وَالنِّعْمَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ مُعْظَمُهَا إِلَى الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْكَسْبِيِّ مِنَ الدُّنْيَوِيِّ وَإِلَى الْأُخْرَوِيِّ كُلِّهِ ظَاهِرَةٌ فِيهَا حَقِيقَةُ الْهِدَايَةِ، وَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا بِلَا كَسْبٍ إِلَّا أَنَّ الْهِدَايَةَ تَتَعَلَّقُ بِحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا وُهِبَ لِأَجْلِهِ.
فَالْمُرَادُ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ أُفِيضَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ الْكَامِلَةُ وَلَا تَخْفَى تَمَامُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ الْمَهْدِيِّينَ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ فِي إِبْدَالِ صِراطَ الَّذِينَ مِنَ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مَعْنًى بَدِيعٌ وَهُوَ أَنَّ الْهِدَايَةَ نِعْمَةٌ وَأَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ الْكَامِلَةِ قَدْ هُدُوا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمْ خِيَارُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ حَصَلَتْ لَهُمُ النِّعْمَةُ الْكَامِلَةُ. وَإِنَّمَا يَلْتَئِمُ كَوْنُ الْمَسْئُولِ طَرِيقَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى وَكَوْنُهُ هُوَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ مِنْ بَعْدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ جَارٍ عَلَى سَنَنِ الشَّرَائِعِ الْحَقَّةِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ وَفُرُوعِ الْهِدَايَةِ وَالتَّقْوَى، فَسَأَلُوا دِينًا قَوِيمًا يَكُونُ فِي اسْتِقَامَتِهِ كَصِرَاطِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَأُجِيبُوا بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَمَعَ اسْتِقَامَةَ الْأَدْيَانِ الْمَاضِيَةِ وَزَادَ عَلَيْهَا، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى حَالَةٍ أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أُمَمُهُمْ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ كَثِيرًا مِنَ الرُّسُلِ الْمَاضِينَ بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ يَعْقُوبُ لِأَبْنَائِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٢] ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفِقَ بِالْأُمَمِ فَلَمْ يَبْلُغْ بِهِمْ غَايَةَ الْمُرَادِ مِنَ النَّاسِ لِعَدَمِ تَأَهُّلِهِمْ لِلِاضْطِلَاعِ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ بِأَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَهِيَ مُرَادُهُ تَعَالَى مِنَ الْخَلْقِ فِي الْغَايَةِ، وَلْنُمَثِّلْ لِذَلِكَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَقَدْ كَانَ الْقَدْرُ غَيْرُ الْمُسْكِرِ مِنْهُ مُبَاحًا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ أَوْ لَا يَحْرُمُ أَصْلًا غَيْرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَكُونُوا يَتَعَاطَوْنَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ وَهُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ كُلَّهَا، فَسَوَاءٌ فَسَّرْنَا الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِأَفْضَلِ أتباعهم أَو الْمُسلمين السَّابِقِينَ فَالْمَقْصِدُ
الْهِدَايَةُ إِلَى صِرَاطٍ كَامِلٍ وَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مَحْمُولًا فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُ طُرُقَ الْهِدَايَةِ الَّتِي سَبَقَتْ زَمَانَهُ وَالَّتِي لَمْ يَبْلُغْ إِلَى نِهَايَتِهَا.
وَالْقَوْلُ فِي الْمَطْلُوبِ مِنِ اهْدِنَا عَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ اهْدِنَا لِطَلَبِ الْحُصُولِ أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ الدَّوَامِ.
وَالدُّعَاءُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ غَيْرِ الْخَالِصَةِ، فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كُلِّهِمْ كَثِيرَةٌ وَالْكَافِرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُمْتَرَى فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّهَا نِعَمٌ تَحُفُّهَا آلَامُ الْفِكْرَةِ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَيَعْقُبُهَا عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَالْخِلَافُ الْمَفْرُوضُ بَيْنَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْكَافِرَ هَلْ هُوَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ خِلَافٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِظَوَاهِرِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَا: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَمْتَلِئَ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ لَمْ أَقِفْ لِهَذَا السَّبَبِ عَلَى إِسْنَادٍ.
وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي قَوْله: يَسْئَلُونَكَ مَعَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ رَجُلَانِ- نَظَرًا
لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ يَهُمُّ جَمِيعَ السَّامِعِينَ أَثْنَاءَ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ مِنْ تَمَامِ ضَبْطِ النِّظَامِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ قَدْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتَشْرَفَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِمَعْرِفَتِهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ سَأَلَ بِالْقَوْلِ وَمَنْ سَأَلَ فِي نَفْسَهُ.
وَذَكَرَ فَوَائِدَ خَلْقِ الْأَهِلَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْحَجِّ وَقْتًا مِنَ الْأَشْهُرِ لَا يَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وَذَلِكَ تَمْهِيدًا لِإِبْطَالِ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ النَّسِيءِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي بَعْضِ السِّنِينَ.
وَالسُّؤَالُ: طَلَبَ أَحَدٌ مِنْ آخَرَ بَذْلَ شَيْءٍ أَوْ إِخْبَارًا بِخَبَرٍ، فَإِذَا كَانَ طَلَبَ بَذْلٍ عُدِّيَ فِعْلُ السُّؤَالِ بِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ طَلَبَ إِخْبَارٍ عُدِّيَ الْفِعْلُ بِحَرْفِ «عَنْ» أَوْ مَا يَنُوبُ مَنَابَهُ.
وَقَدْ تَكَرَّرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ آيَاتٌ مفتتحة ب يَسْئَلُونَكَ وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ غَيْرُ بعيد بَعْضهَا عَن بَعْضٍ، جَاءَ بَعْضُهَا غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَبَعْضُهَا مَعْطُوفًا بِهِ وَهِيَ الثَّلَاثُ الْأَوَاخِرُ مِنْهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُفْتَتَحَةِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَبْيِينِ تَجَرُّدِهَا عَنِ الْعَاطِفِ لِأَنَّهَا فِي اسْتِئْنَافِ أَحْكَامٍ لَا مُقَارَنَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِالْفَصْلِ دُونَ عَطْفٍ، وَلَا يَتَطَلَّبُ لَهَا سِوَى الْمُنَاسَبَةِ لِمَوَاقِعِهَا. وَأَمَّا الْجُمَلُ الثَّلَاثُ الْأَوَاخِرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْعَاطِفِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَحْكَامٍ لَهَا مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا فَكَانَ السُّؤَالُ الْمَحْكِيُّ فِيهَا مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَنْشَأَ عَنِ الَّتِي قبلهَا فَكَانَت حَقِيقَة بِالْوَصْلِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كَمَا سَيَتَّضِحُ فِي مَوَاقِعِهَا.
وَالسُّؤَالُ عَنِ الْأَهِلَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِهَا إِذِ الذَّوَاتُ لَا يُسْأَلُ إِلَّا عَنْ أَحْوَالِهَا، فَيُعْلَمُ هُنَا تَقْدِيرٌ وَحَذْفٌ أَيْ عَنْ أَحْوَالِ الْأَهِلَّةِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ السُّؤَالِ وَاقِعًا بِهَا غَيْرَ مَفْرُوضٍ فَهُوَ يَحْتَمِلُ السُّؤَالَ عَنِ الْحِكْمَةِ وَيَحْتَمِلُ السُّؤَالَ عَنِ السَّبَبِ، فَإِنْ كَانَ عَنِ الْحِكْمَةِ فَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ جَارٍ عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّؤَالِ حِينَئِذٍ اسْتِثْبَاتُ كَوْنِ الْمُرَادِ الشَّرْعِيِّ مِنْهَا مُوَافِقًا لِمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ لِأَنَّ كَوْنَهَا مَوَاقِيتَ لَيْسَ مِمَّا يَخْفَى حَتَّى يُسْأَلَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مُتَعَارَفٌ لَهُمْ، فَيَتَعَيَّنُ كَوْنُ الْمُرَادِ مِنْ سُؤَالِهِمْ إِنْ كَانَ وَاقِعًا هُوَ تَحَقُّقُ الْمُوَافَقَةِ لِلْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ.
وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنِ السَّبَبِ فَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ
وَيَدْخُلُ فِي الْفِطْرَةِ الْآدَابُ الْعَتِيقَةُ الَّتِي اصْطَلَحَ عَلَيْهَا كَافَّةُ عُقَلَاءِ الْبَشَرِ، وَارْتَاضَتْ نُفُوسُهُمْ بِهَا، إِذَا كَانَتْ تُفِيدُهُمْ كَمَالًا، وَلَا تُفْضِي إِلَى فَسَادٍ، وَذَلِكَ أُصُولُ قَوَاعِدِ حِفْظِ النَّسَبِ وَالْعِرْضِ خَاصَّةً. فَبِهَذَا الْأَصْلِ: أَصْلِ الْفِطْرَةِ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينًا صَالِحًا لِجَمِيعِ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصُرِ.
ثُمَّ ظَهَرَ هَذَا الْأَصْلُ فِي تِسْعَةِ مَظَاهِرَ خَادِمَةٍ لَهُ وَمُهَيِّئَةٍ جَمِيعَ النَّاسِ لِقَبُولِهِ.
الْمَظْهَرُ الْأَوَّلُ: إِصْلَاحُ الْعَقِيدَةِ بِحَمْلِ الذِّهْنِ عَلَى اعْتِقَادٍ لَا يَشُوبُهُ تَرَدُّدٌ وَلَا تَمْوِيهٌ وَلَا أَوْهَامٌ وَلَا خُرَافَاتٌ، ثُمَّ بِكَوْنِ عَقِيدَتِهِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْخُضُوعِ لِوَاحِدٍ عَظِيمٍ، وَعَلَى الِاعْتِرَافِ بِاتِّصَافِ هَذَا الْوَاحِدِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ التَّامَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ الخضوع إِلَيْهِ اختياريا، ثُمَّ لِتَصِيرَ تِلْكَ الْكَمَالَاتُ مَطْمَحَ أَنْظَارِ الْمُعْتَقِدِ فِي التَّخَلُّقِ بِهَا ثُمَّ بِحَمْلِ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى تَطْهِيرِ عَقَائِدِهِمْ حَتَّى يَتَّحِدَ مَبْدَأُ التَّخَلُّقِ فِيهِمْ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمرَان: ٦٤].
