عَلَى أَنَّ وَرَاءَ هَذَا وُجُوبَ اتِّبَاعِ الْمَأْثُورِ مِنْ تَحْدِيدِ الْآيِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَصُدُّنَا عَنْ مُحَاوَلَةِ ضَوَابِطَ تَنْفَعُ النَّاظِرَ وَإِنْ شَذَّ عَنْهَا مَا شَذَّ.
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا بَعْضُ السُّورِ قَدْ عُدَّ بَعْضُهَا آيَاتٍ مِثْلَ: الم، المص، كهيعص، عسق، طسم، يس، حم، طه. وَلَمْ تُعَدَّ: الر، المر، طس، ص، ق، ن، آيَاتٍ.
وَآيَاتُ الْقُرْآنِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي مَقَادِيرِ كَلِمَاتِهَا فَبَعْضُهَا أَطْوَلُ مِنْ بَعْضٍ وَلِذَلِكَ فَتَقْدِيرُ الزَّمَانِ بِهَا فِي قَوْلِهِمْ مِقْدَارُ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ خَمْسِينَ آيَةً مَثَلًا، تَقْدِيرٌ تَقْرِيبِيٌّ، وَتَفَاوُتُ الْآيَاتِ فِي الطُّولِ تَابِعٌ لِمَا يَقْتَضِيهِ مَقَامُ الْبَلَاغَةِ مِنْ مَوَاقِعِ كَلِمَاتِ الْفَوَاصِلِ عَلَى حَسَبِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ.
وَأَطْوَلُ آيَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى قَوْلِهِ:
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فِي سُورَةِ الْفَتْحِ [٢٥]، وَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ إِلَى قَوْلِهِ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَدُونَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٣].
وَأَقْصَرُ آيَةٍ فِي عَدَدِ الْكَلِمَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُدْهامَّتانِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ [٦٤] وَفِي عَدَدِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ قَوْله: طه [طه: ١].
وَأَمَّا وُقُوفُ الْقُرْآنِ فَقَدْ لَا تُسَايِرُ نِهَايَاتِ الْآيَاتِ، وَلَا ارْتِبَاطَ لَهَا بِنِهَايَاتِ الْآيَاتِ فَقَدْ يَكُونُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ عِدَّةُ وُقُوفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ (وَقْفٌ) وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ (وَقْفٌ) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (وَقْفٌ، وَمُنْتَهَى الْآيَةِ) فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٤٧].
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْوُقُوفِ فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ.
فَأَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ مِنْ عَدَدِ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي نِهَايَةِ بَعْضِهَا، فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ ذَلِكَ عَنِ اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ كَمَا قَدَّمْنَا آنِفًا، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ عَنِ اخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي فِي كِتَابِ «الْعَدَدِ» : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ آيَاتِ الْقُرْآنِ يَبْلُغُ سِتَّةَ آلَافِ آيَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَزِدْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ وَمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِ
(إِنَّ) عَنِ الْإِتْيَانِ بِفَاءِ الْعَطْفِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَقَدْ بَسَطْنَا فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [الْبَقَرَة: ٦١].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَاتِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ دَلَائِلِ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ إِثْرَ ذِكْرِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّهَا إِذَا أُثْبِتَتْ بِهَا الْوَحْدَانِيَّةُ ثَبَتَ الْوُجُودُ بِالضَّرُورَةِ. فَالْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلرَّدِّ
عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ دَهْرِيِّهِمْ وَمُشْرِكِهِمْ وَالْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً، وَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ دَلَائِلَ كُلُّهَا وَاضِحَةٌ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ مَعَ وُضُوحِهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَسْرَارٍ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي دَرْكِهَا حَتَّى يَتَنَاوَلَ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِقْدَارَ الْأَدِلَّةِ مِنْهَا عَلَى قَدْرِ قَرَائِحِهِمْ وَعُلُومِهِمْ.
وَالْخَلْقُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَاخْتِيرَ هُنَا لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِلْعِبْرَةِ أَيْضًا فِي نَفْسِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ تَكْوِينِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنِّظَامِ الْجَامِعِ بَيْنَهَا فَكَمَا كُلَّ مَخْلُوقٍ مِنْهَا أَوْ فِيهَا هُوَ آيَةٌ وَعِبْرَةٌ فَكَذَلِكَ مَجْمُوعُ خَلْقِهَا، وَلَعَلَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَهُوَ النِّظَامُ الْمُنْضَبِطُ فِي أَحْوَالِ الْأَرْضِ مَعَ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالسَّمَاوَاتِ.
والسَّماواتِ جَمْعُ سَمَاءٍ وَالسَّمَاءُ إِذَا أُطْلِقَتْ مُفْرَدَةً فَالْمُرَادُ بِهَا الْجَوُّ الْمُرْتَفِعُ فَوْقَنَا الَّذِي يَبْدُو كَأَنَّهُ قُبَّةٌ زَرْقَاءُ وَهُوَ الْفَضَاءُ الْعَظِيمُ الَّذِي تَسْبَحُ فِيهِ الْكَوَاكِبُ وَذَلِكَ الْمُرَادُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: ٥]، إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات: ٦]، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء [الْبَقَرَة: ٢٢]. وَإِذَا جُمِعَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا أَجْرَامٌ عَظِيمَةٌ ذَاتُ نِظَامٍ خَاصٍّ مِثْلُ الْأَرْضِ وَهِيَ السَّيَّارَاتُ الْعَظِيمَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَالَّتِي عُرِفَتْ مِنْ بَعْدُ وَالَّتِي سَتُعْرَفُ: عُطَارِدُ وَالزُّهَرَةُ وَالْمِرِّيخُ وَالشَّمْسُ وَالْمُشْتَرِي وَزُحَلُ وَأُرَانُوسُ وَنِبْتُونُ. ولعلها هِيَ السَّمَوَات السَّبْعُ وَالْعَرْشُ الْعَظِيمُ، وَهَذَا السِّرُّ فِي جمع (السَّمَوَات) هُنَا وَإِفْرَادِ (الْأَرْضِ) لِأَنَّ الْأَرْضَ عَالَمٌ وَاحِدٌ وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى طَبَقَاتِهَا أَوْ أَقْسَامِ سَطْحِهَا.
وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي خلق مَجْمُوع السَّمَوَات مَعَ الْأَرْضِ آيَاتٍ، فَلِذَلِكَ أُفْرِدَ الْخَلْقُ وَجُعِلَتِ الْأَرْضُ مَعْطُوفًا على السَّمَوَات لِيَتَسَلَّطَ الْمُضَافُ عَلَيْهِمَا.
وَالْآيَةُ فِي هَذَا الْخَلْقِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ عَرَفَ أَسْرَارَ هَذَا النِّظَامِ وَقَوَاعِدَ
يَسْأَلُونَ، وَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْله:
لَا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً تَعْرِيضٌ بِالْمُلْحِفِينَ فِي السُّؤَالِ، أَيْ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ فِي عَدَمِ السُّؤَالِ.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
أُعِيدَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَذُكِرَ مَرَّةً رَابِعَةً، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُكْنَى بِهِ عَنْ أَثَرِهِ كَثِيرًا، فَلَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ مُرَغَّبًا فِيهِ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ مَعْرُوفًا لِلْمُسْلِمِينَ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِهِ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِامْتِثَالِ الْمُنْفِقِ، أَيْ فَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ إِذْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ بَعْدَ كَوْنِهِ عَلِيمًا بِهِ، لِأَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ حَصَلَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْمَرَّاتِ الْأَرْبَعِ مِنَ التَّحْرِيضِ مَا أَفَادَ شِدَّةَ فَضْلِ الْإِنْفَاقِ بِأَنَّهُ نَفْعٌ لِلْمُنْفِقِ، وَصِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَنَوَالُ الْجَزَاءِ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ ثَابِتٌ لَهُ فِي علم الله.
[٢٧٤]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٧٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ تُفِيدُ تَعْمِيمَ أَحْوَالِ فَضَائِلِ الْإِنْفَاقِ بَعْدَ أَنْ خُصِّصَ الْكَلَامُ بِالْإِنْفَاقِ
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ.
وَأُدْخِلَ الْفَاءُ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَسَبُّبِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ لَمَّا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى صِلَةٍ مَقْصُودٍ مِنْهَا التَّعْمِيمُ، وَالتَّعْلِيلُ، وَالْإِيمَاءُ إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ- وَهِيَ يُنْفِقُونَ- صَحَّ إِدْخَالُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ كَمَا تَدْخُلُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَاءِ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّسَبُّبِ وَمَا أُدْخِلَتْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ إِلَّا لِذَلِكَ.
وَالسِّرُّ: الْخَفَاءُ. وَالْعَلَانِيَةُ: الْجَهْرُ وَالظُّهُورُ. وَذُكِرَ عِنْدَ رَبِّهِمْ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ الْأَجْرِ.
وَمَيْمَنَةٌ وَمَيْسَرَةٌ كُلُّ رُكْنٍ مِنْهَا أَلْفٌ، وَلَمَّا لَمْ تَنْقَشِعْ خَشْيَتُهُمْ مِنْ إِمْدَادِ الْمُشْرِكِينَ لِأَعْدَائِهِمْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَهُوَ جَيْشٌ عَظِيمٌ لَهُ قَلْبٌ وَمَيْمَنَةٌ وَمَيْسَرَةٌ وَمُقَدِّمَةٌ وَسَاقَةٌ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَمِيسُ، وَهُوَ أَعْظَمُ تَرْكِيبًا وَجَعَلَ كُلَّ رُكْنٍ مِنْهُ مُسَاوِيًا لِجَيْشِ العدوّ كلّه.
