دُونَ إِعَادَةٍ، وَلَيْسَتِ الْإِعَادَةُ فِي مِثْلِهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ قَدْ زِيدَ عَلَيْهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ:

فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
مُحَالٌ أَنْ تَقُولَ إِذَا قُمْتُ قُمْتُ وَإِذَا أَقْعُدُ أَقْعُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَا فِي الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ لِمَا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمُفَادَةُ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ (يَعْنِي الْفَارِسِيَّ) امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخَذْنَاهُ اهـ.
قُلْتُ وَلَمْ يَتَّضِحْ تَوْجِيهُ امْتِنَاعِ أَبِي عَلِيٍّ فَلَعَلَّهُ امْتَنَعَ مِنَ اعْتِبَارِ أَغْوَيْناهُمْ بَدَلًا مِنْ أَغْوَيْنا وَجَعَلَهُ اسْتِئْنَافًا وَإِنْ كَانَ الْمَآلُ وَاحِدًا. وَفِي اسْتِحْضَارِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ، وَإِسْنَادِ فِعْلِ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِمْ خِلَافًا لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ.
ثُمَّ إِنَّ فِي اخْتِيَارِ وَصْفِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِأَنَّهُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ دُونَ بَقِيَّةِ أَوْصَافِهِ تَمْهِيدًا لِبِسَاطِ الْإِجَابَةِ فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قُلْتَ لَهُ أَعْطِنِي كَمَا أَعْطَيْتَ فُلَانًا كَانَ ذَلِكَ أَنْشَطَ لِكَرَمِهِ، كَمَا قَرَّرَهُ الشَّيْخُ الْجَدُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ
فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ»
، فَيَقُولُ السَّائِلُونَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيم الصِّرَاط الَّذين هَدَيْتَ إِلَيْهِ عَبِيدَ نِعَمِكَ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيضِ بِطَلَبِ أَن يَكُونُوا لَا حقين فِي مَرْتَبَةِ الْهُدَى بِأُولَئِكَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَتَهَمُّمًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي ارْتَقَوْا بِهَا إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: ٦]، وَتَوْطِئَةً لِمَا سَيَأْتِي بعد من التبري
مِنَ أَحْوَالِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا وَتَعَوُّذًا.
وَالنِّعْمَةُ- بِالْكَسْرِ وَبِالْفَتْحِ- مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّعِيمِ وَهُوَ رَاحَةُ الْعَيْشِ وَمُلَائِمُ الْإِنْسَانِ وَالتَّرَفُّهِ، وَالْفِعْلُ كَسَمِعَ وَنَصَرَ وَضَرَبَ. وَالنِّعْمَةُ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ لِأَنَّ بِنَاءَ الْفِعْلَةِ بِالْكَسْرِ لِلْهَيْئَاتِ وَمُتَعَلِّقَ النِّعْمَةِ اللَّذَّاتُ الْحِسِّيَّةُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي اللَّذَّاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْعَائِدَةِ بِالنَّفْعِ وَلَوْ لَمْ يُحِسَّ بِهَا صَاحِبُهَا. فَالْمُرَادُ مِنَ النِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةُ الَّتِي لَمْ يَشُبْهَا مَا يُكَدِّرُهَا وَلَا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا سُوأَى، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا الْخَالِصَةِ مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ وَلِخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ الْأَهَمُّ، فَيَشْمَلُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْمَوْهُوبِيَّ مِنْهَا وَالْكَسْبِيَّ، وَالرُّوحَانِيَّ وَالْجُثْمَانِيَّ، وَيَشْمَلُ النِّعَمَ الْأُخْرَوِيَّةَ.
فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ»
، عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنَّ عَلِيًّا اتَّهَمَهَا بِأَنَّهَا تُرِيدُ بِإِحْدَاثِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْحُكْمِ إِظْهَارَ الْوَهَنِ فِي الْحُكْمِ وَالْإِعْلَانِ بِتَكْذِيبِ الْمَحْكُومِ لَهُ وَلَعَلَّهَا إِذَا طُلِبَ مِنْهَا الْعَقْدُ أَنْ تَمْتَنِعَ فَيُصْبِحَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَضَاءَ فِيمَا يَقَعُ صَحِيحًا وَفَاسِدًا شَرْعًا مِنْ كُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِصِحَّتِهِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ اسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ، فَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا وَلِذَلِكَ لَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّ الْمُدْلِيَ بِالْأَمْوَالِ لِلْحُكَّامِ لِيَأْكُلَ أَمْوَالَ النَّاسِ عَالِمٌ لَا مَحَالَةَ بِصُنْعِهِ، فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ تَشْنِيعُ الْأَمْرِ وَتَفْظِيعُهُ إِعْلَانًا بِأَنَّ أَكْلَ الْمَالِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ هُوَ مِنَ الَّذِينَ أَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ عَنْ عِلْمٍ وَعَمْدٍ فَجُرْمُهُ أَشَدُّ.
[١٨٩]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ شَرَائِعِ الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إِلَى إِصْلَاحِ النِّظَامِ، دَعَا إِلَيْهِ مَا حَدَثَ مِنَ السُّؤَالِ، فَقَدْ رَوَى الْوَاحِدِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ أَحَدَ الْيَهُودِ سَأَلَ أَنْصَارِيًّا عَنْ الْأَهِلَّةِ وَأَحْوَالِهَا فِي الدِّقَّةِ إِلَى أَنْ تَصِيرَ بَدْرًا ثُمَّ تَتَنَاقَصُ حَتَّى تَخْتَفِيَ فَسَأَلَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ نُزُولَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ نُزُولِ آيَاتِ فَرْضِ الصِّيَامِ بِبِضْعِ سِنِينَ لِأَنَّ آيَةَ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها مُتَّصِلَةٌ بِهَا. وَسَيَأْتِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ عَامِ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ. فَمُنَاسَبَةُ وَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ تَوْقِيتُ الصِّيَامِ بِحُلُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَكَانَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ ذِكْرُ الْمَوَاقِيتِ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَمِنْ كَمَالِ النِّظَامِ ضَبْطُ الْأَوْقَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ شُرِعَ الْحَجُّ أَيْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.
وَابْتُدِئَتِ الْآيَة ب يَسْئَلُونَكَ لِأَنَّ هُنَالِكَ سُؤَالًا وَاقِعًا عَنْ أَمْرِ الْأَهِلَّةِ. وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي افتتحت ب يَسْئَلُونَكَ هِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِأَحْكَامٍ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهَا فَيَكُونُ مَوْقِعُهَا فِي الْقُرْآنِ مَعَ آيَاتٍ تُنَاسِبُهَا نَزَلَتْ فِي وَقْتِهَا أَوْ قُرِنَتْ بِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
وَأَمَّا الِاخْتِيَارِيُّ فَهُوَ مَا أَبْقَاهُ ذَلِكَ التَّمَازُجُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَخْلَاقٍ وَعَوَائِدَ، حَسُنَتْ فِي أَعْيُنِ رَائِيهَا، فَاقْتَبَسُوهَا، وَأَشْيَاءَ قَبُحَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَحَذِرُوهَا، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ نَشَأَتْ يَقَظَةٌ جَدِيدَةٌ، وَتَأَسَّسَتْ مَدَنِيَّاتٌ مُتَفَنِّنَةٌ، وَتَهَيَّأَتِ الْأَفْكَارُ إِلَى قَبُولِ التَّغْيِيرَاتِ الْقَوِيَّةِ، فَتَهَيَّأَتْ جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى قَبُولِ التَّعَالِيمِ الْغَرِيبَةِ عَنْ عَوَائِدِهَا وَأَحْوَالِهَا، وَتَسَاوَتِ الْأُمَمُ وَتَقَارَبَتْ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ تَفَاوُتًا رُبَّمَا كَانَ مِنْهُ مَا زَاد بَعْضهَا تهيّئوا لِقَبُولِ التَّعَالِيمِ الصَّحِيحَةِ، وَقَهْقَرَ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ بِمَا دَاخَلَهَا مِنَ الْإِعْجَابِ بِمَبْلَغِ عِلْمِهَا، أَوِ الْعُكُوفِ وَالْإِلْفِ عَلَى حَضَارَتِهَا.
فَبَلَغَ الْأَجَلُ الْمُرَادُ وَالْمُعَيَّنُ لِمَجِيءِ الشَّرِيعَةِ الْحَقِّ الْخَاتِمَةِ الْعَامَّةِ.
فَأَظْهَرَ اللَّهُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ لِظُهُورِهِ، وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُهُ بَيْن ظَهْرَانَيْ أُمَّةٍ لَمْ تَسْبِقْ لَهَا سَابِقَةُ سُلْطَانٍ، وَلَا كَانَتْ ذَاتَ سِيَادَةٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جِهَاتِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهَا أُمَّةٌ سَلَّمَهَا اللَّهُ مِنْ مُعْظَمِ رُعُونَاتِ الْجَمَاعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَظْهَرَ هَذَا الدِّينَ بِوَاسِطَةِ رَجُلٍ مِنْهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَا مِنْ أَهْلِ الدَّوْلَةِ، وَلَا مِنْ ذُرِّيَّةِ مُلُوكٍ، وَلَا اكْتَسَبَ خِبْرَةً سَابِقَةً بِهِجْرَةٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ، لِيَكُونَ ظُهُور هَذَا تَحت الصَّرِيحِ، وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، مِنْ مِثْلِهِ آيَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ نَفَحَ بِهِ عِبَادَهُ.
