خَطَابَةٌ وَأَسْجَاعُ كُهَّانٍ، وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَإِنْ تَنَافَسُوا فِي ابْتِكَارِ الْمَعَانِي وَتَفَاوَتُوا فِي تَرَاكِيبِ أَدَائِهَا فِي الشِّعْرِ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُسْلُوبِ قَدِ الْتَزَمُوا فِي أُسْلُوبَيِ الشِّعْرِ وَالْخَطَابَةِ
طَرِيقَةً وَاحِدَةً تَشَابَهَتْ فُنُونُهَا فَكَادُوا لَا يَعُدُّونَ مَا أَلَّفُوهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّكَ لَتَجِدُ الشَّاعِرَ يَحْذُو حَذْوَ الشَّاعِرِ فِي فَوَاتِحِ الْقَصَائِدِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ تَرَاكِيبِهَا، فَكَمْ مِنْ قَصَائِدَ افْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِمْ: «بَانَتْ سُعَادُ» لِلنَّابِغَةِ وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَكَمْ مِنْ شِعْرٍ افْتُتِحَ بِ:
يَا خَلِيلَيَّ أَرْبِعَا وَاسْتَخْبِرَا
وَكَمْ مِنْ شِعْرٍ افْتُتِحَ بِ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ... وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ | يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَحَمَّلِ |
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي خُطَبِهِمْ تَكَادُ تَكُونُ لَهْجَةً وَاحِدَةً وَأُسْلُوبًا وَاحِدًا فِيمَا بَلَغَنَا مِنْ خُطَبِ سَحْبَانَ وَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ. وَكَذَلِكَ أَسْجَاعُ الْكُهَّانِ وَهِيَ قَدِ اخْتُصَّتْ بِقِصَرِ الْفِقْرَاتِ وَغَرَابَةِ الْكَلِمَاتِ. إِنَّمَا كَانَ الشِّعْرُ الْغَالِبُ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَكَانَتِ الْخَطَابَةُ بِحَالَةِ نَدُورٍ لِنُدْرَةِ مَقَامَاتِهَا. قَالَ عُمَرُ «كَانَ الشِّعْرُ عِلْمَ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ أَصَحُّ مِنْهُ» فَانْحَصَرَ تَسَابُقُ جِيَادِ الْبَلَاغَةِ فِي مَيْدَانِ الْكَلَامِ الْمَنْظُومِ، فَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَكُنْ شِعْرًا وَلَا سَجْعَ كُهَّانٍ، وَكَانَ مِنْ أُسْلُوبِ النَّثْرِ أَقْرَبَ إِلَى الْخَطَابَةِ، ابْتَكَرَ لِلْقَوْلِ أَسَالِيبَ كَثِيرَةً بَعْضَهَا تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْمَقَاصِدِ، وَمَقَاصِدُهَا بِتَنَوُّعِ أُسْلُوبِ الْإِنْشَاءِ، فِيهَا أَفَانِينُ كَثِيرَةٌ فَيَجِدُ فِيهِ الْمُطَّلِعُ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ بُغْيَتَهُ وَرَغْبَتَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَمَّا اسْتَمَعَ إِلَى قِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ وَلَا سَجْعِهِ، وَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ، وَقَرِيضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، وَمَقْبُوضَهُ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ».
وَكَذَلِكَ وَصْفَهُ أُنَيْسَ بْنَ جُنَادَةَ الْغِفَارِيُّ الشَّاعِرُ أَخُو أَبِي ذَرٍّ حِينَ انْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ لِيَسْمَعَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْتِيَ بِخَبَرِهِ إِلَى أَخِيهِ فَقَالَ: «لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ (١) فَلَمْ يَلْتَئِمْ، وَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ» ثُمَّ أَسْلَمَ. وَوَرَدَ مِثْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَُُُُّ
_________
(١) الْأَقْرَاء جمع قرء وَهُوَ الطَّرِيق.
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٧٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)اعْتِرَاضٌ بِخِطَابِ الْمُسْلِمِينَ بِالِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِإِبَاحَةِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، جَرَتْ إِلَيْهِ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ، فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ تَوْبِيخِ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَنْ حَرَّمُوا مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إِلَى تَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ مَعَ بَيَانِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، وَقَدْ أُعِيدَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَة: ١٦٨] بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ لِيَكُونَ خِطَابُ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْخطاب هُنَا بيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْكَلَامُ عَلَى الطَّيِّبَاتِ تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
وَقَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَمْرِ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ الدَّالِّ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالِامْتِنَانِ، وَالْأَمْرُ فِي اشْكُرُوا لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنَعِمِ وَاجِبٌ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الشُّكْرِ بِحَرْفِ اللَّامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي [الْبَقَرَة: ١٥٢].
وَالْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ فِي الِاسْمِ الظَّاهِرِ إِشْعَارًا بِالْإِلَهِيَّةِ فَكَأَنَّهُ يُومِئُ إِلَى أَلَّا تُشْكَرَ الْأَصْنَامُ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ بِاعْتِرَافِ الْمُشْرِكِينَ أَنْفُسِهِمْ فَلَا تَسْتَحِقُّ شُكْرًا. وَهَذَا مِنْ جَعْلِ اللَّقَبِ ذَا مَفْهُومٍ بِالْقَرِينَةِ إِذِ الضَّمِيرُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ. وَلِذَلِكَ جَاءَ بِالشَّرْطِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أَيِ اشْكُرُوهُ عَلَى مَا رَزَقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يَتَّصِفُ بِأَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ هَذَا الْفَرِيقَ وَهَذِهِ سَجِيَّتُكُمْ، وَمِنْ شَأْنِ كَانَ إِذَا جَاءَتْ وَخَبَرُهَا جُمْلَةٌ مُضَارِعِيَّةٌ أَنْ تَدُلَّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْعُنْوَانِ لَا عَلَى الْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يُوسُف: ٤٣] أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ صِفَاتِكُمْ، وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ لَا تُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهُ فَاشْكُرُوهُ وَحْدَهُ. فَالْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ هُنَا الِاعْتِقَادُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْخُضُوعُ وَالِاعْتِرَافُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الطَّاعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَغْنَى عَنهُ مَا تقدم مِنْ قَوْله وَاشْكُرُوا.
وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ.
تَعْمِيمٌ فِي أَكْوَانِ أَوْ أَحْوَالِ الدُّيُونِ الْمَأْمُورِ بِكِتَابَتِهَا، فَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ هُنَا مَجَازَانِ فِي الْحَقِيرِ وَالْجَلِيلِ. وَالْمُعَامَلَاتُ الصَّغِيرَةُ أَكْثَرُ مِنَ الْكَبِيرَةِ، فَلِذَلِكَ نُهُوا عَنِ السَّآمَةِ هُنَا.
وَالسَّآمَةُ: الْمَلَلُ مِنْ تَكْرِيرِ فِعْلٍ مَا.
وَالْخِطَابُ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ أَصَالَةً، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ خِطَابَ الْكَاتِبِ: لِأَنَّ الْمُتَدَايِنَيْنِ إِذَا دَعَوَاهُ لِلْكِتَابَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ.
وَالنَّهْيُ عَنْهَا نهي عَن أَثَرهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّ السَّآمَةَ تَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَلَا يُنْهَى عَنْهَا فِي ذَاتِهَا، وَقِيلَ السَّآمَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْكَسَلِ وَالتَّهَاوُنِ. وَانْتَصَبَ
صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِير الْمَنْصُوب بتكتبوه، أَوْ عَلَى حَذْفِ كَانَ مَعَ اسْمِهَا.
وَتَقْدِيمُ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ هُنَا، مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْعَكْسُ، كَتَقْدِيمِ السِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] لِأَنَّهُ قَصَدَ هُنَا إِلَى التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ لِدَفْعِ مَا يَطْرَأُ مِنَ التَّوَهُّمَاتِ فِي قِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِالصَّغِيرِ، وَهُوَ أَكْثَرُ، أَوِ اعْتِقَادِ عَدَمِ وُجُوبِ كِتَابَةِ الْكَبِيرِ، لَوِ اقْتُصِرَ فِي اللَّفْظِ عَلَى الصَّغِيرِ.
وَجُمْلَةُ إِلى أَجَلِهِ حَالٌ مِنَ الضَّمِير الْمَنْصُوب بتكتبوه، أَيْ مُغَيَّى الدَّيْنِ إِلَى أَجْلِهِ الَّذِي تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ التَّغْيِيَةُ فِي الْكِتَابَةِ.
ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا.