وَكَانَ إِصْلَاحُ الِاعْتِقَادِ أَهَمَّ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَأَكْثَرَ مَا تَعَرَّضَ لَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْفِكْرَةِ هُوَ مَبْدَأُ كُلِّ إِصْلَاحٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُرْجَى صَحَّ لِقَوْمٍ تَلَطَّخَتْ عُقُولُهُمْ بِالْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ، وَخَسِئَتْ نُفُوسُهُمْ بِآثَارِ تِلْكَ الْعَقَائِدِ الْمُثِيرَةِ: خَوْفًا مِنْ لَا شَيْءٍ، وَطَمَعًا فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَإِذَا صَلُحَ الِاعْتِقَادُ أَمْكَنَ صَلَاحُ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمَرْءَ إِنْسَانٌ بِرُوحِهِ لَا بِجِسْمِهِ.
ثُمَّ نَشَأَ عَنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِيِّ: عزّة النَّفس، وَأَصله الرَّأْيِ، وَحُرِّيَّةُ الْعَقْلِ، وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيمَا عَدَا الْفَضَائِلَ.
وَقَدْ أَكْثَرَ الْإِسْلَامُ شَرْحَ الْعَقَائِدِ إِكْثَارًا لَا يُشْبِهُهُ فِيهِ دِينٌ آخَرُ بَلْ إِنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الصَّحِيحَةِ، فَلَا تَرَى فِيهَا مِنْ شَرْحِ صِفَاتِ الْخَالِقِ إِلَّا قَلِيلًا.
الْمَظْهَرُ الثَّانِي: جَمْعُهُ بَيْنَ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، بِالتَّزْكِيَةِ، وَبَيْنَ إِصْلَاحِ نِظَامِ الْحَيَاةِ، بِالتَّشْرِيعِ، فِي حِينِ كَانَ مُعْظَمُ الْأَدْيَانِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى نِظَامِ الْحَيَاةِ بِشَيْءٍ، وَبَعْضُهَا وَإِنْ تَطَرَّقَ
إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ، بَلْ كَانَ مُعْظَمُ اهْتِمَامِهَا مُنْصَرِفًا إِلَى الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَادَاتِ،
فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «وَمَا لَكَمَ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ» - ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آل عمرَان: ١٨٧] حَتَّى قَوْله: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [آل عمرَان:
١٨٨] الْآيَةَ.
وَالْمَفَازَةُ: مَكَانُ الْفَوْزِ. وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي مَنْ يحلّه يفوز بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَدُوِّ سُمِّيَتِ الْبَيْدَاءُ الْوَاسِعَةُ مَفَازَةً لِأَنَّ الْمُنْقَطِعَ فِيهَا يَفُوزُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَطَلَبَةِ الْوَتَرِ عِنْدَهُ وَكَانُوا يَتَطَلَّبُونَ الْإِقَامَةَ فِيهَا. قَالَ النَّابِغَةُ:

أَوْ أَضَعُ الْبَيْتَ فِي صَمَّاءَ مُظْلِمَةٍ تُقَيِّدُ الْعِيرَ لَا يَسْرِي بِهَا السَّارِي
تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمُّ صَبَّارِ
وَلَمَّا كَانَتِ الْمَفَازَةُ مُجْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْفَوْزِ الْحَاصِلِ فِيهَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْعَذابِ. وَحَرْفُ (مِنْ) مَعْنَاهُ الْبَدَلِيَّةُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية: ٧]، أَوْ بِمَعْنَى (عَنْ) بِتَضْمِينِ مَفَازَةٍ مَعْنَى مَنْجَاةٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامر، وَأَبُو عمور، وَأَبُو جَعْفَرٍ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ- بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-.
وأمّا سِينُ (تَحْسَبَنَّ) فَقَرَأَهَا- بِالْكَسْرِ- نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ. وَقَرَأَهَا- بِالْفَتْحِ- الْبَاقُونَ.
وَقَدْ جَاءَ تَرْكِيبُ الْآيَةِ عَلَى نَظْمٍ بَدِيعٍ إِذْ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ الْحُسْبَانِ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَفْعُولُ فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ إِلَخْ أَنْفُسَهُمْ. وَأُعِيدَ فِعْلُ الْحُسْبَانِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمرَان: ١٨٨] مُسْنَدًا إِلَى الْمُخَاطَبِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ بِالْفَاءِ وَأُتِيَ بَعْدَهُ بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي: وَهُوَ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: ١٨٨] فَتَنَازَعَهُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: لَا تَحْسَبَنَّ
وَ (يَخْتانُونَ) بِمَعْنَى يَخُونُونَ، وَهُوَ افْتِعَالٌ دَالٌّ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالْمُحَاوَلَةِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْخِيَانَةِ. وَمَعْنَى خِيَانَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ بِارْتِكَابِهِمْ مَا يَضُرُّ بِهِمْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخُونُ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٧]. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أَنْفُسَهُمْ
هُنَا بِمَعْنَى بَنِي أَنْفُسِهِمْ، أَيْ بَنِي قَوْمِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: ٨٥]، وَقَوْلِهِ فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١]، أَيِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ نَاسًا مِنْ أَهْلِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هُوَ تَمِيمِيٌّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَيْسَ بِمَوْلًى وَلَا لَصِيقٍ.
وَالْمُجَادَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخِصَامِ وَالْحُجَّةِ فِيهِ، وَهِيَ مُنَازَعَةٌ بِالْقَوْلِ لِإِقْنَاعِ الْغَيْرِ بِرَأْيِكَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ عِلْمُ قَوَاعِدِ الْمُنَاظَرَةِ وَالِاحْتِجَاجِ فِي الْفِقْهِ عِلْمَ الْجَدَلِ، (وَكَانَ يَخْتَلِطُ بِعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَعِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ وَعِلْمِ الْمَنْطِقِ). وَلَمْ يُسْمَعْ
لِلْجَدَلِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ أَصْلِيٌّ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْهُ جَادَلَ لِأَنَّ الْخِصَامَ يَسْتَدْعِي خَصْمَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: جَدَلَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى غَلَبَهُ فِي الْمُجَادَلَةِ، فَلَيْسَ فِعْلًا أَصْلِيًّا فِي الِاشْتِقَاقِ. وَمَصْدَرُ الْمُجَادَلَةِ، الْجِدَالُ، قَالَ تَعَالَى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَة: ١٩٧]. وَأَمَّا الْجَدَلُ بِفَتْحَتَيْنِ فَهُوَ اسْمُ الْمَصْدَرِ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ الصَّرْعُ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسَمَّى الْجَدَالَةَ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- يُقَالُ: جَدَلَهُ فَهُوَ مَجْدُولٌ.
وَجُمْلَةُ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
بَيَانٌ لِ يَخْتانُونَ
. وَجُمْلَةُ: وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
حَالٌ، وَذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ الِاسْتِغْرَابِ مِنْ حَالِهِمْ وَكَوْنِهِمْ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَالِاسْتِخْفَاءُ مِنَ اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْحَيَاءِ، إِذْ لَا يَعْتَقِدُ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْفِيَ مِنَ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ مَعَهُمْ
حَالٌ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ وإِذْ يُبَيِّتُونَ
ظَرْفٌ، وَالتَّبْيِيتُ جَعْلُ الشَّيْءِ فِي الْبَيَاتِ، أَيِ اللَّيْلِ، مِثْلُ التَّصْبِيحِ، يُقَالُ:
بَيَّتَهُمُ الْعَدُوُّ وَصَبَّحَهُمُ الْعَدُوُّ وَفِي الْقُرْآنِ: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النَّمْل: ٤٩] أَيْ لنأتينّهم لَيْلًا فنقلتهم. وَالْمُبَيَّتُ هُنَا هُوَ مَا لَا يُرْضِي مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ دَبَّرُوهُ وَزَوَّرُوهُ لَيْلًا لِقَصْدِ الْإِخْفَاءِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ، أَوْ تُشُوِّرَ فِيهِ بِلَيْلٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَدْبِيرُ مَكِيدَتِهِمْ لِرَمْيِ الْبُرَآءِ بِتُهْمَةِ السَّرِقَةِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ جَاءَ السَّارِقُ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ حَمْلًا عَلَى حُكْمِ الْمُحَارِبِ، وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُتَّحِدِ السَّبَبِ مُخْتَلِفِ الْحُكْمِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ آيَةَ الْحِرَابَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْمُقَيَّدِ بَلْ هِيَ حُكْمٌ مُسْتَفَادٌ اسْتِقْلَالًا وَأَنَّ الْحِرَابَةَ وَالسَّرِقَةَ لَيْسَا سَبَبًا وَاحِدًا فَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُتَّحِدِ السَّبَبِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْمُطْلَقِ الَّذِي قابله مقيّد.
[٤٠]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٤٠]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، جَوَابٌ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنِ انْقِلَابِ حَالِ السَّارِقِ مِنَ الْعِقَابِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَعَ عِظَمِ جُرْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، فَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَوَاضِعِ الْعِقَابِ وَمَوَاضِعِ الْعَفْوِ.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٤١ الى ٤٢]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَهْوِينِ تَأَلُّبِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ عَلَى الْكَذِبِ وَالِاضْطِرَابِ فِي مُعَاملَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُوءِ طَوَايَاهُمْ مَعَهُ، بِشَرْحِ صدر
وَتَحْدِيدٍ أَوْ ضِدِّهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ الْأَعْمَالُ الْمَظْرُوفَةُ فِيهَا. وَاللَّعِبُ وَاللَّهْوُ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ، لِأَنَّهُمَا مُصْدَرَانِ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَصْفُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ وَهَذَا الْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الْحَاصِلَةَ فِي الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، وَمِنْهَا غَيْرُهُمَا، قَالَ تَعَالَى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الْحَدِيد: ٢٠]. فَالْحَيَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْمُلَائِمُ كَالْأَكْلِ وَاللَّذَّاتِ، وَمِنْهَا الْمُؤْلِمُ كَالْأَمْرَاضِ وَالْأَحْزَانِ، فَأَمَّا الْمُؤْلِمَاتُ فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا هُنَا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَرْغَبُ فِيهِ الرَّاغِبُونَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْحَيَاةِ هُنَا مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهَا النَّاسُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْمُلَائِمَاتُ.
وَأَمَّا الْمُلَائِمَاتُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِلَعِبٍ وَلَهْوٍ، كالطعام وَالشرَاب والتدفّي فِي الشِّتَاءِ وَالتَّبَرُّدِ فِي الصَّيْفِ وَجَمْعِ الْمَالِ عِنْدَ الْمُولِعِ بِهِ وَقَرْيِ الضَّيْفِ وَنِكَايَةِ الْعَدُوِّ وَبَذْلِ الْخَيْرِ لِلْمُحْتَاجِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ لَمَّا كَانَ مُعْظَمُهَا يَسْتَدْعِي صَرْفَ هِمَّةٍ وَعَمَلٍ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّعَبِ وَهُوَ مُنَافِرٌ. فَكَانَ مُعْظَمُ مَا يُحِبُّ النَّاسُ الْحَيَاةَ لِأَجْلِهِ هُوَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ عَلَى أَعْمَالِ النَّاسِ فِي أَوَّلِ الْعُمُرِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَمِنَ اللَّعِبِ الْمُزَاحُ وَمُغَازَلَةُ النِّسَاءِ، وَمِنَ اللَّهْوِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْمَغَانِي وَالْأَسْمَارُ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ وَالصَّيْدُ.
فَأَمَّا أَعْمَالُهُمْ فِي الْقُرُبَاتِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالنَّذْرِ وَالطَّوَافِ بِالْأَصْنَامِ وَالْعَتِيرَةِ وَنَحْوِهَا فَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ لَا اعْتِدَادَ بِهَا بِدُونِ الْإِيمَانِ كَانَتْ مُلْحَقَةً بِاللَّعِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال: ٣٥]، وَقَالَ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الْأَعْرَاف: ٥١].
فَلَا جَرَمَ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْقَصْرُ الِادِّعَائِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ.
وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُتَّقِينَ فِي
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَأَمَّا تَفْرِيقُ الْآرَاءِ فِي التَّعْلِيلَاتِ وَالتَّبْيِينَاتِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مِنَ النَّظَرِ فِي الدِّينِ: مِثْلَ الِاخْتِلَافِ فِي أَدِلَّةِ الصِّفَاتِ، وَفِي تَحْقِيقِ مَعَانِيهَا، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِثْبَاتهَا.
وَكَذَلِكَ تَفْرِيق الْفُرُوعِ: كَتَفْرِيقِ فُرُوعِ الْفِقْهِ بِالْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى صِفَةِ الْعَمَلِ وَعَلَى مَا بِهِ صِحَة الْأَعْمَال وَفَسَادُهَا. كَالِاخْتِلَافِ فِي حَقِيقَةِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَفْرِيقٍ لَا يُكَفِّرُ بِهِ بَعْضُ الْفِرَقِ بَعْضًا، وَلَا يُفْضِي إِلَى تَقَاتُلٍ وَفِتَنٍ، فَهُوَ تَفْرِيقُ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَتَطَلُّبٍ لِلْحَقِّ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَكُلُّ تَفْرِيقٍ يُفْضِي بِأَصْحَابِهِ إِلَى تَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمُقَاتَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَهُوَ مِمَّا حَذَّرَ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ نِزَاعًا عَلَى الْمُلْكِ وَالدُّنْيَا فَلَيْسَ تَفْرِيقًا فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا تَسْلَمُ مِنْهَا الْجَمَاعَاتُ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: فَرَّقُوا- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَارَقُوا- بِأَلْفٍ بَعْدِ الْفَاءِ- أَيْ تَرَكُوا دِينَهُمْ، أَيْ تَرَكُوا مَا كَانَ دِينًا لَهُمْ، أَيْ لِجَمِيعِ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ فَنَبَذُوهَا وَجَعَلُوهَا عِدَّةَ نِحَلٍ. وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْن وَاحِد.
[١٦٠]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٦٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَنْذَرَ أعقب الْإِنْذَار بِبِشَارَة لِمَنْ لَا يَحِقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْإِنْذَارُ، وَإِذَا بَشَّرَ أعقب الْبشَارَة بنذارة لِمَنْ يَتَّصِفُ بِضِدِّ مَا بُشِّرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى ذَلِكَ هَاهُنَا:
فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْذَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَذَّرَهُمْ مِنَ التَّرَيُّثِ فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ الْقَاهِرَةِ، بِقَوْلِهِ:
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُبَلِّغُكُمْ- بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ- وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ مِنَ الْإِبْلَاغِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: رِسالاتِ رَبِّي هُوَ مَا تُؤْذِنُ بِهِ إِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ لُزُومِ طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ إِلَّا تَبْلِيغُ مَا أَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ، وَإِنْ كَرِهَ قَوْمُهُ.
وَالنُّصْحُ وَالنَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ حُسْنِ النِّيَّةِ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»
- وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ. وَيَكْثُرُ إِطْلَاقُ النُّصْحِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي فِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْمُخَاطَبِ إِلَى مَا يَنْفَعُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الضُّرَّ.
وَضِدُّهُ الْغِشُّ. وَأَصْلُ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ، وَيَكْثُرَ أَنْ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِلَامٍ زَائِدَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ النَّاصِحَ أَرَادَ مِنْ نُصْحِهِ ذَاتَ الْمَنْصُوحِ، لَا جَلْبَ خَيْرٍ لِنَفْسِ النَّاصِحِ، فَفِي ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِمْحَاضِ النَّصِيحَةِ، وَأَنَّهَا وَقَعَتْ خَالِصَةً لِلْمَنْصُوحِ، مَقْصُودًا بِهَا جَانِبُهُ لَا غَيْرَ، فَرُبَّ نَصِيحَةٍ يَنْتَفِعُ
بِهَا النَّاصِحُ فَيَقْصِدُ النَّفْعَيْنِ جَمِيعًا، وَرُبَّمَا يَقَعُ تَفَاوُتٌ بَيْنَ النَّفْعَيْنِ فَيَكُونُ تَرْجِيحُ نَفْعِ النَّاصِحِ تَقْصِيرًا أَوْ إِجْحَافًا بِنَفْعِ الْمَنْصُوحِ.
وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى تَجْدِيدِ النُّصْحِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكِهِ مِنْ أَجْلِ كَرَاهِيَتِهِمْ أَوْ بَذَاءَتِهِمْ.
وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ جَمْعًا لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا تَتَضَمَّنُهُ الرِّسَالَةُ وَتَأْيِيدًا لِثَبَاتِهِ عَلَى دَوَامِ التَّبْلِيغِ وَالنُّصْحِ لَهُمْ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِكَرَاهِيَتِهِمْ وَأَذَاهُمْ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يعلمونه مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي عَمَلِهِ ذَلِكَ، فَجَاءَ بِهَذَا الْكَلَامِ الْجَامِعِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْإِجْمَالُ الْبَدِيعُ تَهْدِيدًا لَهُمْ بِحُلُولِ عَذَابٍ بِهِمْ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَتَنْبِيهًا لِلتَّأَمُّلِ فِيمَا
دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ أَيْ أَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُفَكِّرِينَ أَهْلَ النَّظَرِ، وَالْفِعْلُ الْمُعَلَّقُ عَنِ الْعَمَلِ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ وَلَا مُتَعَلِّقٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ عِلْمِ الظَّانِّ إِلَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ الْمَظْنُونِ وَجَعْلِهِ قَضِيَّةً مُسْتَقِلَّةً، فَيَصِيرُ الْكَلَامُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرَيْنِ خَبَرٍ مِنْ جَانِبِ الظَّانِّ وَنَحْوِهِ، وَخَبَرٍ مِنْ جَانِبٍ الْمُتَكَلِّمِ دَخَلَ فِي قِسْمِ الْوَاقِعَاتِ فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٦٥] هُوَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ لَا يَنْطِقُونَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ، أَيْ ذَلِكَ عِلْمُكَ وَهَذَا عِلْمِي، وَقَوْلُهُ هُنَا: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فِي قُوَّة: أَو لم يَتَفَكَّرُوا صَاحِبُهُمْ غَيْرُ مَجْنُونٍ، مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جَنَّةٍ. فَتَعْلِيقُ أَفْعَالِ الْقَلْبِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ، وَأَحْسَبُ هَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ أُسْلُوبِ التَّعْلِيقِ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي، وَأَنَّ خَصَائِصَ الْعَرَبِيَّةِ لَا تَنْحَصِرُ.
وَ «الصَّاحِبُ» حَقِيقَتُهُ الَّذِي يُلَازِمُ غَيْرَهُ فِي حَالَةٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يُوسُف: ٤١]، وَسُمِّيَتِ الزَّوْجَةُ صَاحِبَةً، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الَّذِي لَهُ مَعَ غَيْرِهِ حَادِثٌ عَظِيمٌ وَخَبَرٌ، تَنْزِيلًا لِمُلَازَمَةِ الذِّكْرِ مَنْزِلَةَ مُلَازَمَةِ الذَّاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ لِامْرَأَتِهِ، أُمِّ مَعْبَدٍ، لَمَّا أَخْبَرَتْهُ بِدُخُول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهَا فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ وَوَصَفَتْ لَهُ هَدْيَهُ وَبَرَكَتَهُ: «هَذَا صَاحِبُ قُرَيْشٍ»، وَقَوْلُ الْحَجَّاجِ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ لِأَهْلٍ
الْعِرَاقِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ» يُرِيدُ أَنَّهُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ بِالْأَهْوَازِ، فَمَعْنَى كَوْنِهِمْ أَصْحَابَهُ أَنَّهُ كَثُرَ اشْتِغَالُهُ بِهِمْ، وَقَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ:
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا
فوصف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ صَاحِبُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ: هُوَ بِمَعْنَى الَّذِي اشْتَغَلُوا بِشَأْنِهِ وَلَزِمُوا الْخَوْضَ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: ٢٢].