ثُمَّ جَعَلَ أُسُسَ هَذَا الدِّينِ مُتَبَاعِدَةً عَنْ ذَمِيمِ الْعَوَائِدِ فِي الْأُمَمِ، حَتَّى الْأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ بَيْنَهَا، وَمُوَافِقَةً لِلْحَقِّ وَلَوْ كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ أَعْدَاؤُهَا، وَكَانَتْ أُصُولُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى الْفِطْرَةِ بِمَعْنَى أَلَّا تَكُونَ نَاظِرَةً إِلَّا إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ، غَيْرَ مَأْسُورٍ لِلْعَوَائِدِ وَلَا لِلْمَذَاهِبِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الرّوم: ٣٠]، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ ابْنُ سِينَا: «الْفِطْرَةُ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَصَلَ فِي الدُّنْيَا دَفْعَةً وَهُوَ عَاقِلٌ، لَمْ يَسْمَعْ
رَأْيًا، وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبًا، وَلَمْ يُعَاشِرْ أُمَّةً، لَكِنَّهُ شَاهَدَ الْمَحْسُوسَاتِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَى ذِهْنِهِ الْأَشْيَاءَ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ الشَّكُّ فِي شَيْءٍ فَالْفِطْرَةُ لَا تَشْهَدُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الشَّكُّ فِيهِ فَالْفِطْرَةُ تُوجِبُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا تُوجِبُهُ الْفِطْرَةُ بِصَادِقٍ، بَلِ الصَّادِقُ مِنْهُ مَا تَشْهَدُ بِهِ فِطْرَةُ الْقُوَّةِ الَّتِي تُسَمَّى عَقْلًا، قَبْلَ أَنْ يَعْتَرِضَهُ الْوَهْمُ»
.
الْكِتَابِ إِلَّا أَنَّ حُكْمَهَا يَشْمَلُ مَنْ يَرْتَكِبُ مِثْلَ صَنِيعِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْحُكْمِ والعلّة فِيهِ.
[١٨٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨٨]
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
تَكْمِلَةٌ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِبَيَانِ حَالَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اخْتِلَالَ أَمَانَتِهِمْ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ، وَهَذَا ضَرْبٌ آخَرُ جَاءَ بِهِ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى ذِكْرِ صِلَتِهِ الْعَجِيبَةِ مِنْ حَالِ مَنْ يَفْعَلُ الشَّرَّ وَالْخِسَّةَ ثُمَّ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ الِانْكِسَارِ لِمَا فَعَلَ أَوْ تَطَلُّبِ السِّتْرِ عَلَى شَنْعَتِهِ، بَلْ يَرْتَقِي فَيَتَرَقَّبُ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَى سُوءِ صُنْعِهِ، وَيَتَطَلَّبُ الْمَحْمَدَةَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْخِطَابُ، وَالْمَوْصُولُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُعَرَّفِ بلام الْعَهْد لأنّ أُرِيدَ بِهِ قَوْمٌ مُعَيَّنُونَ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، فَمَعْنَى يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُوا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ نَبْذُ الْكِتَابِ وَالِاشْتِرَاءُ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا وإنّما فَرَحهمْ بِمَا نَالُوا بِفِعْلِهِمْ مِنْ نَفْعٍ فِي الدُّنْيَا.
وَمَعْنَى: يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ حَفَظَةُ الشَّرِيعَةِ وَحُرَّاسُهَا وَالْعَالِمُونَ بِتَأْوِيلِهَا، وَذَلِكَ خِلَافُ الْوَاقِعِ. هَذَا ظَاهِرُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَتَوْا إِضْلَالَ أَتْبَاعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَبُّوا الْحَمْدَ بِأَنَّهُمْ عُلَمَاءٌ بِكُتُبِ الدِّينِ.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ»، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَن الْغَزْو ويعتذرون بِالْمَعَاذِيرِ، فَيَقْبَلُ مِنْهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّ لَهُمْ نِيَّةَ
الْمُجَاهِدِينَ، وَلَيْسَ الْمَوْصُولُ بِمَعْنَى لَامِ الِاسْتِغْرَاقِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِبَوَّابِهِ: «اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ»
. وَغير الرَّسُول يخطىء فِي الِانْدِرَاجِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ بَذْلُ الْجُهْدِ وَاسْتِقْصَاءُ الدَّلِيلِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِيَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ ذَلِك إلّا لنبيّه وَأَمَّا الْوَاحِدُ مِنَّا فَرَأْيُهُ يَكُونُ ظَنًّا وَلَا يَكُونُ عِلْمًا»، وَمَعْنَاهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
عُرُوضِ الْخَطَأِ فِي الْفَهْمِ لِغَيْرِ الرَّسُولِ دُونَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْخائِنِينَ خَصِيماً لَامُ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ لَامُ التَّقْوِيَةِ. وَمَفْعُولُ خَصِيماً مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ مُقَابِلِهِ وَهُوَ لِلْخائِنِينَ أَيْ لَا تَكُنْ تُخَاصِمُ مَنْ يُخَاصِمُ الْخَائِنِينَ، أَيْ لَا تُخَاصِمْ عَنْهُمْ. فَالْخَصِيمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُنْتَصِرُ الْمُدَافِعُ كَقَوْلِهِ: «كُنْتُ أَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ الْأُمَّةُ، لِأَنَّ الْخِصَامَ عَنِ الْخَائِنِينَ لَا يُتَوَقَّعُ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَحْذِيرُ الَّذِينَ دَفَعَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ إِلَى الِانْتِصَارِ لِأَبْنَاءِ أُبَيْرِقٍ.
وَالْأَمْرُ بِاسْتِغْفَارِ اللَّهِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الرَّسُولِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ غَيْرُهُ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ وَهُوَ اسْتِغْفَارُ اللَّهِ مِمَّا اقْتَرَفُوهُ، أَوْ أَرَادَ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِلْخَائِنِينَ لِيُلْهِمَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ بِبَرَكَةِ اسْتِغْفَارِكَ لَهُمْ فَذَلِكَ أَجْدَرُ مِنْ دِفَاعِ الْمُدَافِعِينَ عَنْهُمْ.
وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النِّسَاء: ٦٤] وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ اسْتِغْفَارَ النَّبِيءِ لِنَفْسِهِ، كَمَا أَخْطَأَ فِيهِ مَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَرَ بِبَالِهِ مَا أَوْجَبَ أَمْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ هَمُّهُ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَرَقُوا، خَشْيَةَ أَنْ يَفْتَضِحُوا، وَهَذَا مِنْ أَفْهَامِ الضُّعَفَاءِ وَسُوءِ وَضْعِهِمُ الْأَخْبَارَ لِتَأْيِيدِ سَقِيمِ أَفْهَامِهِمْ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُجادِلْ
لِلرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ الْأُمَّةِ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُتَرَقَّبُ صُدُورُهُ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.
فَالنَّكَالُ ضَرْبٌ مِنْ جَزَاءِ السُّوءِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٦].
وَانْتَصَبَ جَزاءً عَلَى الْحَالِ أَوِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَانْتَصَبَ نَكالًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ جَزاءً بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
فَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْقَطْعِ الْجَزَاءُ عَلَى السَّرِقَةِ جَزَاءً يُقْصَدُ مِنْهُ الرَّدْعُ وَعَدَمُ الْعَوْدِ، أَيْ جَزَاءً لَيْسَ بِانْتِقَامٍ وَلَكِنَّهُ اسْتِصْلَاحٌ. وَضَلَّ مَنْ حَسِبَ الْقَطْعَ تَعْوِيضًا عَنِ الْمَسْرُوقِ، فَقَالَ مِنْ بَيْتَيْنِ يُنْسَبَانِ إِلَى المعرّي (وليسا فِي «السَّقْطِ» وَلَا فِي «اللُّزُومِيَّاتِ» ) :
يَدٌ بِخمْس مئين عسجدا وُدِيَتْ مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبُعِ دِينَارٍ
وَنُسِبَ جَوَابُهُ لِعَلَمِ الدِّينِ السَّخَاوِيِّ:
عِزُّ الْأَمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أَيْ مَنْ تَابَ مِنَ السَّارِقِينَ مِنْ بَعْدِ السَّرِقَةِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَيْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٧]. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِ عُقُوبَةِ السَّرِقَةِ عَنِ السَّارِقِ إِنْ تَابَ قَبْلَ عِقَابِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ (تَابَ- وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَنَّهُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ فَقَوْلُهُ: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ تَرْغِيبٌ لِهَؤُلَاءِ الْعُصَاةِ فِي التَّوْبَةِ وَبِشَارةٌ لَهُمْ. وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِبْطَالِ حُكْمِ الْعُقُوبَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا فِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ، فَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: تَوْبَةُ السَّارِقِ لَا تُسْقِطُ الْقَطْعَ وَلَوْ جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا تَائِبَةٌ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّ الْمُحَارِبَ مُسْتَبِدٌّ بِنَفْسِهِ مُعْتَصِمٌ بِقُوَّتِهِ لَا يَنَالُهُ الْإِمَامُ إِلَّا بِالْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَأُسْقِطَ إِجْزَاؤُهُ بِالتَّوْبَةِ اسْتِنْزَالًا مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ كَمَا فَعَلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَةِ جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي فَهُمَا فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ، اه.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ بِالتَّذْيِيلِ لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ: يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها [الْأَنْعَام: ٣١] عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي الْأُمُورِ النَّافِعَةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ الِانْهِمَاكِ فِي زَخَارِفِ الدُّنْيَا، فَذَيَّلَ ذَلِكَ بِخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيفًا بِقِيمَةِ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَتَبْشِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُ الْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ الْبِشَارَةِ عَلَى حِكَايَةِ النِّذَارَةِ. وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ التَّضَادُّ. وَأَيْضًا فِي هَذَا نِدَاءٌ عَلَى سَخَافَةِ عُقُولِهِمْ إِذْ غَرَّتْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَسُوِّلَ لَهُمُ الِاسْتِخْفَافُ بِدَعْوَةِ اللَّهِ إِلَى الْحَقِّ. فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ:
أَفَلا تَعْقِلُونَ خِطَابًا مُسْتَأْنَفًا لِلْمُؤْمِنِينَ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ تَغُرَّهُمْ زَخَارِفُ الدُّنْيَا فَتُلْهِيَهِمْ عَنِ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ عَلَى جِنْسِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَيَاةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيِ الْحَيَاةُ الَّتِي يَحْيَاهَا كُلُّ أَحَدٍ الْمَعْرُوفَةُ بِالدُّنْيَا، أَيِ الْأُولَى وَالْقَرِيبَةُ مِنَ النَّاسِ، وَأُطْلِقَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَلَى أَحْوَالِهَا، أَوْ عَلَى مُدَّتِهَا.