تَصْرِيحٌ بِالْعِلَّةِ لِتَشْرِيعِ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ: بِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِيهَا زِيَادَةُ التَّوَثُّقِ، وَهُوَ أَقْسَطُ أَيْ أَشَدُّ قِسْطًا، أَيْ عَدْلًا، لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لِلْحَقِّ، وَأَقَوْمُ لِلشَّهَادَةِ، أَيْ أَعْوَنُ عَلَى إِقَامَتِهَا، وَأَقْرَبُ إِلَى نَفْيِ الرِّيبَةِ وَالشَّكِّ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ عِلَلٍ، وَيُسْتَخْرَجُ مِنْهَا أَنَّ الْمَقْصِدَ الشَّرْعِيَّ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي الْحُقُوقِ بَيِّنَةً، وَاضِحَةً، بَعِيدَةً عَنِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَالتَّوَهُّمَاتِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ، فَلِذَلِكَ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْوَاحِدِ.
يُخْتَرَمَ عُمُرُهُ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَة: ٦٧] عَقِبَ قَوْلِهِ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَة: ٦٧] الدَّالِّ عَلَى أَنَّ عِصْمَتَهُ مِنَ النَّاسِ لأجل تَبْلِيغ الشّلايعة. فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ الْحَيَاةَ حَتَّى يُبَلِّغَ شَرْعَهُ، وَيُتِمَّ مُرَادَهُ، فَكَيْفَ يَظُنُّونَ قَتْلَهُ بِيَدِ أَعْدَائِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ الْإِعْلَانِ بِإِتْمَامِ شَرْعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: ٣] الْآيَةَ. بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَعَلِمَ أَنَّ أَجَلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَرُبَ، وَقَالَ: مَا كَمُلَ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ. فَالْجُمْلَةُ، عَلَى هَذَا، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ.
وَإِنْ كَانَ هَذَا إِنْكَارًا مُسْتَأْنَفًا عَلَى الَّذِينَ فَزِعُوا عِنْدَ الْهَزِيمَةِ وَخَافُوا الْمَوْتَ، فَالْعُمُومُ فِي النَّفس مَقْصُود أَي مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكُمُ الْخَوْفُ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلًا.
وَجِيءَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِصِيغَةِ الْجُحُودِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ مَوْتٌ قَبْلَ الْأَجَلِ،
فَالْجُمْلَةُ، عَلَى هَذَا، مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ تُلْقَى فِي الْمَقَامَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ فِيهَا مُدَاوَاةُ النُّفُوسِ مِنْ عَاهَاتٍ ذَمِيمَةٍ، وَإِلَّا فَإِنَّ انْتِهَاءَ الْأَجَلِ مَنُوطٌ بِعِلْمِ اللَّهِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ وَقْتَهُ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لُقْمَان: ٣٤]، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ حَيَاتِهِ، إِلَّا فِي سَبِيل الله، فتعيّن عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْجِهَادِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمَوْتَ بِالْأَجَلِ، وَالْمُرَادُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَوَضْعُهُ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بُلُوغِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ مَرَّةً بِ (كُنْ)، وَمَرَّةً بِقَدَرٍ مَقْدُورٍ، وَمَرَّةً بِالْقَلَمِ، وَمَرَّةً بِالْكِتَابِ.
وَالْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ: كِتاباً مُؤَجَّلًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْإِذْنِ، أَوْ مِنَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْد: ٣٨] و «مؤجّلا» حَالًا ثَانِيَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتاباً مَصْدَرَ كَاتَبَ الْمُسْتَعْمَلِ فِي كُتُبٍ لِلْمُبَالِغَةِ، وَقَوْلُهُ:
مُؤَجَّلًا صِفَةٌ لَهُ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَتَبَ كِتَابًا مُؤَجَّلًا أَيْ مؤقتا.
وَجعله صَاحب «الْكَشَّافُ» مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا أَيْ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَما كانَ لِنَفْسٍ الْآيَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُ مَعَ صِفَتِهِ وَهِيَ
يَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ، وَنَحْنُ قَدْ أَمَرَنَا نَبِيئُنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا وَبَلَغَتِ الْقَتْلَى مِنَّا سَبْعِينَ أَلْفًا فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ: لَوْ كُتِبَ ذَلِكَ عَلَيْنَا لَفَعَلْنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ عَنِ السِّيَاقِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قِيلَ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ بَلْ قِيلَ: لَفَعَلَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْفَخْرُ: هِيَ تَوْبِيخٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَيْ لَوْ شَدَّدْنَا عَلَيْهِمُ التَّكْلِيفَ لَمَا كَانَ مِنَ الْعَجَبِ ظُهُورُ عِنَادِهِمْ، وَلَكِنَّا رَحِمْنَاهُمْ بِتَكْلِيفِهِمُ الْيُسْرَ فَلْيَتْرُكُوا الْعِنَادَ. وَهِيَ عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ تَحْرِيضًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى امْتِثَالِ الرَّسُولِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِلَّا الْيُسْرَ، كُلُّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَتْلِ النُّفُوسِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ.