وَالْجِنَّةُ- بِكَسْرِ الْجِيمِ- اسْمٌ لِلْجُنُونِ، وَهُوَ الْخَبَالُ الَّذِي يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ أَثَرِ مَسِّ الْجِنِّ إِيَّاهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَتِ الْجِنَّةُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ الْمُقَدَّرِ،
وَتَوْجِيهُ عَطْفِ فَيُحِلُّوا عَلَى مَجْرُورِ لَامِ التَّعْلِيلِ فِي قَوْله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ هُوَ تَنْزِيلُ الْأَمْرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْعِلَّةِ مَنْزِلَةَ الْمَقْصُودِ مِنَ التَّعْلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُ صَاحِبِهِ بِهِ التَّعْلِيلَ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ وَالتَّخْطِئَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨].
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ دُونَ أَنْ يُعَبِّرَ بِنَحْوِ عِدَّةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَعْلِيلِ عَمَلِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ بِأَنَّهُمْ حَافَظُوا عَلَى عِدَّةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعْظِيمًا. فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهَكُّمِ بِهِمْ.
وَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَيُحِلُّوهُ، لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ بِتَسْجِيلِ شَنَاعَةِ عَمَلِهِمْ، وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِبْطَالُهُمْ حُرْمَةَ بَعْضِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، تِلْكَ الْحُرْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الْأَشْهُرِ الْحَلَالِ حِفَاظًا عَلَى عِدَّةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا: لِأَنَّ مَا حُكِيَ مِنِ اضْطِرَابِ حَالِهِمْ يُثِيرُ سُؤَالَ السَّائِلِينَ عَنْ سَبَبِ هَذَا الضِّغْثِ مِنَ الضلال الَّذِي تملأوه فَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ فَحَسَّنَ لَهُمُ الْقَبِيحَ.
وَالتَّزْيِينُ التَّحْسِينُ، أَيْ جَعْلُ شَيْءٍ زَيْنًا، وَهُوَ إِذًا يَسْنِدُ إِلَى مَا لَا تَتَغَيَّرُ حَقِيقَتُهُ فَلَا
يَصِيرُ حَسَنًا، يُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّحْسِينَ تَلْبِيسٌ. وَتَقَدَّمَ التَّزْيِينُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٢]. وَقَوْلِهِ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٨].
وَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَافِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِحَالِهِمُ الْعَجِيبَةِ حَتَّى يَزُولَ تَعَجُّبُ السَّامِعِ مِنْهَا.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فَهِيَ مَشْمُولَةٌ لِمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْلِيلُ لِتِلْكَ الْحَالَةِ الْغَرِيبَةِ، لِأَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ يَسْتَلْزِمُ التَّعْجِيبَ مِنْ دَوَامِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَعَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى مَا فِي صَنِيعِهِمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ، حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ضَلَالِهِمْ، فَبَعْدَ أَنْ أُفِيدَ السَّائِلُ بِأَنَّ
مِنْهُمْ فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِمُجَارَاةِ ظَاهِرِ حَالِهِمْ وَبَيَانِ أَخْطَائِهِمْ، أَيْ أَتُؤْمِنُونَ بِالْوَعْدِ عِنْدَ وُقُوعِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَة: ١٨٩].
وَكَلِمَةُ آلْآنَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنْ حُصُولِ إِيمَانِهِمْ عِنْدَ حُلُولِ مَا تَوَعَّدَهُمْ، فَعَبَّرَ عَنْ وَقْتِ وُقُوعِهِ بِاسْمِ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ وَهُوَ (الْآنَ) حِكَايَةً لِلِسَانِ حَالِ مُنْكِرٍ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اسْتَحْضَرَ حَالَ حُلُولِ الْوَعْدِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي زَمَنِ التَّكَلُّمِ، وَهَذَا الِاسْتِحْضَارُ مِنْ تَخْيِيلِ الْحَالَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَاقِعَةً. وَلِذَلِكَ يَحَسُنُ أَنْ نَجْعَلَ (آلْآنَ) اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً بِتَشْبِيهِ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِزَمَنِ الْحَالِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الِاسْتِحْضَارُ. وَرَمَزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِذِكْرِ لَفْظٍ مِنْ رَوَادِفِهِ، وَهُوَ اسْمُ الزَّمَنِ الْحَاضِرِ.
وَجُمْلَةُ: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ تَرْشِيحٌ، وَإِمَّا تَقْدِيرُ قَوْلٍ فِي الْكَلَامِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ إِذَا آمَنُوا بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ آلْآنَ آمَنْتُمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. فَذَلِكَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ نَظْمٍ وَإِعْرَابٍ لِأَنَّ نَظْمَ هَذَا الْكَلَامِ أَدَقُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى: تَسْتَعْجِلُونَ تُكَذِّبُونَ، فَعَبَّرَ عَنِ التَّكْذِيبِ بِالِاسْتِعْجَالِ حِكَايَةً لِحَاصِلِ قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يُونُس: ٤٨] الَّذِي هُوَ فِي صُورَةِ الِاسْتِعْجَالِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّكْذِيبُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْوَعْدِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ، وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٥٢]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٥٢]
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً [يُونُس: ٥٠] الْآيَةَ.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، فَهَذَا عَذَابٌ أَعْظَمُ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً [يُونُس: ٥٠]
وَفِي أَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ. وَفِيهِ التَّفْوِيضُ إِلَى رَأْسِ الْأُمَّةِ بِأَنْ يَقْطَعَ أَمْرًا عَنْ أُمَّتِهِ ثِقَةً بِأَنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ فِعْلَهُ.
كَمَا
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا تَائِبِينَ وَطَالِبِينَ رَدَّ سَبَايَاهُمْ وَغَنَائِمِهِمُ «اخْتَارُوا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ السَّبْيَ أَوِ الْأَمْوَالَ»
. فَلَمَّا اخْتَارُوا السَّبْيَ رَجَعَ السَّبْيُ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَسْتَشِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ يُطَيِّبُ ذَلِكَ لِهَوَازِنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِّهِ فِي أَوَّلِ مَا يَجِيءُ مِنَ السَّبي، فَقَالَ الْمُؤمنِينَ: طَيَّبْنَا ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، كَمَا يُقَالُ فِي الْوَعِيدِ: سَوف ترى.
[١٢٣]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٢٣]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
كَلَامٌ جَامع وَهُوَ تذييل لِلسُّورَةِ مُؤْذِنٌ بِخِتَامِهَا، فَهُوَ مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ كَلَامًا عَلَى كَلَامٍ، أَوْ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.
وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ لِلْمِلْكِ وَهُوَ مِلْكُ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ، أَيْ لِلَّهِ مَا غَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَهَذَا كَلَامٌ يَجْمَعُ بِشَارَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا وُعِدُوا مِنَ النَّعِيمِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ، وَنِذَارَةُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا تُوُعِّدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ يَمْلِكُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ. وَإِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ
وَالْكُفْرُ مُرَادٌ بِهِ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَهُوَ مُقَابَلَةُ الْمُنْعِمِ بِالْعِصْيَانِ. وَأَعْظَمُ الْكُفْرِ جَحْدُ الْخَالِقِ أَوْ عِبَادَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ، كَمَا أَنَّ الشُّكْرَ مُقَابَلَةُ النِّعْمَةِ بِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ.
وَاسْتَغْنَى بِ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ عَن لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْل: ٢١] لِكَوْنِهِ أَعَمَّ وَأَوْجَزَ، وَلِكَوْنِ إِفَادَةِ الْوَعِيدِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّعْرِيضِ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ لِمَنْ كَفَرَ فَأَنْتُمْ إِذن مِنْهُم.
[٨]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٨]
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ فِي عَطْفِ بَعْضِ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى بَعْضٍ لِئَلَّا يُتَوَّهَّمَ
أَنَّ هَذَا مِمَّا تَأَذَّنَ بِهِ الرَّبُّ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ. وَفِي إِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ اهْتِمَامٌ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَتَنْوِيهٌ بِهَا حَتَّى تَبْرُزَ مُسْتَقِلَّةً وَحَتَّى يُصْغِيَ إِلَيْهَا السَّامِعُونَ لِلْقُرْآنِ.
وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِهَا أَنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ إِلَى اللَّهِ بِإِيمَانِهِمْ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ حِينَ يُلِحُّونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ إِنَّمَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ تَعْزِيزَ جَانِبِهِمْ والحرص على مصحلتهم. فَلَمَّا وَعَدَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ بِالزِّيَادَةِ وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِالْعُقُوبَةِ خَشِيَ أَنْ يَحْسَبُوا ذَلِكَ لِانْتِقَامِ الْمُثِيبِ بِمَا أَثَابَ عَلَيْهِ، وَلِتَضَرُّرِهِ مِمَّا عَاقَبَ عَلَيْهِ، فَنَبَّهَهُمْ إِلَى هَذَا الْخَاطِرِ الشَّيْطَانِيِّ حَتَّى لَا يَسْرِيَ إِلَى نُفُوسِهِمْ فَيُكْسِبَهُمْ إِدْلَالًا بِالْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ.
وأَنْتُمْ فُصِلَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ هَذَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ ضَمِيرًا مُتَّصِلًا.
وَوَجْهُ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِ إِلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ لِهَدْيِ النَّاسِ، فَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْمَقْصُودِينَ بِالْخَبَرِ لَا إِلَى الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِ الْخَبَرُ، لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ.
وَمَصَبُّ الْقَسَمِ هُوَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ.
وَأَمَّا الْإِرْسَالُ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ. وَشَأْنُ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ أَنْ تَقَعَ فِي قَسَمٍ عَلَى مُسْتَغْرَبٍ مَصَبُّ الْقَسَمِ هُنَا هُوَ الْمُفْرَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ لِأَنَّ تَأْثِيرَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُم أَعْمَالهم بعد مَا جَاءَهُمْ مِنْ إِرْشَادِ رُسُلِهِمْ أَمْرٌ عَجِيبٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَرْفِ تَاءِ الْقَسَمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٦].
وَجُمْلَةُ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ مَعْطُوفَةٌ على جملَة جَوَاب الْقَسَمِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَرْسَلْنَا فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.
وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ أَعْمَالَهُمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَعَاصِي. فَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَهُوَ كَمَالُ التَّنْظِيرِ. وَمِنْهَا الِابْتِدَاعَاتُ الْمُنَافِيَةُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِثْلُ ابْتِدَاعِ الْمُشْرِكِينَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي زَيَّنَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.