وَاللَّعِبُ: عَمَلٌ أَوْ قَوْلٌ فِي خِفَّةٍ وَسُرْعَةٍ وَطَيْشٍ لَيْسَتْ لَهُ غَايَةٌ مُفِيدَةٌ بَلْ غَايَتُهُ إِرَاحَةُ الْبَالِ وَتَقْصِيرُ الْوَقْتِ وَاسْتِجْلَابُ الْعُقُولِ فِي حَالَةِ ضَعْفِهَا كَعَقْلِ الصَّغِيرِ وَعَقْلِ الْمُتْعَبِ، وَأَكْثَرُهُ أَعْمَالُ الصِّبْيَانِ. قَالُوا وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اللُّعَابِ، وَهُوَ رِيقُ الصَّبِيِّ السَّائِلُ.
وَضِدَّ اللَّعِبِ الْجِدُّ.
وَاللَّهْوُ: مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا تَرْتَاحُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَا يَتْعَبُ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ عَقْلُهُ.
فَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ اسْتِمْتَاعٌ وَلَذَّةٌ وَمُلَائِمَةٌ لِلشَّهْوَةِ.
وَبَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ. فَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ مُلَاءَمَةٌ وَيُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنَ الْخِفَّةِ وَالطَّيْشِ كَالطَّرَبِ وَاللَّهْوِ بِالنِّسَاءِ. وَيَنْفَرِدُ اللَّعِبُ فِي لَعِبِ
الصِّبْيَانِ. وَيَنْفَرِدُ اللَّهْوُ فِي نَحْوِ الْمَيْسِرِ وَالصَّيْدِ.
وَقَدْ أَفَادَتْ صِيغَةُ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ قَصْرَ الْحَيَاةِ عَلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَهُوَ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الْأَعْمَالُ الَّتِي يُحِبُّ الْإِنْسَانُ الْحَيَاةَ لِأَجْلِهَا، لِأَنَّ الْحَيَاةَ مُدَّةٌ وَزَمَنٌ لَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ بِغَيْرِ أَوْصَافِ الْأَزْمَانِ مِنْ طُولٍ أَوْ قِصَرٍ،
الْمَجَازِيِّ: شَبَّهَ أَمْرَهُمْ بِالضَّالَّةِ الَّتِي تَرَكَهَا النَّاسُ فَسَارَتْ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَرَاحِهَا، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، وَاللَّهُ يُمْهِلُهُمْ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يَأْذَن لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ
[الدُّخان: ١٠، ١٦]. وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى هِيَ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (ثُمَّ) فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ مَعَ إِفَادَةِ الْمُهْلَةِ، أَيْ
يَبْقَى أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ مدّة. وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْهَالِ وَالْإِمْلَاءِ لَهُمْ، ثُمَّ يُعَاقِبُهُمْ، فَأَطْلَقَ الْإِنْبَاءَ عَلَى الْعِقَابِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعِقَابُ عِقَابَ الْآخِرَةِ فَهُوَ يَتَقَدَّمُهُ الْحِسَابُ، وَفِيهِ إِنْبَاءُ الْجَانِي بِجِنَايَتِهِ وَبِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهَا، فَإِطْلَاقُ الْإِنْبَاءِ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ مُرَادٌ مَعَهَا لَازِمُهُ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعِقَابُ عِقَابَ الدُّنْيَا فَإِطْلَاقُ الْإِنْبَاءِ عَلَيْهِ مجَاز، لأنّه إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ بَعْدَ الْوَعِيدِ عَلِمُوا أَنَّهُ الْعِقَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ، فَكَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَهُمْ عِنْدَ وُقُوعِهِ شَبِيهًا بِحُصُولِ الْعلم الْحَاصِل عَن الْإِخْبَارِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْإِنْبَاءَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: يُنَبِّئُهُمْ بِمَعْنَى يُعَاقِبُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
وَوَصْفُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا: يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ وَصْفٌ شَنِيعٌ، إِذْ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَّا فِي سِيَاقِ الذَّمِّ، فَيُؤْذِنُ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا فِي دِينِهِمْ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي دِينِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ- إِلَى قَوْلِهِ- أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: ١٣].
وَتَفْرِيقُ دِينِ الْإِسْلَامِ هُوَ تَفْرِيقُ أُصُولِهِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْعَرَبِ مِنْ مَنْعِهِمُ الزَّكَاةَ بَعْدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
مِنَ التَّبْلِيغِ وَالنُّصْحِ وَالْإِخْبَارِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ، وَذَلِكَ مَا حَسِبُوهُ ضَلَالًا، وَشَأْنُ (لَكِنَّ) أَنْ تَكُونَ جُمْلَتُهَا مُفِيدَةً مَعْنَى يُغَايِرُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَهَا، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ وَذَلِكَ هُوَ حَقِيقَةُ الِاسْتِدْرَاكِ الْمَوْضُوعَةُ لَهُ (لَكِنَّ) فَلَا بُدَّ مِنْ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ مَضْمُونَيِ الْجُمْلَتَيْنِ: إِمَّا فِي الْمُسْنَدِ نَحْوَ وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ [الْأَنْفَال: ٤٣] أَوْ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ نَحْوَ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: ١٧] فَلَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: مَا سَافَرْتُ وَلَكِنِّي مُقِيمٌ، وَأَكْثَرُ وُقُوعِهَا بَعْدَ جُمْلَةٍ مَنْفِيَّةٍ، لِأَنَّ النَّفْيَ مَعْنًى وَاسِعٌ، فَيَكْثُرُ أَنْ
يَحْتَاجَ الْمُتَكَلِّمُ بَعْدَهُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ، فَيَأْتِي بِالِاسْتِدْرَاكِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ رَفْعُ مَا يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ ثُبُوتَهُ أَوْ نَفْيَهُ فَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الِاسْتِدْرَاكِ أَوْ إِلَى بَعْضِ أَغْرَاضِ وُقُوعِهِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِدْرَاك لَا تتقوم إِلَّا بِذَلِكَ.
وَاخْتِيَارُ طَرِيقِ الْإِضَافَةِ فِي تَعْرِيفِ الْمُرْسَلِ: لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ مِنْ تَفْخِيمِ الْمُضَافِ وَمِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، تَعْرِيضًا بِقَوْمِهِ إِذْ عَصَوْهُ.
وَجُمْلَةُ: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي صِفَةٌ لِرَسُولٍ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِفَادَةُ التَّجَدُّدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكِ التَّبْلِيغِ مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ تَأْيِيسًا لَهُمْ مِنْ مُتَابَعَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَلَوْلَا هَذَا الْمَقْصِدُ لَكَانَ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَاصِلًا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلكِنِّي رَسُولٌ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ الرِّسَالَاتِ لِأَنَّ كُلَّ تَبْلِيغٍ يَتَضَمَّنُ رِسَالَةً بِمَا بَلَّغَهُ، ثُمَّ إِنِ اعْتُبِرَتْ جُمْلَةُ: أُبَلِّغُكُمْ صِفَةً، يَكُنْ الْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: أُبَلِّغُكُمْ وَقَوْلِهِ: رَبِّي الْتِفَاتًا، بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِن اعْتبرت استينافا، فَلَا الْتِفَاتَ.
وَالتَّبْلِيغُ وَالْإِبْلَاغُ: جَعْلُ الشَّيْءِ بَالِغًا، أَيْ وَاصِلًا إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْإِعْلَامِ بِالْأَمْرِ الْمَقْصُودِ عِلْمُهُ، فَكَأَنَّهُ يَنْقُلُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.
لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى هَذَا شَامِلٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْوَصْفِ، الْمَتِينِ، مَا لَوْ حُمِلَ الْكَيْدُ عَلَى مَعْنَى الْأَخْذِ عَلَى خَفَاءٍ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِظْهَارِ خِلَافِ مَا يُخْفِيهِ، فَإِنَّ جُمْلَةَ: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لَا تُفِيدُ إِلَّا تَعْلِيلَ الِاسْتِدْرَاجِ وَالْإِمْلَاءِ بِأَنَّهُمَا مِنْ فِعْلِ مَنْ يَأْخُذُ عَلَى خَفَاءٍ دُونَ تَلْوِينِ أَخْذِهِ بِمَا يَغُرُّ الْمَأْخُوذَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ كَائِدِينَ لَهُمْ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ.
وَإِطْلَاقُهُ هُنَا جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الْحَالِ الَّتِي يَسْتَدْرِجُ اللَّهُ بِهَا الْمُكَذِّبِينَ مَعَ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِلَى أَمَدٍ هُمْ بَالِغُوهُ، بِحَال من يهيىء أَخْذًا لِعَدُوِّهِ مَعَ إِظْهَارِ الْمُصَانَعَةِ وَالْمُحَاسَنَةِ لِيَزِيدَ عَدُوَّهُ غُرُورًا، وَلِيَكُونَ وُقُوعُ ضَرِّ الْأَخْذِ بِهِ أَشَدَّ وَأَبْعَدَ عَنِ الاستعداد لتلقيه.
و (المتين) الْقَوِيُّ، وَحَقِيقَتُهُ الْقَوِيُّ الْمَتْنِ أَيِ الظَّهْرِ، لِأَنَّ قُوَّةَ مَتْنِهِ تُمَكِّنُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ، وَمَتْنُ كُلِّ شَيْءٍ عَمُودُهُ وَمَا يتماسك بِهِ.
[١٨٤]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٨٤]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)
لَمَّا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ مُنْبَعِثًا عَنْ تَكْذِيبِهِمْ مَنْ جَاءَ بِهَا، وَنَاشِئًا عَنْ ظَنٍّ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَجِيءُ بِهَا الْبَشَرُ، وَأَنَّ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ مَجْنُونٌ، عَقَّبَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ وَوَعِيدَهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ كَمَا يَزْعُمُونَ.
وَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُشْرَكَةِ فِي الْحُكْمِ اسْتِعْمَالٌ عَجِيبٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٧].
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهِيَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ فِي مُحَاجَّتِهِمْ وَتَنْبِيهِهِمْ بَعْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُسْتَدْرَجُونَ وَمُمْلًى لَهُمْ.
والاستفهام لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ نَافِيَةٌ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ دُخُولُ (مِنْ) عَلَى مَنْفِيِّ مَا، لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ.
