْمَحْكِيِّ بِأَنْ يَكُونَ لُوطٌ قَدْ قَالَ لَهُمُ الْمَقَالَتَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْحِكَايَةِ تَفَنُّنًا مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَكِلَا الْأُسْلُوبَيْنِ يَقَعُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِ.
عَلَى أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ وَأَبَا عَمْرٍو وَابْنَ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَأَبَا بَكْرٍ عَن عَاصِم قرأوا مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِهَمْزَتَيْنِ فَاسْتَوَتِ الْآيَتَانِ عَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ وُجُوهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَوَقَعَ فِي الْأَعْرَافِ [٨٠] أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا لِأَنَّ مَا يَجْرِي فِي الْقِصَّةِ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ جَمِيعِهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي عَدَمِ ذِكْرِ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ ذِكْرِهِ هُنَا.
وَنَظِيرُ بَقِيَّةِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّ الْوَاقِعَ هُنَا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فَوَصَفَهُمْ بِالْجَهَالَةِ وَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ أُفْنِ الرَّأْيِ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ.
وَفِي الْأَعْرَافِ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَقَالَتَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ.
وَفِي إِقْحَامِ لَفْظِ قَوْمٌ فِي الْآيَتَيْنِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النَّمْل: ٥٢].
الْجُمَلِ، أَيْ: أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَأْتُونَ الْفِتْنَةَ، والْفِتْنَةَ هِيَ أَنْ يَفْتِنُوا الْمُسْلِمِينَ، أَيِ: الْكَيْدُ لَهُمْ وَإِلْقَاءُ التَّخَاذُلِ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْفِتْنَةَ بِالشِّرْكِ وَلَا وَجْهَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْقِتَالِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَالْإِتْيَانُ: الْقُدُومُ إِلَى مَكَانٍ. وَقَدْ أَشْعَرَ هَذَا الْفِعْلُ بِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا لِيَفْتِنُوا الْمُسْلِمِينَ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي أَتَوْهَا عَائِدٌ إِلَى الْفِتْنَةَ وَالْمُرَادُ مَكَانُهَا وَهُوَ مَكَانُ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَأَتَوْا مَكَانَهَا وَمَظِنَّتِهَا. وَضَمِيرُ بِها لِلْفِتْنَةِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَما تَلَبَّثُوا بِها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَآتَوْها. وَالتَّلَبُّثُ: اللُّبْثُ، أَيِ:
الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِبْطَاءِ، أَي مَا أبطأوا بِالسَّعْيِ فِي الْفِتْنَةِ وَلَا خَافُوا أَنْ تُؤْخَذَ بُيُوتُهُمْ. وَالْمَعْنَى: لَوْ دَخَلَتْ جُيُوشُ الْأَحْزَابِ الْمَدِينَةَ وَبَقِيَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَهَا- أَيْ مَثَلًا لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ- وَسَأَلَ الْجَيْشُ الدَّاخِلُ الْفَرِيقَ الْمُسْتَأْذِنِينَ أَنْ يُلْقُوا الْفِتْنَةَ فِي الْمُسلمين بِالتَّفْرِيقِ والتخذيل لَخَرَجُوا لِذَلِكَ الْقَصْدِ مُسْرِعِينَ وَلَمْ يُثَبِّطْهُمُ الْخَوْفُ عَلَى بُيُوتِهِمْ أَنْ يَدْخُلَهَا اللُّصُوصُ أَوْ يَنْهَبَهَا الْجَيْشُ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَلْقَوْا سُوءًا مِنَ الْجَيْشِ الدَّاخِلِ لِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ لَهُ وَمُعَاوِنُونَ، فَهُمْ مِنْهُمْ وَإِلَيْهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ كَرَاهَتَهُمُ الْإِسْلَامَ تَجْعَلُهُمْ لَا يَكْتَرِثُونَ بِنَهْبِ بُيُوتِهِمْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا يَسِيراً يُظْهِرُ أَنَّهُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ بِصُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، أَيْ إِلَّا رَيْثَمَا يَتَأَمَّلُونَ فَلَا يُطِيلُونَ التَّأَمُّلَ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ تَأْكِيدَ قِلَّةِ التَّلَبُّثِ، فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْمُنْسَجِمُ مَعَ نَظْمِ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ انْسِجَامٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ لَأَتَوْهَا بِهَمْزَةٍ تَلِيهَا مُثَنَّاةٌ فَوْقِيَّةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ لَآتَوْها بِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى مَعْنَى: لَأَعْطَوْهَا، أَيْ: لَأَعْطَوُا الْفِتْنَةَ سَائِلِيهَا، فَإِطْلَاقُ فِعْلِ أَتَوْهَا مُشَاكَلَةٌ لفعل سُئِلُوا.
عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يُوسُف: ١١٠]. وَلِهَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَأْمِينٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَال: ٣٣] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُوَ تَأْمِينٌ مِنْ تَعْمِيمِ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ جَمِيعًا وَلَا يُعَذِّبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَعم وَأحسن. وأيّاما كَانَ فَإِنَّ قَضِيَّةَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [١٣]، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدٌ وِزْرَ آخَرَ لَا مُشَارَكَةَ لَهُ لِلْحَامِلِ عَلَى اقْتِرَافِ الْوِزْرِ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ فَمَوْرِدُهَا فِي زُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَوَّهُوا الضَّلَالَةَ وَثَبَتُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَوَّلَ تِلْكَ الْآيَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: ١٢]، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَرْوِحُونَ مِنْهُ الْإِقْبَالَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْأَحْرَى.
وَأَصْلُ الْوِزْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ: هُوَ الْوِقْرُ بِوَزْنِهِ وَمَعْنَاهُ. وَهُوَ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ مَا يُحْمَلُ، وَيُقَالُ: وَزِرَ إِذَا حَمَلَ. فَالْمَعْنَى: وَلَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ حِمْلَ أُخْرَى، أَيْ لَا يُحَمِّلُ اللَّهُ نَفْسًا حِمْلًا جَعَلَهُ لِنَفْسٍ أُخْرَى عَدْلًا مِنْهُ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَدْلَ وَقَدْ نَفَى عَنْ شَأْنِهِ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ.
وَجَرَى وَصْفُ الْوَازِرَةِ عَلَى التَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ النَّفْسُ.
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ الْإِسْنَادِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ بِتَأْوِيلِ النَّفْسِ دُونَ أَنْ يَجْرِيَ الْإِضْمَارُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِتَأْوِيلِ الشَّخْصِ، لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْسِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ لِلْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِ الِاكْتِسَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٦٤]، وَقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [٣٨]، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الْعَادِلَ مُطَّرِدٌ مُسْتَمِرٌّ حَتَّى لَوِ اسْتَغَاثَتْ نفس مثقلة بالأوزار مَنْ يُنْتَدَبُ لَحَمْلِ أَوْزَارِهَا أَوْ بَعْضِهَا لَمْ تَجِدْ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهَا شَيْئًا، لِئَلَّا يَقِيسَ النَّاسُ الَّذِينَ فِي الدُّنْيَا أَحْوَالَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ،
وَابْنُ زَيْدٍ، وَجَرَيَانُهُ بَيْنَهُمْ لِيَزْدَادُوا مَقْتًا بِأَنْ يُضَافَ إِلَى عَذَابِهِمُ الْجُسْمَانِيِّ عَذَابُ أَنْفُسِهِمْ بِرُجُوعِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِالتَّنْدِيمِ وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ.
وَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُتَكَلِّمًا صَادِرًا مِنْهُ، وَأُسْلُوبُ الْمُقَاوَلَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ هُمُ الطَّاغُونَ الَّذِينَ لَهُمْ شَرُّ الْمَآبِ لِأَنَّهُمْ أَسَاسُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ. فَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ، أَيْ الطَّاغُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، أَيْ يَقُولُونَ مُشِيرِينَ إِلَى فَوْجٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أُقْحِمَ فِيهِمْ لَيْسُوا مِنْ أَكْفَائِهِمْ وَلَا مِنْ طَبَقَتِهِمْ وَهُمْ فَوْجُ الْأَتْبَاعِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الطَّاغِينَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا [ص: ٦٠] أَيْ أَنْتُمْ سَبَبُ إِحْضَارِ هَذَا الْعَذَابِ لَنَا. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَعْنَى نَظَائِرَهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَاف: ٣٨] إِلَى قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٩]، وَقَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٦]، وَقَوْلِهِ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ
الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٢٧]. وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: ٦٤].
فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الطَّاغِينَ. وَجُمْلَةُ هَذَا فَوْجٌ إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ.
وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ النَّاسِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٨٣].
وَالِاقْتِحَامُ: الدُّخُولُ فِي النَّاسِ، وَ (مَعَ) مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مَتْبُوعُونَ، وَأَنَّ الْفَوْجَ الْمُقْتَحِمَ أَتْبَاعٌ لَهُمْ، فَأُدْخِلُوا فِيهِمْ مَدْخَلَ التَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ بِعَلَامَاتٍ تُشْعِرُ بِذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ: لَا مَرْحَباً بِهِمْ مُعْتَرِضَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمِّ الْفَوْجِ. وَلَا مَرْحَباً نَفْيٌ لِكَلِمَةٍ يَقُولُهَا الْمَزُورُ لِزَائِرِهِ وَهِيَ إِنْشَاءُ دُعَاءِ الْوَافِدِ. ومَرْحَباً مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْمَفْعَلِ، وَهُوَ الرُّحْبُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الرَّحْبِ، أَيْ أَتَيْتَ رَحْبًا، أَيْ مَكَانَا ذَا رُحْبٍ، فَإِذَا أَرَادُوا كَرَاهِيَةَ الْوَافِدِ وَالدُّعَاءَ عَلَيْهِ قَالُوا: لَا مَرْحَبًا بِهِ، كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا النَّفْيَ بِمَجْمُوعِ الْكَلِمَةِ:
وَالْوَاوُ إِمَّا عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: ٣٠]، أَوْ حَالِيَّةً مِنَ الَّذِينَ قالُوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ نَالُوا ذَلِكَ إِذْ لَا أَحْسَنَ مِنْهُمْ قَوْلًا وَعَمَلًا. ومَنْ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ الْآيَةَ فِي سُورَة النِّسَاء [١٢٥].
ومِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ: كُلُّ أَحَدٍ ثَبَتَ لَهُ مَضْمُونُ هَذِهِ الصِّلَةِ. وَالدُّعَاءُ إِلَى شَيْءٍ:
أَمْرُ غَيْرِكَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الدَّعْوَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ وَالدَّعْوَةُ الْعَلَوِيَّةُ، وَتَسْمِيَةُ الْوَاعِظِ عِنْدَ بَنِي عَبِيدٍ بِالدَّاعِي لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى التَّشَيُّعِ لِآلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ: تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْآمِرِ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ بِحَالِ مَنْ يَدْعُو أَحَدًا بِالْإِقْبَالِ إِلَى شَخْصٍ، وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَعْلَنُوا التَّوْحِيدَ وَهُوَ مَا وُصِفُوا بِهِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا [فصلت: ٣٠] كَمَا عَلِمْتَ وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَسَيِّدُ الدَّاعِينَ إِلَى اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُهُ: مَنْ دَعا إِلَى اللَّهِ (مَنْ) فِيهِ تَفْضِيلِيَّةٌ لِاسْمِ أَحْسَنُ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَوْلِ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ.
وَهَذَا الْحَذْفُ كَالَّذِي فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى وَعْلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
أَيْ لَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى مَخَافَةِ وَعْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧].
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يُصْلِحُ عَامِلَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ صَلَاحًا لَا يَشُوبُهُ فَسَادٌ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ الْجَارِي عَلَى وَفْقَ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: هُوَ مَا وُصِفَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠].
وَأَمَّا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمُ افْتَخَرُوا بِالْإِسْلَامِ وَاعْتَزُّوا بِهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَتَسَتَّرُوا بِالْإِسْلَامِ.
