وَ (مِنَ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنَ الثَّمَراتِ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ إِذْ لَيْسَ التَّبْعِيضُ مُنَاسِبًا لِمَقَامِ الِامْتِنَانِ بَلْ إِمَّا لِبَيَانِ الرِّزْقِ الْمُخْرَجِ، وَتَقْدِيمُ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَإِمَّا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ الْإِخْرَاجِ بِالثَّمَرَاتِ.
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أَتَتِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ وَ (لَا) نَاهِيَةٌ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ وَلَيْسَتْ نَافِيَةً حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلُ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مِنْ قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَالْمُرَادُ هُنَا تَسَبُّبُهُ الْخَاصُّ وَهُوَ حُصُولُهُ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِعِبَادَتِهِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْإِفْرَادِ بِهَا فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ ضِدِّ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ ضِدَّ الْعِبَادَةَ عَدَمُ الْعِبَادَةِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِشْرَاكُ لِلْمَعْبُودِ فِي الْعِبَادَةِ يُشْبِهُ تَرْكَ الْعِبَادَةِ جُعِلَ تَرْكُ الْإِشْرَاكِ مُسَاوِيًا لِنَقِيضِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ مَا هُوَ إِلَّا تَرْكٌ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فِي أَوْقَاتِ تَعْظِيمِ شُرَكَائِهِمْ.
وَالنِّدُّ بِكَسْرِ النُّونِ الْمُسَاوِي وَالْمُمَاثِلُ فِي أَمْرٍ مِنْ مَجْدٍ أَوْ حَرْبٍ، وَزَادَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ مُنَاوِئًا أَيْ مُعَادِيًا، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى اشْتِقَاقِهِ مِنْ نَدَّ إِذَا نَفَرَ وَعَانَدَ، وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ اسْمًا جَامِدًا وَأَظُنُّ أَنَّ وَجْهَ دَلَالَةِ النِّدِّ عَلَى الْمُنَاوَأَةِ وَالْمُضَادَّةِ أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْمُمَاثَلَةِ عُرْفًا عِنْد الْعَرَب، فَإِن شَأْنُ الْمِثْلِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُنَافِسَ مُمَاثِلَهُ وَيُزَاحِمَهُ فِي مُرَادِهِ فَتَحْصُلُ الْمُضَادَّةُ. وَنَظِيرُهُ فِي عَكْسِهِ تَسْمِيَتُهُمُ الْمُمَاثِلَ قَرِيعًا، فَإِنَّ الْقَرِيعَ هُوَ الَّذِي يُقَارِعُ وَيُضَارِبُ وَلَمَّا كَانَ أَحَدٌ لَا يَتَصَدَّى لِمُقَارَعَةِ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ لِخَشْيَتِهِ وَلَا مَنْ هُوَ دُونَهُ لِاحْتِقَارِهِ كَانَتِ الْمُقَارَعَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِلْمُمَاثِلَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ قِرْنٌ لِلْمُحَارِبِ الْمُكَافِئِ فِي الشَّجَاعَةِ. وَيُقَالُ جَعَلَ لَهُ نِدًّا، إِذَا سَوَّى غَيْرَهُ بِهِ.
وَالْمَعْنَى لَا تُثْبِتُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا تَجْعَلُونَهَا جَعْلًا وَهِيَ لَيْسَتْ أَنْدَادًا وَسَمَّاهَا أَنْدَادًا تَعْرِيضًا بِزَعْمِهِمْ لِأَنَّ حَالَ الْعَرَبِ فِي عِبَادَتِهِمْ لَهَا كَحَالِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهَا وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ إِنَّ الْآلِهَةَ شُفَعَاءُ وَيَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ، وَجَعَلُوا اللَّهَ خَالِقَ الْآلِهَةِ فَقَالُوا فِي التَّلْبِيَةِ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» لَكِنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوهَا وَنَسُوا بِعِبَادَتِهَا وَالسَّعْيِ إِلَيْهَا وَالنُّذُورِ عِنْدَهَا وَإِقَامَةِ الْمَوَاسِمِ حَوْلَهَا عِبَادَةَ اللَّهِ، أَصْبَحَ عَمَلُهُمْ
حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ اهـ يُرِيدُ أَنَّ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ وَالْجَوَابَيْنِ هُنَا تَوْزِيعًا فَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ. وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، وَلَعَلَّ فِي إِعَادَةِ وَأُولئِكَ إِيذَانًا بِأَنَّهُ جَوَابٌ ثَانٍ، وَفِي إِطْلَاقِ الْآيِ الْأُخْرَى عَنِ التَّقْيِيدِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ قَرِينَةٌ عَلَى قَصْدِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْقَيْدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِلْغَاءٌ لِقَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَعَلَّ نَظَرَ مَالِكٍ فِي إِلْغَاءِ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ تَرْجِعُ إِلَى أُصُولِ الدِّينِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، فَإِذَا كَانَ
الدَّلِيلُ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، وَغَالِبُ أَدِلَّةِ الْفُرُوعِ ظَنِّيَّةٌ، فَأَمَّا فِي أُصُولِ الِاعْتِقَادِ فَأُخِذَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ صَرِيحُ حُكْمِهَا، وَلِلنَّظَرِ فِي هَذَا مَجَالٌ، لِأَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ رَاجِعٌ إِلَى شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعِهِ كَالْحَجِّ.
وَالْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ إِعْمَالُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا ذَكَرَهُ الْفَخْرُ وَصَوَّبَهُ ابْنُ الْفَرَسِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
فَإِنْ قُلْتَ فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَرِّرُهُ الْإِسْلَامُ فَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «أَسَلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَمْتَ عَلَيْهِ مَنْ خَيْرٍ»
، فَهَلْ يَكُونُ الْمُرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ أَقَلَّ حَالًا مَنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَةَ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ حَالَةُ خُلُوٍّ عَنِ الشَّرِيعَةِ فَكَانَ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ تَقْرِيرُهَا.
وَقَدْ بُنِيَ عَلَى هَذَا خِلَافٌ فِي بَقَاءِ حُكْمِ الصُّحْبَةِ لِلَّذِينَ ارْتَدُّوا بَعْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ مِثْلَ قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْعَامِرِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَعَمْرو بن معديكرب، وَفِي «شَرْحِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا عَلَى أَلْفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّ» :
وَفِي دُخُولِ مَنْ لَقِيَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ فِي الصَّحَابَةِ نَظَرٌ كَبِيرٌ اهـ قَالَ حُلولو فِي «شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ» وَلَوِ ارْتَدَّ الصَّحَابِيُّ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ وَفَاتِهِ جَرَى ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الرِّدَّةِ، هَلْ تُحْبِطُ الْعَمَلَ بِنَفْسِ وُقُوعِهَا أَوْ إِنَّمَا تُحْبِطُهُ بِشَرْطِ الْوَفَاةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ صُحْبَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، أَمَّا قَبُولُ رِوَايَتِهِ بَعْدَ عَوْدَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَفِيهَا نَظَرٌ،
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَهُمُ الْأَمْنُ عَطْفُ جُزْءِ جُمْلَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ، فَيَكُونُ مُهْتَدُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ عَلَى إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَكَرِّرَةِ.
وَالضَّمِيرُ لِلْفَصْلِ لِيُفِيدَ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيِ الِاهْتِدَاءُ مَقْصُورٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَيْ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسُوا بِمُهْتَدِينَ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٥٥] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: ١٠٤]. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ لَمَّا نَبَذُوا الشِّرْكَ فَقَدِ اهْتَدَوْا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ جُمْلَةً، بِأَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ مُبْتَدَأً ومُهْتَدُونَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ، فَيَكُونُ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَجْلِ حُسْنِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ:
أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ومهتدون فَصِيَغُ الْمَعْطُوفِ فِي صُورَةِ الْجُمْلَةِ. وَحِينَئِذٍ فَالضَّمِيرُ لَا يُفِيدُ اخْتِصَاصًا إِذْ لَمْ يُؤْتَ بِهِ لِلْفَصْلِ، وَهَذَا النَّظْمُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن: ١] وَقَوْلِهِ: تَعَالَى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْحَدِيد: ٢] عَلَى اعْتِبَارِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَطْفًا عَلَى لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا حَالٌ، وَهَذَا مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْوَصْلِ كَمَا عُرِفَ فِي الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ مِنْ بَدَائِعِ نَظْمِ الْكَلَام الْعَرَبِيّ.
[٨٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٨٣]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَحاجَّهُ قَوْمُهُ [الْأَنْعَام: ٨٠]. وتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ فِي مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، وَأُتِيَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حُجَّةٌ فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِحُجَّةٍ فَلَمَّا لم يكن ثمّة مُشَارٌ إِلَيْهِ مَحْسُوسٌ تَعَيَّنَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْإِشَارَةِ لَفْظُ الْخَبَرِ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْبَقَرَة: ٢٥٣].
الْعِقَابَ سَبَبًا فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ مَكْرُمَةٌ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجُودَهُ فِي مَكَانٍ مَانِعًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى أَهْلِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَارٌ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ فِيمَا مَضَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَتْ فِرْقَةٌ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا بِمَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى نَزَلَ قَوْلُهُ:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ بِمَكَّةَ إِثْرَ قَوْلهم: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ:
وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٣٤] بَعْدَ بَدْرٍ.
وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ بِهَذَا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاجْتِلَابِ ضَمِيرِ خِطَابِهِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتَ فِيهِمْ لَطِيفَةٌ مِنَ التَّكْرِمَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَفِيهِمْ رَسُولُهُ، كَمَا قَالَ:
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمرَان: ١٠١].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ نَظْمُهَا، وَحَمَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى تَفْكِيكِ الضَّمَائِرِ فَجَعَلَ ضَمَائِرَ الْغَيْبَة من لِيُعَذِّبَهُمْ، وفِيهِمْ ومُعَذِّبَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ ضَمِيرَ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ عَائِدًا إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَسْتَغْفِرُونَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا الْمُسْلِمُونَ وَعَلَى تَأْوِيلِ الْإِسْنَادِ فَإِنَّهُ إِسْنَادُ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ حَلَّ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنَ الشِّرْكِ.
فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ انْتُهِزَتْ بِهَا فُرْصَةُ التَّهْدِيدِ بِتَعْقِيبِهِ بِتَرْغِيبٍ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ، فَبَعْدَ أَنْ هَدَّدَ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ ذَكَّرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْ رَبِّهِمْ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَيُصَدِّقُوا رَسُولَهُ، فَهُوَ وَعْدٌ بِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الشِّرْكِ تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَتَكُونُ لَهُمْ أَمْنًا وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ، إِذْ مِنَ الْبَيِّنِ أَنْ لَيْسَ المُرَاد ب يَسْتَغْفِرُونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: غُفْرَانَكَ اللَّهُمَّ وَنَحْوَهُ، إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالِاسْتِغْفَارِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلُ يُخَالِفُهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ تَحْرِيضًا وَذَلِكَ
فِي الِاسْتِغْفَارِ وَتَلْقِيَنًا لِلتَّوْبَةِ زِيَادَةً فِي الْإِعْذَارِ لَهُمْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النِّسَاء: ١٤٧] وَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: ٣٨].
وَالتَّفْضِيلُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ تَفْضِيلٌ عَلَى عِلْمِ غَيْرِهِ بِذَلِكَ. فَإِنَّهُ عِلْمٌ مُتَفَاوِتٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْعَالِمِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ.
وَفِي هَذَا التَّفْضِيلِ إِيمَاءٌ إِلَى وُجُوبِ طَلَبِ كَمَالِ الْعِلْمِ بِالْهُدَى، وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَغَوْصِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ، وَتَجَنُّبِ التَّسَرُّعِ فِي الْحُكْمِ دُونَ قُوَّةِ ظَنٍّ بِالْحَقِّ، وَالْحَذَرِ مِنْ تَغَلُّبِ تَيَّارَاتِ الْأَهْوَاءِ حَتَّى لَا تَنْعَكِسَ الْحَقَائِقُ وَلَا تَسِيرَ الْعُقُولُ فِي بِنْيَاتِ الطَّرَائِقِ، فَإِنَّ الْحَقَّ بَاقٍ عَلَى الزَّمَانِ وَالْبَاطِلُ تُكَذِّبُهُ الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ.
وَالتَّخَلُّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَقُومُ مَقَامًا مِنْ مَقَامَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سِيَاسَتِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ سَالِكًا لِلطَّرَائِقِ الثَّلَاثِ: الْحِكْمَةُ، وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْمُجَادَلَةُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَإِلَّا كَانَ مُنْصَرِفًا عَنِ الْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرَ خَلِيقٍ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَأَنْ يَخْشَى أَنْ يُعَرِّضَ مَصَالِحَ الْأُمَّةِ لِلتَّلَفِ، فَإِصْلَاحُ الْأُمَّةِ يَتَطَلَّبُ إِبْلَاغَ الْحَقِّ إِلَيْهَا بِهَذِهِ الْوَسَائِلِ الثَّلَاثِ. وَالْمُجْتَمَعُ الإسلامي لَا يَخْلُو عَنْ مُتَعَنِّتٍ أَوْ
مُلَبِّسٍ وَكِلَاهُمَا يُلْقِي فِي طَرِيق المصلحين شواك الشُّبَهِ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ. فَسَبِيلُ تَقْوِيمِهِ هُوَ الْمُجَادَلَةُ، فَتِلْكَ أَدْنَى لِإِقْنَاعِهِ وَكَشْفِ قِنَاعِهِ.
فِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا فِي آخِرِ عُمْرِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا» وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى. (لَعَلَّهُ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى الْمُمْسِكَةِ السَّيْفَ أَوِ الْعَصَا فِي حَالِ الْخُطْبَةِ). وَهَذَا الضَّرْبُ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ مَا ذَكَرَ مَطْلَبٌ لِلنَّاسِ فِي حُكْمٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ بَيَانٌ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَقَدَّمَ ذِكْرَ عِلْمَهُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ عَلَى ذِكْرِ عِلْمِهِ بِالْمُهْتَدِينَ لِأَنَّ الْمَقَامَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِلضَّالِّينَ، وَلِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَالْوَعِيدُ مُقَدَّمٌ على الْوَعْد.
وَمَعْنَى وَخَيْرٌ أَمَلًا أَنَّ أَمَلَ الْآمِلِ فِي الْمَالِ وَالْبَنِينَ إِنَّمَا يَأْمُلُ حُصُولَ أَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِي حُصُولِهِ وَمَقْصُورٍ عَلَى مُدَّتِهِ. وَأَمَّا الْآمِلُ لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهُوَ يَأْمُلُ حُصُولَ أَمْرٍ مَوْعُودٍ بِهِ مِنْ صَادِقِ الْوَعْدِ، وَيَأْمُلُ شَيْئًا تَحْصُلُ مِنْهُ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا وَمَنْفَعَةُ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧]. فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ: وَخَيْرٌ أَمَلًا بِالتَّحَقُّقِ وَالْعُمُومِ تَذْيِيلًا لما قبله.
[٤٧، ٤٨]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٤٧ إِلَى ٤٨]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: ٤٥]. فَلَفْظُ (يَوْمَ) مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، كَمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِي أَمْثَالِهِ. فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ تَعَرُّضَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمٍ إِلَى الزَّوَالِ عَلَى وَجْهِ الْمَوْعِظَةِ، أَعْقَبَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ الزَّوَالِ بِتَصْوِيرِ حَالِ الْبَعْثِ وَمَا يَتَرَقَّبُهُمْ فِيهِ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ لِضِدِّهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ [الْكَهْف: ٤٦].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ غَيْرِ فِعْلِ (اذْكُرْ) يَدُلُّ عَلَيْهِ مَقَامُ الْوَعِيدِ مِثْلَ: يَرَوْنَ أَمْرًا مُفْظِعًا أَوْ عَظِيمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَذْهَبُ إِلَى تَقْدِيرِهِ نَفْسُ السَّامِعِ. وَيُقَدَّرُ الْمَحْذُوفُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الظَّرْفِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ الْيَوْمِ وَمَا فِيهِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ عِنْد قَوْله: قَدْ جِئْتُمُونا
إِذْ لَا يُنَاسِبُ مَوْقِعَ عَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَا وَجْهَ مَعَهُ لِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ.