وَفِعْلُ يَتَفَكَّرُوا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مُتَعَلِّقٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمًا غَبَّ يَوْمٍ، فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّسِيءَ يَقَعُ عَامًا غَبَّ عَامٍ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ:
فَيَوْمًا بِخَيْلٍ تَطْرُدُ الرُّومَ عَنْهُمُ وَيَوْمًا بِجُودٍ تَطْرُدُ الْفَقْرَ وَالْجَدْبَا
(يُرِيدُ تَارَةً تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَدُوَّ وَتَارَةً تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْفَقْرَ وَالْجَدْبَ) وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حِينَ حُلُولِ الْعَدُوِّ بِهِمْ وَإِصَابَةِ الْفَقْرِ وَالْجَدْبِ بِلَادَهُمْ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي كِتَابِ «مُعْجِزِ أَحْمَدَ» بِأَنْ قَالَ: «فَإِنْ قَصَدَهُمُ الرُّومُ طَرَدْتَهُمْ بِخَيْلِكَ وَإِنْ نَازَلَهُمْ فَقْرٌ وَجَدْبٌ كَشَفْتَهُ عَنْهُمْ بِجُودِكَ وَإِفْضَالِكَ».
وَقَدْ أَبْقَى الْكَلَامَ مُجْمَلًا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ عَمَلِ النَّسِيءِ، وَلَعَلَّ لَهُمْ فِيهِ كَيْفِيَّاتٌ مُخْتَلِفَةٌ هِي مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ السَّامِعِينَ.
وَمَحَلُّ الذَّمِّ هُوَ مَا يَحْصُلُ فِي عَمَلِ النَّسِيءِ مِنْ تَغْيِيرِ أَوْقَاتِ الْحَجِّ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ اللَّهِ فِي غَيْرِ أَيَّامِهَا فِي سِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَمِنْ تَغْيِيرِ حُرْمَةِ بَعْضِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي سِنِينَ كَثِيرَةٍ ويتعلّق
قَوْله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا أَيْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِيُوَافِقُوا عَدَدَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَتبقى أَرْبَعَة.
والموطأة الْمُوَافَقَةُ، وَهِيَ مفاعلة عَن الوطئ شَبَّهَ التَّمَاثُلَ فِي الْمِقْدَارِ وَفِي الْفِعْل بالتوافق [فِي] وطيء الْأَرْجُلِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ (وُقُوعُ الْحَافِرِ عَلَى الْحَافِرِ).
وعِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ هِيَ عِدَّةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْأَرْبَعَةِ.
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ تَأْوِيلٌ عَنْهُمْ وَضَرْبٌ مِنَ الْمَعْذِرَةِ، فَلَا يُنَاسِبُ عَدَّهُ فِي سِيَاقِ التَّشْنِيعِ بِعَمَلِهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى مُحَاوَلَتِهِمْ مُوَافَقَةَ عِدَّةِ مَا حَرَمَ اللَّهُ أَنْ يُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَهَذَا نِدَاءٌ عَلَى فَسَادِ دِينِهِمْ وَاضْطِرَابِهِ فَإِنَّهُمْ يَحْتَفِظُونَ بِعَدَدِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَزِيدُ أَثَرٍ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدَدٌ تَابِعٌ لِتَعْيِينِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَيُفَرِّطُونَ فِي نَفْسِ الْحُرْمَةِ فَيُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، ثُمَّ يَزِيدُونَ بَاطِلًا آخَرَ فَيُحَرِّمُونَ الشَّهْرَ الْحَلَالَ. فَقَدِ احْتَفَظُوا بِالْعَدَدِ وَأَفْسَدُوا الْمَعْدُودَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النُّحَاةَ يَذْكُرُونَ اسْتِعْمَالَ (مَاذَا) بِمَعْنَى (مَا الَّذِي) وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ بَعْضَ مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهِ وَلَيْسَ اسْتِعْمَالًا مُطَّرِدًا. وَقَدْ حَقَّقَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ» إِذْ زَادَ قَيْدًا فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فَقَالَ:
وَمِثْلُ مَا، ذَا بَعْدَ مَا اسْتِفْهَامِ أَوْ مَنْ إِذَا لَمْ تُلْغَ فِي الْكَلَامِ
يُرِيدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَزِيدًا. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْإِلْغَاءِ فِرَارًا مِنْ إِيرَادِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُزَادُ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّيَادَةِ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعَ لَهُ وَلَا هُوَ بِمُفِيدٍ تَأْسِيسَ مَعْنًى فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ لِلتَّقْوِيَةِ وَالتَّأْكِيدِ الْحَاصِلِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ الْكَلَامُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى اسْتِعْمَالَاتِهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي فصل عقده ل (مَاذَا) وَأَكْثَرَ مِنَ الْمَعَانِي وَلَمْ يُحَرِّرِ انْتِسَابَ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُس: ٣٢] الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْمُجْرِمُونَ: أَصْحَابُ الْجُرْمِ وَهُوَ جُرْمُ الشِّرْكِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَتى هذَا
الْوَعْدُ
[يُونُس: ٤٨]، وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ فَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عِوَضَ أَنْ يُقَالَ مَاذَا يَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْرَامِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي اسْتِعْجَالِ الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِمْ بِالْإِهْلَاكِ فَيَصِيرُونَ إِلَى الْآخِرَةِ حَيْثُ يُفْضُونَ إِلَى الْعَذَابِ الْخَالِدِ فَشَأْنُهُمْ أَنْ يَسْتَأْخِرُوا الْوَعْدَ لَا أَنْ يَسْتَعْجِلُوهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ إِلَّا شَرًّا.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ (ثُمَّ) فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ، لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَ وُقُوعَهُ حِينَ وُقُوعِهِ بِهِمْ أَغْرَبُ وَأَهَمُّ مِنِ اسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّشْرِيكِ. وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ أَإِذَا مَا وَقَعَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِفْهَامَ عَنِ الْمُهْلَةِ.
وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ حُصُولُ الْإِيمَانِ فِي وَقْتِ وُقُوعِ الْعَذَابِ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ بِمَعْنَى التَّغْلِيطِ وَإِفْسَادِ رَأْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ وَعَدُوا بِالْإِيمَانِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِ الْحَقُّ تَأْمِينُ الرَّسُولِ مِنِ اخْتِلَافِ أُمَّتِهِ فِي كِتَابِهِ بِإِشَارَةِ قَوْلِهِ:
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ [هود: ١١٦] الْمُفْهِمِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَيْسُوا بِتِلْكَ
الْمَثَابَةِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ آنِفًا.
وَتَعْرِيفُهُ إِشَارَةٌ إِلَى حق مَعْهُود للنبيء إِمَّا بِأَنْ كَانَ يَتَطَلَّبُهُ، أَوْ يَسْأَلُ رَبَّهُ.
وَالْمَوْعِظَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ الْوَعْظِ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِمَا يَصُدُّ الْمَرْءَ عَنْ عَمَلٍ مُضِرٍّ.
وَالذِّكْرَى: مُجَرَّدُ التَّذْكِيرِ بِمَا يَنْفَعُ. فَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَحْذَرُوا ذَلِكَ وَتَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ لِيَقِيسُوا عَلَيْهَا وَيَتَبَصَّرُوا فِي أَحْوَالِهَا. وَتَنْكِيرُ مَوْعِظَةٌ وَذِكْرى للتعظيم.
[١٢١، ١٢٢]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١٢١ إِلَى ١٢٢]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ [هود: ١٢٠] الْآيَةَ، لِأَنَّهَا لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ بِأَنْ يُخَاطِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا خِطَابُ الْآيِسِ مِنِ انْتِفَاعِهِمْ بِالذِّكْرَى الَّذِي لَا يَعْبَأُ بِإِعْرَاضِهِمْ وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى الْحَقِّ تَأَلُّبُهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَمُقَاوَمَتُهُمُ الْحَقَّ. فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ عَدِيلًا لِقَوْلِهِ:
وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: ١٢٠]. وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْمُور أَن بقوله عَلَى لِسَانِهِ وَلِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ هُوَ نَظِيرُ مَا حُكِيَ عَنْ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي هَذِهِ السُّورَةِ آنِفًا.
وَضَمَائِرُ إِنَّا عامِلُونَ وإِنَّا مُنْتَظِرُونَ للنبيء وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ مَا فِي فِقْرَةِ (١٧) مِنَ «الْإِصْحَاحِ» (١٢). وَفِقْرَةِ (٣) مِنَ «الْإِصْحَاحِ» (١٣) مِنْ «سِفْرِ الْخُرُوجِ». وَمَا فِي فِقْرَةِ (١٣) مِنَ الْإِصْحَاحِ (٢٦) مِنْ «سفر اللّاويين».
[٧]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧)
عَطْفٌ عَلَى إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمُ الْخَ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ بِالزِّيَادَةِ مِنْهَا نِعْمَةٌ وَفَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءً لَوْلَا سِعَةُ فَضْلِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فَجَاءَتْ بِهِ الْمُقَابَلَةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ عَلَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَاذْكُرُوا إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، عَلَى أَنَّ إِذْ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَلَيْسَتْ ظَرْفًا وَذَلِكَ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦٧] : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ وَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٨٦].
وَمَعْنَى تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ تَكَلَّمَ كَلَامًا عَلَنًا، أَيْ كَلَّمَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الَّذِي فِي الْآيَةِ بِمَسْمَعٍ مِنْ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ الَّذِي فِي الْفِقْرَاتِ (٩- ٢٠) مِنَ الْإِصْحَاحِ (١٩) مِنْ «سِفْرِ الْخُرُوجِ»، وَالْفِقْرَاتِ (١- ١٨، ٢٢) مِنَ الْإِصْحَاحِ (٢٠) مِنْهُ، وَالْفِقْرَاتِ (مِنْ ٢٠ إِلَى ٣٠) مِنَ الْإِصْحَاحِ (٢٣) مِنْهُ.
