عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِ مَعْنَاهُ وَيَكُونُ دُعَاؤُهُ ذَلِكَ اقْتِبَاسًا مِنَ الْآيَةِ وَلَيْسَ عَيْنَ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا طَلَبُ الْحُصُولِ بِالْمَزِيدِ مَعَ طَلَبِ الدَّوَامِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِزَامِ وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْآيَةِ هُوَ طَلَبُ الْهِدَايَةِ الْكَامِلَةِ.
وَالصِّرَاطُ الطَّرِيقُ وَهُوَ بِالصَّادِ وبالسين وَقد قرىء بِهِمَا فِي الْمَشْهُورَةِ وَكَذَلِكَ نَطَقَتْ بِهِ بِالسِّينِ جُمْهُورُ الْعَرَبِ إِلَّا أَهْلَ الْحِجَازِ نَطَقُوهُ بِالصَّادِ مُبْدَلَةً عَنِ السِّينِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ السِّينِ إِلَى الرَّاءِ ثُمَّ إِلَى الطَّاءِ قَالَ فِي «لَطَائِفِ الْإِشَارَاتِ» عَنِ الْجَعْبَرِيِّ إِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سِينٍ بَعْدَهَا غَيْنٌ أَوْ خَاءٌ أَوْ قَافٌ أَوْ طَاءٌ وَإِنَّمَا قَلَبُوهَا هُنَا صَادًا لِتُطَابِقَ الطَّاءَ فِي الْإِطْبَاقِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّفَخُّمِ مَعَ الرَّاءِ اسْتِثْقَالًا لِلِانْتِقَالِ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ اهـ.
أَيْ بِخِلَافِ الْعَكْسِ نَحْوَ طَسْتٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمَلٌ وَالثَّانِي تَرْكٌ. وَقَيْسٌ قَلَبُوا السِّينَ بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ وَهُوَ إِشْمَامٌ وَقَرَأَ بِهِ حَمْزَةُ فِي رِوَايَةِ خَلَفٍ عَنْهُ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ قَلَبَ السِّينَ زَايًا خَالِصَةً قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ لُغَةُ عُذْرَةَ وَكَلْبٍ وَبَنِي الْقَيْنِ وَهِيَ مَرْجُوحَةٌ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهَا، وَقَدْ قَرَأَ بِاللُّغَةِ الْفُصْحَى (بِالصَّادِ) جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ وَقَرَأَ بِالسِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ قُنْبُلٍ، وَالْقِرَاءَةُ بِالصَّادِ هِيَ الرَّاجِحَةُ لِمُوَافَقَتِهَا رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَكَوْنِهَا اللُّغَةَ الْفُصْحَى.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِالصَّادِ وَقَرَأَهَا بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالسِّينِ؟ قُلْتُ إِنَّ الصَّحَابَةَ كَتَبُوهَا بِالصَّادِ تَنْبِيهًا عَلَى الْأَفْصَحِ فِيهَا، لِأَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَاعْتَمَدُوا عَلَى عِلْمِ الْعَرَب فَالَّذِينَ قرأوا بِالسِّينِ تَأَوَّلُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَتْرُكُوا لُغَةَ السِّينِ لِلْعِلْمِ بِهَا فَعَادَلُوا الْأَفْصَحَ بِالْأَصْلِ وَلَوْ كَتَبُوهَا بِالسِّينِ مَعَ أَنَّهَا الْأَصْلُ لَتَوَهَّمَ النَّاسُ عَدَمَ جَوَازِ الْعُدُولِ عَنْهُ
لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَرْسُومُ كَمَا كَتَبُوا الْمُصَيْطِرَ بِالصَّادِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَصْلَهُ السِّينُ فَهَذَا مِمَّا يَرْجِعُ الْخِلَافُ فِيهِ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَدَاءِ اللَّفْظِ لَا فِي مَادَّةِ اللَّفْظِ لِشُهْرَةِ اخْتِلَافِ لَهَجَاتِ الْقَبَائِلِ فِي لَفْظٍ مَعَ اتِّحَادِهِ عِنْدَهُمْ.
وَالصِّرَاطُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ النَّقَّاشِ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ الطَّرِيقُ بِلُغَةِ الرُّومِ وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَاتِمٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ «الزِّينَةِ» لَهُ وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فَزَادَهُ فِي «مَنْظُومَتِهِ فِي الْمُعَرَّبِ».
وَالصِّرَاطُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْحَقِّ الَّذِي يَبْلُغُ بِهِ مُدْرِكُهُ إِلَى الْفَوْزِ بِرِضَاءِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَوْزَ هُوَ الَّذِي جَاءَ الْإِسْلَامُ بِطَلَبِهِ.
بِالْبَاطِلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بَيْنَكُمْ لِأَنَّ بَيْنَ تَقْتَضِي تَوَسُّطًا خِلَالَ طَرَفَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الطَّرَفَيْنِ آكِلٌ وَمَأْكُولٌ مِنْهُ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْآكِلُ غَيْرَ الْمَأْكُولِ وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ فَائِدَةٌ
لِقَوْلِهِ: بَيْنَكُمْ.
وَمَعْنَى أَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ أَكْلُهَا بِدُونِ وَجْهٍ، وَهَذَا الْأَكْلُ مَرَاتِبُ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: مَا عَلِمَهُ جَمِيعُ السَّامِعِينَ مِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ بَاطِلًا كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْحِيلَةِ.
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَا أَلْحَقَهُ الشَّرْعُ بِالْبَاطِلِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَقَدْ كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمْ وَهَذَا مِثْلُ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٥]، وَمثل رَشْوَةِ الْحُكَّامِ، وَمِثْلُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَفِي الْحَدِيثِ: «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنْعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ»، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هِيَ خَمْسُونَ حَدِيثًا.
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ وَصْفُ الْبَاطِلِ بِالنَّظَرِ وَهَذَا مَجَالٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَاطِلِ، وَالْعُلَمَاءُ فِيهِ بَيْنَ مُوَسِّعٍ وَمُضَيِّقٍ مِثْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْهِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ عَبَدَانَ الْحَضْرَمِيِّ وامرئ الْقَيْس فالكندي اخْتَصَمَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمَا وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عَطْفٌ عَلَى تَأْكُلُوا أَيْ لَا تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَتَوَسَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَخَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ بِالنَّهْيِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَشْمَلُهَا وَهُوَ أَكْلُ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّ هَذِهِ شَدِيدَةُ الشَّنَاعَةِ جَامِعَةٌ لِمُحَرَّمَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مُعْطِيَ الرَّشْوَةِ آثِمٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مَالًا بَلْ آكَلَ غَيْرَهُ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْمَعِيَّةِ وتُدْلُوا مَنْصُوبًا بِأَنْ مُضْمَرَةً بَعْدَهَا فِي جَوَابِ النَّهْيِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَيْ لَا تَأْكُلُوهَا بَيْنَكُمْ مُدْلِينَ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا وَهُوَ يُفْضِي إِلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الرَّشْوَةُ خَاصَّةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ الِاعْتِنَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ.
وَالْإِدْلَاءُ فِي الْأَصْلِ إِرْسَالُ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالدَّفْعِ.
فَقَوْلُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ صِيغَةُ حَصْرٍ، وَهِيَ تَقْتَضِي فِي اللِّسَانِ حَصْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الدِّينُ، فِي الْمُسْنَدِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، عَلَى قَاعِدَةِ الْحصْر بتعريف جزئي الْجُمْلَةِ، أَيْ لَا دِينَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا الِانْحِصَارَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ.
وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَصْفٌ لِلدِّينِ، وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الِاعْتِبَارِ وَالِاعْتِنَاءِ وَلَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ عِلْمٍ: فَأَفَادَ، أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ هُوَ الْإِسْلَامُ، فَيَكُونُ قَصْرًا لِلْمُسْنَدِ، إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قَيْدٍ فِيهِ، لَا فِي جَمِيعِ اعْتِبَارَاتِهِ: نَظِيرَ قَوْلِ الْخَنْسَاءِ:

إِذَا قَبُحَ الْبُكَاءُ عَلَى قَتِيلٍ رَأَيْتُ بُكَاءَك الْحَسَنَ الْجَمِيلَا
فَحَصَرَتِ الْحَسَنَ فِي بُكَائِهِ بِقَاعِدَةِ أَنَّ الْمَقْصُورَ هُوَ الْحَسَنُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ، وَهَذَا الْحَصْرُ بِاعْتِبَارِ التَّقْيِيد بِوَقْت حج الْبُكَاءِ عَلَى الْقَتْلَى وَهُوَ قَصْرُ حُسْنِ بُكَائِهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِيَكُونَ لِبُكَائِهَا عَلَى صَخْرٍ مَزِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى بُكَاءِ الْقَتْلَى الْمُتَعَارَفِ وَإِنْ أَبَى اعْتِبَارَ الْقَصْرِ فِي الْبَيْتِ أَصْلًا صَاحِبُ الْمُطَوَّلِ.
وَإِذْ قَدْ جَاءَتْ أَدْيَانٌ صَحِيحَةٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فَالْحَصْرُ مُؤَوَّلٌ: إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ عِنْدَ اللَّهِ، حِينَ الْإِخْبَارِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى وَقْتِ الْإِخْبَارِ إِذِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا حَقَائِقُ فِي الْحَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وَقْتَ الْإِخْبَارِ لَيْسَ فِيهِ دِينٌ صَحِيحٌ غَيْرَ الْإِسْلَامِ إِذْ قَدْ عَرَضَ لِبَقِيَّةِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، مِنْ خَلْطِ الْفَاسِدِ بِالصَّحِيحِ، مَا اخْتَلَّ لِأَجْلِهِ مَجْمُوعُ الدِّينِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْكَمَالِ عِنْدَ اللَّهِ فَيَكُونُ الْقَصْرُ بِاعْتِبَارِ سَائِرِ الْأَزْمَانِ وَالْعُصُورِ إِذْ لَا أَكْمَلَ مِنْ هَذَا الدِّينِ، وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا غَايَةَ الْمُرَادِ مِنَ الْبَشَرِ فِي صَلَاح شؤونهم، بَلْ كَانَ كُلُّ دِينٍ مَضَى مُقْتَصِرًا عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْ أُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى مَحْمَلَيِ الْآيَةِ، لِأَنَّ مُفَادَهُ أَعَمُّ، وَتَعْبِيرَهُ عَنْ حَاصِلِ صِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ- تُجَاهَ بَقِيَّةِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ- أَتَمُّ.
ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَوْجِيهِ الشَّرَائِعِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، لَيْسَ مُجَرَّدَ قَرْعِ الْأَسْمَاعِ بِعِبَارَاتِ التَّشْرِيعِ أَوِ التَّذَوُّقِ لِدَقَائِقِ تَرَاكِيبِهِ، بَلْ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا شَرَعَ لِلنَّاسِ هُوَ عَمَلُهُمْ بِتَعَالِيمِ رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَمَلَ، جَعَلَ اللَّهُ الشَّرَائِعَ مُنَاسِبَةً لِقَابِلَيَّاتِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا، وَجَارِيَةً عَلَى قَدْرِ قَبُولِ عُقُولِهِمْ وَمَقْدِرَتِهِمْ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْعَمَلِ بِهَا بِدَوَامٍ وَانْتِظَامٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّدَيُّنِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّعْلِيمُ الدِّينِيُّ
وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَيُرَادُ بِهِ هُنَا لَازِمَةٌ وَهُوَ الْمُصِيبَةُ، لِأَنَّ فِي الْمَصَائِبِ اخْتِبَارًا لِمِقْدَارِ الثَّبَاتِ. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَمْوَالِ هُوَ نَفَقَاتُ الْجِهَادِ، وَتَلَاشِي أَمْوَالِهِمُ الَّتِي تَرَكُوهَا بِمَكَّةَ. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ هُوَ الْقَتْلُ وَالْجِرَاحُ. وَجُمِعَ مَعَ ذَلِكَ سَمَاعُ الْمَكْرُوهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ وَبَعْدَهُ.
وَالْأَذَى هُوَ الضُّرُّ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: ١١١] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ هُنَا بِالْكَثِيرِ، أَيِ الْخَارِجِ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي تَحْتَمِلُهُ النُّفُوسُ غَالِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى الْفَشَلِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمُ النَّصْرُ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى أَيِ الدَّوَامِ عَلَى أُمُورِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى بَثِّهِ وَتَأْيِيدِهِ، فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى
الِابْتِلَاءِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فَيَشْمَلُ الْجِهَادَ، وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فَفِي وَقْتَيِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ مُقْتَضِيَةً عَدَمَ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ حَتَّى تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِآيَاتِ السَّيْفِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَهِيَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. قَالَهُ الْقَفَّالُ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ ذلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى بِتَأْوِيلٍ: فَإِنَّ الْمَذْكُورَ.
وَ (عَزْمِ الْأُمُورِ) مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أَيِ الْأُمُورِ الْعَزْمِ، وَوَصَفَ الْأُمُورَ وَهُوَ جَمْعٌ بِعَزْمٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ أَصْلَ عَزْمٍ أَنَّهُ مَصْدَرٌ فَيَلْزَمُ لَفْظُهُ حَالَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهَا. وَالْعَزْمُ إِمْضَاءُ الرَّأْيِ وَعَدَمُ التَّرَدُّدِ بَعْدَ تَبْيِينِ السَّدَادِ. قَالَ تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان:
١٥٩] وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَزْمُ فِي الْخَيِّرَاتِ، قَالَ تَعَالَى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٣٥] وَقَالَ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥].
وَوَقَعَ قَوْلُهُ: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا تَنَالُوا ثَوَابَ أَهْلِ الْعَزْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عزم الْأُمُور.
[١٨٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
وَالِابْتِغَاءُ مَصْدَرُ ابْتَغَى بِمَعْنَى بَغَى الْمُتَعَدِّي، أَيِ الطَّلَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٨٣].
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُبَادَأَةُ بِالْغَزْوِ، وَأَنْ لَا يَتَقَاعَسُوا، حَتَّى يَكُونَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ بِالْغَزْوِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: طَلَبْنَا بَنِي فُلَانٍ، أَيْ غَزَوْنَاهُمْ. وَالْمُبَادِئُ بِالْغَزْوِ لَهُ رُعْبٌ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ. وَزَادَهُمْ تَشْجِيعًا عَلَى طَلَبِ الْعَدُوِّ بِأَنَّ تَأَلُّمَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَحَارِبَيْنِ وَاحِدٌ، إِذْ كُلٌّ يَخْشَى بَأْسَ الْآخَرِ، وَبِأَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَزِيَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُوهُ الْكُفَّارُ، وَذَلِكَ رَجَاءُ الشَّهَادَةِ إِنْ قُتِلُوا، وَرَجَاءُ ظُهُورِ دِينِهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ إِذَا انْتَصَرُوا، وَرَجَاءُ الثَّوَابِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ تَرْجُونَ.
وَحُذِفَ الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ بِمِنْ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَرْجُونَ لِدَلَالَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي جُرَّ بِهِ اسْمُ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ، وَلَكَ أَنْ تجْعَل مَا صدق مَا لَا يَرْجُونَ هُوَ النَّصْرُ، فَيَكُونُ وَعْدًا لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ، وَبِشَارَةً بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَرْجُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَصْرًا، وَأَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْهُ بِمَا قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وَهَذَا مِمَّا يَفُتُّ فِي سَاعِدِهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ اعْتِرَاضًا أَوْ حَالًا مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا كَقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١].
[١٠٥- ١٠٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٠٥ إِلَى ١٠٩]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩)
وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مِمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخَبَرُ هُوَ جُمْلَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَالَّذِي سَرَقَ والّتي سرقت. والمصول إِذَا أُرِيدَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ- أَيْ يُجْعَلُ (الْ) فِيهَا اسْمَ مَوْصُولٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاء: ١٥]، قَوْله:
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: ١٦]. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهَذَا إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْقَصَصِ أَوِ الْحُكْمِ أَوِ الْفَرَائِضِ نَحْوَ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما إِذِ التَّقْدِيرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ: وَحُكْمُ اللَّاتِي يَأْتِينَ، أَوْ وَجَزَاءُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ.
وَلَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْكَافِيَةِ» وَاخْتَصَرَهَا بِقَوْلِهِ: «وَالْفَاءُ لِلشَّرْطِ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ وَجُمْلَتَانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، يَعْنِي: وَأَمَّا عِنْدَ الْمُبَرِّدِ فَهِيَ جُمْلَةُ شَرْطٍ وَجَوَابُهُ فَكَأَنَّهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِلَّا فَالْمُخْتَارُ النَّصْبُ». أَشَارَ إِلَى قِرَاءَةِ عِيسَى بْنِ عُمَرَ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ- بِالنّصب-، وَهِي قرائة شَاذَّةٌ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَلَا يُخَرَّجُ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا. وَقَدْ غَلِطَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ:
فَالْمُخْتَارُ النَّصْبُ.
وَقَوْلُهُ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ضَمِيرُ الْخِطَابِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، كَقَوْلِهِ:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّور: ٢]. وَلَيْسَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [النِّسَاء: ٣٥]. وَجُمِعَ الْأَيْدِي بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِ نَوْعِ السَّارِقِ. وَثُنِّيَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ الصِّنْفَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَالْجَمْعُ هُنَا مُرَادٌ مِنْهُ التَّثْنِيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤].
وَوَجْهُ ذِكْرِ السَّارِقَةِ مَعَ السَّارِقِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ صِيغَةُ التَّذْكِيرِ فِي السَّارِقِ قَيْدًا بِحَيْثُ لَا يُجْرَى حَدُّ السَّرِقَةِ إِلَّا عَلَى الرِّجَالِ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ لَا يُقِيمُونَ لِلْمَرْأَةِ وَزْنًا فَلَا يُجْرُونَ عَلَيْهَا الْحُدُودَ، وَهُوَ الدَّاعِي إِلَى ذِكْرِ الْأُنْثَى فِي قَوْلِهِ
مَجِيءَ السَّاعَةِ غَايَةً لِلْخُسْرَانِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْخُسْرَانَ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ خُسْرَانُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخْسَرْ شَيْئًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ عَلَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٢٥]. وَسَيَجِيءُ لِمَعْنَى (حَتَّى) زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٧].
وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ.
وَالْبَغْتَةُ فَعْلَةٌ مِنَ الْبَغْتِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بَغَتَهُ الْأَمْرُ إِذَا نَزَلَ بِهِ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ وَلَا
إِعْلَامٍ وَلَا ظُهُورِ شَبَحٍ أَوْ نَحْوِهِ. فَفِي الْبَغْتِ مَعْنَى الْمَجِيءِ عَنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ. وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يَجِيءُ حَالًا إِذَا كَانَ ظَاهِرًا تَأْوِيلُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ.
وَقَوْلُهُ: قالُوا جَوَابُ (إِذَا). وَيَا حَسْرَتَنا نِدَاءٌ مَقْصُودٌ بِهِ التَّعَجُّبُ وَالتَّنَدُّمُ، وَهُوَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ نِدَاءٌ لِلْحَسْرَةِ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ شَخْصٍ يَسْمَعُ وَيُنَادَى لِيَحْضُرَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا حَسْرَةً احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ كَذَا، وَيَا أَسَفِي أَوْ يَا أَسَفَا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَأَضَافُوا الْحَسْرَةَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَكُونَ تَحَسُّرُهُمْ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَهُمُ الْمُتَحَسِّرُونَ وَالْمُتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْقَائِلِ: يَا حَسْرَةً، فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ تَحَسَّرَ لِأَجْلِ غَيْرِهِ فَهُوَ يَتَحَسَّرُ لِحَالِ غَيْرِهِ. وَلِذَلِكَ تَجِيءُ مَعَهُ (عَلَى) الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُتَحَسَّرِ مِنْ أَجْلِهِ دَاخِلَةً عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ التَّحَسُّرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ فَأَمَّا مَعَ (يَا حَسْرَتِي، أَوْ يَا حَسْرَتَا) فَإِنَّمَا تَجِيءُ (عَلَى) دَاخِلَةً عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي التَّحَسُّرِ كَمَا هُنَا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: يَا وَيْلِي وَيَا وَيْلَتِي، قَالَ تَعَالَى:
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا [الْكَهْف: ٤٩]، فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّ الْوَيْلَ لِغَيْرِهِ قَالَ: وَيْلَكَ، قَالَ تَعَالَى: وَيْلَكَ آمِنْ [الْأَحْقَاف: ١٧] وَيَقُولُونَ: وَيْلٌ لَكَ.
أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] وَنَحْوِهِ من تهكّماتهم، وإنّما الَّذِي يكون مِمَّا انْتَظَرُوهُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّحْذِيرِ، وَآيَاتُ الْقُرْآن فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِر: ٨٥].
وَآيَاتُ اللَّهِ مِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَا هَدَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمِنْهَا آيَاتٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَيِ الْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى.
وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي السُّنَّةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا.
فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ». ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ
، أَيْ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ- إِلَى قَوْلِهِ- خَيْراً.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ».
وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ»، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَابٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ مَفْتُوحٌ مسيرَة عرضه أَرْبَعِينَ سَنَةً
(كَذَا) مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»

، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تُعَارِضُ آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ [١٨] : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ: لِأَنَّ مَحْمَلَ تِلْكَ الْآيَةِ عَلَى تَعْيِينِ وَقْتِ فَوَاتِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَحْوَالِ الْخَاصَّةِ بِآحَادِ النَّاسِ، وَذَلِكَ مَا فُسِّرَ
فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُول الله صلى الله وَعَلِيهِ وسلّم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ
. (وَمَعْنَى يُغَرْغِرُ أَنْ تَبْلُغَ رُوحُهُ- أَيْ أَنْفَاسُهُ- رَأْسَ حَلْقِهِ).
عَلَيْكُمْ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ الرُّسُلِ بِقَوْمِهِمْ.
وَفِعْلُ الْخَوْفِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَخُوفِ مِنْهُ، وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِحَرْفِ (عَلَى) إِذَا كَانَ الْخَوْفُ مِنْ ضُرٍّ يَلْحَقُ غَيْرَ الْخَائِفِ، كَمَا قَالَ الْأَحْوَصُ:
فَإِذَا تَزُولُ تَزُول على مُتَخَمِّطٍ تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً ثَانِيَةً بَعْدَ جُمْلَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ لِقَصْدِ الْإِرْهَابِ وَالْإِنْذَارِ، وَنُكْتَةُ بِنَاءِ نَظْمِ الْكَلَامِ عَلَى خَوْفِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِمْ هِيَ هِيَ.
وَالْعَذَابُ الْمَخُوفُ وَيَوْمُهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ جَوَابَهُمْ بِأَنَّهُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ أَحَالُوا الْوَحْدَانِيَّةَ وَأَحَالُوا الْبَعْثَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ [١٧، ١٨] : وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً فَحَالُهُمْ كَحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تُمَحِّضُ أَهْلَهَا لِلِاقْتِصَارِ عَلَى أغراض الدّنيا.
[٦٠]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٦٠]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠)
فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَصْلِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ، وَاقْتَرَنَ جَوَابُهُمْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ حَقَّقُوا وَأَكَّدُوا اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ نُوحًا مُنْغَمِسٌ فِي الضَّلَالَةِ. الْمَلَأُ مَهْمُوزٌ بِغَيْرِ مَدٍّ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ وَرَأْيُهُمْ وَاحِد لأنّهم يمالىء بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
أَيْ يُعَاوِنُهُ وَيُوَافِقُهُ، وَيُطْلَقُ الْمَلَأُ عَلَى أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَقَادَتِهِمْ لِأَنَّ شَأْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ رَأْيُهُمْ وَاحِدًا عَنْ تَشَاوُرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَرِينَةِ (مِنْ) الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيضِ أَيْ أَنَّ قَادَةَ الْقَوْمِ هُمُ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِمُجَادَلَةِ نُوحٍ وَالْمُنَاضَلَةِ عَنْ دِينِهِمْ بِمَسْمَعٍ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ خَاطَبَ جَمِيعَهُمْ، وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، أَيْ إِنَّا لَنُوقِنُ أَنَّكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَلَمْ يُوصَفِ الْمَلَأُ هُنَا بِالَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ بِالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا كَمَا وُصِفَ الْمَلَأُ فِي قِصَّةِ هُودٍ بِالَّذِينَ
وَقَدْ جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ احْتِمَالَاتٍ أُخْرَى فِي مَعْنَى الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ: مِنْهَا ثَلَاثَةٌ ذَكَرَهَا الْفَخْرُ، وَأَنَا لَا أَرَاهَا مُلَاقِيَةً لِإِضَافَةِ الْأَسْمَاءِ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَخْفَى عَنِ النَّاظِرِ فِيهَا.
وَجُمْلَةُ: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْمُلْحِدِينَ،
فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ لَا تَهْتَمُّوا بِإِلْحَادِهِمْ وَلَا تَحْزَنُوا لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَسُمِّيَ إِلْحَادُهُمْ عَمَلًا لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ عَامَّةٌ أَيْ سَيُجْزَوْنَ بِجَمِيعِ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ إِلْحَادُهُمْ فِي أَسْمَائِهِ.
وَالسِّينُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهِي تفِيد تَأْكِيد.
وَقِيلَ: مَا كانُوا يَعْمَلُونَ دُونَ مَا عَمِلُوا أَوْ مَا يَعْمَلُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ سُنَّةٌ لَهُمْ ومتجدد مِنْهُم.
[١٨١- ١٨٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٨١ إِلَى ١٨٣]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الْأَعْرَاف: ١٧٩] الْآيَةَ، وَالْمَقْصُودُ: التَّنْوِيهُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي هَدْيِهِمْ وَاهْتِدَائِهِمْ، وَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي ضلالهم، أَي عرّض عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَاكَ عَنْهُم بِالْمُسْلِمين، فَمَا صدق «الْأُمَّةِ» هُمُ الْمُسْلِمُونَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ:
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يُرِيدُ نَفْسَهُ فَإِنَّهَا بَعْضُ النُّفُوسِ.
رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ بَلَغَنَا أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَ هَذِه الْآيَةَ: «هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُعْطِيَ الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا»
. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَبَقِيَّةُ أَلْفَاظِ الْآيَةِ عُرِفَ تَفْسِيرُهَا مِنْ نَظَرِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
لَهُمُ الشُّهُورَ. ثُمَّ خَلَفَهُ ابْنُهُ عَبَّادٌ. ثُمَّ ابْنُهُ قُلَعٌ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ، ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفٌ، ثُمَّ ابْنُهُ أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادَةُ وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَانَ بَنُو فُقَيْمٍ أَهْلَ دِينٍ فِي الْعَرَبِ وَتَمَسُّكٍ بِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ فَانْتَدَبَ مِنْهُمُ الْقَلَمَّسُ وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ فُقَيْمٍ فَنَسَأَ الشُّهُورَ لِلْعَرَبِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ (أَيِ الَّذِي أَدْخَلَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي الْعَرَبِ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ). وَقَالَ الْكَلْبِيُّ أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: كُلُّ مَنْ صَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ (أَيْ مَرْتَبَةُ النَّسِيءِ) كَانَ يُسَمَّى
الْقَلَمَّسَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَانَ الَّذِي يَلِي النَّسِيءَ يَظْفَرُ بِالرِّئَاسَةِ لِتَرْيِيسِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ. وَكَانَ الْقَلَمَّسُ يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنّي ناسىء الشُّهُورِ وَوَاضِعُهَا مَوَاضِعَهَا وَلَا أُعَابُ وَلَا أُجَابُ (١). اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَحْلَلْتُ أَحَدَ الصَّفَرَيْنِ وَحَرَّمْتُ صَفَرَ الْمُؤَخَّرَ انْفِرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ آخِرَ النُّسَأَةِ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ وَيُكَنَّى أَبَا ثُمَامَةَ وَكَانَ ذَا رَأْيٍ فِيهِمْ وَكَانَ يَحْضُرُ الْمَوْسِمَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ فَيُنَادِي أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ أَبَا ثُمَامَةَ لَا يُعَابُ وَلَا يُجَابُ. وَلَا مَرَدَّ لِمَا يَقُولُ فَيَقُولُونَ أَنْسِئْنَا شَهْرًا، أَيْ أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَةَ الْمُحَرَّمِ وَاجْعَلْهَا فِي صَفَرٍ فَيُحِلُّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ وَيُنَادِي: أَلَا إِنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتِ الْعَامَ صَفَرَ فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ فَإِذَا حَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّةِ تَرَكُوا الْمُحَرَّمَ وَسَمَّوْهُ صَفَرًا فَإِذَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ خَرَجُوا فِي مُحَرَّمٍ وَغَزَوْا فِيهِ وَأَغَارُوا وَغَنِمُوا لِأَنَّهُ صَارَ صَفَرًا فَيَكُونُ لَهُمْ فِي عَامِهِمْ ذَلِكَ صَفَرَانِ وَفِي الْعَامِ الْقَابِلِ يَصِيرُ ذُو الْحِجَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ ذَا الْقَعْدَةِ وَيَصِيرُ مُحَرَّمُ ذَا الْحِجَّةِ فَيَحُجُّونَ فِي مُحَرَّمٍ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَامَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ثُمَّ يُبَدِّلُونَ فَيَحُجُّونَ فِي شَهْرِ صَفَرٍ عَامَيْنِ وَلَاءً ثُمَّ كَذَلِكَ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» إِنَّ تَأْخِيرَ بَعْضِ الشُّهُورِ بَعْدَ مُدَّةٍ لِقَصْدِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ عَنْ وَقْتِهِ الْقَمَرِيِّ، تَحَرِّيًا مِنْهُمْ لِلسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، فَكَانُوا يُؤَخِّرُونَهُ فِي كُلِّ عَامٍ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا، حَتَّى يَعُودَ الدَّوْرُ إِلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَيَعُودُ إِلَى وَقْتِهِ وَنُسِبَ إِلَى شَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ ذَلِكَ اعْتِبَارٌ مِنْهُمْ بِالشُّهُورِ الْعَجَمِيَّةِ وَلَعَلَّهُ تَبِعَ فِي هَذَا قَوْلَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ اشْتِبَاهٌ.