وَجُمْلَةُ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَرَّعَةً عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ بِتَمَامِهَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافِ لِلتَّنْظِيرِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ وَلِيُّهُمُ عَائِدًا إِلَى الْمُنَظِّرِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَلَا مَانِعَ مِنَ اخْتِلَافٍ مُعَادِي ضَمِيرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ مَعَ الْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [سُورَة الرّوم: ٩].
وَالْمَعْنَى: فَالشَّيْطَانُ وَلِيُّ الْمُشْرِكِينَ الْيَوْمَ، أَيْ مُتَوَلِّي أَمْرَهُمْ كَمَا كَانَ وَلِيَّ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ إِذْ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ لَا وَلِيَّ لَهُمُ الْيَوْمَ غَيْرُهُ رَدًّا
وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ:
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الْإِسْرَاء: ٧٢] وَقَوْلِهِ: وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: ٨٢] وَقَوْلِهِ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ [الْإِسْرَاء: ٨٣].
وَالشَّاكِلَةُ: الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ الَّتِي اعْتَادَهَا صَاحِبُهَا وَنَشَأَ عَلَيْهَا. وَأَصْلُهَا شَاكِلَةُ الطَّرِيقِ، وَهِيَ الشُّعْبَةُ الَّتِي تَتَشَعَّبُ مِنْهُ. قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ ثَوْبًا يُشَبِّهُ بِهِ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ:
لَهُ خُلُجٌ تَهْوِي فُرَادَى وَتَرْعَوِي إِلَى كُلِّ ذِي نَيِّرَيْنِ بَادِي الشَّوَاكِلِ
وَهَذَا أَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ الشَّاكِلَةُ هُنَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي الْآيَةِ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ بِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ، وَالتَّرْغِيبِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِنْذَارِ لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ تَشْكِيكِهِمْ فِي حَقِّيَّةِ دِينِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَنْظُرُونَ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً الْآيَة [سبأ: ٢٤].
[٨٥]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٨٥]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
وَقْعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْآيِ الَّتِي مَعَهَا يَقْتَضِي نَظْمُهُ أَنَّ مرجع ضمير يَسْئَلُونَكَ هُوَ مَرْجِعُ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَالسَّائِلُونَ عَنِ الرُّوحِ هُمْ قُرَيْشٌ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، قَالَ: فَسَأَلُوهُ عَنِ الرَّوْحِ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الْآيَةَ.
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ خَاصَّةً وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِمْ. وَحِينَئِذٍ فَلَا
إِشْكَالَ فِي إِفْرَادِ هَذَا السُّؤَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَبِذَلِكَ
الْأَحَادِيثِ أُحْدُوثَةٌ ثُمَّ جَعَلُوهُ جَمْعًا لِلْحَدِيثِ» اه. يَعْنِي اسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ صِيغَةِ فَعْلَاءَ.
وإِذْ ظَرْفٌ لِلْحَدِيثِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ، وَخُصَّ هَذَا الظَّرْف بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَزِيدُ تَشْوِيقًا إِلَى اسْتِعْلَامِ كُنْهِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ النَّارِ تَحْتَمِلُ أَحْوَالًا كَثِيرَةً.
وَرُؤْيَةُ النَّارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِلَيْلٍ، وَأَنَّهُ كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى النَّارِ وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ: فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا... إِلَخْ.
وَالْأَهْلُ: الزَّوْجُ وَالْأَوْلَادُ. وَكَانُوا مَعَهُ بِقَرِينَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ امْكُثُوا. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ «فَأَخَذَ مُوسَى امْرَأَتَهُ وَبَنِيهِ وَأَرْكَبَهُمْ عَلَى الْحَمِيرِ وَرَجَعَ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَاء ضمير لِأَهْلِهِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ: بِضَمِّ الْهَاءِ، تَبَعًا لِضَمَّةِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي امْكُثُوا.
وَالْإِينَاسُ: الْإِبْصَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
وتأكيد الْخَبَر بإن لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهِ بِشَارَةً لِأَهْلِهِ إِذْ كَانُوا فِي الظُّلْمَةِ.
وَالْقَبَسُ: مَا يُؤْخَذُ اشْتِعَالُهُ مِنِ اشْتِعَالِ شَيْءٍ وَيُقْبَسُ، كَالْجَمْرَةِ مِنْ مَجْمُوعِ الْجَمْرِ وَالْفَتِيلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَا يَقْتَدِحُ بِهِ. وَقِيلَ: اقْتَدَحَ
زَنْدَهُ فَصَلُدَ، أَيْ لَمْ يَقْدَحْ.
وَمَعْنَى أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً: أَوْ أَلْقَى عَارِفًا بِالطَّرِيقِ قَاصِدًا السَّيْرَ فِيمَا أَسِيرُ فِيهِ فَيَهْدِينِي إِلَى السَّبِيلِ. قِيلَ: كَانَ مُوسَى قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ مِنْ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَسِيرَ لَيْلًا.
وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى شَيْطانٍ [الْحَج: ٣] وَلَيْسَ ضَمِيرَ شَأْنٍ لِأَنَّ جَعْلَهُ ضَمِيرَ شَأْنٍ لَا يُنَاسِبُ كَوْنَ الْجُمْلَةِ فِي مَوْقِعِ نَائِبِ فَاعِلِ كُتِبَ، إِذْ هِيَ حِينَئِذٍ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ يَتَطَلَّبُ بَعْدَهُ جُمْلَةً، وَالْمَصْدَرَانِ الْمُنْسَبِكَانِ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ وَقَوْلِهِ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ نَائِبُ فِعْلِ كُتِبَ وَمُفَرَّعٌ عَلَيْهِ بِفَاءِ الْجَزَاءِ، أَيْ كُتِبَ عَلَيْهِ إِضْلَالُ مَنْ تَوَلَّاهُ. وَالتَّوَلِّي: اتِّخَاذُ وَلِيٍّ، أَيْ نَصِيرٍ، أَيْ مَنِ اسْتَنْصَرَ بِهِ.
وَ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ وَلَيْسَتْ شَرْطِيَّةً لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِخْبَارِ الثَّابِتِ لَا عَلَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ. وَهِيَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ تَوَلَّاهُ عَائِدٌ إِلَى (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ الْبَارِزُ عَائِدٌ إِلَى شَيْطانٍ [الْحَج: ٣]، أَيْ أَنَّ الَّذِي يَتَّخِذُ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا فَذَلِكَ الشَّيْطَانُ يُضِلُّهُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنْ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ
تَشْبِيهًا لِجُمْلَةِ الْخَبَرِ عَنِ الْمَوْصُولِ بِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ لِشَبَهِ الْمَوْصُولِ بِالشَّرْطِ قَصْدًا لِتَقْوِيَةِ الْإِخْبَارِ. وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ فِي تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ هُوَ صَدْرٌ لِلْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا عَنْ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِضْلَالُهُ إِيَّاهُ وَدَلَالَتُهُ إِيَّاهُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ. وَخَبَرُ هَذَا الْمُبْتَدَأِ مُقَدَّرٌ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ مَعْنَى إِسْنَادِ فِعْلَيِ الْإِضْلَالِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُبْتَدَأِ. وَالتَّقْدِيرُ: ثَابِتَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ فَاءَ تَفْرِيعٍ وَيُجْعَلَ مَا بَعْدَهَا مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ تَوَلَّاهُ وَيَكُونَ الْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِخْبَارِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ.
وَالتَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْهِ تَرَتُّبُ الْإِضْلَالِ مِنْهُ لِمُتَوَلِّيهِ وَتَرَتُّبُ إِيصَالِهِ مُتَوَلِّيَهُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ.
هَذَانِ هُمَا الْوَجْهَانِ فِي نَظْمِ الْآيَةِ وَمَا عَدَاهُمَا تَكَلُّفَاتٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا نُظِمَتْ بِهِ الْآيَةُ هُنَا لَا يَجْرِي عَلَى نَظْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [سُورَةِ بَرَاءَةٌ: ٦٣] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها
مُبْطِنِينَ الشِّرْكَ مَعَ اللَّهِ فَجَاعِلِينَ الْحَقَّ ثَابِتًا لِأَصْنَامِهِمْ، فَالْقَصْرُ حِينَئِذٍ إِضَافِيٌّ، أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بن سَلُولٍ وَحْدَهُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِقَصْدِ إِخْفَاءِ اسْمِهِ تَعْرِيضًا بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمرَان: ١٧٣]
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كتاب الله»
. [٢٦]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٢٦]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
بَعْدَ أَنْ بَرَّأَ اللَّهُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّا قَالَ عُصْبَةُ الْإِفْكِ فَفَضَحَهُمْ بِأَنَّهُم مَا جاؤا إِلَّا بسيء الظَّنِّ وَاخْتِلَاقِ الْقَذْفِ وَتَوَعَّدَهُمْ وَهَدَّدَهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَى الَّذِينَ تَابُوا أَنْحَى عَلَيْهِمْ
ثَانِيَةً بِبَرَاءَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَزْوَاجٌ خَبِيثَاتٌ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ عَلَى اللَّهِ يَأْبَى اللَّهُ مَعَهَا أَنْ تَكُونَ أَزْوَاجُهُ غَيْرَ طَيِّبَاتٍ. فمكانة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافِيَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى بَرَاءَةِ زَوْجِهِ وَطَهَارَةِ أَزْوَاجِهِ كُلِّهِنَّ. وَهَذَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حَالِ الشَّيْءِ بِحَالِ مُقَارِنِهِ وَمُمَاثِلِهِ.
وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ اخْتَلَقُوا الْإِفْكَ بِأَنَّ مَا أَفَكُوهُ لَا يَلِيقُ مِثْلُهُ إِلَّا بِأَزْوَاجِهِمْ، فَقَوْلُهُ:
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الْمُخْتَلِقِينَ لِلْإِفْكِ.
وَالِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ الْخَبِيثاتُ لِأَنَّ غَرَضَ الْكَلَامِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى بَرَاءَةِ عَائِشَةَ وَبَقِيَّةِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْخَبِيثِينَ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ. وَالْخَبِيثَاتُ وَالْخَبِيثُونَ وَالطَّيِّبَاتُ وَالطَّيِّبُونَ أَوْصَافٌ جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفَاتٍ مَحْذُوفَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ فِي الْجَمِيعِ: الْأَزْوَاجُ.