وَالتَّأَذُّنُ مُبَالَغَةٌ فِي الْأَذَانِ يُقَالُ: أَذَّنَ وَتَأَذَّنَ كَمَا يُقَالُ: تَوَعَّدَ وَأَوْعَدَ، وَتَفَضَّلَ وَأَفْضَلَ. فَفِي صِيغَةِ تَفَعَّلَ زِيَادَةُ مَعْنَى عَلَى صِيغَةِ أَفْعَلَ.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ شَكَرْتُمْ مُوَطِّئَةٌ للقسم وَالْقسم مستعلم فِي التَّأْكِيدِ. وَالشُّكْرُ مُؤْذِنٌ بِالنِّعْمَةِ. فَالْمُرَادُ: شُكْرُ نِعْمَةِ الْإِنْجَاءِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ شَكَرْتُمْ وَمَفْعُولُ لَأَزِيدَنَّكُمْ لِيُقَدَّرَ عَامًّا فِي الْفِعْلَيْنِ.
وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمُ الْمَحْكِيِّ. وَمَعْنَى لَا جَرَمَ لَا شَكَّ، أَيْ حَقًّا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
ومُفْرَطُونَ- بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ- فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَفْرَطَ، إِذَا بَلَغَ غَايَةَ شَيْءٍ مَا، أَيْ مُفْرِطُونَ فِي الْأَخْذِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدِّدَةً- مِنْ فَرَّطَ الْمُضَاعَفِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً- عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مَجْعُولُونَ فَرَطًا- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ الْمُقَدَّمُ إِلَى الْمَاءِ لِيَسْقِيَ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ سَابِقُونَ إِلَى النَّارِ مُعَجِّلُونَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ أَهْلِ النَّارِ اسْتِحْقَاقًا لَهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْإِفْرَاطِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا أَرَادَ فَبَادَرْنَا بِقِتَالِكُمْ حِينَ نَزَلْتُمْ بِنَا مغيرين علينا.
وفيهَا مَعَ ذِكْرِ النَّارِ فِي مُقَابَلَتِهَا مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ نَافِعٍ تَحْتَمِلُ التَّفْسِيرَ بِهَذَا أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: أَفْرَطَ إِلَى الْمَاءِ إِذَا تقدّم لَهُ.
[٦٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٣]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الِاعْتِرَاضِيِّ قُصِدَ مِنْهُ تَنْظِيرُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَكُفْرِهِمْ فِي سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ اسْتَهْوَاهُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ مِثْلُ عَادٍ وَثَمُودَ، وَالْحَاضِرَةِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَجُمْلَةُ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ:
وَإِذا أَنْعَمْنا أَنَّهُ إِذَا زَالَتْ عَنْهُ النِّعْمَةُ صَلُحَ حَالُهُ فَبَيَّنَ أَنَّ حَالَهُ مُلَازِمٌ لِنُكْرَانِ الْجَمِيلِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَإِذَا زَالَتِ النِّعْمَةُ عَنْهُ لَمْ يُقْلِعْ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَيَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَلَكِنَّهُ يَيْأَسُ مِنَ الْخَيْرِ وَيَبْقَى حَنِقًا ضَيِّقَ الصَّدْرِ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَدَارَكُ أَمْرَهُ.
وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٥١] وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.
وَدَلَّ قَوْله: كانَ يَؤُساً عَلَى قُوَّةِ يَأْسِهِ إِذْ صِيغَ لَهُ مِثَالُ الْمُبَالَغَةِ. وَأُقْحِمَ مَعَهُ فِعْلُ (كَانَ) الدَّالُّ عَلَى رُسُوخِ الْفِعْلِ، تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِ فِي وَقْتِ مَسِّ الضُّرِّ إِيَّاهُ لِأَنَّ حَالَةَ الضُّرِّ أَدْعَى إِلَى الْفِكْرَةِ فِي وَسَائِلِ دَفْعِهِ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْإِعْرَاضِ فِي وَقْتِ النِّعْمَةِ فَإِنَّهَا حَالَةٌ لَا يُسْتَغْرَبُ فِيهَا الِازْدِهَاءُ لِمَا هُوَ فِيهِ من النِّعْمَة.
[٨٤]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٨٤]
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
هَذَا تَذْيِيلٌ، وَهُوَ تَنْهِيَةٌ لِلْغَرَضِ الَّذِي ابْتُدِئَ مِنْ قَوْلِهِ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْإِسْرَاء: ٦٦] الرَّاجِعِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْوَحِيدُ، وَإِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ عَوَاقِبِ كُفْرَانِ النِّعَمِ. وَإِذْ قَدْ ذُكِرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَرِيقَانِ فِي قَوْله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٧١]، وَقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: ٨٢].
وَلِمَا فِي كَلِمَةِ (كُلٍّ) مِنَ الْعُمُومِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا.

[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]

وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠)
أَعْقَبَ تَثْبِيتَ الرَّسُولِ عَلَى التَّبْلِيغِ وَالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَتَأَسَّى بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَمُقَاسَاةِ الْمَصَاعِبِ، وَتَسْلِيَةً لَهُ بِأَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ سَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ جَزَاءَ مَنْ سَلَفَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي عَقِبِ قِصَّةِ مُوسَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ [طه: ٩٩- ١٠١]. وَجَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ آدَمَ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طه: ١٣٠] الْآيَاتِ.
فَجُمْلَةُ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: ٢]. الْغَرَضُ هُوَ مُنَاسِبَةُ الْعَطْفِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ يُونُسَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ مَجَازًا وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ قُصَّتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ أَمْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ قَصَصِهَا عَلَيْهِ. وُفِي قَوْلِهِ: إِذْ رَأى نَارًا زِيَادَةٌ فِي التَّشْوِيقِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
وَأُوثِرَ حَرْفُ (هَلْ) فِي هَذَا الْمَقَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّ (هَلْ) فِي الِاسْتِفْهَامِ مِثْلُ (قَدْ) فِي الْإِخْبَارِ.
وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يُحْكَى بِهِ أَمْرٌ حَدَثَ فِي الْخَارِجِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَحَادِيثَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «وَاحِدُ
وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ١٤٥].
وَالْمَرِيدُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ مَرُدَ- بِضَمِّ الرَّاءِ- عَلَى عَمَلٍ، إِذَا عَتَا فِيهِ وَبَلَغَ الْغَايَةَ الَّتِي تَتَجَاوَزُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَكَأَنَّهُ مُحَوَّلٌ مِنْ مَرَدَ بِفَتْحِ الرَّاءِ- بِمَعْنَى مَرَنَ- إِلَى ضَمِّ الرَّاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ صَارَ لَهُ سَجِيَّةً، فَالْمَرِيدُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، أَيِ الْعَاتِي فِي الشيطنة.
[٤]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٤]
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)
جُمْلَةُ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ إِلَى آخِرِهَا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [الْحَج: ٣]، فَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى شَيْطانٍ. وَكَذَلِكَ الضَّمَائِرُ فِي أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ.
وَأَمَّا الضَّمِيرَانِ الْبَارِزَانِ فِي قَوْلِهِ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ فَعَائِدَانِ إِلَى (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ، أَيْ يُضِلُّ الشَّيْطَانُ مُتَوَلِّيَهُ عَنِ الْحَقِّ وَيَهْدِي مُتَوَلِّيَهُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ.
وَاتَّفَقَتِ الْقِرَاءَاتُ الْعَشْرُ عَلَى قِرَاءَةِ كُتِبَ- بِضَمِّ الْكَافِ- عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ.
وَاتَّفَقَتْ أَيْضًا عَلَى- فَتْحِ الْهَمْزَتَيْنِ- مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ.
وَالْكِتَابَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلثُّبُوتِ وَاللُّزُومِ، أَيْ لَزِمَهُ إِضْلَالُ مُتَوَلِّيهِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، فَأُطْلِقَ عَلَى لُزُومِ ذَلِكَ فِعْلُ كُتِبَ عَلَيْهِ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَقَدْ شَاعَ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُ الْعَمَلِ بِهِ وَعَدَمُ الْإِخْلَالِ بِهِ كُتِبَ فِي صَحِيفَةٍ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ
وَ (الْحَقُّ) مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى. وَلَمَّا وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ زِيدَ وَصْفُ الْمَصْدَرِ بِ الْمُبِينُ. وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى أَظْهَرَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَى إِفَادَةِ الْهَمْزَةِ التَّعْدِيَةَ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَهَرَ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَمْزَةِ زَائِدَةٌ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ وَصْفًا لِ الْحَقَّ بِمَعْنَى الْعَدْلِ كَمَا صرح بِهِ فِي «الْكَشَّافُ»، أَيْ الْحَقُّ الْوَاضِحُ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مُبِينٌ وَهَادٍ. وَإِلَى هَذَا نَحَا الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ بَرَّجَانَ، فَقَدْ أَثْبَتَا فِي عِدَادِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى اسْمَ الْمُبِينُ.
فَإِنْ كَانَ وَصْفُ اللَّهِ بِ الْحَقَّ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ فَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ ادعائي لعدم الاعداد ب الْحَقَّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْحَاكِمِينَ لِأَنَّهُ وَإِنْ يُصَادِفِ الْمَحَزَّ فَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ وَلِلتَّقْصِيرِ وَلِلْخَطَأِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ أَوْ لَيْسَ بِمُبِينٍ. وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْحَقَّ بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ إِذْ لَيْسَ اسْمُ الْحَقِّ مُسَمًّى بِهِ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ هُوَ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَم: ٦٥]. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَجْرِي الْكَلَامُ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِ الْمُبِينُ.
وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ: أَنَّهُمْ يَتَحَقَّقُونَ ذَلِكَ يَوْمَئِذَ بِعِلْمٍ قَطْعِيٍّ لَا يَقْبَلُ الْخَفَاءَ وَلَا التَّرَدُّدَ وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ فِي مَوْعِظَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنْ نُزِّلَ عِلْمُهُمُ الْمُحْتَاجُ لِلنَّظَرِ وَالْمُعَرَّضُ لِلْخَفَاءِ وَالْغَفْلَةِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ خُصُوصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُبْطِنِينَ الْكُفْرَ بَلْهَ الْإِصْرَارَ عَلَى ذَنْبِ الْإِفْكِ إِذْ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ فَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِفْكِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ زُيِّنَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَرُومُوا الْإِقْلَاعَ عَنْهُ فِي بَوَاطِنِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ اخْتِلَاقٌ مِنْهُمْ لَكِنَّهُمْ لِخُبْثِ طَوَايَاهُمْ يَجْعَلُونَ الشَّكَّ الَّذِي خَالَجَ أَنْفُسَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فَهُمْ مَلْعُونُونَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الْآخِرَةِ وَيَعْلَمُونَ أَن الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فِيمَا كَذَّبَهُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٩٨ إِلَى ١٩٩]

وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَقَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: ٥] فَدَمَغَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا.
وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ بُهْتَانَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ رَسُولٌ عَرَبِيٌّ، وَأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ رَسُولٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ بِأَنْ أَوْحَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَى رَسُولٍ لَا يَفْهَمُهَا وَلَا يُحْسِنُ تَأْلِيفَهَا فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي قِرَاءَتِهِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ
اللُّغَةَ أَيْضًا خَارِقُ عَادَةٍ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا آمَنُوا بِأَنَّهُ رَسُولٌ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ. يَعْنِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُرِيدُونَ مِمَّا يُلْقُونَهُ مِنَ الْمَطَاعِنِ الْبَحْثَ عَنِ الْحَقِّ وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ وَطَفِقُوا يَتَحَمَّلُونَ أَعْذَارًا لِتَكْذِيبِهِمْ جُحُودًا لِلْحَقِّ وَتَسَتُّرًا مِنَ اللَّائِمِينَ.
وَجُمْلَةُ: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٣- ١٩٥] لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلى قَلْبِكَ أَفَادَ أَنَّهُ أُوتِيَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ لَا كَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: تَقَوَّلَهُ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِتَعْجِيزِهِمْ فَضَحَ نِيَّاتَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: ٩٦، ٩٧].
والْأَعْجَمِينَ جَمْعُ أَعْجَمٍ. وَالْأَعْجَمُ: الشَّدِيدُ الْعُجْمَةِ، أَيْ لَا يُحْسِنُ كَلِمَةً بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ هُنَا مُرَادِفُ أَعْجَمِيٍّ بِيَاءِ النَّسَبِ فَيَصِحُّ فِي جَمْعِهِ عَلَى أَعْجَمِينَ اعْتِبَارُ أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ جَمْعِ أَعْجَمٍ كَمَا قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ يَصِفُ حَمَامَةً:
مَكِّيَّةً وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ فَالْوَعْدُ بِالرَّدِّ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ فِي النَّوْمِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ ابْن نَوْفَلَ: يَا لَيْتَنِي أَكُونُ مَعَكَ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، فَمَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِيَغِيبَ عَنْ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْجُحْفَةِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَوُعِدَ بِالرَّدِّ عَلَيْهَا وَهُوَ دُخُولُهُ إِلَيْهَا فَاتِحًا لَهَا وَمُتَمَكِّنًا مِنْهَا. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْمَعَادِ بِذَلِكَ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ.
ثُمَّ تَكُونُ جُمْلَةُ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ التَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، أَيْ رَادُّكَ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ فَمُظْهِرٌ الْمُهْتَدِيَ وَالضَّالِّينَ، فَيَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ بِالْمُهْتَدِي وَالضَّالِّ مُكَنًّى بِهِ عَنِ اتِّضَاحِ الْأَمْرِ بِلَا رَيْبٍ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْتَرِيهِ تَلْبِيسٌ وَتَكُونُ هَذِهِ الْكِنَايَةُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمُ الضَّالُّونَ. وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُهْتَدِي.
وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَبَّرَ عَنْ جَانِبِ الْمُهْتَدِي بِفِعْلِ مَنْ جاءَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُهْتَدِيَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهَدْيٍ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا مِنْ قَبْلُ كَمَا يَقْتَضِيهِ: جَاءَ بِكَذَا. وَعَبَّرَ عَنْ جَانِبِ الضَّالِّينَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ ثَبَاتَ الضَّلَالِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ الضَّلَالَ هُوَ أَمْرُهُمُ الْقَدِيمُ الرَّاسِخُ فِيهِمْ مَعَ مَا أَفَادَهُ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنِ انْغِمَاسِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِمْ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] لِظُهُورِ أَنَّ الْمُبَلِّغَ لِهَذَا الْكَلَامِ لَا يُفْرَضُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الشِّقَّ الضَّالَّ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الضَّالَّ مَنْ خَالَفَهُ.
وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُتَارَكَةِ وَقَطْعِ الْمُجَادَلَةِ. فَالْمَعْنَى:
عُدْ عَنْ إِثْبَاتِ هُدَاكَ وَضَلَالِهِمْ وَكِلْهُمْ إِلَى يَوْمِ رَدِّكَ إِلَى مَعَادِكَ يَوْمِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ اللَّهَ نَصَرَكَ وَخَذَلَهُمْ. وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَجُمْلَةُ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ يُثِيرُهُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَلِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَوْقِعِ جُعِلَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالنَّتِيجَةِ.
وَالتَّقْوَى تَبْتَدِئُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْتَهِي إِلَى اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢] وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٣٢].
وَخَشْيَةُ الْيَوْمِ: الْخَوْفُ مِنْ أَهْوَالِ مَا يَقَعُ فِيهِ إِذِ الزَّمَانُ لَا يُخْشَى لِذَاتِهِ، فَانْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَالْأَمْرُ بِخَشْيَتِهِ تَتَضَمَّنُ وُقُوعَهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَذَلِكَ حَظُّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى صَارَ سِمَةً عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [الْفرْقَان: ٢١].
وَجُمْلَةُ لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ إِلَخْ صِفَةُ يَوْمٍ وَحُذِفَ مِنْهَا الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ بِ (فِي) تَوَسُّعًا بِمُعَامَلَتِهِ مُعَامَلَةَ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ كَقَوْلِهِ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٨].
وَجَزَى إِذَا عُدِّيَ بِ عَنْ فَهُوَ بِمَعْنَى قَضَى عَنْهُ وَدَفَعَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْمُتَقَاضِي:
الْمُتَجَازِي.
وَجُمْلَةُ وَلا مَوْلُودٌ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى الصِّفَةِ ومَوْلُودٌ مُبْتَدَأٌ. وهُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ. وجازٍ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ.
وَذِكْرُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ هُنَا لِأَنَّهُمَا أَشَدُّ مَحَبَّةً وحمية من غَيرهم فَيُعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُمَا أَوْلَى بِهَذَا النَّفْيِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ الْآيَة [عبس: ٣٤- ٣٥].
وابتدئ بالوالد لِأَنَّهُ أَشَدُّ شَفَقَةً عَلَى ابْنِهِ فَلَا يَجِدُ لَهُ مَخْلَصًا مِنْ سُوءٍ إِلَّا فِعْلَهُ.
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ النَّفْيِ هُنَا دُونَ طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٣]، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَأَهْلُهَا يَوْمَئِذٍ خَلِيطٌ مِنْ مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا وَالْوَلَدُ كَافِرًا وَرُبَّمَا كَانَ
الْعَكْسُ، وَقَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْكَافِرِينَ حِينَ تُدَاخِلُهُمُ الظُّنُونُ فِي مَصِيرِهِمْ
وَجِيءَ فِي جَانِبِ أَصْحَابِ الْهُدَى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ الْمُسْتَعَارِ لِلتَّمَكُّنِ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُهْتَدِي بِحَالِ مُتَصَرِّفٍ فِي فَرَسِهِ يُرْكِضُهُ حَيْثُ شَاءَ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ من شَيْء يبلغ بِهِ مَقْصِدَهُ.
وَهِيَ حَالَةٌ مُمَاثِلَةٌ لِحَالِ الْمُهْتَدِي عَلَى بَصِيرَةٍ فَهُوَ يَسْتَرْجِعُ مَنَاهِجَ الْحَقِّ فِي كُلِّ صَوْبٍ، مُتَّسِعَ النَّظَرِ، مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ: فَفِيهِ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ وَتَبَعِيَّةٌ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ الضَّالِّينَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ الْمُسْتَعَار لشدَّة التَّلَبُّس بِالْوَصْفِ تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ فِي إِحَاطَةِ الضَّلَالِ بِهِمْ بِحَالِ الشَّيْءِ فِي ظَرْفٍ مُحِيطٍ بِهِ لَا يَتْرُكُهُ يُفَارِقُهُ وَلَا يَتَطَلَّعُ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقٍ يُلَازِمُهُ. وَفِيهِ أَيْضًا تَمْثِيلِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: ١٢٥].
فَحَصَلَ فِي الْآيَةِ أَرْبَعُ اسْتِعَارَاتٍ وَثَلَاثَةُ مُحَسِّنَاتٍ مِنَ الْبَدِيعِ وَأُسْلُوبٌ بَيَانِيٌّ، وَحُجَّةٌ قَائِمَةٌ، وَهَذَا إِعْجَازٌ بَدِيعٌ.
وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْمُبِينِ دُونَ وَصْفِ الْهُدَى بِالْمُبِينِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْهُدَى مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الْأَشَاعِرَةِ: الْإِيمَانُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا زِيَادَتُهُ بِكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَيَكُونُ بِإِنْكَارِ بَعْضِ الْمُعْتَقَدَاتِ وَبِإِنْكَارِ جَمِيعِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْكُفْرُ. وَلِذَلِكَ قِيلَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، فَوَصَفَ كُفْرَهُمْ بِأَنَّهُ أَشَدُّ الْكُفْرِ، فَإِنَّ
الْمُبِينَ هُوَ الْوَاضِحُ فِي جِنْسِهِ الْبَالِغُ غَايَة حَده.
[٢٥]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٢٥]
قُلْ لَا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)
أُعِيدَ الْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَقَالًا آخَرَ إِعَادَةً لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَاسْتِدْعَاءً لِأَسْمَاءِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ بَيَانًا لِلْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ فُصِلَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ عَنْ أُخْتِهَا إِذْ لَا يُعْطَفُ الْبَيَانُ عَلَى الْمُبِينِ بِحَرْفِ النَّسَقِ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَدَّدَ أَمْرَ الْفَرِيقَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَى هُدًى وَالْآخَرُ فِي ضَلَالٍ وَكَانَ الضَّلَالُ يَأْتِي بِالْإِجْرَامِ

[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٦٧ إِلَى ١٧٠]

وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
انْتِقَالٌ مَنْ ذِكْرِ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ بِتَعَدُّدِ الْإِلَهِ وَبِإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمَا وَصَفُوا بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السِّحْرِ وَالْجُنُونِ ثُمَّ بِمَا نَسَبُوا لِلَّهِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ وَالْوَعْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْعِبْرَةِ بِمَصَارِعِ الْمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ وَمَا لَقِيَهُ رُسُلُ اللَّهِ من أقوامهم.