_________
(١) وَقع فِي «اللِّسَان» و «الْقَامُوس» وَفِي «تفاسير» ابْن عَطِيَّة والقرطبي والطبري (وَلَا أجَاب). بجيم وَلَعَلَّ مَعْنَاهُ لَا يجيبني أحد فِيمَا أقوله أَي لَا يرد عَلَيْهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمْعِ الْأَمْرَيْنِ الْإِحَاطَةُ بِجِنْسَيِ الْأَحْوَالِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَجْهُ تَقْدِيمِ النَّفْعِ عَلَى الضَّرِّ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ، أَيْ لَكِنْ نَفْعِي وَضَرِّي هُوَ مَا يَشَاءُهُ اللَّهُ لِي. وَهَذَا الْجَوَابُ يَقْتَضِي إِبْطَالَ كَلَامِهِمْ بِالْأُسْلُوبِ الْمُصْطَلَحِ عَلَى تَلْقِيبِهِ فِي فَنِّ الْبَدِيعِ بِالْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ، أَيْ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَعَدَمُ اسْتِطَاعَتِهِ مَا فِيهِ ضَرُّ غَيْرِهِ بِهَذَا الْوَعْدِ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى مَقْدِرَةِ الْمَرْءِ هُوَ مَا لَهُ اخْتِصَاصٌ بِذَاتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي الْإِنْسَانِ قُدْرَةَ اسْتِعْمَالِ قُوَاهُ وَأَعْضَائِهِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُقْدِرًا إِيَّاهُ عَلَى إِيجَادِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فِي أَحْوَالِ الْكَوْنِ لَكَانَ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى إِقْدَارِهِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِأَحْوَالِ ذَاتِهِ، لِأَنَّ بَعْضَ أَسْبَابِهَا فِي مَقْدِرَتِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْإِنْسَانُ مسيّرا فِي شؤونه بِقُدْرَةِ اللَّهِ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَسْبَابِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ مِنَ الْحَوَادِثِ مَنُوطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَمُوَافِقَاتُهُ وَمُخَالِفَاتُهُ خَارِجَةٌ عَنْ مَقْدُورِ الْإِنْسَانِ، فَلِذَلِكَ قَدْ يَقَعُ مَا يَضُرُّهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِهِ. فَكَانَ مَعْنَى الْجَوَابِ: أَنَّ الْوَعْدَ مِنَ اللَّهِ لَا مِنِّي وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِهِ بِكُمْ لِأَنَّ لَهُ أَجَلًا عِنْدَ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مِنَ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَمَوْقِعُهَا مِنْ جُمْلَةِ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِأَنَّ جُمْلَةَ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي اقْتَضَتِ انْتِفَاءَ الْقُدْرَةِ عَلَى حُلُولِ الْوَعْدِ.
وَجُمْلَةُ: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ تَتَضَمَّنُ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ الْمَقْدِرَةِ عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ آجَالَ أَحْوَالِ الْأُمَمِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَجَّلَ حُلُولَ الْعِقَابِ بِهِمْ بِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تِلْكَ الْآجَالَ فَلَا يَحُلُّ الْعِقَابُ بِهِمْ إِلَّا عِنْدَ مَجِيءٍ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَغْيِيرِ مَا حَدَّدَهُ اللَّهُ.
وَصُورَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ أَنَّ قَضِيَّةَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ تَشْمَلُ كُلَّ أُمَّةٍ. وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمَمِ كَانُوا مَشْمُولِينَ لِحُكْمِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَأَنْتُمْ لَكُمْ أَجَلٌ فَتَرَقَّبُوا حُلُولَهُ.
لَمَّا خَلَقَهُمْ عَلَى جِبِلَّةٍ قَاضِيَةٍ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَالنَّزَعَاتِ وَكَانَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَى تِلْكَ الْجِبِلَّةِ وَعَالِمًا بِهِ كَمَا بَيَّنَاهُ آنِفًا كَانَ الِاخْتِلَافُ عِلَّةً غَائِيَّةً لِخَلْقِهِمْ، وَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لَا يَلْزَمُهَا الْقَصْرُ عَلَيْهَا بَلْ يَكْفِي أَنَّهَا غَايَةُ الْفِعْلِ، وَقَدْ تَكُونُ مَعَهَا غَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أُخْرَى فَلَا يُنَافِي مَا هُنَا قَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] لِأَنَّ الْقَصْرَ هُنَالِكَ إِضَافِيٌّ، أَيْ إِلَّا بِحَالَةِ أَنْ يَعْبُدُونِي لَا يُشْرِكُوا، وَالْقَصْرُ الْإِضَافِيُّ لَا يُنَافِي وُجُودَ أَحْوَالٍ أُخْرَى غَيْرَ مَا قَصَدَ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْقَصْرِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ لِمَنْ مَارَسَ أَسَالِيبَ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ لَيْسَ لِلْقَصْرِ بَلْ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُوجِبُ الْحَيْرَةَ فِي التَّفْسِيرِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.
ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يوذن بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْمٌ مُخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا لَا رَحْمَةَ لَهُمْ فِيهِ، فَهُوَ اخْتِلَافٌ مُضَادٌّ لِلرَّحْمَةِ، وَضِدُّ النِّعْمَةِ النِّقْمَةُ فَهُوَ اخْتِلَافٌ أَوْجَبَ الِانْتِقَامَ.
وَتَمَامُ كَلِمَةِ الرَّبِّ مَجَازٌ فِي الصِّدْقِ وَالتَّحَقُّقِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وتمت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٥]، فَالْمُخْتَلِفُونَ هُمْ نَصِيبُ جَهَنَّمَ.
وَالْكَلِمَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ. فَكَلِمَةُ اللَّهِ: تَقْدِيرُهُ وَإِرَادَتُهُ. أَطْلَقَ عَلَيْهَا كَلِمَةُ مَجَازًا لِأَنَّهَا سَبَبٌ فِي صُدُورِ كَلِمَةِ (كُنْ) وَهِيَ أَمْرُ التَّكْوِينِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وتمت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٥].
وَجُمْلَةُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ تَفْسِيرٌ لِلْكَلِمَةِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ. وَذَلِكَ تَعْبِيرٌ عَنِ الْإِرَادَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ.
فَالْمُرَادُ بِـ أَيَّامَ اللَّهِ هُنَا الْأَيَّامُ الَّتِي أَنْجَى اللَّهُ فِيهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَنَصَرَهُمْ وَسَخَّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْفَوْزِ وَالنَّصْرِ وَأَغْدَقَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ فِي زَمَنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا أُمِرَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنْ يُذَكِّرَهُمُوهُ، وَكُلُّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِمَضْمُونِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُمْتَدٌّ زَمَنُهُ، وَكُلَّمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِتَذْكِيرٍ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ فَهُوَ مِنْ مَضْمُونِ الْإِرْسَالِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَهُوَ مَشْمُولٌ لِتَفْسِيرِ الْإِرْسَالِ.
فَقَوْلُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: ٢٠، ٢١] هُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ الْمُفَسَّرِ بِهِ إِرْسَالُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَهُوَ وَإِن كَانَ وَاقِعًا بَعْدَ ابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَا هُوَ إِلَّا تَذْكِيرٌ صَادِرٌ فِي زَمَنِ رِسَالَتِهِ، وَهُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ نِعَمِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَعْطَاهُمْ، وَمَا كَانُوا يُحَصِّلُونَهَا لَوْلَا نَصْرُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَعِنَايَتُهُ بِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ رُبَّ ضَعِيفٍ غَلَبَ قَوِيًّا وَنَجَا بِضَعْفِهِ مَا لَمْ يَنْجُ مِثْلُهُ الْقَوِيُّ فِي قُوَّتِهِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ عَائِدٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِخْرَاجِ وَالتَّذْكِيرِ، فَالْإِخْرَاجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ بَعْدَ تَوَغُّلِهِمْ فِيهَا وَانْقِضَاءِ الْأَزْمِنَةِ الطَّوِيلَةِ عَلَيْهَا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالتَّذْكِيرُ بِأَيَّامِ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِزَّتِهِ وَتَأْيِيدِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ
آيَاتٌ كَائِنَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ وَالتَّذْكِيرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ.
وَقَدْ أَحَاطَ بِمَعْنَى هَذَا الشُّمُولِ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي ذلِكَ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَجْمَعُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً يَحْتَوِيهَا الظَّرْفُ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ هُنَا مَوْقِعٌ بَلِيغٌ.
وَلِكَوْنِ الْآيَاتِ مُخْتَلِفَةً، بَعْضُهَا آيَاتُ مَوْعِظَةٌ وَزَجْرٌ وَبَعْضُهَا آيَاتُ مِنَّةٍ وَتَرْغِيبٍ، جُعِلَتْ مُتَعَلقَة ب لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ إِذْ الصَّبْر مُنَاسِب لِلزَّجْرِ
وَاقْتَضَى قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ دَابَّةٍ إِهْلَاكَ دَوَابِّ النَّاسِ مَعَهُمْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ، لَأَنَّ اسْتِئْصَالَ أُمَّةٍ يَشْتَمِلُ عَلَى اسْتِئْصَالِ دَوَابِّهَا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ خُلِقَتْ لِنَفْعِ النَّاسِ فَلَا بِدَعَ أَنْ يَسْتَأْصِلَهَا اللَّهُ إِذَا اسْتَأْصَلَ ذَوِيهَا.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ دَابَّةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيجَازٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ظُلْمُ النَّاسِ مُفْضِيًا إِلَى اسْتِئْصَالِ الدَّوَابِّ كَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى اسْتِئْصَالِ الظَّالِمِينَ حَاصِلًا بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ.
وَهَذَا فِي عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ الْوَارِدُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [سُورَة الْأَنْفَال: ٢٥] فَذَلِكَ مَنُوطٌ بِأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ، فَاسْتِثْنَاءُ الصَّالِحِينَ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ دَوَالِيبَ كَثِيرَةٍ مِنْ دَوَالِيبِ النِّظَامِ الْفِطْرِيِّ الْعَامِّ، وَذَلِكَ لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعْطِيلَهُ لِمَا يَسْتَتْبِعُ تَعْطِيلَهُ مِنْ تَعْطِيلِ مَصَالِحَ عَظِيمَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
فَقَدْ
جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
، أَيْ يَكُونُ لِلْمُحْسِنِ الَّذِي أَصَابَهُ الْعَذَابُ تَبَعًا جَزَاءٌ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ مُصِيبَةِ غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَنَالُ الْبَرِيءَ هُوَ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَزَاءً عَلَى التَّكْلِيفِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سُورَة الْأَنْعَام: ١٦٤].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدَّوَابَّ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اسْتِعْمَالُ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا فِيمَا تَصْلُحُ لَهُ ظُلْمًا لَهَا، وَلَا قَتْلُهَا لِأَكْلِهَا ظُلْمًا لَهَا.