[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٢٨]

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨)
تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ [طه: ١٢٧]. جَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ التَّعْجِيبِيَّ مُفَرَّعًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْجَزَاءِ بِالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، تَعْجِيبًا مَنْ حَالِ غَفْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كُتُبِ
اللَّهِ وَآيَاتِ الرُّسُلِ.
فَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْرُوفٍ مِنْ مَقَامِ التَّعْرِيضِ بِالتَّحْذِيرِ وَالْإِنْذَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا لِقَوْمٍ أَحْيَاءٍ يَوْمَئِذٍ.
وَالْهِدَايَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ بِتَنْزِيلِ الْعَقْلِيِّ منزلَة الحسيّ، فيؤول مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى التَّبْيِينِ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ فِعْلُهَا بِاللَّامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٠٠].
وَجُمْلَةُ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ مُعَلِّقَةُ فِعْلِ يَهْدِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ لِوُجُودِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا، أَيْ أَلَمْ يُرْشِدْهُمْ إِلَى جَوَابٍ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أَيْ كَثْرَةُ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ. وَفَاعِلُ يَهْدِ ضَمِيرٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَهُوَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعْنَى: أَفَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ لَهُمْ جَوَابَ كَمْ أَهْلَكْنا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا.
وَالْمَعْنَى: أَفَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ هَذَا السُّؤَالَ، عَلَى أَنَّ مَفْعُولَ يَهْدِ مَحْذُوفٌ تَنْزِيلًا لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ يَحْصُلُ لَهُمُ التَّبْيِينُ.
وَجُمْلَةُ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّبْيِينِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَشَدُّ غَرَابَةً وَأَحْرَى بِالتَّعْجِيبِ.
أَنَّ سَبَبَ انْتِفَاءِ النَّصِيرِ لَهُمْ هُوَ ظُلْمُهُمْ، أَيْ كُفْرُهُمْ. وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ ذَهَابَ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ بَاطِلًا لِأَنَّهُمْ عَبَدُوهَا رَجَاءَ النَّصْرِ. وَيُفِيدُ بِعُمُومِهِ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْصُرُهُمْ فَأَغْنَى عَنْ مَوْصُولٍ ثَالِثٍ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَصْنَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا لَا يَنْصُرُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ [الْأَعْرَاف: ١٩٧].
[٧٢]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٧٢]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [الْحَج: ٧١] لِبَيَانِ
جُرْمٍ آخَرَ مِنْ أَجْرَامِهِمْ مَعَ جُرْمِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ جُرْمُ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ.
وَالْآيَاتُ هِيَ الْقُرْآنُ لَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ لِقَوْلِهِ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ.
وَالْمُنْكَرُ: إِمَّا الشَّيْءُ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْأَنْظَارُ وَالنُّفُوسُ فَيَكُونُ هُنَا اسْمًا، أَيْ دَلَائِلُ كَرَاهِيَتِهِمْ وَغَضَبِهِمْ وَعَزْمِهِمْ عَلَى السُّوءِ، وَإِمَّا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ كَالْمُكْرَمِ بِمَعْنَى الْإِكْرَام. والمحملان آئلان إِلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَلُوحُ عَلَى وُجُوهِهِمُ الغيظ وَالْغَضَب عِنْد مَا يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ وَيُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ امْتِلَاءِ نُفُوسِهِمْ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْغَيْظِ حَتَّى تَجَاوَزَ أَثَره بواطنهم فَظهر عَلَى وُجُوهِهِمْ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: ٢٤] كِنَايَةً عَنْ وَفْرَةِ نَعِيمِهِمْ وَفَرْطِ مَسَرَّتِهِمْ بِهِ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ عُدِلَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِنَحْوِ: اشْتَدَّ غَيْظُهُمْ، أَوْ يَكَادُونَ يَتَمَيَّزُونَ غَيْظًا، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [النَّحْل: ٢٢].
ذَلِكَ وَصْفَ دَاخِلِ جَهَنَّمَ وَوَصْفَ وَضْعِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: مَكاناً ضَيِّقاً وَقَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ تَفَنُّنًا فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ.
وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ. وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِهَانَةِ.
وَانْتَصَبَ مَكاناً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضَيِّقاً بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ضَيِّقاً بِسُكُونِ الْيَاءِ وَكِلَاهُمَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ مِثْلُ: مَيِّتٍ وَمَيْتٍ، لِأَنَّ الضَّيِّقَ بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ، وَالضَّيْقَ بِالسُّكُونِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ.
ومُقَرَّنِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أُلْقُوا أَيْ مُقَرَّنًا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ كَحَالِ الْأَسْرَى وَالْمَسَاجِينِ أَنْ يُقْرَنَ عَدَدٌ مِنْهُمْ فِي وِثَاقٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص: ٣٨]. وَالْمُقَرَّنُ: الْمَقْرُونُ، صِيغَتْ لَهُ مَادَّةُ التَّفْعِيلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ الْقَرْنِ.
وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ بِأَعْلَى الصَّوْتِ، وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ، أَيْ نَادَوْا: يَا ثبورنا، أَو وَا ثبوراه بِصِيغَةِ النُّدْبَةِ، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالنِّدَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَنِّي، أَيْ تَمَنَّوْا حُلُولَ الْهَلَاكِ فَنَادَوْهُ كَمَا يُنَادَى مَنْ يُطْلَبُ حُضُورُهُ، أَوْ نَدَبُوهُ كَمَا يُنْدَبُ مَنْ يُتَحَسَّرُ عَلَى فَقْدِهِ، أَيْ تَمَنَّوُا الْهَلَاكَ لِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ فَظِيعِ الْعَذَابِ.