فانتقال الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ مَا كَفَرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ تَكْذِيبِ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هَدًى لَهُمْ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا هُوَ قَوْلُهُ: فَكَفَرُوا بِهِ أَيِ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ لَهُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مَا فِيهِ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ تَهَافُتُهُمْ فِي الْقَوْلِ إِذْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ يَوَدُّونَ أَنْ يُشَرِّفَهُمُ اللَّهُ بِكِتَابٍ لَهُمْ كَمَا شَرَّفَ الْأَوَّلِينَ وَيَرْجُونَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ مُخْلَصِينَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا رَغِبُوا فِيهِ كَفَرُوا بِهِ وَذَلِكَ أَفْظَعُ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ بِمَا كَانُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ إِذْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَيَغْبِطُونَ الْأُمَمَ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِثْلُهُ فَلَمْ يَكُنْ كُفْرُهُمْ عَنْ مُبَاغَتَةٍ وَلَا عَنْ قِلَّةِ تَمَكُّنٍ مِنَ النَّظَرِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّافِيَةِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِيَسُدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْإِنْكَارِ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ (كَانَ) ثَابِتٌ لَهُمْ فِي الْمَاضِي. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي «يَقُولُونَ» لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ.
ولَوْ شَرْطِيَّةٌ وَسَدَّتْ أَنَّ وَصِلَتُهَا مَسَدَّ فِعْلِ الشَّرْطِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَالذِّكْرُ: الْكِتَابُ الْمَقْرُوءُ، سُمِّيَ ذِكْرًا لِأَنَّهُ يُذَكِّرُ النَّاسَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مُسَمًّى بِالْمَصْدَرِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦].
ومِنَ الْأَوَّلِينَ صِفَةٌ لِ ذِكْراً، وَالْمُرَادُ بِ الْأَوَّلِينَ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ، ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ ذِكْرًا جَائِيًا مِنَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، أَيْ مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى. وَمُرَادُهُمْ
قَوْلِهِ: هُوَ الْحَيُّ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَيَاةِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ وَمُعَرَّضَةٌ لِلْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ.
فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَاهُ لَا حَيَاةَ لَهُ وَاجِبَةٌ، فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا مُدَبِّرًا لِلْعَالَمِ. وَجَمِيعُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ بَيْنَ مَا لَمْ يَتَّصِفْ بِالْحَيَاةِ تَمَامًا كَالْأَصْنَامِ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ أَوِ الْمَعَادِنِ. وَمِثْلَ
الْكَوَاكِبِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالشَّجَرِ، وَبَيْنَ مَا اتَّصَفَ بِحَيَاةٍ عَارِضَةٍ غَيْرِ زَائِلَةٍ كَالْمَلَائِكَةِ، وَبَيْنَ مَا اتَّصَفَ بِحَيَاةٍ عَارِضَةٍ زَائِلَةٍ مِنْ مَعْبُودَاتِ الْبَشَرِ مثل (بوذة) و (برهما) بَلْهَ الْمَعْبُودَاتِ مِنَ الْبَقَرِ وَالثَّعَابِينَ. قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النَّحْل: ٢٠] أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُهُمُ التَّصَرُّفَ بِالْإِيجَادِ وَالْإِحْيَاءِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، أَيْ مُعَرَّضٌ لِلْحَيَاةِ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النَّحْل: ٢١] فَجَعَلَ نَفْيَ الْحَيَاةِ عَنْهُمْ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ دَلَالَةً عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهِمْ وَجَعَلَ نَفْيَ إِدْرَاكِ بَعْضِ الْمُدْرِكَاتِ عَنْهُمْ دَلَالَةً عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهِمْ.
وَبَعْدَ اتِّضَاحِ الدَّلَالَةِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ فُرِّعَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ غَيْرَ مُشْرِكِينَ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ لِنُهُوضِ انْفِرَادِهِ بِاسْتِحْقَاقِ أَنْ يُعْبَدَ.
وَالدُّعَاءُ: الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا يُلَازِمُهَا السُّؤَالُ وَالنِّدَاءُ فِي أَوَّلِهَا وَفِي أَثْنَائِهَا غَالِبًا، لِأَنَّ الدُّعَاءَ عُنْوَانُ انْكِسَارِ النَّفْسِ وَخُضُوعِهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: ٦٠] وَكَمَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً [غَافِر: ٧٤].
وَالْإِخْلَاصُ: الْإِفْرَادُ وَتَصْفِيَةُ الشَّيْءِ مِمَّا يُنَافِيهِ أَوْ يُفْسِدُهُ.
وَالدِّينُ: الْمُعَامَلَةُ. وَأُطْلِقَ عَلَى الطَّاعَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّهَا أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْمُطَاعِ. وَالْمَعْنَى: فَإِذْ كَانَ هُوَ الْحَيَّ دُونَ الْأَصْنَامِ وَكَانَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَاعْبُدُوهُ غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ.
وَيَدْخُلُ فِي مَاهِيَّةِ الْإِخْلَاصِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا تَرْكُ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّ الرِّيَاءَ وَهُوَ أَنْ
وَسِينُ الِاسْتِقْبَالِ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ هِدَايَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَسْتَمِرُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُفْهَمُ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ الْآنَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ.
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ الْآنَ عَلَى هُدًى فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَى هُدًى فِي الْمُسْتَقْبل.
[٢٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٨]
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)
عَطَفَ عَلَى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ [الزخرف: ٢٦] أَيْ أَعْلَنَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِي قَوْمِهِ مُعَاصِرِيهِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَنْقُلُونَهَا إِلَى مُعَاصِرِيهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. إِذْ أَوْصَى بِهَا بَنِيهِ وَأَنْ يُوصُوا بَنِيهِمْ بِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣١- ١٣٢] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فَبِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ أَبْقَى إِبْرَاهِيمُ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ فِي عَقِبِهِ يَبُثُّونَهُ فِي النَّاسِ. وَلِذَلِكَ قَالَ يُوسُفُ لِصَاحِبَيْهِ فِي السَّجْنِ يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: ٣٩] وَقَالَ لَهُمَا إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يُوسُف: ٣٧- ٤٠].
فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي جَعَلَها عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمِ اسْمُ الْجَلَالَةِ لِيَعُودَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ جَعَلَها. وَحَكَى فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ لِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ بِالْكَلِمَةِ نَظَرًا لِوُقُوعِ مَفْعُولِهِ الثَّانِي لَفْظَ كَلِمَةً لِأَنَّ الْكَلَامَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلِمَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [١٠٠] إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، أَيْ

[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٦]

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِفعل صَدُّوكُمْ [الْفَتْح: ٢٥] أَيْ صَدُّوكُمْ صَدًّا لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ جَاءُوا مُسَالِمِينَ مُعَظِّمِينَ حُرْمَةَ الْكَعْبَةِ سَائِقِينَ الْهَدَايَا لِنَفْعِ أَهْلِ الْحَرَمِ فَلَيْسَ مِنَ الرُّشْدِ أَنْ يُمْنَعُوا عَنِ الْعُمْرَةِ وَلَكِنَّ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ غَطَّتْ عَلَى عُقُولِهِمْ فَصَمَّمُوا عَلَى مَنْعِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ آلَ النِّزَاعُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْعَامَ وَعَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُمَكِّنُوهُمْ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي الْقَابِلِ وَأَنَّ الْعَامَيْنِ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا التَّشَفِّيَ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِحَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَكَانَ تَعْلِيقُ هَذَا الظَّرْفِ بِفِعْلِ وَصَدُّوكُمْ مُشْعِرًا بِتَعْلِيلِ الصَّدِّ بِكَوْنِهِ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْحَمِيَّةَ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْهُمْ تَظْهَرُ مِنْهَا آثَارُهَا فَمِنْهَا الصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَالْحَمِيَّةُ: الْأَنَفَةُ، أَيِ الِاسْتِنْكَافُ مِنْ أَمْرٍ لِأَنَّهُ يَرَاهُ غَضَاضَةً عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى اسْتِكْبَارٍ لَا مُوجِبَ لَهُ فَإِنْ كَانَ لِمُوجِبٍ فَهُوَ إِبَاءُ الضَّيْمِ. وَلَمَّا كَانَ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ بِلَا حَقٍّ لِأَنَّ الْبَيْتَ بَيْتُ اللَّهِ لَا بَيْتُهُمْ كَانَ دَاعِي الْمَنْعِ مُجَرَّدَ الْحَمِيَّةِ قَالَ تَعَالَى:
وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ [الْأَنْفَال: ٣٤]. وجَعَلَ بِمَعْنَى وَضَعَ، كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْأَخِيرَةِ «اجْعَلِ الْمَوْت نصب عَيْنك»، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِثْمِدٌ يُجْعَلُ فِي الْعَيْنِ (١)
_________
(١) أَوله:
وَلَمْ أَرَ مِثْلِي شَاقَهُ لَفْظُ مِثْلِهَا وَلَا عَرَبِيًّا شَاقَهُ لَفْظُ أَعْجَمَا
النَّاس كالأرض وَمِنْهَا هم من خشن الطَّبْع وَمن لين
فحجر تدمى بِهِ أرجل...................... إِلَخ
تَحْلَاقِ اللِّمَمِ، وَيَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ. وَإِنَّمَا يُضَافُ الْيَوْمُ إِلَى النَّحْسِ بِاعْتِبَارِ الْمَنْحُوسِ، فَهُوَ يَوْمُ نَحْسٍ لِلْمُعَذَّبِينَ يَوْم نَصْرٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ.. وَلَيْسَ فِي الْأَيَّامِ يَوْمٌ يُوصَفُ بِنَحْسٍ أَوْ بِسَعْدٍ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ تَحْدُثُ فِيهِ نُحُوسٌ لِقَوْمٍ وَسُعُودٌ لِآخَرِينَ، وَمَا يُرْوَى مِنْ أَخْبَارٍ فِي تَعْيِينِ بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ لِلنَّحْسِ هُوَ مِنْ أَغْلَاطِ الْقَصَّاصِينَ فَلَا يُلْقِي الْمُسْلِمُ الْحَقُّ إِلَيْهَا سَمْعَهُ.
وَاشْتَهَرَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ التَّشَاؤُمُ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ انْجَرَّ لَهُمْ مِنْ عَقَائِدِ مَجُوسِ الْفُرْسِ، وَيُسَمُّونَ الْأَرْبِعَاءَ الَّتِي فِي آخِرِ الشَّهْرِ «الْأَرْبِعَاءَ الَّتِي لَا تَدُورُ»، أَيْ لَا تَعُودُ، أَرَادُوا بَهَذَا الْوَصْفِ ضَبْطَ مَعْنَى كَوْنِهَا آخِرَ الشَّهْرِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ جَمِيعُ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ وَإِلَّا فَأَيَّةُ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ عَدَمِ الدَّوَرَانِ وَبَيْنَ الشُّؤْمِ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يَقَعُ فِي الْأُسْبُوعِ الْأَخِيرِ مِنَ الشَّهْرِ وَلَا يَدُورُ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ.
وَمِنْ شِعْرِ بَعْضِ الْمُوَلَّدِينِ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ:
لِقَاؤُكَ لِلْمُبَكِّرِ فَأَلُ سُوءٍ وَوَجْهُكَ أَرْبِعَاءٌ لَا تَدُورُ
وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ.
ومُسْتَمِرٍّ: صِفَةُ نَحْسٍ، أَيْ نَحْسٍ دَائِمٍ عَلَيْهِمْ فَعُلِمَ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ أَنَّهُ أَبَادَهُمْ إِذْ لَوْ نَجَوْا لَمَا كَانَ النَّحْسُ مُسْتَمِرًّا. وَلَيْسَ مُسْتَمِرٍّ صفة ل يَوْمِ إِذْ لَا مَعْنَى لِوَصْفِهِ بِالِاسْتِمْرَارِ.
وَالْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِ مُسْتَمِرٍّ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر:
٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ مَرَّ الشَّيْءُ قَاصِرًا، إِذَا كَانَ مُرًّا، وَالْمَرَارَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْكَرَاهِيَةِ وَالنَّفْرَةِ فَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِأَنَّ النَّحْسَ مَكْرُوهٌ.
وَالنَّزْعُ: الْإِزَالَةُ بِعُنْفٍ لِئَلَّا يَبْقَى اتِّصَالٌ بَيْنَ الْمُزَالِ وَبَيْنَ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ، وَمِنْهُ نَزْعُ الثِّيَابِ.
وَالْأَعْجَازُ جَمْعُ عَجُزٍ: وَهُوَ أَسْفَلُ الشَّيْءِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُ الْعَجُزِ عَلَى آخِرِ
مِنْ تَفْرِيطِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ عَلَى وَجْهِهِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ أُمَمٌ، فَأَمَّا الدِّينُ فَلَمْ يَزَلْ عَالِيًا مَشْهُودًا لَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ الْمُنْصِفِينَ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ دِينٍ لِلْبَشَرِ.
وَخُصَّ الْمُشْرِكُونَ بِالذِّكْرِ هُنَا إِتْمَامًا لِلَّذِينَ يَكْرَهُونَ إِتْمَامَ هَذَا النُّورِ، وَظُهُورَ هَذَا الدَّين عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. وَيُعْلَمُ أَنَّ غَيْرَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ ظُهُورَ هَذَا الَّدِينِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِ الدِّينِ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ ظُهُورَ هَذَا الدِّينِ فَحَصَلَ فِي الْكَلَام احتباك.
[١٠- ١٢]
[سُورَة الصَّفّ (٦١) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
هَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصَّفّ: ٢- ٤]. فَبَعْدَ أَنْ ضُرِبَتْ
لَهُمُ الْأَمْثَالُ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنْ مَجَالٍ إِلَى مَجَالٍ، أُعِيدَ خِطَابُهُمْ هُنَا بِمِثْلِ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: ٢]، أَيْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَحَبِّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ لِتَعْمَلُوا بِهِ كَمَا طَلَبْتُمْ إِذْ قُلْتُمْ لَوُ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَا بِهِ فَجَاءَتِ السُّورَةُ فِي أُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي أَدُلُّكُمْ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ ظَاهِرَ الْخِطَابِ أَنَّهُ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَعَلَى اخْتِلَافِ الِاحْتِمَالِ يَخْتَلِفُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ الْآتِي وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصَّفّ: ١٣].
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ مَجَازًا لِأَنَّ الْعَارِضَ قَدْ يَسْأَلُ الْمَعْرُوضَ عَلَيْهِ لِيَعْلَمَ رَغْبَتَهُ فِي الْأَمْرِ الْمَعْرُوضِ كَمَا يُقَالُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ أَوْ هَلْ لَكَ إِلَى كَذَا؟
وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَا يُؤَخَّرُ. وَالتَّقْدِيرُ: لَأَيْقَنْتُمْ أَنَّهُ لَا يُؤَخر.
[٥- ٦]
[سُورَة نوح (٧١) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦)
جُرِّدَ فِعْلُ قالَ هُنَا، مِنَ الْعَاطِفِ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ جَوَابِ نُوحٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [نوح: ١] عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْجَوَابِ الَّذِي يُتَلَقَّى بِهِ الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]، تَنْبِيهًا عَلَى مُبَادَرَةِ نُوحٍ بِإِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَى قَوْمِهِ وَتَمَامِ حِرْصِهِ فِي ذَلِكَ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَيْلًا وَنَهاراً وَحُصُولِ يَأْسِهِ مِنْهُمْ، فَجَعَلَ مُرَاجَعَتَهُ رَبَّهُ بَعْدَ مُهْلَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْلًا وَنَهاراً بِمَنْزِلَةِ الْمُرَاجَعَةِ فِي الْمَقَامِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الْمُتَحَاوِرِينَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ قالَ رَبِّ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَعْرِفَةَ مَاذَا أَجَابَ قَوْمُ نُوحٍ دَعْوَتَهُ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيَانُ مَا يَتَرَقَّبُهُ السَّامِعُ مَعَ زِيَادَةِ مُرَاجَعَةِ نُوحٍ رَبَّهُ تَعَالَى.
وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الشِّكَايَةُ وَالتَّمْهِيدُ لِطَلَبِ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ عَالِمٌ بِمَدْلُولِ الْخَبَرِ. وَذَلِكَ مَا سَيُفْضِي إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً الْآيَات [نوح: ٢٦].
وَفَائِدَةُ حِكَايَةِ مَا نَاجَى بِهِ نُوحٌ رَبَّهُ إِظْهَارُ تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ، وَانْتِصَارُ اللَّهِ لَهُ، وَالْإِتْيَانُ عَلَى مُهِمَّاتٍ مِنَ الْعِبْرَةِ بِقِصَّتِهِ، بِتَلْوِينٍ لِحِكَايَةِ أَقْوَالِهِ وَأَقْوَالِ قَوْمِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ لَهُ. وَتِلْكَ ثَمَانِ مَقَالَاتٍ هِيَ:
١- أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ إِلَخ [نوح: ١].
٢- قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ إِلَخْ [نُوحٌ: ٢].
٣- قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إِلَخ [نوح: ٥].
٤- فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِلَخ [نوح: ١٠].
٥- قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي إِلَخ [نوح: ٢١].
٦-
تَمْيِيزِهِمْ وَتَشْهِيرِ ذِكْرِهِمْ فِي مَقَامِ الذَّمِّ، وَلِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِ «الْمُطَفِّفِينَ» تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْوَصْفَ مَلْحُوظٌ فِي الْإِشَارَةِ فَيُؤْذِنُ ذَلِكَ بِتَعْلِيلِ الْإِنْكَارِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لَامُ التَّوْقِيتِ مِثْلُ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: ٧٨].
وَفَائِدَةُ لَامِ التَّوْقِيتِ إِدْمَاجُ الرَّدِّ عَلَى شُبْهَتِهِمُ الْحَامِلَةِ لَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْثٌ لَبُعِثَتْ أَمْوَاتُ الْقُرُونِ الْغَابِرَةِ، فَأَوْمَأَ قَوْلُهُ لِيَوْمٍ أَنَّ لِلْبَعْثِ وَقْتًا مُعَيَّنًا يَقَعُ عِنْدَهُ لَا قَبْلَهُ.
وَوَصْفُ يَوْمٍ بِ عَظِيمٍ بِاعْتِبَارِ عَظَمَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ، فَهُوَ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ.
ويَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بَدَلٌ مِنْ «يَوْمٍ عَظِيمٍ» بَدَلًا مُطَابِقًا وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [١٩] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ذَلِكَ بِالْفَتْحِ.
وَمَعْنَى يَقُومُ النَّاسُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قِيَامًا، فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ.
وَاللَّامُ فِي لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِلْأَجْلِ، أَي لأجل ربوبيته وَتَلَقِّي حُكْمِهِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ «رَبِّ الْعَالَمِينَ» لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَتِهِ بِأَنَّهُ مَالِكٌ أَصْنَافَ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَاللَّامُ فِي الْعالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَفِي هَذَا الْإِنْكَارِ، وَالتَّعْجِيبِ، وَكَلِمَةِ الظَّنِّ، وَوَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعَظِيمِ، وَقِيَامِ النَّاس فِيهِ الله خَاضِعِينَ، وَوَصْفِ ذَاتِهِ بِ «رَبِّ الْعَالَمِينَ» بَيَانٌ بَلِيغٌ لِعَظِيمِ الذَّنْبِ وَتَفَاقُمِ الْإِثْمِ فِي التَّطْفِيفِ وَفِيمَا كَانَ مِثْلُ حَالِهِ مِنَ الْحَيْفِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالْعَمَلِ عَلَى السَّوِيَّةِ» اهـ.
وَلَمَّا كَانَ الْحَامِل لَهُم عَلَى التَّطْفِيفِ احْتِقَارُهُمْ أَهْلَ الْجَلْبِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي فَلَا


الصفحة التالية
Icon