وَعِنْدِي أَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ هُنَا مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ تَهْيِئَةً لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النِّسَاء: ٧١] وَأَنَّ الْمُرَادَ بِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: لِيَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ وَأَقَارِبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ الْهِجْرَةُ، أَيْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ هِجْرَةً مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَّا قَلِيلٌ- بِالرَّفْعِ- عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْوَاوِ فِي مَا فَعَلُوهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِالنَّصْبِ- عَلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَنْفِيِّ.
وَمَعْنَى مَا يُوعَظُونَ بِهِ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النِّسَاء: ٦٣]، أَيْ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ أَمْرَ تَحْذِيرٍ وَتَرْقِيقٍ، أَيْ مَضْمُونُ مَا يُوعَظُونَ لِأَنَّ الْوَعْظَ هُوَ الْكَلَامُ وَالْأَمْرُ، وَالْمَفْعُولُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، أَيْ لَوْ فَعَلُوا كُلَّ مَا يُبَلِّغُهُمُ الرَّسُولُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ.
وَكَوْنُهُ خَيْرًا أَنَّ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَشَدَّ تَثْبِيتاً يَحْتَمِلُ أَنَّهُ التَّثْبِيتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَبِذَلِكَ فَسَّرُوهُ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنَّهُ أَشَدُّ تَثْبِيتًا لَهُمْ، أَيْ لِبَقَائِهِمْ بَيْنَ أَعْدَائِهِمْ وَلِعِزَّتِهِمْ وَحَيَاتِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ اسْتِبْقَاءً لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الْمُهَاجَرَةَ حُبًّا لِأَوْطَانِهِمْ، فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْجِهَادَ وَالتَّغَرُّبَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَشَدُّ تَثْبِيتًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَذُودُ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ:
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ | لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا |
إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ | أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا |
أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَكْرِيرٌ اقْتَضَاهُ مَقَامُ اسْتِنْزَالِهِ إِلَى قَبُولِ الْمَوْعِظَةِ لِأَنَّهَا مَقَامُ إِطْنَابٍ. وَنُظِّرَ ذَلِكَ بِتَكْرِيرِ لُقْمَانَ قَوْلَهُ: يَا بُنَيَّ [لُقْمَان: ١٣- ١٦] ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: بِخِلَافِ قَوْلِ نُوحٍ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا [هود: ٤٢] مَرَّةً وَاحِدَةً دُونَ تَكْرِيرٍ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَقَامِ يَقْتَضِي الْإِيجَازَ وَهَذَا مِنْ طُرُقُ الْإِعْجَازِ». انْتَهَى كَلَامُهُ بِمَا يُقَارِبُ لَفْظَهُ.
وَأَقُولُ: الْوَجْهُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَمُكَنًّى بِهِ عَنْ نَفْيِ الْعِلَّةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ
، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعْجِيزِ عَنْ إِبْدَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَهُوَ مِنَ التَّوْرِيَةِ فِي مَعْنَيَيْنِ يَحْتَمِلُهُمَا الِاسْتِفْهَامُ.
وَالسَّوْءُ- بِفَتْحِ السِّينِ- تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَإِضَافَةُ قَوْمٍ إِلَى السَّوْءِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ عُرِفُوا بِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ وَالتَّكَبُّرُ وَالْعِنَادُ وَالِاسْتِسْخَارُ بِرَسُولِهِمْ.
وأَجْمَعِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي فَأَغْرَقْناهُمْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنَ الْغَرَقِ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ نُوحٍ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَغْرَقَ ابْنَ نُوحٍ.
وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِقُرَيْشٍ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا عَلَى قَرَابَتِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ [سُورَةَ فُصِّلَتْ: ١٣] حَتَّى بَلَغَ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فَزِعَ عُتْبَةُ وَقَالَ لَهُ: نَاشَدْتُكَ الرَّحِمَ.