وَالْمُؤَاخَذَةُ: الْأَخْذُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْجَزَاءُ، فَهُوَ أَخْذٌ شَدِيدٌ، وَلِذَلِكَ صِيغَتْ لَهُ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَثْرَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ الْمُنْتَفِيَةَ بِ لَوْ هِيَ الْأَخْذُ الْعَاجِلُ الْمُنَاسِبُ لِلْمُجَازَاةِ، لَأَنَّ شَأْنَ الْجَزَاءِ فِي الْعُرْفِ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ حُصُولِ الذَّنْبِ.
وَمُشْتَمِلَةٌ بِضِدِّ ذَلِكَ عَلَى مَا يَزِيدُ غَيْظَ الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَى الظُّلْمِ، أَيِ الشِّرْكِ، فَيَزْدَادُونَ بِالْغَيْظِ كَرَاهِيَةً لِلْقُرْآنِ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ خَسَارًا بِزِيَادَةِ آثَامِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى فَاسِدِ أَخْلَاقِهِمْ وَبُعْدِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التَّوْبَة: ١٢٤- ١٢٥].
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ يُشْتَفَى بِهَا مِنَ الْأَدْوَاءِ وَالْآلَامِ وَرَدَ تَعْيِينُهَا فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فَشَمِلَتْهَا الْآيَةُ بِطَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَّا تَأْصِيلَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ فِي قِرَاءَةِ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِلِاسْتِشْفَاءِ مِنْ أَدْوَاءٍ مَوْصُوفَةٍ بَلْهُ الِاسْتِعَاذَةِ بِآيَاتٍ مِنْهُ مِنَ الضَّلَالِ كَثِيرَةٍ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» وَغَيْرِهِمَا،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي سِرِّيَّةٍ ثَلَاثِينَ رَاكِبًا فَنَزَلْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يُضَيِّفُونَا فَأَبَوْا فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ فَأَتَوْنَا، فَقَالُوا: أَفِيكُمْ أَحَدٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُ حَتَّى يُعْطُونَا، فَقَالُوا: فَإِنَّا نُعْطِيكُمْ ثَلَاثِينَ شَاةً، قَالَ: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ»
الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: «حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَيْءٌ أُلْقِيَ فِي رُوعِي (أَيْ إِلْهَامٌ أَلْهَمَهُ اللَّهُ)، قَالَ: كُلُوا وَأَطْعِمُونَا مِنَ الْغَنَمِ»
. فَهَذَا تَقْرِيرٌ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِحَّةِ إِلْهَامِ أَبِي سَعِيدٍ- رَضِيَ الله عَنهُ-.
وَاخْتِيرَ فِي إِثْبَاتِ سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى خُصُوصُ عِلْمِهِ بِالْمَسْمُوعَاتِ لِأَنَّ السِّرَّ أَخْفَى الْأَشْيَاءِ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ فِي الْعَادَةِ. وَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ مُذَكِّرًا بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَوَجَّهَتْ أَنْظَارُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَدَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَجَادَلُوا فِي ذَلِكَ فِي مَجَامِعِهِمْ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمِ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا! وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا (أَيْ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنَّا) فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت: ٢٢]. وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّ النَّاسُ وَمَا يُعْلِنُونَ وَلَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا نَاظِرَةً إِلَى مِثْلِ مَا نَظَرَتِ الْآيَةُ الْآنِفَةُ الذِّكْرِ. وَقَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ
[هود: ٥].
يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَوْجِيهِ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الشَّرْطِ بِطَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ، وَتَوْجِيهِ اخْتِيَارِ فَرْضِ الشَّرْطِ بِحَالَةِ الْجَهْرِ دُونَ حَالَةِ السِّرِّ مَعَ أَنَّ الَّذِي يَتَرَاءَى لِلنَّاظِرِ أَنَّ حَالَةَ السِّرِّ أَجْدَرُ بِالذِّكْرِ فِي مَقَامِ الْإِعْلَامِ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ النَّاسِ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ الْآنِفَةِ الذِّكْرِ.
وَأَحْسَبُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ بِحَالَةِ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ خُصُوصِيَّةً بِهَذَا السِّيَاقِ اقْتَضَاهَا اجْتِهَادُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَيَكُونُ مَوْرِدُ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَوْرِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الْأَعْرَاف: ٢٠٥]
تَقْتَضِي هَذِهِ الْكِنَايَةُ كِنَايَةً عَنْ تَعْمِيمِ هَذَا الْهَوْلِ لِكُلِّ النَّاسِ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي تَصْوِيرِ حَالَةِ الْفَزَعِ وَالْهَلَعِ بِحَيْثُ يَذْهَلُ فِيهِ مَنْ هُوَ فِي حَالِ شِدَّةِ التَّيَقُّظِ لِوَفْرَةِ دَوَاعِي الْيَقَظَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لِشِدَّةِ شَفَقَتِهَا كَثِيرَةُ الِاسْتِحْضَارِ لِمَا تُشْفِقُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُرْضِعَ أَشَدُّ النِّسَاءِ شَفَقَةً عَلَى رَضِيعِهَا، وَأَنَّهَا فِي حَالِ مُلَابَسَةِ الْإِرْضَاعِ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الذُّهُولِ فَإِذَا ذُهِلَتْ عَنْ رَضِيعِهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْهَوْلَ الْعَارِضَ لَهَا هَوْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكِنَايَةِ
عَنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْهَوْلِ لِأَنَّ اسْتِلْزَامَ ذُهُولِ الْمُرْضِعِ عَنْ رَضِيعِهَا لِشِدَّةِ الْهَوْلِ يَسْتَلْزِمُ شِدَّةَ الْهَوْلِ لِغَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَهُوَ لُزُومٌ بِدَرَجَةٍ ثَانِيَةٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكِنَايَةِ يُسَمَّى الْإِيمَاءَ.
وَ (مَا) فِي عَمَّا أَرْضَعَتْ
مَوْصُولَة مَا صدقهَا الطِّفْلُ الرَّضِيعُ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ فِي تَعْرِيفِ الْمَذْهُولِ عَنْهُ دُونَ أَنْ يَقُولَ عَنِ ابْنِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا تَذْهَلُ عَنْ شَيْءٍ هُوَ نُصْبَ عَيْنِهَا وَهِيَ فِي عَمَلٍ مُتَعَلِّقٍ بِهِ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ زِيَادَةً فِي التَّكَنِّي عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ.
وَقَوْلُهُ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
هُوَ كِنَايَةٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
. وَوَضْعُ الْحَمْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِشِدَّةِ اضْطِرَابِ نَفْسِ الْحَامِلِ مِنْ فَرْطِ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ.
وَالْحَمْلُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، بِقَرِينَةِ تَعَلُّقِهِ بِفِعْلِ تَضَعُ
أَيْ تَضَعُ جَنِينَهَا.
وَالتَّعْبِيرُ بِ ذاتِ حَمْلٍ
دُونَ التَّعْبِيرِ: بِحَامِلٍ، لِأَنَّهُ الْجَارِي فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي الْأَكْثَرِ. فَلَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ حَامِلٌ، بَلْ يُقَالُ: ذَاتُ
الْمَعْرُوفِ وَسَبَبُ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ وَتَجَهَّمَ الْحِنْثَ وَأَنَّهُ أَخَذَ بِجَانِبِ الْبِرِّ فِي يَمِينِهِ وَتَرَكَ جَانِبَ مَا يَفُوتُهُ مِنْ ثَوَابِ الْإِنْفَاقِ وَمُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَكَأَنَّهُ قَدَّمَ جَانِبَ التَّأَثُّمِ عَلَى جَانِبِ طَلَبِ الثَّوَابِ فَنَبَّهَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْمَعْرُوفِ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ مَخْرَجًا وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحِنْثِ كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ عَائِشَةَ. أَنْ لَا تُكَلِّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُهُ: إِنَّهُ يَحْجُرُ عَلَيْهَا لِكَثْرَةِ إِنْفَاقِهَا الْمَالَ. وَهُوَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي كِتَابِ الْأَدَبِ بَابِ الْهُجْرَانِ.
وَعَطْفُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ زِيَادَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَتَطْمِينًا لِنَفْسِ أَبِي بَكْرٍ فِي حِنْثِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّخَلُّقِ بِصِفَاتِ الله تَعَالَى.
[٢٣- ٢٥]
[سُورَة النُّور (٢٤) : الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
جُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ اسْتِئْنَافِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النُّور: ١٩] وَالْكُلُّ تَفْصِيلٌ لِلْمَوْعِظَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [النُّور: ١٧] فَابْتُدِئَ بِوَعِيدِ الْعود إِلَى محبَّة ذَلِكَ وَثني بوعيد الْعود إِلَى إِشَاعَةِ الْقَالَةِ، فَالْمُضَارِعُ فِي
قَلْبُهُ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ النُّكْتَةَ فِي اخْتِصَاصِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: عَلى قَلْبِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ بِأَلِفَاظِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ [العنكبوت: ٤٨].
وَمَعْنَى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ لِتَكُونَ مِنَ الرُّسُلِ. وَاخْتِيرَ مِنْ أَفْعَالِهِ النِّذَارَةَ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِغَرَضِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ إِعْرَاضِهِمْ وَبِإِنْذَارِهِمْ.
وَفِي: مِنَ الْمُنْذِرِينَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَمَكُّنِ وَصْفِ الرِّسَالَةِ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ وَغَيْرِهَا. وبِلِسانٍ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَاللِّسَانُ: اللُّغَةُ، أَيْ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ مُلَابِسًا لِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُبَيِّنَةٍ أَيْ كَائِنًا الْقُرْآنَ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ.
وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي يَعْنِيهَا الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا لِاحْتِمَالِ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الشَّرِيفَةِ مَعَ الِاخْتِصَارِ، فَإِنَّ مَا فِي أَسَالِيبِ نَظْمِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِعْرَابِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ، وَمَا فِي سِعَةِ اللُّغَةِ مِنَ التَّرَادُفِ، وَأَسْمَاءِ الْمَعَانِي الْمُقَيَّدَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ، مَا يَلِجُ بِالْمَعَانِي إِلَى الْعُقُولِ سَهْلَةً مُتَمَكِّنَةً، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللُّغَةَ أَنْ تَكُونَ هِيَ لُغَةُ كِتَابِهِ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ كَافَّةَ النَّاس، فَأنْزل بادىء ذِي بَدْءٍ بَيْنَ الْعَرَبِ أَهْلِ ذَلِكَ اللِّسَانِ وَمَقَاوِيلِ الْبَيَانِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهُمْ حَمَلَتَهُ إِلَى الْأُمَمِ تُتَرْجِمُ مَعَانِيهِ فَصَاحَتَهُمْ وَبَيَانَهُمْ، وَيَتَلَقَّى أَسَالِيبَهُ الشَّادُونَ مِنْهُمْ وَوِلْدَانُهُمْ، حِينَ أَصْبَحُوا أُمَّةً وَاحِدَةً يَقُومُ بِاتِّحَادِ الدِّينِ واللغة كيانهم.
[١٩٦، ١٩٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٩٦ إِلَى ١٩٧]
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧)
عَطْفٌ عَلَى وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩٢]، وَالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ كَضَمِيرِ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَهَذَا تَنْوِيهٌ آخَرُ بِالْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تُصَدِّقُهُ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ
وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَتِ الْأَمَانِيُّ هَاهُنَا، أَيْ أَمَانِيُّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ قَالَ قَائِلُهُمْ:
كُنْ مُسْلِمًا وَمِنَ الذُّنُوبِ فَلَا تَخَفْ حَاشَا الْمُهَيْمِنَ أَنْ يُرِي تَنْكِيدَا
لَوْ شَاءَ أَنْ يُصْلِيَكَ نَارَ جَهَنَّمٍ مَا كَانَ أَلْهَمَ قَلْبَكَ التَّوْحِيدَا
وَمَعْنَى لَا يُرِيدُونَ كِنَايَةٌ عَنْ: لَا يَفْعَلُونَ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُرِيدُ الْفِعْلَ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مُكْرَهًا. وَهَذَا مِنْ بَابِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [٥].
وَالْعُلُوُّ: التَّكَبُّرُ عَنِ الْحَقِّ وَعَلَى الْخَلْقِ، وَالطُّغْيَانُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْفَسَادُ: ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَهُوَ كُلُّ فِعْلٍ مَذْمُومٍ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ لَدَى أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ.
وَقَوْلُهُ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ تَذْيِيلٌ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ الدَّارُ وَبِهِ صَارَتْ جُمْلَةُ تِلْكَ الدَّارُ كُلُّهَا تَذْيِيلًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكَمِ لِلْعَامِّ بِالْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَالْمُعَرَّفِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ.
والْعاقِبَةُ: وَصْفٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ لِكَثْرَةِ الْوَصْفِ بِهِ وَهِيَ الْحَالَةُ الْآخِرَةُ بَعْدَ حَالَةٍ سَابِقَةٍ وَغَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى عَاقِبَةِ الْخَيْرِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي أول الْأَنْعَام [١١].
[٨٤]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٨٤]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِجُمْلَةِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْقَصَص: ٨٣] لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ ذَاتُ أَحْوَالٍ مِنَ الْخَيْرِ وَدَرَجَاتٍ مِنَ النَّعِيمِ وَهِيَ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِيءُ بِهِ الْمُتَّقُونَ من الْحَسَنَات فتفاوت دَرَجَاتُهُمْ بِتَفَاوُتِهَا.
وَفِي اخْتِيَارِ فِعْلِ جاءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ حَضَرَ بِالْحَسَنَةِ
مَدْلُولِهَا هُوَ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، ثَنَاءً عَلَى هَذَا الْفَرِيقِ صَرِيحًا، وَتَعْرِيضًا بِالَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِدَلَالَتِهَا. وَاقْتِرَانُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ أَنَّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ معنى التَّعْلِيل والتسبب. وَجَعَلَ ذَلِكَ عِدَّةَ آيَاتٍ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ دَلَائِلَ كَثِيرَةً، أَيِ: الَّذِينَ لَا يُفَارِقُهُمُ الْوَصْفَانِ.
وَالصَّبَّارُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمَوْصُوفِ بِالصَّبْرِ، وَالشَّكُورُ كَذَلِكَ، أَيِ: الَّذِينَ لَا يُفَارِقُهُمُ الْوَصْفَانِ. وَهَذَانِ وَصْفَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ فِي الصَّبْرِ لِلضَّرَّاءِ وَالشُّكْرِ لِلسَّرَّاءِ إِذْ يرجون بهما رِضَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الضُّرِّ وَالزِّيَادَةِ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَدْ تَخَلَّقُوا بِذَلِكَ بِمَا سَمِعُوا مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْوَصْفَيْنِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ضِدَّيْهِمَا قَالَ: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [الْبَقَرَة: ١٧٧]، وَقَالَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيم: ٧] فَهُمْ بَيْنَ رَجَاءِ الثَّوَابِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْحَيَاةِ الْخَالِدَةِ ذَاتِ الْجَزَاءِ وَعَلِمُوا أَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ وَنَهَى، فَصَارَا لَهُمْ خُلُقًا تَطَبَّعُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يُفَارِقَاهُمُ الْبَتَّةَ أَوْ إِلَّا نَادِرًا فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَنَظَرُهُمْ قَاصِرٌ عَلَى الْحَيَاةِ الْحَاضِرَةِ فَهُمْ أُسَرَاءُ الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ فَإِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ ضَجِرُوا وَإِذَا أَصَابَهُمْ نَفْعٌ بَطَرُوا، فَهُمْ أَخْلِيَاءُ مِنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، فَلِذَلِكَ كَانَ
قَوْلُهُ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ كِنَايَةً رَمْزِيَّةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضًا رَمْزِيًّا بِالْمُشْرِكِينَ. وَوَجْهُ إِيثَارِ خُلُقَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ هُنَا لِلْكِنَايَةِ بِهِمَا، من بَين شُعَبِ الْإِيمَانِ، أَنَّهُمَا أَنْسَبُ بِمَقَامِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ إِذْ رَاكِبُ الْبَحْرِ بَيْنَ خَطَرٍ وَسَلَامَةٍ وَهُمَا مَظْهَرُ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٢].
وَفِي قَوْلِهِ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ حُسْنُ التَّخَلُّصِ إِلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي عَقَّبَهُ فِي قَوْلِهِ وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ الْآيَةَ، فَعُطِفَ عَلَى آيَاتِ سَيْرِ الْفُلْكِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النَّاسَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عِنْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنْهَا فِي حَالِ السَّلَامَةِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٥] : فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ
أَقْوَالِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَئِذٍ مِنْ قَبُولِ شَفَاعَةٍ فِي بَعْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهِمْ وَمِنْ حِرْمَانٍ لِغَيْرِهِمْ كَمَا يُقَالُ: مَاذَا قَالَ الْقَاضِي لِلْخَصْمِ؟ فَيُقَالُ: قَالَ الْفَصْلَ. فَهَذَا حِكَايَةٌ لِمَقُولِ اللَّهِ بِالْمَعْنَى.
وَانْتِصَابُ الْحَقَّ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ قالُوا يَتَضَمَّنُ معنى الْكَلَام، أَيْ قَالَ الْكَلَامَ الْحَقَّ، كَقَوْلِهِ:
وَقَصِيدَةٍ تَأْتِي الْمُلُوكَ غَرِيبَةً قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا
هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْآيَةِ وَيَلْتَئِمُ مَعَ مَعَانِيهَا. وَقَدْ ذَهَبَتْ فِي تَفْسِيرِهَا أَقْوَالُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ طَرَائِقَ قِدَدًا، وَتَفَرَّقُوا بَدَدًا بَدَدًا.
وَ (ذَا) مِنْ قَوْلِهِ: مَاذَا إِشَارَةٌ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ أَصْلَ: مَاذَا قالَ:
مَا هَذَا الَّذِي قَالَ، فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا بِدُونِ ذِكْرِ اسْمِ الْمَوْصُولِ قِيلَ أَنَّ (ذَا) بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ تَصِيرُ اسْمَ مَوْصُولٍ، وَقَدْ يُذْكَرُ الْمَوْصُولُ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: ٢٥٥].
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ فُزِّعَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ مُشَدَّدَةً بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ فَزَّعَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ.
وَقَدْ
وَرَدَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِآدَمَ: «أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ»
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي شَفَاعَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ كُلِّهِمْ «لِيَدْخُلْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ». وَفِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَبَوْا أَنْ يَشْفَعُوا وَأَنَّ أَهْلَ الْمَحْشَرِ أَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: «سَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ»
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فَيُجْعَلُ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ تَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ»
. وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ تَتِمَّة جَوَابَ الْمُجِيبِينَ، عَطَفُوا تَعْظِيمَ اللَّهِ بِذِكْرِ صِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ، وَهُمَا صِفَةُ الْعَلِيُّ وَصِفَةُ الْكَبِيرُ.
وَالْعُلُوُّ: عُلُوُّ الشَّأْنِ الشَّامِلُ لِمُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي الْعِلْمِ.
وَالْكِبْرُ: الْعَظَمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، وَهِيَ مُنْتَهَى الْقُدْرَةِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَتَخْصِيصُ هَاتَيْنِ
قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ
[الْفرْقَان: ١٧] الْآيَةَ.
وَضَمِيرُ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ [الصافات: ١٥١، ١٥٢] أَوْ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ [الصافات: ١٦٠]، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا تَعْبُدُونَ بِمُرَاعَاةِ إِفْرَادِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَهُوَ مَا.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ «فَاتِنِينَ» لِقَصْدِ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: بِفَاتِنِينَ أَحَدًا، وَمِعْيَارُهُ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ وَالْمُسْتَثْنَى مَفْعُولٌ بِفاتِنِينَ. وَحَرْفُ (عَلَى) يَتَعَلَّقُ بِ «فَاتِنِينَ» إِمَّا لِتَضْمِينِ «فَاتِنِينَ» مَعْنَى مُفْسِدِينَ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ كَمَا يُقَالُ: فَسَدَ الْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ وَخَلَّقَ فُلَانٌ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا، وَتَكُونُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ تَضْمِينَ مُفْسِدِينَ فِيهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ. وَإِمَّا لِتَضْمِينِهِ معنى حاملين ومسؤولين وَيَكُونُ (عَلَى) بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ:
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٥] وَيَكُونُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ بَيْنَ (عَلَى) وَمَجْرُورِهَا تَقْدِيرُهُ: عَلَى عِبَادَةِ مَا تَعْبُدُونَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ وَالشَّيَاطِينَ لَا يَتْبَعُكُمْ أَحَدٌ فِي دِينِكُمْ إِلَّا مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِيَكُونَ صَالِيَ الْجَحِيمِ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: ٤٢، ٤٣].
وَرُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ صالِ الْجَحِيمِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ اللَّامِ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْوَصْلِ فَإِنَّ الْيَاءَ لَا يُنْطَقُ بِهَا فَرَسَمَهُ كَاتِبُ الْمُصْحَفِ بِمِثْلِ حَالَةِ النُّطْقِ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوقَفَ على صالِ.
[١٦٤- ١٦٦]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٦٤ إِلَى ١٦٦]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: ١٦٠] عَلَى أَوَّلِ الْوَجْهَيْنِ
اضْطِرَابِهَا وَتَزَلْزُلِهَا، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ بِأَكْثَرِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣١].
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلَ الْأَرْضَ ذَاتَ قَرَارٍ، أَيْ قَرَارٍ لَكُمْ، أَيْ جَعَلَهَا مُسْتَقَرًّا لَكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] أَيْ خَلَقَهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ تُلَائِمُ الِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهَا بِأَنْ جَعَلَهَا يَابِسَةً غَيْرَ سَائِلَةٍ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ سَطْحَ الْأَرْضِ سَيَّالًا كَالزِّئْبَقِ أَوْ كَالْعَجَلِ فَلَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ سَائِخًا فِيهَا يَطْفُو تَارَةً وَيَسِيخُ أُخْرَى فَلَا يَكَادُ يَبْقَى عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ كَوَسَطِ سَبْخَةِ (التاكمرت) (١) الْمُسَمَّاةِ: «شَطَّ الْجَرِيدِ» الْفَاصِلَ بَين «نفطة» و «نفزاوة» مِنَ الْجَنُوبِ التُّونُسِيِّ فَإِنَّ فِيهَا مَسَافَاتٍ إِذَا مَشَتْ فِيهَا الْقَوَافِلُ سَاخَتْ فِي الْأَرْضِ فَلَا يُعْثَرُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ لَا تَسِيرُ فِيهَا الْقَوَافِلُ إِلَّا بِهُدَاةٍ عَارِفِينَ بِمَسَالِكِ السَّيْرِ فِي عَلَامَاتٍ مَنْصُوبَةٍ، فَكَانَتْ خِلْقَةُ الْأَرْضِ دَالَّةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَلَى دَقِيقِ حِكْمَتِهِ وَعَلَى رَحْمَتِهِ بِالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْمَعْمُورِ بِهِمَا وَجْهُ الْأَرْضِ.
وَالْبِنَاءُ: مَا يُرْفَعُ سُمْكُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلِاتِّقَاءِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ وَالدَّوَابِّ.
وَوَصْفُ السَّمَاءِ بِالْبِنَاءِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢].
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.
لَا جَرَمَ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِإِيجَادِ مَا يَحُفُّ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْعَوَالِمِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُلَائِمَةٍ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَرَاحَتِهِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِإِيجَادِ الْإِنْسَانِ فِي ذَاتِهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مُلَائِمَةٍ لَهُ مُدَّةَ بَقَاءِ نَوْعِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَتَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ التَّذْكِيرَ بِمَا مَهَّدَ لَهُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ خلقه خلقا مُسْتَوْفِيًا مَصْلَحَتَهُ وَرَاحَتَهُ.
_________
(١) التاكمرت كلمة بلغَة البربر بِمَعْنى السبخة.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمَشُوبِ بِالْإِنْكَارِ. وَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِأَجْلِ التَّصْدِيرِ.
ولَوْ وَصْلِيَّةٌ، ولَوْ الْوَصْلِيَّةُ تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ بِنِهَايَةِ مَدْلُولِ شَرْطِهَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [٩١]، أَيْ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ تَبْقَوْنَ عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ وَتَتْرُكُونَ مَا هُوَ أَهْدَى.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ آبَاءَهُمْ لَعَلَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ أَهْدَى مِنْهُمْ. وَصَوْغُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنَ الْهَدْيِ إِرْخَاءٌ لِلْعِنَانِ لَهُمْ لِيَتَدَبَّرُوا، نَزَّلَ مَا كَانَ عَلَيْهِم آبَاؤُهُمْ مَنْزِلَةَ مَا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْهُدَى اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَتَصَدَّوْا لِلنَّظَرِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:
٢٤].
قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.
بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:
٢٣]، لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى: لَا نَتَّبِعُكُمْ وَنَتْرُكُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، وَضَمِيرُ قالُوا رَاجِعٌ إِلَى مُتْرَفُوها [الزخرف: ٢٣] لِأَنَّ مَوْقِعَ جُمْلَةِ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف:
٢٥] يُعَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ وَقَعَ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَقَعَ تَهْدِيدُهُمْ بِأُولَئِكَ.
وَقَوْلُهُمْ: (مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ، فَإِطْلَاقُهُمُ اسْمَ الْإِرْسَالِ عَلَى دَعْوَةِ رُسُلِهِمْ تَهَكُّمٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى وَإِنَّمَا قَالُوا إِنَّا بِمَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ مُرْسَلُونَ بِهِ، وَمَا أُرْسِلُوا بِهِ تَوْحِيد الْإِلَه.
[٢٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٥]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: ٢٤]، أَيِ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ عَقِبَ
وَمَعْنَى لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لم تعملوا إِيمَانَهُمْ إِذْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بَعْدَ خُرُوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا.
فَعَنْ جُنْبُذِ- بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ- بْنِ سَبُعٍ- بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ، وَيُقَالُ: سِبَاعٌ بِكَسْرِ السِّينِ يُقَالُ: إِنَّهُ أَنْصَارِيٌّ، وَيُقَال: قاري صَاحِبي قَالَ: هُمْ سَبْعَةُ رِجَالٍ سُمِّيَ مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَأَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ وَأَبُو بَصِيرٍ الْقُرَشِيُّ- وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّابِعِ- وَعُدَّتْ أُمُّ الْفَضْلِ زَوْجُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ثَانِيَتَهُمَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الَّتِي لحقت بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَعَنْ حَجَرِ بْنِ خَلَفٍ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَتِسْعُ نِسْوَةٍ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ مَا يَشْمَلُ مَعْنَى نَفْيِ مَعْرِفَةِ أَشْخَاصِهِمْ وَمَعْنَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَيُفِيدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُهُمْ كَثِيرٌ مِنْكُمْ مِمَّنْ كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ فَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَشْخَاصَهُمْ فَلَا يَعْرِفُونَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا إِن كَانَ يَعْرِفُهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَيُفِيدُ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْ مَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، أَيْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْجَيْشُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار.
وأَنْ تَطَؤُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ رِجالٌ وَمَعْطُوفِهِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَيْ لَوْلَا أَنْ تَطَئُوهُمْ.
وَالْوَطْءُ: الدَّوْسُ بِالرِّجْلِ، وَيُسْتَعَارُ لِلْإِبَادَةِ وَالْإِهْلَاكِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا الْحَارِثُ بْنُ وَعْلَةَ الذُهْلِيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَوَطِئْتَنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ وَطْءَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهِرْمِ
وَالْإِصَابَةُ: لَحَاقُ مَا يُصِيبُ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ الرَّاجِعِ إِلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ، أَيْ فَتَلْحَقُكُمْ مِنْ جَرَّائِهِمْ وَمِنْ أَجْلِهِمْ مَعَرَّةٌ كُنْتُمْ تَتَّقُونَ لَحَاقَهَا لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَهُمْ.
وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ ابْنِ مَالِكٍ إِيَّاهُ فِي «شَرْحِ كَافِيَتِهِ» وَفِي «الْخُلَاصَةِ» مَعْنَى التَّعْدِيَةِ. وَلَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ لِأَن مَدْخُول هَذِه اللَّامِ قَدْ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ اللَّامُ تَعْدِيَةً مِثْلَ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَفْعُولِ، وَغَفَلَ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ هَذَا التَّدْقِيقِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْخَامِسُ مِنْ مَعَانِي اللَّامِ الْجَارَّةِ فِي «مُغْنِى اللَّبِيبِ» وَقَدْ مَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الشورى: ١١]، وَمَثَّلَ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَم: ٥]، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تَصْلُحُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: ٧٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [الْأَعْلَى: ٨] وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [اللَّيْل: ٧] وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [اللَّيْل: ١٠]، أَلَا تَرَى أَنَّ مَدْخُولَ اللَّامِ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ دَالٌّ عَلَى الْمُتَنَفِّعِينَ بِمَفَاعِيلِ أَفْعَالِهَا فَهُمْ مِثْلُ أَوَّلِ الْمَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا.
وَإِنَّمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ اللَّامِ لِدِقَّةِ مَعْنَاهَا وَلِيَتَّضِحَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ.
وَأَصْلُ مَعَانِي لَامِ الْجَرِّ هُوَ التَّعْلِيلُ وَتَنْشَأُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّامِ فِي التَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ مَعَانٍ شَاعَتْ فَسَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَجَعَلَهَا النَّحْوِيُّونَ مَعَانِيَ مُسْتَقِلَّةً لِقَصْدِ الْإِيضَاحِ.
وَالذِّكْرُ: مَصْدَرُ ذَكَرَ الَّذِي هُوَ التَّذَكُّرُ الْعَقْلِيُّ لَا اللِّسَانِيُّ، وَالَّذِي يُرَادِفُهُ الذُّكْرُ بِضَمِّ
الذَّالِ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ، فَالذِّكْرُ هُوَ تَذْكُّرُ مَا فِي تَذَكُّرِهِ نَفَعٌ وَدَفْعُ ضَرٍّ، وَهُوَ الِاتِّعَاظُ وَالِاعْتِبَارُ.