وَجُمْلَةُ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً إِلَى آخِرِهَا مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ، وَوصف الثبور با لكثير إِمَّا لِكَثْرَةِ نِدَائِهِ بِالتَّكْرِيرِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ الثُّبُورِ لِأَنَّ انْتِهَاءَ النِّدَاءِ يَكُونُ بِحُضُورِ الْمُنَادَى، أَوْ هُوَ يَأْسٌ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ التَّمَنِّي أَو التحسر.
[١٥، ١٦]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً
حَالُهُمْ حَالَ النفور من قبُول دَعْوَةِ النَّصَارَى إِيَّاهُمْ إِلَى دِينِهِمْ أَوْ مِنَ الِاتِّعَاظِ بِمَوَاعِظِ الْيَهُودِ فِي تَقْبِيحِ الشِّرْكِ فَأَقْسَمُوا ذَلِكَ الْقَسَمَ تَفَصِّيًا مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وَبَاعِثُهُمْ عَلَيْهِ النُّفُورُ مِنْ مُفَارَقَةِ الشِّرْكِ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ مَا زَادَهُمْ شَيْئًا وَإِنَّمَا زَادَهُمْ نُفُورًا، فَالزِّيَادَةُ بِمَعْنَى التَّغْيِيرِ وَالِاسْتِثْنَاءِ تَأْكِيدٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدّه. والنفور هم نُفُورُهُمُ السَّابِقُ، فَالْمَعْنَى لَمْ يَزِدْهُمْ شَيْئًا وَحَالُهُمْ هِيَ هِيَ.
وَضَمِيرُ زادَهُمْ عَائِدٌ إِلَى رَسُولٍ أَوْ إِلَى الْمَجِيءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ جاءَهُمْ. وَإِسْنَادُ الزِّيَادَةِ إِلَيْهِ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الرَّسُولَ أَوْ مَجِيئَهُ لَيْسَ هُوَ يَزِيَدُهُمْ وَلَكِنَّهُ سَبَبُ تَقْوِيَةِ نُفُورِهِمْ أَوِ اسْتِمْرَارِ نُفُورِهِمْ.
واسْتِكْباراً بَدَلُ اشْتِمَالِ مِنْ نُفُوراً أَوْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ النُّفُورَ فِي مَعْنَى
الْفِعْلِ فَصَحَّ إِعْمَالُهُ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: نَفَرُوا لِأَجْلِ الِاسْتِكْبَارِ فِي الْأَرْضِ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ.
وَالْأَرْضُ: مَوْطِنُ الْقَوْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا [الْأَعْرَاف: ٨٨] أَيْ بَلَدِنَا، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا فِي قَوْمِهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ.
وَمَكْرَ السَّيِّئِ عُطِفَ عَلَى اسْتِكْباراً بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَإِضَافَةُ مَكْرَ إِلَى السَّيِّئِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مِثْلُ: عِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَأَصْلُهُ: أَنْ يَمْكُرُوا الْمَكْر السيّء بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
وَالْمَكْرُ: إِخْفَاءُ الْأَذَى وَهُوَ سيّىء لِأَنَّهُ مِنَ الْغَدْرِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْخُلُقِ الْكَرِيمِ، فَوَصْفُهُ بِالسَّيِّئِ وَصْفٌ كَاشِفٌ، وَلَعَلَّ التَّنْبِيهَ إِلَى أَنَّهُ وَصْفٌ كَاشِفٌ هُوَ مُقْتَضَى إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الْوَصْفِ لِإِظْهَارِ مُلَازَمَةِ الْوَصْفِ لِلْمَوْصُوفِ فَلَمْ يَقُلْ: وَمَكْرًا سَيِّئًا (وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْمَكْرِ إِلَّا فِي الْحَرْبِ لِأَنَّهَا مَدْخُولٌ فِيهَا عَلَى مِثْلِهِ) أَيْ مَكْرًا بِالنَّذِيرِ وَأَتْبَاعِهِ وَهُوَ مَكْرٌ ذَمِيمٌ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْمُتَسَبِّبِ فِي صَلَاحِهِمْ بِإِضْمَارِ ضُرِّهِ.
الثَّالِثُ: طَوْرُ الْمُضْغَةِ وَهِيَ قِطْعَةٌ حَمْرَاءُ فِي حَجْمِ النَّحْلَةِ.
الرَّابِعُ: عِنْدَ اسْتِكْمَالِ شَهْرَيْنِ يَصِيرُ طوله ثَلَاثَة سانتميتر وَحَجْمُ رَأْسِهِ بِمِقْدَارِ نِصْفِ بَقِيَّتِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ عُنُقُهُ وَلَا وَجْهُهُ وَيَسْتَمِرُّ احْمِرَارُهُ.
الْخَامِسُ: فِي الشَّهْرِ الثَّالثِ يَكُونُ طُولُهُ خَمْسَة عشر سانتيميترا وَوَزْنُهُ مِائَةُ غِرَامٍ وَيَبْدُو رَسْمُ جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ وَحَوَاجِبِهِ وَأَظَافِرِهِ وَيَسْتَمِرُّ احْمِرَارُ جِلْدِهِ.