[١٢٦- ١٢٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٢٦ إِلَى ١٢٨]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [الْبَقَرَة: ١٢٣] وَالْمَعْنَى لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ حِينَ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَكَ اللَّهُ بِهِ فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ ذَلِكَ الْوَعْدَ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ وَعَدَكُمُ النَّصْرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الْأَنْفَال: ٧٠] الْآيَةَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَطْفَ الْإِخْبَارِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالِامْتِنَانِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِمْدَادِ الْمُسْتَفَادِ من يُمْدِدْكُمْ [آل عمرَان: ١٢٥] أَوْ إِلَى الْوَعْدِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمرَان: ١٢٥] الْآيَةَ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. وبُشْرى مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ (جَعَلَهُ) أَيْ مَا جَعَلَ اللَّهُ الْإِمْدَادَ وَالْوَعْدَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ بُشْرَى، أَيْ جَعَلَهُ بُشْرَى، وَلَمْ يَجْعَلْهُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَ (لكم) متعلّق ب (بشرى). وَفَائِدَةُ التَّصْرِيحِ بِهِ مَعَ ظُهُورِ أَنَّ الْبُشْرَى إِلَيْهِمْ هِيَ
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ لَوْ قَالُوا مَا هُوَ قَبُولٌ لِلْإِسْلَامِ لَكَانَ خيرا. وَقَوله: سَمِعْنا وَأَطَعْنا يُشْبِهُ أَنَّهُ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ بِقَوْلِ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءٍ وَامْتَثَلَهُ «سَمْعٌ وَطَاعَةٌ»، أَيْ شَأْنِي سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَهُوَ مِمَّا الْتُزِمَ فِيهِ حَذْفُ الْمُبْتَدَإِ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ النُّورِ [٥١] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا.
وَقَوْلُهُ: وَأَقْوَمَ تَفْضِيلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ، كَقَوْلِهِمْ: قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا، وَقَامَتْ حُجَّةُ فُلَانٍ. وَإِنَّمَا كَانَ أَقْوَمَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى لَا احْتِمَالَ فِيهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، أَيْ وَلَكِنْ أَثَرُ اللَّعْنَةِ حَاقَ بِهِمْ فَحُرِمُوا مَا هُوَ خَيْرٌ فَلَا تَرْشَحُ نُفُوسُهُمْ إِلَّا بِآثَارِ مَا هُوَ كَمِينٌ فِيهَا من فعل سيّىء وَقَوْلٍ بَذَاءٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفَ أَنْفُسِهِمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَأُطْلِقَ الْقِلَّةُ عَلَى الْعَدَمِ. وَفُسِّرَ بِهِ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا:

قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ كَثِيرُ الْهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالْمَسَالِكِ
قَالَ الْجَاحِظُ فِي «كِتَابِ الْبَيَانِ» عِنْدَ قَوْلِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ يَصِفُ أَرْضَ نَصِيبِينَ «كَثِيرَةُ الْعَقَارِبِ قَلِيلَةُ الْأَقَارِبِ»، يَضَعُونَ (قَلِيلًا) فِي مَوْضِعِ (لَيْسَ)، كَقَوْلِهِمْ:
فُلَانٌ قَلِيلُ الْحَيَاءِ. لَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ هُنَاكَ حَيَاءً وَإِنْ قَلَّ». قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: قَلَّ رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» «وَالْمَعْنَى نَفْيُ التَّذْكِيرِ. وَالْقِلَّةُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ». وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ الْقِلَّةَ عِوَضًا عَنِ النَّفْيِ لِضَرْبٍ مِنَ الِاحْتِرَازِ وَالِاقْتِصَادِ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَخْشَى أَنْ يُتَلَقَّى عُمُومُ نَفْيِهِ بِالْإِنْكَارِ فَيَتَنَازَلُ عَنْهُ إِلَى إِثْبَاتِ قَلِيلٍ وَهُوَ يُرِيد النَّفْي.
بِعُقُودِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا تُحْدِثُوا عَقْدًا فِي الْإِسْلَامِ»
. وَبَقِيَ أَيْضًا مَا تَعَاقَدَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ كَصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ. وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: «لَعَلَّكَ تَسْأَلُ عَنْ حِلْفِ لُجَيْمٍ وَتَيْمٍ، قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: لَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً»

. قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا عُرِفَ بِهِ الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمْ فِي الْوَفَاءِ لِغَيْرِ مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَتْ خُزَاعَةُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُنَاوِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٧٣].
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ بِالتَّوَقُّفِ فِي تَوْجِيهِ اتِّصَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ بِقَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. فَفِي «تَلْخِيصِ الْكَوَاشِيِّ»، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالْعُقُودِ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اه. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا مَبْدَؤُهُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تَفْصِيلٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ: أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ
فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ مَجْمُوعَ الْكَلَامِ تَفْصِيلٌ لَا خُصُوصُ جُمْلَةِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ فَإِنَّ إِبَاحَةَ الْأَنْعَامِ لَيْسَتْ عَقْدًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: «إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ». وَبِاعْتِبَارِ إِبْطَالِ مَا حَرَّمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بَاطِلًا مِمَّا شَمَلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الْمَائِدَة: ١٠٣] الْآيَاتِ.
وَالْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّ جُمْلَةَ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيَرِدُ بَعْدَهَا مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ: كَقَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَقَوْلِهِ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٢] الَّتِي هِيَ مِنْ عُقُودِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ بَعْضِ الْمُبَاحِ امْتِنَانًا وَتَأْنِيسًا لِلْمُسْلِمِينَ، لِيَتَلَقَّوُا التَّكَالِيفَ بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ
مَجَازِيٍّ، كَأَنَّهُمْ
جَعَلُوا فِعْلَ كَذَا مُعْتَلِيًا عَلَى الْمُخَاطَبِ وَمُتَمَكِّنًا مِنْهُ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْوُجُوبِ فَلَمَّا كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ قَالُوا: عَلَيْكَ كَذَا، فَرَكَّبُوا الْجُمْلَةَ مِنْ مَجْرُورٍ خَبَرٍ وَاسْمِ ذَاتٍ مُبْتَدَأٍ بِتَقْدِيرِ: عَلَيْكَ فِعْلَ كَذَا، لِأَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ لَا تُوصَفُ بِالْعُلُوِّ عَلَى الْمُخَاطَبِ، أَيِ التَّمَكُّنِ، فَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرٍ. وَذَلِكَ كَتَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِالذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة:
٣]، وَقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [الْمَائِدَة: ١]، وَمِنْ ذَلِكَ مَا
رُوِيَ عَلَيْكُمُ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَلَيَّ أَلِيَّةٌ، وَعَلَيَّ نَذْرٌ. ثُمَّ كَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ فَعَامَلُوا (عَلَى) مُعَامَلَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ فَجَعَلُوهَا بِمَعْنَى أَمْرِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُلَازَمَةِ وَنَصَبُوا الِاسْمَ بَعْدَهَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ فَسَمَّاهَا النُّحَاةُ اسْمَ فِعْلٍ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ كَالِاسْمِ لِمَعْنَى أَمْرٍ مَخْصُوصٍ، فَكَأَنَّكَ عَمَدْتَ إِلَى فِعْلِ (الْزَمْ) فَسَمَّيْتَهُ (عَلَى) وَأَبْرَزْتَ مَا مَعَهُ مِنْ ضَمِيرٍ فَأَلْصَقْتَهُ بِ (عَلَى) فِي صُورَةِ الضَّمِيرِ الَّذِي اعْتِيدَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهَا، وَهُوَ ضَمِيرُ الْجَرِّ فَيُقَالُ:
عَلَيْكَ وَعَلَيْكُمَا وَعَلَيْكُمْ. وَلِذَلِكَ لَا يُسْنَدُ إِلَى ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَا يُؤْمَرُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بَلْ يُؤْمَرُ بِوَاسِطَةِ لَامِ الْأَمْرِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ هُوَ- بِنَصْبِ أَنْفُسَكُمْ- أَيِ الْزَمُوا أَنْفُسَكُمْ، أَيِ احْرِصُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ. وَالْمَقَامُ يُبَيِّنُ الْمَحْرُوصَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُلَازَمَةُ الِاهْتِدَاءِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْغَيْرِ وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ.
فَجُمْلَةُ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّ أَمْرَهُمْ بِمُلَازَمَةِ أَنْفُسِهِمْ مَقْصُودٌ مِنْهُ دَفْعُ مَا اعْتَرَاهُمْ مِنَ الْغَمِّ وَالْأَسَفِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الضَّالِّينَ لِلِاهْتِدَاءِ، وَخَشْيَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَقْصِيرٍ فِي دَعْوَتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، أَيِ اشْتَغِلُوا بِإِكْمَالِ اهْتِدَائِكُمْ، فَفِعْلُ يَضُرُّكُمْ مَرْفُوعٌ.
وَقَوْلُهُ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ظَرْفٌ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ يَتَعَلَّقُ بِ يَضُرُّكُمْ. وَقَدْ شَمِلَ الِاهْتِدَاءُ جَمِيعَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ دَعْوَةُ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَوْ قَصَّرُوا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالِاحْتِجَاجِ لَهُ وَسَكَتُوا عَنِ الْمُنْكَرِ لَضَرَّهُمْ مَنْ ضَلَّ لِأَنَّ إِثْمَ ضَلَالِهِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِمْ.
فَضَعُفَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِوُجُودِ رُسُلٍ مِنَ الْجِنِّ إِلَى جِنْسِهِمْ، وَنُسِبَ إِلَى الضَّحَّاكِ، وَلِذَلِكَ فَقَوله: لَمْ يَأْتِكُمْ
مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ شُمُولِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، وَلَمْ يَرِدْ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَثْبُتُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلًا مِنَ الْجِنِّ إِلَى جِنْسِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُسُلُ الْجِنِّ طَوَائِفَ مِنْهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيَفْهَمُونَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَيُبَلِّغُونَ ذَلِكَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ فَمُؤَاخَذَةُ الْجِنِّ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ يَقْتَضِيهَا بُلُوغُ تَوْحِيدِ اللَّهِ إِلَى عِلْمِهِمْ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْوَحْدَانِيَّةِ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَا يُحَرِّكُ النَّظَرَ. فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ لِلْجِنِّ عِلْمًا بِمَا تَجِيءُ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى النَّظَرِ فِي التَّوْحِيدِ فَقَدْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْمُؤَاخَذَةُ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ عَلَى الْإِشْرَاكِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى تَوْجِيهِ الرُّسُلِ دَعْوَتَهُمْ إِلَيْهِمْ.