فَصَارَ مَعْنَى يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أَنَّ الْقُرْآنَ سُهِّلَتْ دَلَالَتُهُ لِأَجْلِ انْتِفَاعِ الذِّكْرِ بِذَلِكَ التَّيْسِيرِ، فَجعلت سرعَة ترَتّب التَّذَكُّرِ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْفَعَةٍ لِلذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَشِيعُ وَيَرُوجُ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ طَالِبُ شَيْءٍ إِذَا يُسِّرَتْ لَهُ وَسَائِلُ تَحْصِيلِهِ، وَقُرِّبَتْ لَهُ أَبَاعِدُهَا. فَفِي قَوْلِهِ:
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَلَفْظُ يَسَّرْنَا تَخْيِيلٌ. وَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلْمُتَذَكِّرِينَ.
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، إِلَّا أَنَّ بَيْنَ الِادِّكَارَيْنِ فَرْقًا دَقِيقًا، فَالِادِّكَارُ السَّالِفُ ادِّكَارُ اعْتِبَارٍ عَنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ الْأُمَّةِ البائدة، والادّكار الْمَذْكُور هُنَا ادِّكَارٌ عَنْ سَمَاعِ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ الْبَالِغَةِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ والاهتداء بِهِ.
فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ دَالٌّ عَلَى حَالَةِ الْمُمَثَّلِ لَهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُونَ عَوْقَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَمَثَلِ قَوْمٍ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ النُّورِ، فَهَذَا تَشْبِيهُ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.
ثُمَّ إِنْ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْمَحَاسِنِ أَنَّهُ قَابِلٌ لِتَفْرِقَةِ التَّشْبِيهِ عَلَى أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ، فَالْيَهُودُ فِي
حَالِ إِرَادَتِهِمْ عَوْقَ الْإِسْلَامِ عَنِ الظُّهُورِ مُشَبَّهُونَ بِقَوْمٍ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ الْإِسْلَامِ فَشُبِّهَ بِمِصْبَاحٍ. وَالْمُشْرِكُونَ مِثْلُهُمْ وَقَدْ مُثِّلَ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِنَظِيرِ هَذَا التَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ الْآيَةُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٣٠، ٣٢]، وَوَصْفهِمُ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ سِحْرٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ تَمْوِيهَاتِهِمْ، فَشُبِّهَ بِنَفْخِ النَّافِخِينَ عَلَى الْمِصْبَاحِ فَكَانَ لِذِكْرِ بِأَفْواهِهِمْ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ لِأَنَّ الْإِطْفَاءَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْأَفْوَاهِ مِثْلِ الْمِرْوَحَةِ وَالْكِيرِ، وَهُمْ أَرَادُوا إِبْطَالَ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِزَعْمِ أَنَّهَا مِنْ أَقْوَالِ السِّحْرِ.
وَإِضَافَةُ نُورَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، أَيْ نُورًا أَوْقَدَهُ اللَّهُ، أَيْ أَوْجَدَهُ وَقَدَّرَهُ فَمَا ظَنُّكُمْ بِكَمَالِهِ.
وَاللَّامُ من قَوْله: لِيُطْفِؤُا تُسَمَّى اللَّامَ الزَّائِدَةَ، وَتُفِيدُ التَّأْكِيدَ. وَأَصْلُهَا لَامُ التَّعْلِيلِ، ذُكِرَتْ عِلَّةُ فِعْلِ الْإِرَادَةِ عِوَضًا عَنْ مَفْعُولِهِ بِتَنْزِيلِ الْمَفْعُولِ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ.
وَالتَّقْدِيرُ: يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ لِيُطْفِئُوا. وَيكثر وُقُوع هَذِه اللَّامِ بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَمَادَّةِ الْأَمْرِ. وَقَدْ سَمَّاهَا بَعْضُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: لَامَ (أَنْ) لِأَنَّ مَعْنَى (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ مُلَازِمٌ لَهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦].
فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ اللَّامَ بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُرِيدُونَ وَهِيَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مُرَادَهُمْ وَأَنَّ هَذَا الدِّينَ سَيَتِمُّ، أَيْ يَبْلُغُ تَمَامَ الِانْتِشَارِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»
. وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ تُفِيدُ ثُبُوتَ هَذَا الْإِتْمَامِ. وَالتَّمَامُ: هُوَ حُصُولُ جَمِيعِ مَا لِلشَّيْءِ
وَقَدْ أَشْعَرَ وَعْدُهُ إِيَّاهُمْ بِالتَّأْخِيرِ أَنَّهُ تَأْخِيرُ مَجْمُوعِهِمْ، أَيْ مَجْمُوعُ قَوْمِهِ لِأَنَّهُ جُعِلَ جَزَاءً لِكُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ مِنْهُمْ وَاتَّقَاهُ وَأَطَاعَ الرَّسُولَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِاسْتِئْصَالِ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [نوح: ١] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَكَمَا يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ [٣٨] وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ أَيْ سَخِرُوا مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يَصْنَعُ الْفُلْكَ لِلْوِقَايَةِ مِنْهُ وَهُوَ أَمْرُ الطُّوفَانِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّأْخِيرَ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ عَدَمُ اسْتِئْصَالِهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَيُؤَخَّرُ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ آجَالُ إِشْخَاصِهِمْ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ.
وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: هُوَ الْأَجَلُ الْمُعَيَّنُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ عِنْدَ خِلْقَةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَالتَّنْوِينُ فِي أَجَلٍ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيِ الْجِنْسِ، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى آجَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِعَدَدِ أَصْحَابِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الْحَج: ٥].
وَمَعْنَى مُسَمًّى أَنَّهُ مُحَدَّدٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فِي
سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢].
فَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: هُوَ عُمُرُ كُلِّ وَاحِدٍ، الْمُعَيَّنُ لَهُ فِي سَاعَةِ خَلْقِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ
فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ الْمَلَكَ يُؤْمَرُ بِكَتْبِ أجل الْمَخْلُوق عِنْد مَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»
، وَاسْتُعِيرَتِ التَّسْمِيَةُ لِلتَّعْيِينِ لِشَبَهِ عَدَمِ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْآجَالِ.
وَالْمَعْنَى: وَيُؤَخِّرُكُمْ فَلَا يُعَجِّلُ بِإِهْلَاكِكُمْ جَمِيعًا فَيُؤَخِّرُ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى أَجْلِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ عَلَى تَفَاوُتِ آجَالِهِمْ.
فَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ نَظِيرُ مَعْنَى آيَةِ سُورَةِ هُودٍ [٣] وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهِيَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ تَعْلِيلًا لِلرَّبْطِ الَّذِي بَيْنَ الْأَمْرِ وَجَزَائِهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَخْ لِأَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَجَوَابِهِ يُعْطِي بِمَفْهُومِهِ مَعْنَى: إِنْ لَا تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تَتَّقُوهُ وَلَا تُطِيعُونِي لَا يَغْفِرْ لَكُمْ وَلَا يُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَعُلِّلَ هَذَا
أَهْلُ مَكَّةَ تُجَّارًا، وَكَانَ فِي يَثْرِبَ تُجَارٌ أَيْضًا وَفِيهِمُ الْيَهُودُ مِثْلُ أَبِي رَافِعٍ، وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ تَاجِرَيْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَكَانَتْ تِجَارَتُهُمْ فِي التَّمْرِ وَالْحُبُوبِ. وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَعَامَلُونَ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُمْ يَتَّجِرُونَ فِي أَصْنَافِ السِّلَعِ وَيَزِنُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَأَهْلُ يَثْرِبَ يَتَعَامَلُونَ بِالْكَيْلِ.
وَالْآيَةُ تُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّطْفِيفَ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْهِجْرَةِ وَاخْتِلَاطُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُنَافِقِينَ يُسَبِّبُ ذَلِكَ.
وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَكَانَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِالتَّطْفِيفِ فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا جُهَيْنَةَ وَاسْمُهُ عَمْرٌو كَانَ لَهُ صَاعَانِ يَأْخُذُ بِأَحَدِهِمَا وَيُعْطِي بِالْآخَرِ.
فَجُمْلَةُ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ إِدْمَاجٌ، مَسُوقَةٌ لِكَشْفِ عَادَةٍ ذَمِيمَةٍ فِيهِمْ هِيَ الْحِرْصُ عَلَى تَوْفِيرِ مِقْدَارِ مَا يَبْتَاعُونَهُ بِدُونِ حَقٍّ لَهُمْ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ جُمْلَةُ: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ فَهُمْ مَذْمُومُونَ بِمَجْمُوعِ ضِمْنِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَالِاكْتِيَالُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْكَيْلِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي تَسَلُّمِ مَا يُكَالُ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَالِ: ابْتَاعَ، وَارْتَهَنَ، وَاشْتَرَى، فِي مَعْنَى أَخْذِ الْمَبِيعِ وَأَخْذِ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ وَأَخْذِ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ، فَهُوَ مُطَاوِعُ كَالَ، كَمَا أَنَّ ابْتَاعَ مُطَاوِعُ بَاعَ، وَارْتَهَنَ مُطَاوِعُ رَهَنَ، وَاشْتَرَى مُطَاوِعُ شَرَى، قَالَ تَعَالَى: فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ [يُوسُف: ٦٣] أَيْ نَأْخُذْ طَعَامًا مَكِيلًا، ثُمَّ تُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ.
وَحَقُّ فِعْلِ اكْتَالَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَكِيلُ، فَيُقَالُ: اكْتَالَ فُلَانٌ طَعَامًا مِثْلُ ابْتَاعَ، وَيُعَدَّى إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِحَرْفِ الْجَرِّ مِثْلَ (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ فَيُقَالُ: اكْتَالَ طَعَامًا مِنْ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ فِي الْآيَةِ بِحَرْفِ عَلَى لِتَضْمِينِ اكْتالُوا مَعْنَى التَّحَامُلِ، أَيْ إِلْقَاءُ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْغَيْرِ وَظُلْمُهُ، ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ التَّاجِرِ وَخُلُقَهُ أَنْ يَتَطَلَّبَ تَوْفِيرَ الرِّبْحِ وَأَنَّهُ مَظِنَّةُ السَّعَةِ وَوُجُودُ الْمَالِ بِيَدِهِ فَهُوَ


الصفحة التالية
Icon