السَّادِسُ: فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ يَصِيرُ طوله عشْرين سانتيميترا وَوَزْنُهُ (٢٤٠) غِرَامَاتِ، وَيَظْهَرُ فِي الرَّأْسِ زَغَبٌ وَتَزِيدُ أَعْضَاؤُهُ الْبَطْنِيَّةُ عَلَى أَعْضَائِهِ الصَّدْرِيَّةِ وَتَتَّضِحُ أَظَافِرُهُ فِي أَوَاخِرَ ذَلِكَ الشَّهْرِ.
السَّابِعُ: فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ يَصِيرُ طُولُهُ نَحْو ثَلَاثِينَ صنتيمترا وَوَزْنُهُ خَمْسُمِائَةِ غِرَامٍ وَيَظْهَرُ فِيهِ مُطْبِقًا وَتَتَصَلَّبُ أَظَافِرُهُ.
الثَّامِنُ: فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ يَصِيرُ طُولُهُ ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ صنتيمترا ويقلّ احمرارا جِلْدِهِ وَيَتَكَاثَفُ جِلْدُهُ وَتَظْهَرُ عَلَى الْجِلْدِ مَادَّةٌ دُهْنِيَّةٌ دَسِمَةٌ مُلْتَصِقَةٌ، وَيَطُولُ شَعْرُ رَأْسِهِ وَيَمِيلُ إِلَى الشُّقْرَةِ وَتَتَقَبَّبُ جُمْجُمَتُهُ مِنَ الْوَسَطِ.
التَّاسِعُ: فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ يَزِيدُ غِلَظُهُ أَكْثَرَ مِنِ ازْدِيَادِ طُولِهِ وَيَكُونُ طُولُهُ نَحْو أَرْبَعِينَ
صنتيمترا، وَوَزْنُهُ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَرْطَالٍ أَوْ تَزِيدُ، وَتَقْوَى حَرَكَتُهُ.
الْعَاشِرُ: فِي الشَّهْرِ التَّاسِعِ يَصِيرُ طُولُهُ مِنْ خَمْسِينَ إِلَى سِتِّينَ صنتيمترا وَوَزْنُهُ مِنْ سِتَّةٍ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ. وَيَتِمُّ عَظْمُهُ، وَيَتَضَخَّمُ رَأْسُهُ، وَيُكَثُفُ شَعْرُهُ، وَتَبْتَدِئُ فِيهِ وَظَائِفُ الْحَيَاةِ فِي الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ وَالرِّئَةِ وَالْقَلْبِ، وَيَصِيرُ نَمَاؤُهُ بِالْغِذَاءِ، وَتَظْهَرُ دَوْرَةُ الدَّمِ فِيهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالدَّوْرَةِ الْجَنِينِيَّةِ.
و (الظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ) : ظُلْمَةُ بَطْنِ الْأُمِّ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ، وَهِيَ غِشَاءٌ مِنْ جَلْدٍ يُخْلَقُ مَعَ الْجَنِينِ مُحِيطًا بِهِ لِيَقِيَهُ وَلِيَكُونَ بِهِ اسْتِقْلَالُهُ مِمَّا يَنْجَرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ فِي دَوْرَتِهِ الدَّمَوِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهِ دُونَ أُمِّهِ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ وَنُفُوذِ قُدْرَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَشَدِّ مَا تَكُونُ فِيهِ مِنَ الْخَفَاءِ.
عَنْهُمْ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٠].
وَمَا كَسَبُوا: أَمْوَالُهُمْ. وشَيْئاً مَنْصُوبٌ على المفعولية الْمُطلقَة، أَيْ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ لِأَنَّ شَيْئاً مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْعَالِيَةِ فَهُوَ مُفَسَّرٌ بِمَا وَقَعَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ وَلَوْ قَلِيلًا مِنْ جَهَنَّمَ، أَيْ عَذَابِهَا.
وَلا مَا اتَّخَذُوا عُطِفَ عَلَى مَا كَسَبُوا وَأُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ لِلتَّأْكِيدِ، وأَوْلِياءَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ اتَّخَذُوا. وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ ضَمِيرُهُمْ لِوُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ فَإِنَّ حَذْفَ مِثْلِهِ فِي الصِّلَةِ كَثِيرٌ.
وَأُرْدِفَ عَذابٌ مُهِينٌ بِعَطْفِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لِإِفَادَةِ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، فَالْعَذَابُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ غَيْرُ الْعَذَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.
[١١]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : آيَة ١١]
هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)
جُمْلَةُ هَذَا هُدىً اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ بِأَنَّهُ مَنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ إِلَى وَصْفِهِ بِأَفْضَلِ صِفَاتِهِ بِأَنَّهُ هُدًى، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ فِي حَالِ النُّزُولِ وَالتِّلَاوَةِ فَهُوَ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنْ أَوْصَافِهِ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية: ٢] وَقَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ [الجاثية: ٦] إِلَى آخِرِهِ مَا صَيَّرَهُ مُتَمَيِّزًا شَخْصًا بِحُسْنِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. وَوَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ هُدىً مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: هَادٍ لِلنَّاسِ، فَمَنْ آمَنَ فَقَدِ اهْتَدَى وَمَنْ كَفَرَ بِهِ فَلَهُ عَذَابٌ لِأَنَّهُ حَرَمَ نَفْسَهُ مِنَ الْهُدَى فَكَانَ فِي الضَّلَالِ وَارْتَبَقَ فِي الْمَفَاسِدِ وَالْآثَامِ.
الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَذْفِ التَّخْفِيفِ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.