وَمِنْ حُسْنِ عِبَارَاتِ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، دُونَ أَنْ يَقُولُوا: عَلَى مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ. وَطُرُقُ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ عَدِيدَةٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي صَحِيحِ الْآثَارِ أَنَّ النّبيء محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ، بُعِثَ إِلَى الْجِنِّ لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَلِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، وَتَعَذُّرِ تَخَالُطِهِمَا، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أنّ محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُمَرَ ابْن عَبْدِ الْبَرِّ، وَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ: فَيَكُونُ مِنْ خَصَائِصَ النّبيء محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لِقَدْرِهِ. وَالْخَوْضُ فِي هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَرْبَأَ بِنَفْسِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ خَوْضٌ فِي أَحْوَالِ عَالَمٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُدْرَكَاتِنَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَنَا بِأَنَّ الْعَوَالِمَ كُلَّهَا خَاضِعَةٌ لِسُلْطَانِهِ. حَقِيقٌ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ، إِذَا كَانَتْ مُدْرِكَةً صَالِحَةً لِلتَّكْلِيفِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا إِعْلَامُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّوْحِيدِ
وَالْإِسْلَامِ وَأَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى نَبْذِ الْإِسْلَامِ. بَلْهَ أَتْبَاعُهُمْ وَدَهْمَائُهُمْ. فَذِكْرُ الْجِنَّ مَعَ الْإِنْسِ فِي قَوْله: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتَبْكِيتِ الْمُشْرِكِينَ وَتَحْسِيرِهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ أَوِ الِالْتِجَاءِ إِلَيْهِمْ،
وَقَدْ نُهُوا عَنْ أَنْ يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ، وَفُتُونُ الشَّيْطَانِ حُصُولُ آثَارِ وَسْوَسَتِهِ، أَيْ لَا تُمَكِّنُوا الشَّيْطَانَ مِنْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ، وَالْمَعْنَى النَّهْيُ عَنْ طَاعَتِهِ، وَهَذَا مِنْ مُبَالَغَةِ النَّهْيِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا: أَيْ لَا تَفْعَلَنَّ فَأَعْرِفُ فِعْلَكَ، لَا أَرَيَنَّكَ هُنَا: أَيْ لَا تَحْضُرَنَّ هُنَا فَأَرَاكَ، فَالْمَعْنَى لَا تُطِيعُوا الشَّيْطَانَ فِي فِتَنِهِ فَيَفْتِنَكُمْ وَمِثْلُ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنْ فِعْلٍ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَسْبَابِهِ.
وَشُبِّهَ الْفُتُونُ الصَّادِرُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِلنَّاسِ بِفَتْنِهِ آدَمَ وَزَوْجَهُ إِذْ أَقْدَمَهُمَا عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ نَعِيمٍ كَانَا فِيهِ، تَذْكِيرًا لِلْبَشَرِ بِأَعْظَمِ فِتْنَةٍ فَتَنَ الشَّيْطَانُ بِهَا نَوْعَهُمْ، وَشَمَلَتْ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّوْعِ، إِذْ حُرِمَ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي كَانَ يَتَحَقَّقُ لَهُ لَوْ بَقِيَ أَبَوَاهُ فِي الْجَنَّةِ وَتَنَاسَلَا فِيهَا، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِأَنَّ عَدَاوَةَ الْبَشَرِ لِلشَّيْطَانِ مَوْرُوثَةٌ، فَيَكُونُ أَبْعَثَ لَهُمْ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ كَيْدِهِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِيَفْتِنَنَّكُمُ، وَالتَّقْدِيرُ: فُتُونًا كَإِخْرَاجِهِ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ إِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فُتُونٌ عَظِيمٌ يُشَبَّهُ بِهِ فُتُونُ الشَّيْطَانِ حِينَ يُرَادُ تَقْرِيبُ مَعْنَاهُ لِلْبَشَرِ وَتَخْوِيفُهُمْ مِنْهُ.
وَالْأَبَوَانِ تَثْنِيَةُ الْأَبِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ تَغْلِيبٌ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِأَبَوَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١١]. وَأُطْلِقَ الْأَبُ هُنَا عَنِ الْجَدِّ لِأَنَّهُ أَبٌ أَعْلَى، كَمَا فِي
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»
. وَجُمْلَةُ: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُقَارِنَةِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي:
أَخْرَجَ أَوْ مِنْ: أَبَوَيْكُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ تَفْظِيعُ هَيْئَةِ الْإِخْرَاجِ بِكَوْنِهَا حَاصِلَةً فِي حَالِ انْكِشَافِ سَوْآتِهِمَا لِأَنَّ انْكِشَافَ السَّوْءَةِ
وَالْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْجِهَاتِ، لِأَنَّ الْجِهَةَ أَمر نسبي تتعد بِتَعَدُّدِ الْأَمْكِنَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا إِحَاطَةُ الْأَمْكِنَةِ.
والْأَرْضِ أَرْضُ الشَّامِ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وَهِيَ تَبْتَدِئُ مِنَ السَّوَاحِلِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ لِلْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَتَنْتَهِي إِلَى سَوَاحِلِ بَحْرِ الرُّومِ وَهُوَ الْبَحْرُ الْمُتَوَسِّطُ وَإِلَى حُدُودِ الْعِرَاقِ وَحُدُودِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَحُدُودِ بِلَادِ التُّرْكِ.
والَّتِي بارَكْنا فِيها صِفَةٌ لِلْأَرْضِ أَوْ لِمَشَارِقِهَا وَمَغَارِبهَا لِأَن مَا صدقيهما مُتَّحِدَانِ، أَيْ قَدَّرْنَا لَهَا الْبَرَكَةَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٩٦]. أَيْ أَعَضْنَاهُمْ عَنْ أَرْضِ مِصْرَ الَّتِي أُخْرِجُوا مِنْهَا أَرْضًا هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَرْضِ مصر.
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ إِلَخْ... وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ هُوَ قَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا تَنْوِيهًا بِفَضِيلَةِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِ، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ عُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَشْمَلُ
إِيرَاثَهُمُ الْأَرْضَ الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَتَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ إِلَى آخِرِهَا مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ الَّذِي لَا يُعْطَفُ، فَكَانَ مُقْتَضَى الْعَطْفِ هُوَ قَوْلُهُ بِما صَبَرُوا.
وَكلمَة: هِيَ الْقَوْلُ، وَهُوَ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ اللَّفْظَ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: ١٢٩] أَوْ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ وَعْدُ تَمْلِيكِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَتَمَامُ الْكَلِمَةِ تَحَقُّقُ وَعْدِهَا، شُبِّهَ تَحَقُّقُهَا بِالشَّيْءِ إِذَا اسْتَوْفَى أَجْزَاءَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَلِمَةُ اللَّهِ فِي عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ وَهِيَ إِرَادَةُ اللَّهِ إِطْلَاقَهُمْ مِنَ اسْتِعْبَادِ الْقِبْطِ وَإِرَادَتُهُ تَمْلِيكَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ كَقَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النِّسَاء: ١٧١].
وَتَمَامُ الِكَلِمَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ظُهُورُ تَعَلُّقِهَا التَّنْجِيزِيِّ فِي
الدِّينِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ هُوَ النَّفْعَ الدُّنْيَوِيَّ لَكَانَ حِفْظُ أَنْفُسِ النَّاسِ مُقَدَّمًا عَلَى إسعافهم بِالْمَالِ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ فِي الْجِهَادِ. فَالْمَعْنَى: يُوشِكُ أَنْ تَكُونَ حَالُكُمْ كَحَالِ مَنْ لَا يُحِبُّ إِلَّا عَرَضَ الدُّنْيَا، تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ التَّوَغُّلِ فِي إِيثَارِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ عَطْفًا يُؤْذِنُ بِأَنَّ لِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَثَرًا فِي أَنَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيلِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ حَظَّ الْآخِرَةِ هُوَ الْحَظُّ الْحَقُّ، وَلِذَلِكَ يُرِيدُهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فَوَصْفُ الْعَزِيزِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْنَاء على الِاحْتِيَاجِ، وَعَلَى الرِّفْعَةِ وَالْمَقْدِرَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا مَحَبَّةُ الْأُمُورِ النَّفِيسَةِ، وَهَذَا يُومِئُ إِلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَعِزَّاءَ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: ٨] فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِهِمْ أَنْ يَرْبَأُوا بِنُفُوسِهِمْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِسَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَأَنْ يَجْنَحُوا إِلَى مَعَالِيهَا.
وَوَصْفُ الْحَكِيمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْعَالِمُ بِالْمَنَافِعِ الْحَقِّ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الْعِلْمُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مُفَادَاةَ الْأَسْرَى أَمْرٌ مَرْهُوبٌ تُخْشَى عَوَاقِبُهُ، فَيَسْتَثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِهِمْ عَمَّا يُتَرَقَّبُ مِنْ ذَلِكَ، فَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الْآيَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوبُ، وَهُوَ مِنَ الْكِتَابَةِ الَّتِي هِيَ التَّعْيِينُ وَالتَّقْدِيرُ، وَقَدْ نُكِّرَ
الْكِتَابُ تَنْكِيرَ نَوْعِيَّةٍ وَإِبْهَامٍ، أَيْ: لَوْلَا وُجُودُ سُنَّةِ تَشْرِيعٍ سَبَقَ عَنِ اللَّهِ. وَذَلِكَ الْكِتَابُ هُوَ عُذْرُ الْمُسْتَشَارِ وَعُذْرُ الْمُجْتَهِدِ فِي اجْتِهَادِهِ إِذَا أَخْطَأَ، فَقَدِ اسْتَشَارَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارُوا بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَأَوْهَا وَأَخَذَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ مُخَالَفَتُهُمْ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ يُوجِبُ أَنْ يَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، وَأَنَّهُ نَصَبَ عَلَى حُكْمِهِ أَمَارَةً هِيَ دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِ وَأَنَّ مُخْطِئَهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُؤْجَرُ.