[٧٨، ٧٩]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٧٨ الى ٧٩]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩)
وَدَاوُد وسليمن إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وكنّا لحكمهم شهدين (٧٨) ففهّمنا سليمن وكلّا ءاتينا حُكْمًا وَعِلْمًا شُرُوعٌ فِي عِدَادِ جَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا رُسُلًا. وَقَدْ رُوعِيَ فِي تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ مَنِ الْمَزِيَّةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْ إيتَاء الْكتاب المماثل لِلْقُرْآنِ وَمَا عَقِبَ ذَلِكَ. وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَصْرٌ لَهُ مَيْزَةٌ خَاصَّةٌ مثل عصر دَاوُود وَسُلَيْمَانَ إِذْ تَطَوَّرَ أَمْرُ جَامِعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ كَوْنِهَا مَسُوسَةً بِالْأَنْبِيَاءِ مِنْ عَهْدِ يُوشَعَ بْنِ نُونَ. ثُمَّ بِمَا طَرَأَ عَلَيْهَا مِنَ الْفَوْضَى مِنْ بَعْدِ مَوْتِ (شَمْشُونَ) إِلَى قِيَامِ (شاول) حميّ دَاوُود إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا قَاصِرًا على قيادة الْجنَّة
الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ مُشَاهَدِينَ فَلَيْسَتْ دَلَائِلُ الْحُدُوثِ بَادِيَةً عَلَيْهِمْ كَالْأَصْنَامِ، وَلِأَنَّ الَّذِينَ زَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ أَقْرَبُ لِلتَّمْوِيهِ مِنَ الَّذِينَ زَعَمُوا الْحِجَارَة شُرَكَاء الله، وَقد أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٦] الْآيَةَ.
وَ (إِذَنْ) حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ قَبْلَهَا مَلْفُوظٍ أَوْ مُقَدَّرٍ. وَالْكَلَامُ الْمُجَابُ هُنَا هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ فَالْجَوَابُ ضِدُّ ذَلِكَ النَّفْيِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الضِّدُّ أَمْرًا مُسْتَحِيلَ الْوُقُوعِ تَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ شَرْطٌ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالْحَرْفُ الْمُعَدُّ
لِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ (لَوْ) الِامْتِنَاعِيَّةُ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ.
وَبَقَاءُ اللَّامِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ الْوَاقِعِ بَعْدَ (إِذَنْ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْطُ (لَوْ) لِأَنَّ اللَّامَ تَلْزَمُ جَوَابَ (لَوْ) وَلِأَنَّ غَالِبَ مَوَاقِعِ (إِذَنْ) أَنْ تَكُونَ جَوَابَ (لَوْ) فَلِذَلِكَ جَازَ حَذْفُ الشَّرْطِ هُنَا لِظُهُورِ تَقْدِيرِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٤٠].
فَقَوْلُهُ: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَتَّخِذَ اللَّهُ وَلَدًا لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا بَعْدَهُ مُغْنٍ عَنْهُ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ أَعَمُّ مِنْهُ وَانْتِفَاءُ الْأَعَمِّ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْأَخَصِّ فَإِنَّهُ لَو كَانَ الله وَلَدٌ لَكَانَ الْأَوْلَادُ آلِهَةً لِأَنَّ وَلَدَ كُلِّ مَوْجُودٍ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ عَلَى مِثْلِ مَاهِيَّةِ أَصْلِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: ٨١] أَيْ لَهُ.
وَالذِّهَابُ فِي قَوْلِهِ لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِقْلَالِ بِالْمَذْهُوبِ بِهِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِيهِ. وَبَيَانُ انْتِظَامِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الله ءالهة لَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْآلِهَةُ سَوَاءً فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَتِلْكَ الصِّفَاتُ كَمَالَاتٌ
إِذْ لَا مَعْنَى لِلْجَزَاءِ هَاهُنَا اه. فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِ فَعَلْتُها مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا لِدَلَالَةِ الْعَامِلِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَعَلْتُهَا زَمَنًا فَعَلْتُهَا، فَتَذْكِيرِي بِهَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ لَا جَدْوَى لَهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ فِي إِذاً فِي الْآيَةِ هُوَ مُخْتَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ (١) وَالرَّضِيِّ فِي «شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ» وَالدَّمَامِينِيِّ فِي «الْمَزْجِ عَلَى الْمُغْنِي»، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَزْوِينِيِّ فِي «الْكَشْفِ عَلَى الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يَخْتَارُهُ.