وَالِاعْتِزَازُ بِالدِّينِ عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَكِنَّهُ خُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ غَيْظُ
كَسِنِينِ يُوسُفَ» فَأتي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: اسْتَسْقِ لِمُضَرَ
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ الَّذِي أَتَى النَّبِيءَ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَاهُ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَعْنِي أَتَوُا الْمَدِينَةَ لَمَّا عَلِمُوا أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْقَحْطِ، فَقَالُوا:
إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَهُمْ فَدَعَا. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ مَا يَرَاهُ الْجَائِعُونَ مِنْ شِبْهِ الْغِشَاوَةِ عَلَى أَبْصَارِهِمْ حِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْجَوِّ بِهَيْئَةِ الدُّخَانِ النَّازِلِ مِنَ الْأُفُقِ، فَالْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ. وَأَمَّا مُفْرَدَاتُ التَّرْكِيبِ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقَائِقِهَا لِأَنَّ مِنْ مَعَانِي السَّمَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قُبَّةُ الْجَوِّ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ يَغْشَى النَّاسَ تَرْشِيحًا لِلتَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّ الَّذِي يَغْشَاهُمْ هُوَ الظُّلْمَةُ الَّتِي فِي أَبْصَارِهِمْ مِنَ الْجُوعِ، وَلَيْسَ الدُّخَانُ هُوَ الَّذِي يَغْشَاهُمْ. وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ رَكَّبَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثَ
الِاسْتِسْقَاءِ الَّذِي
فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَة والنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الزَّرْعُ وَالضَّرْعُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا ثَلَاثًا، وَمَا يُرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةُ سَحَابٍ، فَتَلَبَّدَتِ السَّمَاءُ بِالسَّحَابِ وَأُمْطِرُوا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ حَتَّى سَالَتِ الْأَوْدِيَةُ وَسَالَ وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، فَأَتَاهُ آتٍ فِي الْجُمُعَةَ الْقَابِلَةَ هُوَ الْأَوَّلُ أَوْ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقَطَّعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَ الْمَطَرَ عَنَّا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَتَفَرَّقَتِ السُّحُبُ حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ فِي شِبْهِ الْإِكْلِيلِ مِنَ السَّحَابِ
. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ظَاهِرٌ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَحْطَ وَقَعَ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ فَهُوَ قَحْطٌ آخَرُ غَيْرُ قَحْطِ قُرَيْشٍ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَمَعْنَى يَغْشَى النَّاسَ أَنَّهُ يُحِيطُ بِهِمْ وَيَعُمُّهُمْ كَمَا تُحِيطُ الْغَاشِيَةُ بِالْجَسَدِ، أَيْ لَا يَنْجُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ النَّاسِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الدُّخَانِ مَا أَصَابَ أَبْصَارَهُمْ مِنْ رُؤْيَةٍ مِثْلِ الْغَبَرَةِ مِنَ الْجُوعِ فَالْغَشَيَانُ مَجَازٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ
لِأَنَّهَا تَلُوحُ لِلْأَنْظَارِ دُونَ تَكَلُّفٍ لَمْ يُؤْتَ فِي لَفْتِ أَنْظَارِهِمْ إِلَى دَلَالَتِهَا بِاسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَكُونُوا بِحَاجَةٍ إِلَى إِعَادَةِ الْأَخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ تَذْكِيرًا لَهُمْ. وَانْتَصَبَ الْأَرْضَ بِ مَدَدْناها عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ.
وَالْمَدُّ: الْبَسْطُ، أَيْ بَسَطْنَا الْأَرْضَ فَلَمْ تَكُنْ مَجْمُوعَ نُتُوءَاتٍ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَشْيُ عَلَيْهَا مُرْهِقًا.
وَالْمُرَادُ: بَسْطُ سَطْحِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَصْفَ حَجْمِ الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تُدْرِكُهُ الْمُشَاهَدَةُ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ نَظَرَ التَّأَمُّلِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي سِيَاقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَلَا فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ بِمَا فِي ذَلِكَ الدَّلِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ فَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَضِيَّةِ كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ.