وَيَصِحُّ اعْتِبَارُ حَذْفِ يَاءِ النَّسَبِ لِلتَّخْفِيفِ. وَأَصْلُهُ: الْأَعْجَمِيِّينَ كَمَا فِي الشِّعْرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ:
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِحَالَهُمْ بِمَلْقَى السُّيُولِ بَيْنَ سَافٍ وَنَائِلِ
أَيِ الْأَشْعَرِيُّونَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يُحْمَلُ قَول النَّابِغَة:
فعودا لَهُ غَسَّانُ يَرْجُونَ أَوْبَهُ وَتُرْكٌ وَرَهْطُ الأعجمين وكابل
[٢٠٠- ٢٠٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢٠٠ إِلَى ٢٠٣]
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣)
تَقَدَّمَ نَظِيرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٢]، إِلَّا أَنَّ آيَةَ الْحِجْرِ قِيلَ فِيهَا:
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قِيلَ سَلَكْناهُ، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، فَوَجْهُ اخْتِيَارِ الْمُضَارِعِ فِي آيَةِ الْحِجْرِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ
الْمَقْصُودَ إِبْلَاغٌ مَضَى وَهُوَ الَّذِي أُبْلِغَ لِشِيَعِ الْأَوَّلِينَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِينَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا ذِكْرٌ لِغَيْرِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ فَنَاسَبَهَا حِكَايَةُ وُقُوعِ هَذَا الْإِبْلَاغِ مُنْذُ زَمَنٍ مَضَى. وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ.
وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ إِنْ سَأَلْتَ عَنِ اسْتِمْرَارِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي حِينِ أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فَلَا تَعْجَبْ فَكَذَلِكَ السُّلُوكُ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ تَشْبِيهٌ لِلسُّلُوكِ الْمَأْخُوذِ مِنْ سَلَكْناهُ بِنَفْسِهِ لِغَرَابَتِهِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣]، أَيْ هُوَ سُلُوكٌ لَا يُشْبِهُهُ سُلُوكٌ وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ قُلُوبَهُمْ بِإِبَانَتِهِ وَعَرَفُوا دَلَائِلَ صِدْقِهِ مِنْ أَخْبَارِ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ.
وَمَعْنَى: سَلَكْناهُ أَدْخَلْنَاهُ، قَالَ الْأَعْشَى:
كَمَا سَلَكَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ
وَفِي تَقْدِيمِ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى إِعْدَادٌ لِصَلَاحِيَةِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورِينَ. فَهَذَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعَانِي الْكَلَامِ بِمَوَاقِعِهِ وَتَرْتِيبِ نِظَامِهِ وَتَقْدِيمِ الْجُمَلِ عَنْ مَوَاضِعِ تَأْخِيرِهَا لِتَوْفِيرِ الْمَعَانِي.
[٨٦، ٨٧]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : الْآيَات ٨٦ الى ٨٧]
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧)
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [الْقَصَص: ٨٥] إِلْخَ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ أَوْ بِالنَّصْرِ الْمُبِينِ، أَيْ كَمَا حَمَّلَكَ تَبْلِيغَ الْقُرْآنِ فَكَانَ
ذَلِكَ عَلَّامَةً عَلَى أَنَّهُ أَعَدَّ لَكَ الْجَزَاءَ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. كَذَلِكَ إِعْطَاؤُهُ إِيَّاكَ الْكِتَابَ عَنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْكَ بَلْ بِمَحْضِ رَحْمَةِ رَبِّكَ، أَيْ هُوَ كَذَلِكَ فِي أَنَّهُ عَلَامَةٌ لَكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ نَصْرَكَ عَلَى أَعْدَائِكَ فَإِنَّهُ مَا اخْتَارَكَ لِذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ أَعَدَّ لَكَ نَصْرًا مُبِينًا وَثَوَابًا جَزِيلًا.
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ دَلَالَةِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُصَرَّحٍ بِهِ بَلْ عَلَى مَعْنًى تَعْرِيضِيٍّ بِدَلَالَةِ مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ.
وَإِلْقَاءُ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَحْيُهُ بِهِ إِلَيْهِ. أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْإِلْقَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٦، ٨٧].
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَامِرْ نَفْسَهُ رَجَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِهِ بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَاصْطِفَاءٍ لَهُ.
فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [الْقَصَص: ٨٥] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا وَمَا تَخَلَّلَ
بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ صِدْقُ وَعِيدِ الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ فَإِنَّ مَنْ لَهُ أَبٌ مُسْلِمٌ أَوِ ابْنٌ مُسْلِمٌ يَدْفَعُ عَنْهُ هُنَالِكَ بِمَا يَدُلُّ بِهِ عَلَى رَبِّ هَذَا الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ قَارًّا فِي نُفُوسِ الْعَرَبِ التَّعْوِيلُ عَلَى الْمَوْلَى وَالنَّصِيرِ تَعْوِيلًا عَلَى أَنَّ الْحَمِيَّةَ وَالْأَنَفَةَ تَدْفَعُهُمْ إِلَى الدِّفَاعِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ مُخْتَلِفِينَ لَهُمْ لِضِيقِ عَطَنِ أَفْهَامِهِمْ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ عَلَى مُعْتَادِهِمْ. وَهَذَا أَيْضًا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ جَزَاءِ الْوَالِدِ عَنْ وَلَدِهِ وَبَيْنَ نفي جَزَاء الْوَالِد عَنْ وَالِدِهِ لِيَشْمَلَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَالَتَيْنِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ أَرْجَى فِي الْمَقْصُودِ.
ثُمَّ أُوثِرَتْ جُمْلَةُ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً بِطُرُقٍ مِنَ التَّوْكِيدِ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى مِثْلِهَا جُمْلَةُ لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ فَإِنَّهَا نُظِمَتْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَوُسِّطَ فِيهَا ضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَجُعِلَ النَّفْيُ فِيهَا مُنْصَبًّا إِلَى الْجِنْسِ. وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِيثَارِ مُبَالَغَةُ تَحْقِيقِ عَدَمِ جُزْءِ هَذَا الْفَرِيقِ عَنِ الْآخَرِ إِذْ كَانَ مُعْظَمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالشَّبَابِ، وَكَانَ آبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ فِي الْغَالِبِ عَلَى الشِّرْكِ مِثْلُ أَبِي قُحَافَةَ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي طَالِبٍ وَالِدِ عَلِيٍّ، وَأُمِّ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُمِّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأُرِيدَ حَسْمُ أَطْمَاعِ آبَائِهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَطْمَاعِهِمْ أَنْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِشَيْءٍ. وَعُبِّرَ فِيهَا بِ مَوْلُودٌ دُونَ (وَلَدٍ) لِإِشْعَارِ مَوْلُودٌ بِالْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيِّ دُونَ (وَلَدٍ) الَّذِي هُوَ اسْمٌ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَامِدِ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّلَةَ الرَّقِيقَةَ لَا تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا التَّعَرُّضَ لِنَفْعِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ فِي الْآخِرَةِ وَفَاءً لَهُ بِمَا تومىء إِلَيْهِ الْمَوْلُودِيَّةُ مِنْ تَجَشُّمِ الْمَشَقَّةِ مِنْ تَرْبِيَتِهِ، فَلَعَلَّهُ يَتَجَشَّمُ الْإِلْحَاحَ فِي الْجَزَاءِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ حَسْمًا لِطَمَعِهِ فِي الْجَزَاءِ عَنْهُ، فَهَذَا تَعْكِيسٌ لِلتَّرْقِيقِ الدُّنْيَوِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاء: ٢٤] وَقَوْلِهِ: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لُقْمَان: ١٥].
وَجُمْلَةُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ عِلَّةٌ لِجُمْلَتَيِ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً. وَوَعْدُ اللَّهِ: هُوَ الْبَعْثُ، قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: ٢٩- ٣٠].
وَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّ مُرَاعَاةً لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي إِنْكَارِهِ
اتَّسَعَ فِي الْمُحَاجَّةِ فَقِيلَ لَهُمْ: إِذَا نَحْنُ أَجْرَمْنَا فَأَنْتُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِجُرْمِنَا وَإِذَا عَمِلْتُمْ عَمَلًا فَنَحْنُ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِهِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مُؤَاخَذٌ وَحْدَهُ بِعَمَلِهِ فَالْأَجْدَى بِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ كُلٌّ فِي أَعْمَالِهِ وَأَعْمَالِ ضِدِّهِ لِيَعْلَمَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَأَيْضًا فُصِلَتْ لِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا لِيَخُصَّهَا السَّامِعُ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَدْلُولِهَا فَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ بَيِّنٌ أَثْنَاءَ الِاحْتِجَاجِ.
فَمَعْنَى: لَا تُسْئَلُونَ وَلا نُسْئَلُ، أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لَهُ خُوَيِّصَتُهُ.
وَالسُّؤَالُ: كِنَايَةٌ عَنْ أَثَرِهِ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِجْرَامِ بِمِثْلِهِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْله كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
وَقِيلَ إِنَّك مَنْسُوب ومسؤول أَرَادَ وَمُؤَاخَذٌ بِمَا سَبَقَ مِنْكَ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ:
لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ وَإِسْنَادُ الْإِجْرَامِ إِلَى جَانِبِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَنْ مَعَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُخَاطَبِينَ، قَالَ تَعَالَى:
وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين: ٣٢] كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤَنِّبُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ خَاطِئُونَ فِي تَجَنُّبِ عِبَادَةِ أَصْنَامِ قَوْمِهِمْ.
وَهَذِهِ نُكْتَةُ صَوْغِهِ فِي صِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ. وَصِيغَ مَا يَعْمَلُ الْمُشْرِكُونَ فِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ مِنْهُمْ عَمَلًا تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ عَمَلًا غَيْرَ مَا عَمِلُوهُ، أَيْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بَعْدَ كُفْرِهِمْ.
وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُوَادَعَةِ لِيَخْلُوَا بِأَنْفُسِهِمْ فَيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَلَا يُلْهِيَهِمْ جِدَالُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِعْرَاضِ ومحاسبة أنفسهم. وَفِيه زِيَادَة إنصاف إِذْ فرض الْمُؤْمِنُونَ الإجرام فِي جَانب أَنْفُسِهِمْ وَأَسْنَدُوا الْعَمَلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي جَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ بَعْدَ ذَلِكَ يَكْشِفُ عَنْ كُنْهِ كِلَا الْعَمَلَيْنِ.
وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِمُشَارَكَةِ الْقِتَالِ فَلَا تُجْعَلُ مَنْسُوخَةً بآيَات الْقِتَال.
بِهَذَا أَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَكُونُوا مُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ وَلَا بَلَّغُوا إِلَيْهِمْ كِتَابَهُمْ وَلَوْ كَانُوا مُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ لَآمَنُوا بِهِمْ فَكَانُوا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَذَكَرَ فِي جَوَابِ لَوْ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَانِ لِيُفِيدَ مَعْنَى الْإِيمَانِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى.
وَفِي جُمْلَةِ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ صِيغَةُ قَصْرٍ مِنْ أَجْلِ كَوْنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعْرِفَةً بِالْإِضْمَارِ وَالْمُسْنَدِ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ، أَيْ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ دُونَ غَيْرِنَا، وَلَمَّا وَصَفَ الْمُسْنَدَ بِ الْمُخْلَصِينَ وَهُوَ مُعَرَّفٌ بِلَامِ الْجِنْسِ حَصَلَ قَصْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ لَهُمْ صِفَةُ الْإِخْلَاصِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ثُبُوتِ صِفَةِ الْإِخْلَاصِ لَهُمْ حَتَّى كَانُوا شَبِيهِينَ بِالْمُنْفَرِدِينَ بِالْإِخْلَاصِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِخْلَاصِ غَيْرِهِمْ فِي جَانِبِ إخلاصهم. وَهُوَ يؤول إِلَى مَعْنَى تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ فِي الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ حِينَئِذٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٧].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَفَرُوا بِهِ لِلتَّعْقِيبِ عَلَى فِعْلِ لَيَقُولُونَ، أَيِ اسْتَمَرَّ قَوْلُهُمْ حَتَّى كَانَ آخِرُهُ أَنْ جَاءَهُمُ الْكِتَابُ فَكَفَرُوا بِهِ، أَو للفصيحة، وَالتَّقْدِيرُ: فَكَانَ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ فَكَفَرُوا بِهِ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: ٤١]. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر: ٤٢].
وَبِهَذَا كَانَ لِلْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ مَوْقِعُهُ الْمُصَادِفُ الْمِجَزُّ مِنَ الْكَلَامِ،
وَهَوْلُهُ بِمَا ضَمِنَهُ مِنَ الْإِبْهَامِ. وَ «سَوْفَ» أُخْتُ السِّينِ فِي إِفَادَةِ مُطلق الِاسْتِقْبَال.
[١٧١- ١٧٣]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٧١ إِلَى ١٧٣]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)
تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَكَفَرُوا بِهِ [الصافات: ١٧٠] وَبَيَانٌ لِبَعْضِ الْوَعِيدِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الصافات: ١٧٠] بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ
يَقْصِدَ الْمُتَعَبِّدُ مِنْ عِبَادَتِهِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ سَوَاءٌ كَانَ قَصْدًا مُجَرَّدًا أَوْ مَخْلُوطًا مَعَ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ. كُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ حُصُولِ حَظٍّ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحَظُّ فِي جَوْهَرِهَا. وَهَذَا مَعْنَى مَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الرِّيَاءَ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ»
(١).
وَتَقْدِيمُ لَهُ الْمُتَعَلِّقِ بِمُخْلِصِينَ عَلَى مَفْعُولِ مُخْلِصِينَ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِمُتَعَلِّقِهِ مِنْ تَعَلُّقِ الْمَفْعُولِ بِعَامِلِهِ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءً لِلثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَمْثَالِهَا فِي غَالِبِ مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِفِعْلِ فَادْعُوهُ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَائِلِينَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ قُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَرِينَةُ الْمَحْذُوفِ هُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ كَثِيرًا فَصَارَتْ كَالْمَثَلِ فِي إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: فَاعْبُدُوهُ بِالْعَمَلِ وَبِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَشُكْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا أُرِيدَ بِهِ إِنْشَاءُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي وُجُوهِ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. أَوْ جَارِيًا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَام: ٤٥] عَقِبَ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٠].
وَعِنْدِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ مَصْدَرًا جِيءَ بِهِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ احْمَدُوا اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَعُدِلَ بِهِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.
_________
(١) رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن شَدَّاد بن أَوْس قَالَ: «كُنَّا نعدّ الرِّيَاء على عهد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشّرك الْأَصْغَر.
وَعَن مُحَمَّد بن رَافع بن خديج رَفعه: «إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الشّرك الْأَصْغَر قَالُوا: وَمَا الشّرك الْأَصْغَر يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الرِّيَاء..»

. الحَدِيث.
قَوْلُ الْكَافِرِ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠]. وَقَالَ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: ٥] وَهِيَ قَوْلُهُمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: ١١٦] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: ١٣٢]، أَيْ بِقَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَة: ١٣١] فَأَعَادَ عَلَيْهَا ضَمِيرَ التَّأْنِيثِ عَلَى تَأْوِيلِ (الْكَلِمَةِ).
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لِلْكَلَامِ كَلِمَةٌ إِذَا كَانَ كَلَامًا سَائِرًا عَلَى الْأَلْسِنَةِ مُتَمَثَّلًا بِهِ، كَمَا
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ»
، أَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَجْعُولًا شِعَارًا كَقَوْلِهِمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: ٧٤] ».
فَالْمَعْنَى: جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْلَهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: ٢٦، ٢٧] شِعَارًا لِعَقِبِهِ، أَيْ جَعَلَهَا هِيَ وَمَا يُرَادِفُهَا قَوْلًا بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ فَلَا يَخْلُو عَقِبُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مُوَحِّدِينَ لِلَّهِ نَابِذِينَ لِلْأَصْنَامِ. وَأَشْعَرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ بِأَنَّ هَاتِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَنْقَطِعْ بَيْنَ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ دُونَ أَنْ تَعُمَّ الْعَقِبَ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَقِبِ مَجْمُوعُ أَعْقَابِهِ فَإِنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنَ الْيَهُودِ وَانْقَطَعَتْ مِنَ الْعَرَبِ بَعْدَ أَنْ تَقَلَّدُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ إِلَّا مَنْ تَهَوَّدَ مِنْهُمْ أَوْ تَنَصَّرَ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ كُلِّ عَقِبٍ فَإِنَّ الْعَرَب لم يَخْلُو مِنْ قَائِمٍ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مِثْلَ الْمُتَنَصِّرِينَ مِنْهُمْ كَالْقَبَائِلِ الْمُتَنَصِّرَةِ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَمِثْلَ الْمُتَحَنِّفِينَ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
وَذَلِكَ أَنَّ فِي تَرِدُ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥]. وَقَالَ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيُّ مِنَ الْحَمَاسَةِ:
وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ وَالْعَقِبُ: الذُّرِّيَّةُ الَّذِينَ لَا يَنْفَصِلُونَ مِنْ أَصْلِهِمْ بِأُنْثَى، أَيْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ بِالْوِصَايَةِ عَلَيْهَا رَاجِيًا أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِهَا التَّوْحِيدَ إِذَا رَانَ رَيْنٌ
عَلَى قُلُوبِهِمْ، أَوِ اسْتَحْسَنُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: ١٣٨] فَيَهْتَدُونَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ حِين يضيق الزّمن عَنْ بَسْطِ الْحُجَّةِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَلَامِ الَّذِي يُجْعَلُ شِعَارًا لِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَصْلًا مَوْضُوعًا قَدْ تَبَيَّنَ
وَضَمِيرُ جَعَلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ [الْفَتْح: ٢٥] مِنْ قَوْلِهِ: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفَتْح: ٢٥] وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ.
والَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ جَعَلَ. والْحَمِيَّةَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا، وفِي قُلُوبِهِمُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ جَعَلَ، أَيْ تَخَلَّقُوا بِالْحَمِيَّةِ فَهِيَ دَافِعَةٌ بِهِمْ إِلَى أَفْعَالِهِمْ لَا يُرَاعُونَ مَصْلَحَةً وَلَا مَفْسَدَةً فَكَذَلِكَ حِينَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وفِي قُلُوبِهِمُ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلَ، أَيْ وَضَعَ الْحَمِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ عَطْفُ بَيَانٍ لِلْحَمِيَّةِ قُصِدَ مِنْ إِجْمَالِهِ ثُمَّ تَفْصِيلِهِ تَقْرِيرُ مَدْلُولِهِ وَتَأْكِيدُهُ مَا يَحْصُلُ لَوْ قَالَ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ.
وَإِضَافَةُ الْحَمِيَّةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ لِقَصْدِ تَحْقِيرِهَا وَتَشْنِيعِهَا فَإِنَّهَا مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ انْتِسَابُ ذَمٍّ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: ١٥٤] وَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: ٥٠].
وَيَعْكِسُ ذَلِكَ إِضَافَةُ السَّكِينَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ لِأَنَّ السَّكِينَةَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ فَهِيَ مَوْهِبَةٌ إِلَهِيَّةٌ.
وَتَفْرِيعُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَدُّوا أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ عَنْوَةً غَضَبًا مِنْ صَدِّهِمْ عَنْهَا وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّكِينَةِ: الثَّبَاتُ وَالْأَنَاةُ، أَيْ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ التَّأَنِّيَ وَصَرَفَ عَنْهُمُ الْعَجَلَةَ، فَعَصَمَهُمْ مِنْ مُقَابَلَةِ الْحَمِيَّةِ بِالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فَقَابَلُوا الْحَمِيَّةَ بِالتَّعَقُّلِ وَالتَّثَبُّتِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
الشَّيْءِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْأَجْسَامَ مُنْتَصِبَةً عَلَى الْأَرْضِ فَأُولَاهَا مَا كَانَ إِلَى السَّمَاءِ وَآخِرُهَا مَا يَلِي الْأَرْضَ.