وَمَعْنَى الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَعَلْتُها إِذاً أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشُّعَرَاء: ١٩] قصد بِهِ إِفْحَامُ مُوسَى وَتَهْدِيدُهُ، فَجَعَلَ مُوسَى الِاعْتِرَافَ بِالْفَعْلَةِ جَزَاءً لِذَلِكَ التَّهْدِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ لَا أَتَهَيَّبُ مَا أَرَدْتَ.
وَجَعَلَ مُوسَى نَفْسَهُ مِنَ الضَّالِّينَ إِنْ كَانَ مُرَادُ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَتِ الْآيَةُ مَعْنَاهُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورَ لِلضَّلَالِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ ضَلَالُ الْفَسَادِ فَيَكُونُ مُرَادُهُ: أَنَّ سَوْرَةَ الْغَضَبِ أَغْفَلَتْهُ عَنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرِيعَةٌ (فَإِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ شَرَائِعُ الْبَشَرِ وَتَوَارَثُوهُ فِي الْفِتَرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: ١٦] ) وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مَعْنَى ضَلَالِ الطَّرِيقِ، أَيْ كُنْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالْحَقِّ لِعَدَمِ وُجُودِ شَرِيعَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْجَهَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: ٧] فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَجَوَابُ مُوسَى فِيهِ اعْتِرَافٌ بِظَاهِرِ التَّقْرِيرِ وَإِبْطَالٌ لِمَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنْ جَعْلِهِ حُجَّةً لِتَكْذِيبِهِ بِرِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩] بِقَوْلِهِ: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ إِبْطَالًا لِأَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا أَهَمَّ بِالْإِبْطَالِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ فَكَانَ فِرَارِي قَدْ عَقِبَهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيَّ فَأَصْلَحَ حَالِي وَعَلَّمَنِي وَهَدَانِي وَأَرْسَلَنِي. فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى مُجَرَّدَ إِطْنَابٍ بَلْ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ ابْنُ يَوْمِهِ لَا ابْنُ أَمْسِهِ، وَالْأَحْوَالُ بِأَوَاخِرِهَا فَلَا عَجَبَ فِيمَا قَصَدْتُ فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ.
_________
(١) إِذْ قَالَ: «وَقَوله: إِذاً صلَة فِي الْكَلَام وَكَأَنَّهَا بِمَعْنى حِينَئِذٍ» يُرِيد أَن (إِذن) تَأْكِيد دَالَّة على الزَّمَان وَقد اسْتُفِيدَ الزَّمَان من قَوْله: فَعَلْتُها أَي يَوْمئِذٍ. [.....]
اسْتَقَامَ مَحْمَلُ إِحْدَاهَا إِلَّا وَنَاكَدَهُ مَحْمَلُ أُخْرَى. وَهِيَ أَلْفَاظُ: جَنَاحٍ، وَرَهَبٍ، وَحَرْفِ مِنَ. فَسَلَكُوا طَرَائِقَ لَا تُوَصِّلُ إِلَى مُسْتَقَرٍّ. وَقَدِ اسْتُوعِبَتْ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَإِنَّ قَوْلَهُ مِنَ الرَّهْبِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلَّى مُدْبِراً عَلَى أَنَّ مِنَ حَرْفٌ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَدْبَرَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ إِذْ لَا دَاعِيَ لِتَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ مَا زَعَمُوهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ فِعْلِ وَلَّى وَبَيْنَ مِنَ الرَّهْبِ.
وَقِيلَ الْجَنَاحُ: الْيَدُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنِ الْيَدِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِمَّا إِلَى تَكْرِيرِ مُفَادِ قَوْلِهِ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ وَحَرْفُ الْعَطْفِ مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ التَّأْكِيدِ. وَادِّعَاءُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» بَعِيدٌ، أَوْ يُؤَوَّلُ بِأَنْ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الصَّدْرِ يُذْهِبُ الْخَوْفَ كَمَا عُزِيَ إِلَى الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِلَى مُجَاهِدٍ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ. وَهَذَا مَيْلٌ إِلَى أَنَّ الْجَنَاحَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَادٌ بِهِ يَدُ الْإِنْسَانِ. وَلِلْجَنَاحِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازَاتٌ بَيْنَ مُرْسَلٍ وَاسْتِعَارَةٍ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فِي تَصَارِيفِ مَعَانِيهِ وَلَيْسَ وُرُودُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنًى بِقَاضٍ بِحَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى حَيْثُمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ.