وَالْإِبْقَاءُ: تَمْثِيلٌ لِتَكْوِينِ أَجْسَامٍ بَارِزَةٍ عَلَى الْأَرْضِ مُتَبَاعِدٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلْقَاءِ: رَمْيُ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِخِلْقَةِ الْجِبَالِ كَقَوْلِهِ:
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية: ١٩] وفِيها ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَصْفٌ لِ رَواسِيَ قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ فَصَارَ حَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ أَلْقَيْنا.
وَرَوَاسِي: جَمْعُ رَاسٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ مِثْلَ: فَوَارِسُ وَعَوَاذِلُ. وَالرُّسُوُّ: الثَّبَاتُ وَالْقَرَارُ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ إِلَى بَدِيعِ خَلْقِ اللَّهِ إِذْ جَعَلَ الْجِبَالَ مُتَدَاخِلَةً مَعَ الْأَرْضِ وَلَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً عَلَيْهَا وَضْعًا كَمَا تُوضَعُ الْخَيْمَةُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَتَزَلْزَلَتْ وَسَقَطَتْ وَأَهْلَكَتْ مَا حَوَالَيْهَا. وَقَدْ قَالَ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء [٣١] وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أَيْ دَفْعَ أَنْ تَمِيدَ هِيَ، أَيِ الْجِبَالُ بِكُمْ، أَيْ مُلْصَقَةٌ بِكُمْ فِي مَيْدِهَا.
وَهُنَالِكَ وَجْهٌ آخَرُ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالزَّوْجُ: النَّوْعُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي سُورَةِ طه
وَلَيْسَ صِنْفًا قَدِ انْقَضَى وَسَبَقَ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ. وَأُخِّرَ السَّابِقُونَ فِي الذِّكْرِ عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ لِتَشْوِيقِ السَّامِعِينَ إِلَى مَعْرِفَةِ صِنْفِهِمْ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ الصِّنْفَانِ الْآخَرَانِ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ تَرْغِيبًا فِي الْاِقْتِدَاءِ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَمَّا يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ مِنْ تَسَاؤُلِ السَّامِعِ عَنْ أَثَرِ التَّنْوِيهِ بِهِمْ.
وَبِذَلِكَ كَانَ هَذَا ابْتِدَاءَ تَفْصِيل لجزاء الْأَصْنَاف الثَّلَاثَةِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ بَعْدَ اللَّفِّ، نَشْرًا مُشَوَّشًا تَشْوِيشًا اقْتَضَتْهُ مُنَاسِبَةُ اتِّصَالِ الْمَعَانِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ صِنْفٍ أَقْرَبَ ذِكْرًا، ثُمَّ مُرَاعَاةُ الْأَهَمِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصِّنْفَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فَكَانَ بَعْضُ الْكَلَامِ آخِذًا بِحُجُزِ بَعْضٍ.
وَالْمُقَرَّبُ: أَبْلَغُ من الْقَرِيب لِدَلَالَةِ صِيغَتِهِ عَلَى الْاِصْطِفَاءِ وَالْاِجْتِبَاءِ، وَذَلِكَ قُرْبٌ مَجَازِيٌّ، أَيْ شُبِّهَ بِالْقُرْبِ فِي مُلَابَسَةِ الْقَرِيب والاهتمام بشؤونه فَإِن الْمُطِيع بمجاهدته فِي الطَّاعَةِ يَكُونُ كَالْمُتَقَرِّبِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ طَالِبِ الْقُرْبِ مِنْهُ فَإِذَا بَلَغَ مَرْتَبَةً عَالِيَةً مِنْ ذَلِكَ قَرَّبَهُ اللَّهُ، أَيْ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ الْمُقَرَّبِ الْمَحْبُوبِ، كَمَا جَاءَ: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبُّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بهَا وَرجله الَّذِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مَجَازِيَّةٌ تَقْرِيبًا لِمَعْنَى التَّقْرِيبِ.
وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الْمُقَرَّبُونَ لِظُهُورِ أَنَّهُ مُقَرَّبٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عِنَايَتِهِ وَتَفْضِيلِهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ زَمَانُ التَّقْرِيبِ وَلَا مَكَانُهُ لِقَصْدِ تَعْمِيمِ الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ الْاِعْتِبَارِيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِي جَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمَ إِشَارَةٍ تَنْبِيهً عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يُخْبِرُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ الْوَصْفِ الْوَارِدِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ أَنهم السَّابِقُونَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
تَبَعًا لِعُمُومِ الْأَزْمَانِ وَيَعُمَّ الِاسْتِطَاعَاتِ، فَلَا يَتَخَلَّوْا عَنِ التَّقْوَى فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمَانِ. وَجُعِلَتِ الْأَزْمَانُ ظَرْفًا لِلِاسْتِطَاعَةِ لِئَلَّا يُقَصِّرُوا بَالتَّفْرِيطِ فِي شَيْءٍ يَسْتَطِيعُونَهُ فِيمَا أُمِرُوا بِالتَّقْوَى فِي شَأْنِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الِاسْتِطَاعَةِ إِلَى حَدِّ الْمَشَقَّةِ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥].
فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: مَا اسْتَطَعْتُمْ تَخْفِيفٌ وَلَا تَشْدِيدٌ وَلَكِنَّهُ عَدْلٌ وَإِنْصَافٌ. فَفِيهِ مَا عَلَيْهِمْ وَفِيهِ مَا لَهُمْ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَلَقَّنَنِي: «فِيمَا اسْتَطَعْتُ»،
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا إِذَا بَايعنَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا «فِيمَا اسْتَطَعْتُ»
. وَعَطْفُ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا عَلَى (اتَّقُوا اللَّهَ) مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِأَنَّ التَّقْوَى تَتَبَادَرُ فِي تَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ فَإِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ وَقَى. فَتَقْوَى اللَّهِ أَنْ يَقِيَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ مِمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ ترك المأمورات فيؤول إِلَى إِتْيَانِ الْمَنْهِيَّاتِ، لِأَنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذِ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. كَانَ التَّصْرِيحُ بِهِ بِخُصُوصِهِ اهْتِمَامًا بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ لِتَحْصُلَ حَقِيقَةُ التَّقْوَى الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ اجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ.
وَالْمُرَادُ: اسْمَعُوا الله، أَي أطيعوه بِالسَّمْعِ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَاعَتِهِ.
وَالْأَمْرُ بِالسَّمْعِ أَمْرٌ يَتَلَقَّى الشَّرِيعَةَ وَالْإِقْبَالَ عَلَى سَمَاعِ مواعظ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ وَسِيلَةُ التَّقْوَى قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: ١٧، ١٨].
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَأَطِيعُوا: أَيْ أَطِيعُوا مَا سَمِعْتُمْ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَعَطْفُ وَأَنْفِقُوا تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ تَشْتَمِلُ وَاجِبَ الْإِنْفَاقِ وَالْمَنْدُوبَ فَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ بِمَرْتَبَتِيهِ وَهَذَا مِنَ الاهتمام بالنزاهة عَن فِتْنَةِ الْمَالِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْله: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[التغابن: ١٥].
وَوَصْفُ الْقَرْضِ بِالْحَسَنِ يُفِيدُ الصَّدَقَةَ الْمُرَادَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالسَّالِمَةَ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَالْحُسْنُ مُتَفَاوِتٌ.
وَالْحَسَنُ فِي كُلِّ نَوْعٍ هُوَ مَا فِيهِ الصِّفَاتُ الْمَحْمُودَةُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فِي بَابِهِ، وَيُعْرَفُ الْمَحْمُودُ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ بِمَا وَصَفَهُ الْقُرْآنُ فِي حُسْنِ الصَّدَقَاتِ وَمَا وَرَدَ فِي كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٥] قَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَفِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [١٧] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ.
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً.
تَذْيِيلٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مِنْ خَيْرٍ يَعُمُّ جَمِيعَ فِعْلِ الْخَيْرِ.
وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ. تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْهُ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْمَحْذُوفِ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ.