وَ «فِي» لِلتَّعْلِيلِ، وَالْعَذَاب يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٠- سُورَةُ يُونُسَ
سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ سُورَةَ يُونُسَ لِأَنَّهَا انْفَرَدَتْ بِذِكْرِ خُصُوصِيَّةٍ لِقَوْمِ يُونُسَ، أَنَّهُمْ آمَنُوا بَعْدَ أَنْ تَوَعَّدَهُمْ رَسُولُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا آمَنُوا. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يُونُس: ٩٨]. وَتِلْكَ الْخُصُوصِيَّةُ كَرَامَةٌ لِيُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِيُونُسَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذُكِرَ يُونُسُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بِأَوْسَعَ مِمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَلَكِنَّ وَجْهَ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُهَا.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا أُضِيفَتْ إِلَى يُونُسَ تَمْيِيزًا لَهَا عَنْ أَخَوَاتِهَا الْأَرْبَعِ الْمُفْتَتَحَةِ بِ «الر». وَلِذَلِكَ أُضِيفَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى نَبِيءٍ أَوْ قَوْمِ نَبِيءٍ عِوَضًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: الر الْأُولَى والر الثَّانِيَةُ. وَهَكَذَا فَإِنَّ اشْتِهَارَ السُّوَرِ بِأَسْمَائِهَا أَوَّلُ مَا يَشِيعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِأُولَى الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ فَوَاتِحُهَا حُرُوفًا مُقَطَّعَةً فَكَانُوا يَدْعُونَ تِلْكَ السُّوَرَ بِآلِ حم وَآلِ الر وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَصَحِّ عَنْهُ. وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَفِي «الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: ٩٤- ٩٧] وَجَزَمَ بِذَلِكَ الْقُمِّيُّ النَّيْسَابُورِيُّ. وَفِي «ابْنِ عَطِيَّةَ» عَنْ مُقَاتِلٍ إِلَّا آيَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ هُمَا: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْخاسِرِينَ [يُونُس: ٩٤- ٩٥].
وَفِيهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ إِلَى أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ [وَيُونُس: ٤٠] نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ.
وَجُمْلَةُ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ إِمَّا صِفَةٌ لِ (جَبَلٍ) أَيْ جَبَلٍ عَال، وإمّا استيناف بَيَانِيٌّ، لِأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السّلام- يسْأَل لماذَا يَأْوِي إِلَى جَبَلٍ إِذِ ابْنُهُ قَدْ سَمِعَهُ حِينَ يُنْذِرُ النَّاسَ بِطُوفَانٍ عَظِيمٍ فَظَنَّ الِابْنُ أَنَّ أَرْفَعَ الْجِبَالِ لَا يَبْلُغُهُ الْمَاءُ، وَأَنَّ أَبَاهُ مَا أَرَادَ إِلَّا بُلُوغ المَاء إِلَى غَالِبَ الْمُرْتَفَعَاتِ دُونَ الْجِبَالِ الشَّامِخَاتِ.
وَلِذَلِكَ أَجَابَهُ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ مَأْمُورِهِ
وَهُوَ الطُّوفَانُ إِلَّا مَنْ رَحِمَ.
وَاسْتِثْنَاءُ مَنْ رَحِمَ مِنْ مَفْعُولٍ يَتَضَمَّنُهُ (عَاصِمَ) إِذِ الْعَاصِمُ يَقْتَضِي مَعْصُومًا وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَأَرَادَ بِ مَنْ رَحِمَ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ النَّجَاةَ مِنَ الْغَرَقِ بِرَحْمَتِهِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُظْهِرُهُ الْوَحْيُ بِصُنْعِ الْفُلْكِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى كَيْفِيَّةِ رُكُوبِهِ.
وَالْمَوْجُ: اسْمُ جَمْعِ مَوْجَةٍ، وَهِيَ: مَقَادِيرُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ أَوِ النَّهْرِ تَتَصَاعَدُ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ مِنَ اضْطِرَابِ الْمَاءِ بِسَبَبِ شِدَّةِ رِيَاحٍ، أَوْ تَزَايُدِ مِيَاهٍ تَنْصَبُّ فِيهِ، وَيُقَالُ: مَاجَ الْبَحْرُ إِذَا اضْطَرَبَ مَاؤُهُ. وَقَالُوا: مَاجَ الْقَوْمُ، تَشْبِيهًا لِاخْتِلَاطِ النَّاسِ وَاضْطِرَابِهِمْ بِاضْطِرَابِ الْبَحْرِ.
وَحَيْلُولَةُ الْمَوْجِ بَيْنَهُمَا فِي آخِرِ الْمُحَاوَرَةِ يُشِيرُ إِلَى سُرْعَةِ فَيَضَانِ الْمَاءِ فِي حِينِ الْمُحَاوَلَةِ.
وَأَفَادَ قَوْلُهُ: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ أَنَّهُ غَرِقَ وَغَرِقَ مَعَهُ مَنْ تَوَعَّدَهُ بِالْغَرَقِ، فَهُوَ إيجاز بديع.
تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلِ خَلْقِ الْعَالَمَيْنِ وَنِظَامِهِمَا الدَّالِّ عَلَى انْفِرَادِهِ بِتَمَامِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَإِدْمَاجِ الِامْتِنَانِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ عَلَى النَّاسِ.
ثُمَّ انْتقل إِلَى تفنيد أَقْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَزَاعِمِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ.
وَتَهْدِيدِهِمْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ.
وَالتَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ.
وَإِثْبَاتِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ آلِهَتِهِمْ.
وَأَنَّ اللَّهَ الْعَالِمَ بِالْخَفَايَا وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا تُنْعِمُ بِنِعْمَةٍ.
وَالتَّهْدِيدِ بِالْحَوَادِثِ الْجَوِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا عَذَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ كَمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ.
وَالتَّخْوِيفِ مِنْ يَوْمِ الْجَزَاءِ.
وَالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ دَارَ قَرَارٍ.
وَبَيَانِ مُكَابَرَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي اقْتِرَاحِهِمْ مَجِيءَ الْآيَاتِ عَلَى نَحْوِ مُقْتَرَحَاتِهِمْ.
وَمُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِيَقِينِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ.
وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا كَمَا لَقِيَ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِنْ قَبْلِهِ.
وَالثَّنَاءِ عَلَى فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْإِشَارَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الْقَدَرِ وَمَظَاهِرِ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ.
وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ وَالْأَمْثَالِ
وَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ سَاعَةُ الْبَعْثِ وَذَلِكَ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ. وَذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا إِلَى تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٣].
وَتَفْرِيعُ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَاهُمْ وَسُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِلدَّعْوَةِ.
والصَّفْحَ: الْعَفْوُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٣]. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ مِنْ صَنِيعِ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الصَّفْحِ لِظُهُورِهِ، أَيْ عَمَّنْ كَذَّبَكَ وَآذَاكَ.
والْجَمِيلَ: الْحَسَنُ. وَالْمُرَادُ الصَّفْحُ الْكَامِلُ.
ثُمَّ إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضَرْبًا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، إِذْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سُورَة الْحجر: ١٤- ١٦] الْآيَاتِ. وَخُتِمَتْ بِآيَةِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ [سُورَة الْحجر: ٢٣- ٢٥].
وانتقل هُنَا لَك إِلَى التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ. ثُمَّ إِلَى سَوْقِ قَصَصِ الْأُمَمِ الَّتِي عَقِبَتْ عُصُورَ الْخِلْقَةِ الْأُولَى فَآنَ الْأَوَانُ لِلْعَوْدِ إِلَى حَيْثُ افْتَرَقَ طَرِيقُ النَّظْمِ حَيْثُ ذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَدَلَالَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَاتِ، فَجَاءَتْ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سُورَة الْحجر: ١٦] الْآيَاتِ. فَإِنَّ ذَلِكَ خَلْقٌ بَدِيعٌ.
النَّسَبِ بَيْنَ النَّاسِ. وَعَنْ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ أَنَّهَا تَشْمَلُ قرَابَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقُرْبى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيِ الْقُرْبَى مِنْكَ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّ (أَلْ) عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى عُطِفَ عَلَيْهِ مَنْ يُمَاثِلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُوَاسَاةِ.
وَحَقُّ الْمِسْكِينِ هُوَ الصَّدَقَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: ١٨] وَقَوْلُهُ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَد: ١٤- ١٦]. وَقَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ حُقُوقَ الْمَسَاكِينِ وَأَعْظَمُهَا آيَةُ الزَّكَاةِ وَمَرَاتِبَ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرَهَا.
وَابْنَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ يَمُرُّ بِحَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَلَهُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ حَقُّ ضِيَافَتِهِ.
وَحُقُوق الأضياف
جَاءَت فِي كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَليُكرم ضَيفه جايزته يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ»
. وَكَانَتْ ضِيَافَةُ ابْنِ السَّبِيلِ مِنْ أُصُولِ الْحَنِيفِيَّةِ مِمَّا سَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ الْحَرِيرِيُّ: «وَحُرْمَةُ الشَّيْخِ الَّذِي سَنَّ الْقِرَى».
وَقَدْ جُعِلَ لِابْنِ السَّبِيلِ نَصِيبٌ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاث وَصَايَا مِمَّا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ الْآيَات [الْإِسْرَاء: ٢٣].