وَلِذَا فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الطَّائِرِ إِذا سكن عَن الطيران أَو عَن الدفاع جعل كِنَايَة عَن سُكُون اضْطِرَاب الْخَوْف. وَيكون من هُنَا للبدلية، أَي اسكن سُكُون الطَّائِر بَدَلًا مِنْ أَنْ تَطِيرَ خَوْفًا. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ قِيلَ: وَأَصْلُهُ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. والرَّهْبِ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ الْخَوْفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الْأَنْبِيَاء: ٩٠].
وَالْمَعْنَى: انْكَفِفْ عَنِ التَّخَوُّفِ مِنْ أَمْرِ الرِّسَالَةِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الْقَصَص: ٣٣] فَقَوْلُهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [الْقَصَص: ٣٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرَّهْبِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَهِيَ لُغَاتٌ فَصِيحَةٌ.
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٤٢]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢)لَمَّا وَعَظَهُمْ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ فَسَادِ الْأَحْوَالِ وَنَبَّهَهُمْ إِلَى أَنَّهَا بَعْضُ الْجَزَاءِ عَلَى مَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ عَرَضَ لَهُمْ بِالْإِنْذَارِ بِفَسَادٍ أَعَظَمَ قَدْ يَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُهُ وَهُوَ مَا أَصَابَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِسَبَبِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ نَظِيرِ حَالِ هَؤُلَاءِ فِي الْإِشْرَاكِ فَأَمَرَهُمْ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَالنَّظَرِ فِي مَصِيرِ الْأُمَمِ الَّتِي أَشْرَكَتْ وَكَذَّبَتْ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدِ اجْتَازُوا فِي أَسْفَارِهِمْ بِدِيَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: ١٣٧- ١٣٨]. فَهَذَا تَكْرِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ السَّابِقِ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرّوم: ٩]، وَإِنَّمَا أُعِيدَ اهْتِمَامًا بِهَذِهِ الْعِبْرَةِ مَعَ مُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الرّوم: ٤١].
وَالْعَاقِبَةُ: نِهَايَةُ الْأَمْرِ. وَالْمرَاد بِالْعَاقِبَةِ الْجِنْسُ، وَهُوَ مُتَعَدِّدُ الْأَفْرَادِ بِتَعَدُّدِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ عَاقِبَةٌ.
وَجُمْلَةُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، أَيْ سَبَبُ تِلْكَ الْعَاقِبَةِ الْمَنْظُورَةِ هُوَ إِشْرَاكُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ، أَيْ أَنَّ أَكْثَرَ تِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي شُوهِدَتْ عَاقِبَتُهَا الْفَظِيعَةُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ سَبَبَ حُلُولِ تِلْكَ الْعَاقِبَةِ بِهِمْ هُوَ شِرْكُهُمْ، وَبَعْضُ تِلْكَ الْأُمَمِ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا أَصَابَهُمْ لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلِهِمْ مِثْلَ أَهْلِ مَدْيَنَ قَالَ تَعَالَى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: ٤٣].
[٤٣]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٤٣]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣)
تَفَرَّعَ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عَوَاقِبِ الشِّرْكِ تَثْبِيتُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
قَرِيباً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ الْكَوْنِ وَلَكِنَّهُ ظَرْفٌ لَهُ وَهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ فِعْلَ الْكَوْنِ تَامٌّ وَأَنَّ قَرِيباً ظَرْفُ زَمَانٍ لِوُقُوعِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: تَقَعُ فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ، فَيَلْزَمُ لَفْظَ (قَرِيبٍ) الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ عَلَى نِيَّةِ زَمَانٍ أَوْ وَقْتٍ، وَقَدْ يكون ظرف مَكَان كَمَا وَرَدَ فِي ضِدِّهِ وَهُوَ لَفْظٌ (بَعِيدٌ) فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ تُمْسِ ابْنَةُ السَّهْمِيِّ مِنَّا | بَعِيدًا لَا تُكَلِّمُنَا كَلَامًا |
وَيَقْتَرِنُ (قَرِيبٌ) وَ (بَعِيدٌ) بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعَلَامَاتِ الْفَرْعِيَّةِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّوْصِيفِ. وَكُلُّ هَذِهِ اعْتِبَارَاتٌ مِنْ تَوَسُّعِهِمْ فِي الْكَلَامِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الْأَعْرَافِ فَضُمَّهُ إِلَى مَا هُنَا.