وَمَا شَرْطِيَّةٌ. وَمَعْنَى تَقْدِيمِ الْخَيْرِ: فِعْلُهُ فِي الْحَيَاةِ، شُبِّهَ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ لِرَجَاءِ الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِهِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ بِتَقْدِيمِ الْعَازِمِ عَلَى السَّفَرِ ثَقَلَهُ وَأَدَوَاتِهِ وَبَعْضَ أَهْلِهِ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَرُومُ الِانْتِهَاءَ إِلَيْهِ لِيَجِدَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَقْتَ وُصُولِهِ.
ومِنْ خَيْرٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا الشَّرْطِيَّةِ.
وَالْخَيْرُ: هُوَ مَا وَصَفَهُ الدِّينُ بِالْحُسْنِ وَوَعَدَ عَلَى فِعْلِهِ بِالثَّوَابِ.
وَمعنى تَجِدُوهُ تَجدوا جَزَاءَهُ وَثَوَابَهُ، وَهُوَ الَّذِي قَصَدَهُ فَاعِلُهُ، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ نَفْسَ الَّذِي قَدَّمَهُ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ عِوَضِ الشَّيْءِ وَجَزَائِهِ بَاسْمِ الْمُعَوَّضِ عَنْهُ وَالْمُجَازَى بِهِ، وَمِنْهُ
قَوْلُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَكْنِزُ الْمَالَ وَلَا يُؤَدِّي حَقَّهُ «مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ»
. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي تَجِدُوهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ (تَجِدُوا) وَمَفْعُولُهُ الثَّانِي خَيْراً.
فَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ لِلتَّكَلُّفِ وَبِذْلِ الْجُهْدِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَيَجِيءُ بِهَا، فَيَشْمَلُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ.
أَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قَالَ:
مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ، وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ،
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قَالَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالِاهْتِمَامُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ.
وَقَدَّمَ التَّزَكِّيَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْعَمَلِ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّهُ إِذَا تَطَهَّرَتِ النَّفْسُ أَشْرَقَتْ فِيهَا أَنْوَارُ الْهِدَايَةِ فَعَلِمَتْ مَنَافِعَهَا وَأَكْثَرَتْ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا فَالتَّزْكِيَةُ:
الِارْتِيَاضُ عَلَى قَبُولِ الْخَيْرِ وَالْمُرَادُ تَزَكَّى بِالْإِيمَانِ.
وَفِعْلُ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ الَّذِي هُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ فَيَكُونُ كَلِمَةُ اسْمَ رَبِّهِ مُرَادًا بِهَا ذِكْرُ أَسمَاء الله بالتعظم مِثْلَ قَوْلِ لَا إِلَّا اللَّهُ، وَقَوْلِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَان اللَّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: ١].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ حُضُورُ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ الذَّاكِرَةِ وَالْمُفَكِّرَةِ فَتَكُونُ كَلِمَةُ اسْمَ مُقْحَمَةً لِتَدُلَّ عَلَى شَأْنِ اللَّهِ وَصِفَاتِ عَظَمَتِهِ فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَوْصَافُ كَمَالٍ.
وَتَفْرِيعُ فَصَلَّى عَلَى ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الذِّكْرَ بِمَعْنَيَيْهِ يَبْعَثُ الذَّاكِرَ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ خُضُوعٌ وَثَنَاءٌ.
وَقَدْ رُتِّبَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاث على الْآيَةِ عَلَى تَرْتِيبِ تَوَلُّدِهَا. فَأَصْلُهَا: إِزَالَةُ الْخَبَاثَةِ النَّفْسِيَّةِ مِنْ عَقَائِدَ بَاطِلَةٍ وَحَدِيثِ النَّفْسِ بِالْمُضْمِرَاتِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بقوله:
تَزَكَّى، ثمَّ استحضار معرفَة الله بِصِفَات كَمَاله وحكمته لَيَخَافهُ ويرجوه وَهُوَ الْمشَار
بقوله: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ثمَّ الإقبال على طَاعَته وعبادته وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَصَلَّى وَالصَّلَاةُ تُشِيرُ إِلَى الْعِبَادَةِ وَهِيَ فِي ذَاتِهَا طَاعَةٌ وَامْتِثَالٌ يَأْتِي بَعْدَهُ مَا يُشْرَعُ مِنَ الْأَعْمَالِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: ٤٥].


الصفحة التالية
Icon