اللَّهِ، تَشْبِيهًا لِتِلْكَ الْمُطَابَقَةِ بِاتِّحَادِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: ١٨، ١٩] وَهَذَا أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ
الْمَجَازِ فِي إِسْنَادِ الْوَصْفِ بِالْكَوْنِ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ إِلَى قُرْآنٍ كَرِيمٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْمَجَازِ وَصْفُ مُمَاثِلِ الْقُرْآنِ وَمُطَابِقِهِ لِأَنَّ الْمُمَاثِلَ مُلَابِسٌ لِمُمَاثِلِهِ.
وَاسْتُعِيرَ الْكِتَابُ لِلْأَمْرِ الثَّابِتِ الْمُحَقَّقِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، فَالْتَأَمَ مِنِ اسْتِعَارَةِ الظَّرْفِيَّةِ لِمَعْنَى الْمُطَابَقَةِ، وَمِنِ اسْتِعَارَةِ الْكِتَابِ لِلثَّابِتِ الْمُحَقَّقِ مَعْنَى مُوَافَقَةِ مَعَانِي هَذَا الْقُرْآنِ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُتَعَلِّقِ عِلْمِهِ وَمُتَعَلِّقِ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمُوَافَقَةِ أَلْفَاظِهِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِخَلْقِهِ مِنَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ قَوْلُ بِشْرِ بن أبي حَازِم أَوْ الطِّرِمَّاحِ:
وَجَدْنَا فِي كِتَابِ بَنِي تَمِيمٍ أَحَقَّ الْخَيْلِ بِالرَّكْضِ الْمُعَارِ
وَلَيْسَ لِبَنِي تَمِيمٍ كِتَابٌ وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ الْكِتَابَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ كِتابٍ.
والْمُطَهَّرُونَ: الْمَلَائِكَةُ، وَالْمُرَادُ الطَّهَارَةُ النَّفْسَانِيَّةُ وَهِيَ الزَّكَاءُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَفِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي عَبَسَ وَتَوَلَّى [١١- ١٦] قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ اه. يُرِيدُ أَنَّ الْمُطَهَّرُونَ هُمُ السَّفَرَةُ الْكِرَامُ الْبَرَرَةُ وَلَيْسُوا النَّاسَ الَّذِينَ يَتَطَهَّرُونَ.
وَمَعْنَى الْمَسِّ: الْأَخْذِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَسَّ مِنْ طِيبَةٍ»
، أَيْ أَخَذَ. وَيُطْلَقُ الْمَسُّ عَلَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُطَالَعَةِ قَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ الْكِلَابِيُّ:
مَسِسْنَا مِنَ الْآبَاءِ شَيْئًا فَكُلُّنَا إِلَى حَسَبٍ فِي قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعٍ
قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَيْتِ مِنَ «الْحَمَاسَةِ» :«مَسِسْنَا» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
وَ (كَأَيِّنْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ.
وَجُمْلَةُ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِ كَأَيِّنْ.
وَالْمَعْنَى: الْإِخْبَارُ بِكَثْرَةِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَحاسَبْناها فَالْمُفَرَّعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ: أَهْلُهَا عَلَى حد قَوْله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يُوسُف: ٨٢] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِذْ جِيءَ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ.
وَإِنَّمَا أُوثِرَ لَفْظُ الْقَرْيَةِ هُنَا دُونَ الْأُمَّةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ فِي اجْتِلَابِ هَذَا اللَّفْظِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمُشَايَعَةً لَهُمْ بِالنَّذَارَةِ وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ أَهْلِ الْقُرَى فِي التَّذْكِيرِ بِعَذَابِ اللَّهِ فِي نَحْوِ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَعْرَاف: ٤].
وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِهِمْ وَمَحْقِ عَدِوِّهِمْ.
وَالْعُتُوُّ وَيُقَالُ الْعُتِيُّ: تَجَاوَزُ الْحَدِّ فِي الِاسْتِكْبَارِ وَالْعِنَادِ. وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ عَنْ.
وَالْمُحَاسِبَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا يُنَاسِبُ شِدَّتَهُ مِنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ، تَشْبِيهًا لِتَقْدِيرِ الْجَزَاءِ بِإِجْرَاءِ الْحِسَابِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، وَهُوَ الْحِسَابُ فِي الدُّنْيَا، وَلذَلِك جَاءَ
فَحاسَبْناها، وعَذَّبْناها بِصِيغَةِ الْمَاضِي.
وَالْمَعْنَى: فَجَازَيْنَاهَا عَلَى عتوّها جَزَاء يكافىء طُغْيَانَهَا.
وَالْعَذَابُ النُّكُرُ: هُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بِالْغَرَقِ، وَالْخَسْفِ، وَالرَّجْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَعَطْفُ الْعَذَابِ عَلَى الْحِسَابِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ غَيْرُهُ، فَالْحِسَابُ فِيمَا لَقُوهُ قَبْلَ الِاسْتِئْصَالِ مِنَ الْمُخَوِّفَاتِ وَأَشْرَاطِ الْإِنْذَارِ مِثْلَ الْقَحْطِ وَالْوَبَاءِ وَالْعَذَابِ هُوَ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْحِسَابَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيُرَادَ بِهِ حِسَابُ الْآخِرَةِ. وَشِدَّتُهُ قُوَّةُ الْمُنَاقَشَةِ فِيهِ وَالِانْتِهَارُ عَلَى كُلِّ سَيِّئَةٍ يُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا.
هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ.
جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تَقْوِيَةً لِلتَّعْرِيضِ بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّذَكُّرِ وَالتَّذَكُّرُ يُفْضِي إِلَى التَّقْوَى.
فَالْمَعْنَى: فَعَلَيْكُمْ بِالتَّذَكُّرِ وَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ أهل للتقوى.
وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى يُفِيدُ قَصْرَ مُسْتَحِقِّ اتِّقَاءِ الْعِبَادِ إِيَّاهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّقَى. وَيُتَجَنَّبَ غَضَبُهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَاب: ٣٧].
فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ غَضَبَ الْأَصْنَامِ وَيَطْلُبُونَ رِضَاهَا أَوْ يَكُونَ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِتَخْصِيصِهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى الْكَامِلَةِ الْحَقَّ وَإِلَّا فَإِنَّ بَعْضَ التَّقْوَى مَأْمُورٌ بِهَا كَتَقْوَى حُقُوقِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النِّسَاء: ١] وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ مِنَ التَّقْوَى فِي الشَّرِيعَةِ رَاجِعٌ إِلَى تَقْوَى اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ مُتَمِّمَاتِ الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ.
وَأَهْلُ الشَّيْءِ: مُسْتَحِقُّهُ.
وَأَصْلُهُ: أَنَّهُ مُلَازِمُ الشَّيْءِ وَخَاصَّتُهُ وَقَرَابَتُهُ وَزَوْجُهُ وَمِنْهُ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [هود: ٨١].
وَمَعْنَى أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ: أَنَّ الْمَغْفِرَةَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَغْفِرَ لِفَرْطِ رَحْمَتِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَمِنْهُ بَيْتُ «الْكَشَّافِ» فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ:
أَلَا يَا ارْحَمُونِي يَا إِلَهَ مُحَمَّدٍ فَإِنْ لَمْ أَكُنْ أَهْلًا فَأَنْتَ لَهُ أَهْلُ
وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّحْرِيضِ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا أَسْلَفُوهُ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَال: ٣٨]، وَبِالتَّحْرِيضِ لِلْعُصَاةِ أَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الذُّنُوبِ قَالَ تَعَالَى قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٥٣].
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتْقَى فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي
وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ تَحَاضُّونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا مُضَارِعُ حَاضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَصْلُهُ تَتَحَاضُّونُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا للتَّخْفِيف أَي تتمالؤون عَلَى تَرْكِ الْحَضِّ عَلَى الْإِطْعَامِ.
والتُّراثَ: الْمَالُ الْمَوْرُوثُ، أَيِ الَّذِي يُخْلِفُهُ الرَّجُلُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَارِثِهِ وَأَصْلُهُ:
وُرَاثٌ بِوَاوٍ فِي أَوَّلِهِ بِوَزْنِ فُعَالٍ مِنْ مَادَّةِ وَرِثَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ الدُّقَاقِ، وَالْحُطَامِ، أُبْدِلَتْ وَاوُهُ تَاءً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا فَعَلُوا فِي تُجَاهَ، وَتُخَمَةٍ، وَتُهْمَةٍ، وَتُقَاةٍ وَأَشْبَاهِهَا.
وَالْأَكْلُ: مُسْتَعَارٌ لِلِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ انْتِفَاعًا لَا يُبْقِي مِنْهُ شَيْئًا. وَأَحْسِبُ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ إِذْ لَمْ أَقِفْ عَلَى مِثْلِهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَتَعْرِيفُ التُّرَاثِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ تُرَاثُ الْيَتَامَى وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مِنْ أَمْوَالِ مُوَرِّثِيهِمْ.
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: تَأْكُلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ التُّرَاثُ الَّذِي لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، وَمِنْهُ يَظْهَرُ وَجْهُ إِيثَارِ لَفْظِ التُّرَاثِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَتَأْكُلُونَ الْمَالَ لِأَنَّ التُّرَاثَ مَالٌ مَاتَ صَاحِبُهُ وَأَكْلُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ الْمَالَ عَاجِزٌ عَنِ الذَّبِّ عَنْ مَالِهِ لِصِغَرٍ أَوْ أُنُوثَةٍ.
وَاللَّمُّ: الْجَمْعُ، وَوَصْفُ الْأَكْلِ بِهِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ أَكْلًا جَامِعًا مَالَ الْوَارِثِينَ إِلَى مَالِ الْآكِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النِّسَاء: ٢].
وَالْجَمُّ: الْكَثِيرُ، يُقَالُ: جَمَّ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ، إِذَا كَثُرَ، وَبِئْرٌ جَمُومٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ:
كَثِيرَةُ الْمَاءِ، أَيْ حُبًّا كَثِيرًا، وَوَصْفُ الْحُبِّ بِالْكَثْرَةِ مُرَادٌ بِهِ الشِّدَّةُ لِأَنَّ الْحُبَّ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي النَّفْسِيَّةِ لَا يُوصَفُ بِالْكَثْرَةِ الَّتِي هِيَ وَفْرَةُ عَدَدِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ.
فَالْجَمُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ، أَيْ حُبًّا مُفْرِطًا، وَذَلِكَ مَحَلُّ ذَمِّ حُبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ إِفْرَادَ حُبِّهِ يُوقِعُ فِي الْحِرْصِ عَلَى اكْتِسَابِهِ بِالْوَسَائِلِ غَيْرِ الْحَقِّ كَالْغَصْبِ وَالِاخْتِلَاسِ
وَالسَّرِقَةِ وَأَكَلِ الْأَمَانَاتِ


الصفحة التالية
Icon