فَأَمَّا إِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى فَالْمَقْصِدُ مِنْهُ مُقَارِبٌ لِلْمَقْصِدِ مِنَ الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ رَعْيًا لِاتِّحَادِ الْمَنْبَتِ الْقَرِيبِ وَشَدًّا لِآصِرَةِ الْعَشِيرَةِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْقَبِيلَةُ. وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِنِظَامِ الْقَبِيلَةِ وَأَمْنِهَا وَذَبِّهَا عَنْ حَوْزَتِهَا.
وَأَمَّا إِيتَاءُ الْمِسْكِينِ فَلِمَقْصِدِ انْتِظَامِ الْمُجْتَمَعِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَفْرَادِهِ مَنْ هُوَ فِي بُؤْسٍ وَشَقَاءٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمِسْكِين لَا يعدو أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَبِيلَةِ فِي الْغَالِبِ أَقْعَدَهُ الْعَجْزُ عَنِ الْعَمَلِ وَالْفَقْرُ عَنِ الْكِفَايَةِ.
وَكَذَلِكَ عَطَفَ بُرُورَهُ بِوَالِدَيْهِ عَلَى كَوْنِهِ تَقِيًّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ.
وَالْبُرُورُ: الْإِكْرَامُ وَالسَّعْيُ فِي الطَّاعَةِ. وَالْبَرُّ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ الْمَصْدَرِ، فَالْوَصْفُ بِهِ مُبَالَغَةٌ. وَأَمَّا الْبِرُّ- بِكَسْرِ الْبَاءِ- فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَالْجَبَّارُ: الْمُسْتَخِفُّ بِحُقُوقِ النَّاسِ، كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْقَسْرُ وَالْغَصْبُ.
لِأَنَّهُ يَغْصِبُ حُقُوقَ النَّاسِ.
وَالْعَصِيُّ: فَعِيلٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدُ الْعِصْيَانِ، وَالْمُبَالَغَةُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى النَّفْيِ لَا إِلَى الْمَنْفِيِّ. أَيْ لَمْ يَكُنْ عَاصِيا بالمرة.
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ١٥]
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: ١٢] مُخَاطَبًا بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِيَعْلَمُوا كَرَامَةَ يَحْيَى عِنْدَ اللَّهِ.
والسّلام: اسْم للْكَلَام الَّذِي يُفَاتِحُ بِهِ الزَّائِرُ وَالرَّاحِلُ فِيهِ ثَنَاءٌ أَوْ دُعَاءٌ. وَسُمِّيَ ذَلِكَ سَلَامًا لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ وَلِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الَّذِي أَقْدَمَ هُوَ عَلَيْهِ مُسَالِمٌ لَهُ لَا يَخْشَى مِنْهُ بَأْسًا. فَالْمُرَادُ هُنَا سَلَامٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨]. فَإِذَا عُرِّفَ السَّلَامُ بِاللَّامِ فَالْمُرَادُ بِهِ مِثْلُ الْمُرَادِ بِالْمُنَكَّرِ أَوْ مُرَادٌ بِهِ الْعَهْدُ، أَيْ سَلَامٌ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي السَّلَامِ عَلَى عِيسَى. فَالْمَعْنَى: أَنَّ إِكْرَامَ اللَّهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَحْوَالِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَالنُّقْصَانُ: تَقْلِيلُ كَمِّيَّةِ شَيْءٍ.
وَالْأَطْرَافُ: جَمْعُ طَرْفٍ- بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالرَّاءِ-. وَهُوَ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْجِسْمُ مِنْ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهِ، وَضِدُّهُ الْوَسَطُ.
وَالْمُرَادُ بِنُقْصَانِ الْأَرْضِ: نُقْصَانُ مَنْ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ لَا نُقْصَانُ مِسَاحَتِهَا لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَلَمْ يَكُنْ سَاعَتَئِذٍ شَيْءٌ مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقَرِينَةُ
الْمُشَاهَدَةُ.
وَالْمُرَادُ: نُقْصَانُ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ بِدُخُولِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمَنْ هَاجَرَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ إِسْلَامِ أَهْلِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَتَجَاوَزُ الْمِائَتَيْنِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي خِتَامِ سُورَةِ الرَّعْدِ.
وَجُمْلَةُ أَفَهُمُ الْغالِبُونَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ فَكَيْفَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ غَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ وَتَمَكَّنُوا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَاخْتِيَارُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ لِدَلَالَتِهَا بِتَعْرِيفِ جُزْأَيْهَا عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ مَا هُمُ الْغَالِبُونَ بَلِ الْمُسْلِمُونَ الْغَالِبُونَ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ الْغَالِبِينَ لَمَا كَانَ عَدَدُهُمْ فِي تَنَاقُصٍ، وَلَمَا خَلَتْ بَلْدَتُهُمْ مِنْ عَدَدٍ كثير مِنْهُم.
[٤٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٤٥]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْإِتْيَانُ عَلَى جَمِيعِ مَا تقدم من استعجالهم بِالْوَعْدِ تَهَكُّمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْأَنْبِيَاء: ٣٨]،
أَسْمَاءِ الْمَوصُولَاتِ لِلِاهْتِمَامِ بِكُلِّ صِلَةٍ مِنْ صِلَاتِهَا فَلَا تُذْكَرُ تَبَعًا بِالْعَطْفِ. وَالْمَقْصُودُ الْفَرِيقُ الَّذِينَ اتُّصِفُوا بِصِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ لِلتَّعْلِيلِ.
وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٢٨]. وَقَدْ حُذِفَ الْمُتَوَقَّعُ مِنْهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْإِشْفَاقُ بِسَبَبِ خَشْيَتِهِ، أَيْ يَتَوَقَّعُونَ غَضَبَهُ وَعِقَابَهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الدَّلَائِلُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ وَمِنْهَا إِعْجَازُ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِخَشْيَةِ رَبِّهِمْ يَخَافُونَ عِقَابَهُ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُشْفِقُونَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى عَوَامِلِهَا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا.
وَمَعْنَى: يُؤْتُونَ مَا آتَوْا يُعْطُونَ الْأَمْوَالَ صَدَقَاتٍ وَصِلَاتٍ وَنَفَقَاتٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: ١٧٧] الْآيَةَ وَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦، ٧]. وَاسْتِعْمَالُ الْإِيتَاءِ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ مُتَعَيِّنٌ أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا.
وَإِنَّمَا عُبِّرَ بِ مَا آتَوْا دُونَ الصَّدَقَاتِ أَوِ الْأَمْوَالِ لِيَعُمَّ كُلَّ أَصْنَافِ الْعَطَاءِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَلِيَعُمَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ يُعْطِي مِمَّا يَكْسِبُ.
وَجُمْلَةُ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَحَقُّ الْحَالِ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ أَنْ تَعُودَ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ يَفْعَلُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِقُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَهُمْ مُضْمِرُونَ وَجَلًا وَخَوْفًا مِنْ رَبِّهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ فَلَا يَجِدُونَهُ رَاضِيًا عَنْهُمْ، أَوْ لَا يَجِدُونَ مَا يَجِدُهُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَفُوتُهُمْ فِي الصَّالِحَاتِ، فَهُمْ لِذَلِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيُكْثِرُونَ مِنْهَا مَا اسْتَطَاعُوا وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ أَهْلَ
تَبْدِيلٌ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُعَوِّضَهُمْ عَنْ جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ ثَوَابَ حَسَنَاتِ أَضْدَادِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا لِفَضْلِ الْإِيمَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلشِّرْكِ وَلِفَضْلِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْآثَامِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَبِهِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ الْمُفِيدِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ فَأُولَئِكَ التَّائِبُونَ الْمُؤْمِنُونَ الْعَامِلُونَ الصَّالِحَاتِ فِي الْإِيمَانِ يُبَدِّلُ اللَّهُ عِقَابَ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا بِثَوَابٍ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمِقْدَارِ الثَّوَابِ وَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً الْمُقْتَضِي أَنَّهُ عَظِيم الْمَغْفِرَة.
[٧١]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧١]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١)
إِذَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ أَوْ تَوْصِيفٌ لَهُ أَوْ حَالَةٌ مِنْهُ بِمُرَادِفٍ لِمَا سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى دُونَ زِيَادَةٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلًا فِي شَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْإِخْبَارِ يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ، كَقَوْلِ أبي الطّمحان لَقِيَنِي (١) :
وَإِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمُ هُمُ وَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي»
. فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنِ التَّائِبِ بِأَنَّهُ تَائِبٌ إِذِ الْمَتَابُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى التَّوْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى مَعْنًى مُفِيدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلَهُ:
إِلَى اللَّهِ فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ عَظِيمِ ثَوَابِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مَا فِي الْمُضَارِعِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ، أَيْ فَإِنَّهُِِ
_________
(١) الطَّحَّان بطاء مُهْملَة فميم مَفْتُوحَة فحاء مُهْملَة، واسْمه حَنْظَلَة، شَاعِر إسلامي.
الْخَطَأُ وَهُوَ ضِدُّ الْعَمْدِ فَفِعْلُهُ أَخْطَأَ فَهُوَ مُخْطِئٌ، قَالَ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الْأَحْزَاب: ٥]، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْفُصَحَاءَ فَرَّقُوا الِاسْتِعْمَالَ بَيْنَ مُرْتَكِبِ الْخَطِيئَةِ وَمُرْتَكِبِ الْخَطَإِ، وَعَلَى التَّفْرِقَةِ بَين أَخطَأ وخطىء دَرَجَ نَفْطَوَيْهِ وَتَبِعَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَالْحَرِيرِيُّ.
وَذَهَبَ أَبُو عَبِيدٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَيْنِ مُتَرَادِفَانِ وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ هُنَا أَنَّهُ جَارٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ قُتَيْبَةَ فَقَدْ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَقَالَ فِي «الْأَسَاسِ» :«أَخْطَأَ فِي الرَّأْي وخطىء إِذَا تَعَمَّدَ الذَّنْبَ. وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ».
وَيَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَهُمَا لُغَتَانِ فِي مَعْنَى مُخَالَفَةِ الصَّوَابِ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ أَوْ عَنْ عَمْدٍ، ثُمَّ غَلَبَ الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ عَلَى تَخْصِيصِ أَخْطَأَ بِفِعْلٍ عَلَى غير عمد وخطىء بِالْإِجْرَامِ وَالذَّنْبِ وَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ اللُّغَةِ. وَإِنَّ الْفُرُوقَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ مِنْ أَحْسَنِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ.
فَأَمَّا مَحْمَلُ الْآيَةِ هُنَا فَلَا يُنَاسِبُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خاطِئِينَ مِنَ الْخَطِيئَةِ لِيَكُونَ الْكَلَامُ تَعْلِيلًا لِتَكْوِينِ حزنهمْ مِنْهُ بالأخرة. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هامان آنِفا [الْقَصَص: ٦].
[٩]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٩]
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩)
يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ انْتَشَلُوهُ جَعَلُوهُ بَيْنَ أَيْدِي فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ فَرَقَّتْ لَهُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَصَرَفَتْ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِهِ بَعْدَ أَنْ هَمَّ بِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الطِّفْلَ لَيْسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ بِلَوْنِ جَلْوَتِهِ وَمَلَامِحِ وَجْهِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَمَلَهُ النَّيْلُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لِظُهُورِهِ أَنَّهُ لَمْ يَطُلْ مَكْثُ تَابُوتِهِ فِي الْمَاءِ وَلَا اضْطِرَابُهُ بِكَثْرَةِ التَّنَقُّلِ، فَعَلِمَ أَنَّ وَقْعَهُ فِي التَّابُوتِ لِقَصْدِ إِنْجَائِهِ مِنَ الذَّبْحِ. وَكَانَ ذَلِكَ وَقْتَ انْتِشَالِهِ مِنَ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ التَّابُوتِ. وَكَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ امْرَأَةً مُلْهَمَةً لِلْخَيْرِ وَقَدَّرَ اللَّهُ نَجَاةَ مُوسَى بِسَبَبِهَا. وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى فِي شَأْنِهَا وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التَّحْرِيم: ١١]،
صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُ النَّوْمِ مِنْ أَحْوَالِ نَوْمِهِ، لِأَنَّ النَّائِمَ لَا يَعْرِفُ مِنْ نَوْمِهِ إِلَّا الِاسْتِعْدَادَ لَهُ وَإِلَّا أَنَّهُ حِينَ يَهُبُّ مَنْ نَوْمِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فَأَمَّا حَالَةُ النَّائِمِ فِي حِينِ نَوْمِهِ وَمِقْدَارُ تَنَبُّهِهِ لِمَنْ يُوقِظُهُ، وَشُعُورُهُ بِالْأَصْوَاتِ الَّتِي تَقَعُ بِقُرْبِهِ، وَالْأَضْوَاءِ الَّتِي تَنْتَشِرُ عَلَى بَصَرِهِ فَتُنَبِّهُهُ أَوْ لَا تُنَبِّهُهُ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَلَقَّاهُ النَّائِمُ إِلَّا بِطَرِيقِ الْخَبَرِ مِنَ الَّذِينَ يَكُونُونَ أَيْقَاظًا فِي وَقْتِ نَوْمِهِ. فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِتَفَاصِيلِ أَحْوَالِ النَّائِمِينَ وَاخْتِلَافِهَا السَّمْعُ، وَقَدْ يُشَاهِدُ الْمَرْءُ حَالَ نَوْمِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّ عِبْرَتَهُ بِنَوْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ أَشَدُّ، فَطَرِيقُ السَّمْعِ هُوَ أَعَمُّ الطُّرُقِ لِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِ النَّوْمِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَأَيْضًا لِأَنَّ النَّوْمَ يَحُولُ دُونَ الشُّعُور بالمسموعات بادىء ذِي بَدْءٍ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ دُونَ الشُّعُورِ بِالْمُبْصَرَاتِ.
وَأُجْرِيَتْ صِفَةُ يَسْمَعُونَ عَلَى قَوْمٍ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّمْعَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]. وَوَجْهُ جَعْلِ ذَلِكَ آيَاتٍ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ تَعَدُّدِ الدَّلَالَاتِ بِتَعَدُّدِ الْمُسْتَدِلِّينَ وَتَوَلُّدِ دَقَائِقِ تِلْكَ الْآيَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرّوم: ٢١].
[٢٤]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٢٤]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)
تِلْكَ آيَةٌ خَامِسَةٌ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِنْسَانِ وَلَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ، فَإِنَّ الْبَرْقَ آيَةٌ مِنْ آيَاتٍ صُنْعِ اللَّهِ وَهُوَ مَنْ خَلْقِ الْقُوَى الْكَهْرَبَائِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ فِي الْأَسْحِبَةِ وَجَعْلِهَا آثَارًا مُشَاهَدَةً، وَكَمْ مِنْ قُوًى أَمْثَالِهَا مُنْبَثَّةٍ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ لَا تُشَاهَدُ آثَارُهَا.
وَالْمُتَعَرِّضَاتِ لِلتَّزَوُّجِ بِهِ، وَتَحْذِيرٌ لَهُنَّ مِنْ إِضْمَار عدم الرضى بِمَا يَلْقَيْنَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي إِجْرَاءِ صِفَتي عَلِيماً حَلِيماً عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ، فَمُنَاسَبَةُ صِفَةِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ظَاهِرَةٌ، وَمُنَاسَبَةُ صِفَةُ الْحَلِيمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْغِيبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَلْيَقِ الْأَحْوَالِ بِصِفَةِ الْحَلِيمِ لِأَنَّ هَمَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّخَلُّقُ بِخُلُقِ اللَّهِ
تَعَالَى وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ صِفَاتٍ مِنْ صِفَاته مثل رؤوف رَحِيم وَمثل شَاهد. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا.
وَلِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ رَسُولُ الله بِهَذَا التَّخْيِير فِي النِّسَاءِ اللَّاتِي كُنَّ فِي مُعَاشَرَتِهِ، وَأَخَذَ بِهِ فِي الْوَاهِبَاتِ أَنْفُسِهِنَّ مَعَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ بِالْقَوْلِ وَالْبَذْلِ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَأَخَذَ بِهِ فِي تَرْكِ التَّزَوُّجِ مِنْ بَنَاتِ عَمِّهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالِهِ وَخَالَاتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا حَرَجَ فِيهِ عَلَيْهِنَّ.
[٥٢]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٥٢]
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمُصْحَفِ عَقِبَ الَّتِي قَبِلَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَذَلِكَ نَزَلَتْ وَأَنَّ الْكَلَامَ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَمُنْتَظِمٌ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ، عَلَى أَنَّ حَذْفَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ بَعْدُ يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ حَذْفُ مَعْلُومٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ فَتَأَخُّرُهَا فِي النُّزُولِ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَكَوْنُهَا مُتَّصِلَةً بِهَا وَتَتِمَّةً لَهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَرَدَّدَ فِيهِ، فَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ ذِكْرِ الْأَصْنَافِ قَبْلَهُ، أَيْ مِنْ بَعْدِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ [الْأَحْزَاب: ٥٠] الْخَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْكَلَامُ مِنَ الزَّمَانِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْوَقْتِ، وَالْأَوَّلُ الرَّاجِحُ.
وبَعْدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (غَيْرٍ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: ٢٣] وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَعَلَيْهِ فَلَا نَاسِخَ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا هِيَ نَاسِخَةٌ لِغَيْرِهَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْأَزْوَاجِ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
هَذَا الْخَلْقِ مِنَ الْغَرَابَةِ إِذْ هُوَ إِيجَادُ الضِّدِّ وَهُوَ نِهَايَةُ الْحَرَارَةِ مِنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ. وَهَذَا هُوَ وَجْهُ وَصْفِ الشَّجَرِ بِالْأَخْضَرِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَخْضَرِ اللَّوْنَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَازِمُهُ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ لِأَنَّ الشَّجَرَ أَخْضَرُ اللَّوْنِ مَا دَامَ حَيًّا فَإِذَا جَفَّ وَزَالَتْ مِنْهُ الْحَيَاةُ اسْتَحَالَ لَوْنُهُ إِلَى الْغَبَرَةِ فَصَارَتِ الْخُضْرَةُ كِنَايَةً عَنْ رُطُوبَةِ النَّبْتِ وَحَيَاتِهِ. قَالَ ذُوُ الرمة:
وَلما تمنّت تَأْكُلُ الرُّمَّ لَمْ تَدَعْ ذَوَابِلَ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَا خُضْرَا
وَوَصْفُ الشَّجَرِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ شَجَرَةٍ وَهُوَ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى بِ الْأَخْضَرِ بِدُونِ تَأْنِيثٍ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ الْمَوْصُوفِ بِخُلُوِّهِ عَنْ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ فَيَقُولُونَ: شَجَرٌ خَضْرَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: لَآكِلُونَ
مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ
[الْوَاقِعَة: ٥٢- ٥٤].
وَالْمُرَادُ بِالشَّجَرِ هُنَا: شَجَرُ الْمَرْخِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ) وَشَجَرُ الْعَفَارِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ) فَهُمَا شَجْرَانِ يُقْتَدَحُ بِأَغْصَانِهِمَا يُؤْخَذُ غُصْنٌ مِنْ هَذَا وَغُصْنٌ مِنَ الْآخَرِ بِمِقْدَارِ الْمِسْوَاكِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يُقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ فَيُسْحَقُ الْمَرْخُ عَلَى الْعَفَارِ فَتَنْقَدِحُ النَّارُ، قِيلَ: يُجْعَلُ الْعَفَارُ أَعْلَى وَالْمَرْخُ أَسْفَلَ، وَقِيلَ الْعَكْسُ لِأَنَّ الْجَوْهَرِي وَابْن السَّيِّد فِي «الْمُخَصَّصِ» قَالَا: الْعَفَارُ هُوَ الزَّنْدُ وَهُوَ الذَّكَرُ وَالْمَرْخُ الْأُنْثَى وَهُوَ الزَّنْدَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : الْمَرْخُ الذَّكَرُ وَالْعَفَارُ الْأُنْثَى، وَالنَّارُ هِيَ سِقْطُ الزَّنْدِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ عِنْدَ الِاقْتِدَاحِ مُشْتَعِلًا فَيُوضَعُ تَحْتَهُ شَيْءٌ قَابِلٌ لِلِالْتِهَابِ مِنْ تِبْنٍ أَوْ ثَوْبٍ بِهِ زَيْتٌ فَتُخْطَفُ فِيهِ النَّارُ.
وَالْمُفَاجَأَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ دَالَّةٌ عَلَى عَجِيبِ إِلْهَامِ اللَّهِ الْبَشَرَ لِاسْتِعْمَالِ الِاقْتِدَاحِ بِالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وَاهْتِدَائِهِمْ إِلَى خَاصِّيَّتِهِ.
وَالْإِيقَادُ: إِشْعَالُ النَّارِ يُقَالُ: أَوْقَدَ، وَيُقَالُ: وَقَدْ بِمَعْنًى.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِك واستمراره.
يَثْبُتْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَمِثْلُهُ السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِكَلِمَةِ طس أَوْ طسم جَمَعُوهَا عَلَى طَوَاسِينَ بِالنُّونِ تَغْلِيبًا. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَبْيَاتًا لَمْ يُسَمِّ قَائِلَهَا:
حَلَفَتُ بِالسَّبْعِ الْأُلَى قَدْ طَوَّلَتْ وَبِمِئِينَ بَعْدَهَا قَدْ أُمِّئَتْ
وَبِثَمَانٍ ثُنِّيَتْ وَكُرِّرَتْ وَبِالطَّوَاسِينِ اللَّوَاتِي ثُلِّثَتْ
وَبِالْحَوَامِيمِ اللَّوَاتِي سُبِّعَتْ وَبِالْمُفَصَّلِ الَّتِي قَدْ فُصِّلَتْ
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءِ أَنَّ قَوْلَ الْعَامَّةِ الْحَوَامِيمَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَبِعَهُمَا أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ.
وَقَدْ عُدَّتْ آيُهَا أَرْبَعًا وَثَمَانِينَ فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَخَمْسًا وَثَمَانِينَ فِي
عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ، وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ فِي عَدِّ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَغْرَاضًا مِنْ أُصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَابْتُدِئَتْ بِمَا يَقْتَضِي تَحَدِّي الْمُعَانِدِينَ فِي صِدْقِ الْقُرْآنِ كَمَا اقْتَضَاهُ الْحَرْفَانِ المقطّعان فِي فاتحتها كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١].
وَأُجْرِيَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِهِ مَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، فَكَانَتْ فَاتِحَة السُّورَة مِثْلَ دِيبَاجَةِ الْخُطْبَةِ مُشِيرَةً إِلَى الْغَرَضِ مِنْ تَنْزِيلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ دَلَائِلَ تَنْزِيلِ هَذَا الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ بَيِّنَةٌ لَا يَجْحَدُهَا إِلَّا الْكَافِرُونَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِهَا حَسَدًا، وَأَنَّ جِدَالَهُمْ تَشْغِيبٌ وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَمْثِيلُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَ اللَّهِ بِذِكْرِهِمْ إِجْمَالًا، ثُمَّ التَّنْبِيهُ عَلَى آثَارِ اسْتِئْصَالِهِمْ وَضَرْبُ الْمَثَلِ بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَمَوْعِظَةُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ قَوْمَهُ بِمَوَاعِظَ تُشْبِهُ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ.
وَقِيلَ المُرَاد بالشركاء: أيمة دِينِ الشِّرْكِ أُطْلِقَ عَلَيْهِمُ اسْمُ الشُّرَكَاءِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ.
وَضَمِيرَا لَهُمْ عَائِدَانِ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: ١٨] أَوْ إِلَى الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ [الشورى: ١٦]. وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ لِلْجِنْسِ، أَيْ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ جِنْسِ الدِّينِ مَا، أَيْ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، أَيْ لَمْ يَأْذَنْ بِشَرْعِهِ، أَيْ لَمْ يُرْسِلْ بِهِ رَسُولًا مِنْهُ وَلَا أَوْحَى بِهِ بِوَاسِطَةِ مَلَائِكَتِهِ.
وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، هُوَ كَقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى: ١٤].
وَكَلِمَةُ الْفَصْلِ هِيَ: مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ مِنْ إِمْهَالِهِمْ. وَالْفَصْلُ: الْفَاصِلُ، أَيِ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ وَالْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ إِمْهَالَهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَا يُفْلِتُهُمْ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا ظَلَمُوا. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣].
وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ لِجَمِيعِهِمْ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ وَالذُّلِّ لِلَّذِينِ أُخِّرُوا إِلَى إِبَّانِ حُلُولِهِ مِثْلَ قَتْلِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ المقصودون بِهِ.
بِهِ فُجِعَ الْفُرْسَانُ فَوْقَ خُيُولِهِمْ كَمَا فُجِعَتْ تَحْتَ السُّتُورِ الْعَوَاتِقُ
تَسَاقَطَ مِنْ أَيْدِيهِمُ الْبِيضُ حَيْرَةً وَزُعْزِعَ عَنْ أَجِيَادِهِنَّ الْمَخَانِقُ
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ مَرَّتَيْنِ بَيْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا والَّذِينَ آمَنُوا وَبَيْنَ الْحَقُّ والْباطِلَ. وَفِي بَيْتَيِ الزَّمَخْشَرِيِّ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ فَوْقَ وَتَحْت.
وَاتِّبَاعُ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاع الْحق تمثيليتان لِهَيْئَتَيِ الْعَمَلِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ أَيِمَّةُ الشِّرْكِ أَوْلِيَاءَهُمْ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، أَيْ عَمِلُوا بِالْبَاطِلِ وَعَمِلَ الْآخَرُونَ بِالْحَقِّ.
وَوَصْفُ الْحَقَّ بِأَنَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ تَنْوِيهٌ بِهِ وَتَشْرِيفٌ لَهُمْ.
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ.
تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّبْيِينِ لِلْحَالَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ الْأَحْوَالَ لِلنَّاسِ بَيَانًا وَاضِحًا.
وَالْمَعْنَى: قَدْ بَيَّنَّا لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَالَهُ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، وَمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمُعَامَلَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ خَفَاءٌ فِي كُنْهِ الْحَالَيْنِ، وَمِثْلَ ذَلِكَ الْبَيَانِ يُمَثِّلُ الله للنَّاس أَحْوَالهم كَيْلَا تَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ الْأَسْبَابُ وَالْمُسَبِّبَاتُ.
وَمَعْنَى يَضْرِبُ: يُلْقِي وَهَذَا إِلْقَاءُ تَبْيِينٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْأَمْثَالُ: جَمْعُ مَثَلٍ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْحَالُ الَّتِي تُمَثِّلُ صَاحِبَهَا، أَيْ تَشْهَرُهُ لِلنَّاسِ وَتُعَرِّفُهُمْ بِهِ فَلَا يُلْتَبَسُ بِنَظَائِرِهِ. وَاللَّامُ لِلْأَجَلِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ جَمِيعُ النَّاسِ. وَضَمِيرُ أَمْثالَهُمْ لِلنَّاسِ.
وَالْمَعْنَى: كَهَذَا التَّبْيِينِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَحْوَالَهُمْ فَلَا يَبْقَوْا فِي غَفلَة عَن شؤون أَنْفُسِهِمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ تَحَقُّقِ كُنْهِهِمْ بِحِجَابِ التَّعَوُّدِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْخَبِيثُ بِالطَّيِّبِ، وَلِكَيْ يَكُونُوا عَلَى بَصِيرَة فِي شؤونهم، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى وُجُوبِ التَّوَسُّمِ لِتَمْيِيزِ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا، فَإِنَّ مِنْ مَقَاصِدَ السُّورَةِ التَّحْذِيرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
فَيَكُونُ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ مِنْ إِفَادَةِ النِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، أَيْ فَهُمْ يُسَجِّلُونَ مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغَيْبِ لِيَبْقَى مَعْلُومًا لِمَنْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَيَكُونَ الْخَبَرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرُ تَبَعًا لِفَرْضِ قَوْلِهِ: عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ، وَيَكُونَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى [النَّجْم: ٣٥] وَقَوْلِهِ: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ [مَرْيَم:
٧٧، ٧٨].
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِنْكَارِ مَا جَحَدُوهُ وَلَا بِإِثْبَاتِ مَا أثبتوه.
[٤٢]
[سُورَة الطّور (٥٢) : آيَة ٤٢]
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢)
انْتِقَالٌ مِنْ نَقْضِ أَقْوَالِهِمْ وَإِبْطَالِ مَزَاعِمِهِمْ إِلَى إِبْطَالِ نَوَايَاهُمْ وعزائمهم من التبيت لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِضْرَارِ وَالْإِخْفَاقِ وَفِي هَذَا كَشْفٌ لِسَرَائِرِهِمْ
وَتَنْبِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِلْحَذَرِ مِنْ كَيْدِهِمْ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ كَيْداً لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكِيدُوهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّتْمِيمِ لِنَقْضِ غَزْلِهِمْ وَالتَّذْيِيلِ بِمَا يَعُمُّ كُلَّ عَزْمٍ يَجْرِي فِي الْأَغْرَاضِ الَّتِي جَرَتَ فِيهَا مَقَالَاتُهُمْ.
وَالْكَيْدُ وَالْمَكْرُ مُتَقَارِبَانِ وَكِلَاهُمَا إِظْهَارُ إخفاء الضّر بِوُجُوه الْإِخْفَاءِ تَغْرِيرًا بِالْمَقْصُودِ لَهُ الضُّرُّ.
وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ فَهُمُ الْمَكِيدُونَ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ وَجْهِ حُلُولِ الْكَيْدِ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ، فَاللَّهُ يُدَافِعُ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَنْ دِينِهِ كَيْدَهُمْ وَيُوقِعُهُمْ فِيمَا نَوَوْا إِيقَاعَهُمْ فِيهِ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْقَصْرَ، أَيِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَكِيدُونَ دُونَ مَنْ أَرَادُوا الْكَيْدَ بِهِ.
الْعَجْوَةِ وَالْبَرْمَنِيِّ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَيِمَّةِ اللُّغَةِ. وَتَمْرُ اللِّينَةِ يُسَمَّى اللَّوْنُ.
وَإِيثَارُ لِينَةٍ عَلَى نَخْلَةٍ لِأَنَّهُ أَخَفٌّ وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ نَخْلَةٍ مُفْرَدًا فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّخْلُ اسْمَ جَمْعٍ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يَاءُ لِينَةٍ أَصْلُهَا وَاوٌ انْقَلَبَتْ يَاءً لِوُقُوعِهَا إِثْرَ كَسْرَةٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا سَبَبَ كَسْرِ أَوَّلِهِ وَيُقَالُ: لِوَنَةٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَفِي كُتُبِ السِّيرَةِ يُذْكَرُ أَنْ بَعْضَ نَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ أَحْرَقَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ شِعْرُ حَسَّانَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ الْحَرْقَ فَلَعَلَّ خَبَرَ الْحَرْقِ مِمَّا أُرْجِفَ بِهِ فَتَنَاقَلَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ شِعْرُ حَسَّانَ وَشِعْرُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، أَوْ أَنَّ النَّخَلَاتِ الَّتِي قُطِعَتْ أَحْرَقَهَا الْجَيْشُ لِلطَّبْخِ أَوْ لِلدِّفْءِ.
وَجِيءَ بِالْحَالِ فِي قَوْلِهِ: قائِمَةً عَلى أُصُولِها لِتَصْوِيرِ هَيْئَتِهَا وَحُسْنِهَا. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْقَطْعِ أَوْلَى. وَضَمِيرُ أُصُولِها عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَا قَطَعْتُمْ لِأَنَّ مَدْلُولَ مَا هُنَا جَمْعٌ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى لِينَةٍ لِأَنَّ اللِّينَةَ لَيْسَ لَهَا عِدَّةُ أُصُولٍ بَلْ لِكُلِّ لِينَةٍ أَصْلٌ وَاحِدٌ.
وَتَعَلَّقَ عَلى أُصُولِها بِ قائِمَةً. وَالْمَقْصُودُ: زِيَادَةُ تَصْوِيرِ حُسْنِهَا. وَالْأُصُولُ:
الْقَوَاعِدُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: سُوقُ النَّخْلِ قَالَ تَعَالَى: أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ [إِبْرَاهِيم:
٢٤]. وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا قائِمَةً عَلى أُصُولِها هُوَ بِتَقْدِيرِ: قَائِمَةٌ فُرُوعُهَا عَلَى أُصُولِهَا لِظُهُورِ أَنَّ أَصْلَ النَّخْلَةِ بَعْضُهَا.
وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ مَزِيدَةٌ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مَوْصُولٌ، وَاسْمُ الْمَوْصُولِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ كَثِيرًا إِذَا ضُمِنَ مَعْنَى التَّسَبُّب، وَقد قرىء بِالْفَاءِ وَبِدُونِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٣٠].
وَعَطْفُ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ مِنْ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ فَبِإِذْنِ اللَّهِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
الْآيَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٦٦].
لَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْجَمَاعَاتِ فَإِفْرَادُ ضَمِيرِهِ كَإِفْرَادِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلَّ [الْقَلَم: ١٠] مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِحَالَةِ الْإِفْرَادِ.
وَالْمَعْنَى: سَنَسِمُ كُلَّ هَؤُلَاءِ عَلَى الْخَرَاطِيمِ، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِمُعَيَّنٍ بِصِفَةِ قَوْلِهِ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: ١٥] وَبِأَنَّهُ ذُو مَالٍ وَبَنِينَ.
والْخُرْطُومِ: أُرِيدَ بِهِ الْأَنْفُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرْطُومِ الْأَنْفُ الْمُسْتَطِيلُ كَأَنْفِ الْفِيلِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ أَنْفٍ مُسْتَطِيلٍ. وَقَدْ خَلَطَ أَصْحَابُ اللُّغَةِ فِي ذِكْرِ مَعَانِيهِ خَلْطًا لَمْ تَتَبَيَّنْ مِنْهُ حَقِيقَتُهُ مِنْ مَجَازِهِ.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْأَسَاسِ» مَعَانِيَهُ الْمَجَازِيَّةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَانْبَهَمَ كَلَامُهُ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ: وَفِي لَفْظِ الْخُرْطُومِ اسْتِخْفَافٌ وَإِهَانَةٌ، يَقْتَضِي أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى أَنْفِ الْإِنْسَانِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، وَجَزَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرْطُومِ مَخْطِمُ السَّبُعِ أَيْ أَنْفٌ مِثْلُ الْأَسَدِ، فَإِطْلَاقُ الْخُرْطُومِ عَلَى أَنْفِ الْإِنْسَانِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ كَإِطْلَاقِ الْمِشْفَرِ وَهُوَ شَفَةُ الْبَعِيرِ عَلَى شَفَةِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي وَلَكِنَّ زِنْجِيٌّ غَلِيظُ الْمَشَافِرِ
وَكَإِطْلَاقِ الْجَحْفَلَةِ عَلَى شَفَةِ الْإِنْسَانِ (وَهِيَ لِلْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ) فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ يَهْجُو لَبِيدَ بْنَ رَبِيعَةَ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي لَبِيدًا أَبَا الْوَرْدَاءِ جَحْفَلَةَ الْأَتَانِ
وَالْوَسْمُ لِلْإِبِلِ وَنَحْوِهَا، جَعْلُ سِمَةٍ لَهَا أَنَّهَا مِنْ مَمْلُوكَاتِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْمَالِكِ الْمُعَيَّنِ.
فَالْمَعْنَى: سَنُعَامِلُهُ مُعَامَلَةً يُعْرَفُ بِهَا أَنَّهُ عَبَدُنَا وَأَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ مِنَّا شَيْئًا.
فَالْوَسْمُ: تَمْثِيلٌ تَتْبَعُهُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَإِظْهَارِ عَجْزِهِ.
وَأَصْلُ (نَسِمُهُ) نُوسِمُهُ مِثْلُ: يَعِدُ وَيَصِلُ.
وَذِكْرُ الْخُرْطُومِ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ التَّشْوِيهِ وَالْإِهَانَةِ فَإِنَّ الْوَسْمَ يَقْتَضِي التَّمَكُّنَ وَكَوْنَهُ فِي الْوَجْهِ إِذْلَالًا وَإِهَانَةً، وَكَوْنَهُ عَلَى الْأَنْفِ أَشَدَّ إِذْلَالًا، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْأَنْفِ بِالْخُرْطُومِ
وَالزَّكَاةُ: الزِّيَادَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْخَيْرِ النَّفْسَانِيِّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها
[الشَّمْس: ٩، ١٠] وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَلِذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ.
وَالْمَعْنَى: حَثُّهُ عَلَى أَنْ يَسْتَعِدَّ لِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ مِنَ الْعَقِيدَةِ الضَّالَّةِ الَّتِي هِيَ خُبْثٌ مَجَازِيٌّ فِي النَّفْسِ فَيَقْبَلَ إِرْشَادَ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى مَا بِهِ زِيَادَةُ الْخَيْرِ فَإِنَّ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ يُؤْذِنُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ يُعَالِجُ نَفْسَهُ وَيُرَوِّضُهَا إِذْ كَانَ لَمْ يَهْتَدِ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ.
وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِعَطْفِ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى أَيْ إِنْ كَانَ فِيكَ إِعْدَادُ نَفْسِكَ لِلتَّزْكِيَةِ يَكُنْ إِرْشَادِي إِيَّاكَ فَتَخْشَى، فَكَانَ تَرْتِيبُ الْجُمَلِ فِي الذِّكْرِ مُرَاعًى فِيهِ تَرَتُّبُهَا فِي الْحُصُولِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى عَطْفِهِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ، إِذْ كَثِيرًا مَا يُسْتَغْنَى بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ مَعَ إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ عَنِ الْعَطْفِ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ لِأَنَّ الْوَاوَ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ بِالْقَرِينَةِ، وَيُسْتَغْنَى بِالْعَطْفِ عَنْ ذِكْرِ حَرْفِ التَّفْسِيرِ فِي الْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ الَّذِي يَكُونُ الْوَاوُ فِيهِ بِمَعْنَى (أَيِ) التَّفْسِيرِيَّةِ فَإِنَّ أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ. وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ لَكَ فِي التَّزْكِيَةِ وَهِدَايَتِي إِيَّاكَ فَخَشْيَتِكَ اللَّهَ تَعَالَى.
وَالْهِدَايَة الدّلَالَة علء الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ إِذَا قَبِلَهَا الْمَهْدِيُّ.
وَتَفْرِيعُ فَتَخْشى عَلَى أَهْدِيَكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨]، أَيِ الْعُلَمَاءُ بِهِ، أَيْ يَخْشَاهُ خَشْيَةً كَامِلَةً لَا خَطَأَ فِيهَا وَلَا تَقْصِيرَ.
قَالَ الطَّيِّبِيُّ: وَعَنِ الْوَاسِطِيِّ: أَوَائِلُ الْعِلْمِ الْخَشْيَةُ، ثُمَّ الْإِجْلَالُ، ثُمَّ التَّعْظِيمُ، ثُمَّ الْهَيْبَةُ، ثُمَّ الْفَنَاءُ.
وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْخَشْيَةِ إِيجَازٌ بَلِيغٌ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ مِلَاكُ كُلِّ خَيْرٍ.
وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ


الصفحة التالية
Icon