وَأُطْلِقَتِ الْأَعْجَازُ هُنَا عَلَى أُصُولِ النَّخْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الشَّجَرَةِ هُوَ فِي آخِرِهَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ.
وَشُبِّهَ النَّاسُ الْمَطْرُوحُونَ عَلَى الْأَرْضِ بِأُصُولِ النَّخِيلِ الْمَقْطُوعَةِ الَّتِي تُقْلَعُ مِنْ مَنَابِتِهَا لِمَوْتِهَا إِذْ تَزُولُ فُرُوعُهَا وَيَتَحَاتُّ وَرقهَا فَلَا تبقى إِلَّا الْجُذُوعُ الْأَصْلِيَّةُ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَعْجَازًا.
ومُنْقَعِرٍ: اسْمُ فَاعِلِ انْقَعَرَ مُطَاوِعُ قَعَرَهُ، أَيْ بَلَغَ قَعْرَهُ بِالْحَفْرِ يُقَالُ: قَعَرَ الْبِئْرَ إِذَا انْتَهَى إِلَى عُمْقِهَا، أَيْ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ قُعِّرَتْ دَوَاخِلُهُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ لِعُودِ النَّخْلِ إِذَا طَالَ مُكْثُهُ مَطْرُوحًا.
وَمُنْقَعِرٍ: وَصْفُ النَّخْلِ، رُوعِيَ فِي إِفْرَادِهِ وَتَذْكِيرِهِ صُورَةُ لَفْظِ نَخْلٍ دُونَ عَدَدِ مَدْلُولِهِ خِلَافًا لِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: ٧] وَقَوْلِهِ: وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ [الرَّحْمَن: ١١].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْأَنْبَارِي سُئِلَ الْمُبَرِّدُ بِحَضْرَةِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي (١) عَنْ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ مِنْ جُمْلَتِهَا، قِيلَ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً [الْأَنْبِيَاء: ٨١] وجاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [يُونُس: ٢٢] وَقَوْلِهِ: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: ٧] وأَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ؟ فَقَالَ كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَهُ إِلَى اللَّفْظِ تَذْكِيرًا أَوْ إِلَى الْمَعْنَى تأنيثا» اه.
وَجُمْلَة كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّاسَ وَوجه الْوَصْف ب مُنْقَعِرٍ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الرِّيحَ صَرَعَتْهُمْ صَرْعًا تَفَلَّقَتْ مِنْهُ بُطُونُهُمْ وَتَطَايَرَتْ أَمْعَاؤُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ فَصَارُوا جُثَثًا فُرْغًا. وَهَذَا تَفْظِيعٌ لِحَالِهِمْ وَمُثْلَةٌ لَهُمْ لِتَخْوِيفِ من يراهم.
[٢١]
_________
(١) إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق بن حَمَّاد الْبَصْرِيّ فَقِيه الْمَالِكِيَّة بالعراق، وقاضي الْجَمَاعَة بِبَغْدَاد، توفّي سنة ٢٨٢ هـ لَهُ «أَحْكَام الْقُرْآن».
وَالْعَرْضُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّشْوِيقِ إِلَى الْأَمْرِ الْمَعْرُوضِ، وَهُوَ دَلَالَتُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى تِجَارَةٍ نَافِعَةٍ. وَأَلْفَاظُ الِاسْتِفْهَامِ تَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ هِيَ مِنْ مُلَازِمَاتِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ»، وَهِيَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِيمَا ذَكَرَهُ.
وَجِيءَ بِفِعْلِ أَدُلُّكُمْ لِإِفَادَةِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُهْتَدَى إِلَيْهَا بِسُهُولَةٍ.
وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَفْظُ التِّجَارَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِمُشَابَهَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ التِّجَارَةَ فِي طَلَبِ النَّفْعِ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَمُزَاوَلَتِهِ وَالْكَدِّ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦].
وَوَصْفُ التِّجَارَةِ بِأَنَّهَا تُنْجِي مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ لِقَصْدِ الصَّرَاحَةِ بِهَذِهِ الْفَائِدَةِ لِأَهَمِّيَتِهَا وَلَيْسَ الْإِنْجَاءُ مِنَ الْعَذَابِ مِنْ شَأْنِ التِّجَارَةِ فَهُوَ مِنْ مُنَاسِبَاتِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَجُمْلَةُ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ ذِكْرَ الدَّلَالَةِ مُجْمَلٌ وَالتَّشْوِيقُ الَّذِي سَبَقَهَا مِمَّا يُثِيرُ فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ التَّسَاؤُلَ عَنْ هَذَا الَّذِي تَدُلُّنَا عَلَيْهِ وَعَنْ هَذِهِ التِّجَارَةِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْخِطَابُ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ فِعْلَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ مَعَ وَتُجاهِدُونَ مُرَادٌ بِهِ تَجْمَعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْجِهَادِ. وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ إِفَادَةُ الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَجْدِيدِهِ فِي كُلِّ آنٍ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ وَتَحْذِيرٌ مِنَ التَّغَافُلِ عَنْ مُلَازَمَةِ الْإِيمَانِ وَشُؤُونِهِ.
وَأَمَّا وَتُجاهِدُونَ فَإِنَّهُ لِإِرَادَةِ تَجَدُّدِ الْجِهَادِ إِذَا اسْتُنْفِرُوا إِلَيْهِ.
وَمَجِيءُ يَغْفِرْ مَجْزُومًا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تُؤْمِنُونَ وَتُجاهِدُونَ وَإِنْ جَاءَا فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ الْأَمْرُ لِأَنَّ الْجَزْمَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ لَا فِي جَوَابِ الْخَبَرِ. قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جُزِمَ يَغْفِرْ لِأَنَّهُ جَوَابُ هَلْ أَدُلُّكُمْ، أَيْ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا إِلَخ [نوح: ٢٤].
٧- وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ إِلَخ [نوح: ٢٦].
٨- رَبِّ اغْفِرْ لِي إِلَخ [نوح: ٢٨].
وَجَعَلَ دَعْوَتَهُ مَظْرُوفَةً فِي زَمَنَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْهَوَادَةِ فِي حِرْصِهِ عَلَى إِرْشَادِهِمْ، وَأَنَّهُ يَتَرَصَّدُ الْوَقْتَ الَّذِي يَتَوَسَّمُ أَنَّهُمْ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى فَهْمِ دَعْوَتِهِ مِنْهُمْ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَوْقَاتِ النَّشَاطِ وَهِيَ أَوْقَاتُ النَّهَارِ، وَمِنْ أَوْقَاتِ الْهَدُوِّ وَرَاحَةِ الْبَالِ وَهِيَ أَوْقَاتُ اللَّيْلِ.
وَمَعْنَى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أَنَّ دُعَائِي لَهُمْ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَبِطَاعَتِهِمْ لِي لَمْ يَزِدْهُمْ مَا دَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا بُعْدًا مِنْهُ، فَالْفِرَارُ مُسْتَعَارٌ لِقُوَّةِ الْإِعْرَاضِ، أَيْ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِيَّاهُمْ قُرْبًا مِمَّا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
وَاسْتِثْنَاءُ الْفِرَارِ مِنْ عُمُومِ الزِّيَادَاتِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي قُرْبًا مِنَ الْهُدَى لَكِنْ زَادَهُمْ فِرَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [هود: ٦٣].
وَإِسْنَادُ زِيَادَةِ الْفِرَارِ إِلَى الدُّعَاءِ مَجَازٌ لِأَنَّ دُعَاءَهُ إِيَّاهُمْ كَانَ سَبَبًا فِي تَزَايُدِ إِعْرَاضِهِمْ وَقُوَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِشِرْكِهِمْ.
وَهَذَا مِنَ الْأُسْلُوبِ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، أَوْ تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَهُوَ هُنَا تَأْكِيدُ إِعْرَاضِهِمُ الْمُشَبَّهِ بِالِابْتِعَادِ بِصُورَةٍ تُشْبِهُ ضِدَّ الْإِعْرَاضِ.
وَلَمَّا كَانَ فِرَارُهُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ ثَابِتًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ كَانَ قَوْلُهُ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
وَتَصْدِيرُ كَلَامِ نُوحٍ بِالتَّأْكِيدِ لِإِرَادَةِ الاهتمام بالْخبر.
[٧]
[سُورَة نوح (٧١) : آيَة ٧]
وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً
يُقِيمُونَ لَهُمْ مَا هُوَ شِعَارُ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، كَانَ التَّطْفِيفُ لِذَلِكَ مُنْبِئًا عَنْ إِثْمِ احْتِقَارِ الْحُقُوقِ، وَذَلِكَ قَدْ صَارَ خُلُقًا لَهُمْ حَتَّى تَخَلَّقُوا بِمُكَابَرَةِ دُعَاةِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّنْوِيهِ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرَّحْمَن: ٧- ٩] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الشُّعَرَاء: ١٨٢، ١٨٣] [٧- ٩]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ٧ إِلَى ٩]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
كَلَّا.
إِبْطَالٌ وَرَدْعٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين: ٤] مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِهِمُ التَّطْفِيفَ، وَالْمَعْنَى: كَلَّا بَلْ هُمْ مَبْعُوثُونَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَلِتَلَقِّي قَضَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهِيَ جَوَابٌ عَمَّا تَقَدَّمَ.
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُطَفِّفِينَ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ مُوجِبًا كَتْبَهُ فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ.
والفُجَّارِ غَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِالتَّطْفِيفِ بَعْدَ سَمَاعِ النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الفُجَّارِ لِلْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقَ، أَيْ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ فَيَعُمُّ الْمُطَفِّفِينَ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ، فَوَصْفُ الْفُجَّارِ هَنَا نَظِيرُ مَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: ٤٢].
وَشُمُولُ عُمُومِ الْفُجَّارِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرَ الْمُطَفِّفِينَ يُعْنَى بِهِ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ مِنْهُمْ الْمَقْصُود الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لِأَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْوَصْفِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ عَقِبَ كَلِمَةِ الرَّدْعِ عَنْ أَعْمَالِ الْمُطَفِّفِينَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ.
وَ «الْكِتَابُ» الْمَكْتُوبُ، أَيِ الصَّحِيفَةُ وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا تُحْصَى فِيهِ


الصفحة التالية
Icon