[٦٤، ٦٥]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : الْآيَات ٦٤ إِلَى ٦٥]
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥)
هَذَا حَظُّ الْكَافِرِينَ مِنْ وَعِيدِ السَّاعَةِ، وَهَذِهِ لَعْنَةُ الْآخِرَةِ قُفِّيَتْ بِهَا لَعْنَةُ الدُّنْيَا فِي قَوْله: مَلْعُونِينَ [الْأَحْزَاب: ٦١]، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهَا وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً فَكَانَتْ لَعْنَةُ الدُّنْيَا مُقْتَرِنَةً بِالْأَخْذِ وَالتَّقْتِيلِ وَلَعْنَةُ الْآخِرَةِ مُقْتَرِنَةً بِالسَّعِيرِ.
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ جُمْلَةَ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الْأَحْزَاب: ٦٠- ٦٢] تُثِيرُ فِي نفوس السامعين التساؤل عَنِ الِاقْتِصَارِ عَلَى لَعْنِهِمْ وَتَقْتِيلِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَلْ ذَلِكَ مُنْتَهَى مَا عُوقِبُوا بِهِ أَوْ لَهُمْ مِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ؟ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ إِلَخْ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ.
وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ أَوْ مَنْظُورٍ بِهِ إِلَى السَّامِعِينَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكافِرِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا شَاقُّوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآذَوْهُ وَأَرْجَفُوا فِي الْمَدِينَةِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ نَاصَرَهُمْ مِنَ
وَهُوَ نَكِرَةٌ بَعْدَ لَا النَّافِيَةِ أَفَادَ انْتِفَاءَ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ أَصْلِهِ، وَوَجَبَ رَفْعُهُ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرْفِ النَّفْيِ بِالْخَبَرِ.
وَجُمْلَةُ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا فِيها غَوْلٌ.
وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ عَلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، وَالْمُسْنَدُ فِعْلٌ لِيُفِيدَ التَّقْدِيمُ تَخْصِيصَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، أَيْ بِخِلَافِ شَارِبِي الْخَمْرِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا.
ويُنْزَفُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يُقَالُ: نُزِفَ الشَّارِبُ، بِالْبِنَاءِ
لِلْمَجْهُولِ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا (وَلَا يُبْنَى لِلْمَعْلُومِ) فَهُوَ مَنْزُوفٌ وَنَزِيفٌ، شَبَّهُوا عَقْلَ الشَّارِبِ بِالدَّمِ يُقَالُ: نُزِفَ دَمُ الْجَرِيحِ، أَيْ أُفْرِغَ. وَأَصْلُهُ مِنْ: نَزَفَ الرَّجُلُ مَاءَ الْبِئْرِ مُتَعَدِّيًا، إِذَا نَزَحَهُ وَلَمْ يبْق مِنْهُ شَيْئا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يُنْزَفُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أُنْزِفَ الشَّارِبُ، إِذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ، أَيْ صَارَ ذَا نَزْفٍ، فَالْهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ.
وقاصِراتُ الطَّرْفِ أَيْ حَابِسَاتُ أَنْظَارِهِنَّ حَيَاءً وَغُنْجًا. وَالطَّرَفُ: الْعَيْنُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ لَا جَمْعَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الطَّرَفِ مَصْدَرُ: طَرَفَ بِعَيْنِهِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، إِذَا حَرَّكَ جَفْنَيْهِ، فَسُمِّيَتِ الْعَيْنُ طَرْفًا، فَالطَّرْفُ هُنَا الْأَعْيُنُ، أَيْ قَاصِرَاتُ الْأَعْيُنِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٤٣]، وَقَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٤٠].
وَذُكِرَ «عِنْدَ» لِإِفَادَةِ أَنَّهُنَّ مُلَابِسَاتٌ لَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمُ الَّتِي تُدَارُ عَلَيْهِمْ فِيهَا كَأْسُ الْجَنَّةِ، وَكَانَ حُضُورُ الْجَوَارِي مَجَالِسَ الشَّرَابِ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْأُنْسِ وَالطَّرَبِ عِنْدَ سَادَةِ الْعَرَبِ، قَالَ طَرْفَةُ:
نَدَامَايَ بِيضٌ كَالنُّجُومِ وَقَيْنَةٌ | تَرُوحُ عَلَيْنَا بَيْنَ بَرْدٍ وَمِجْسَدِ |
وَالْبَيْضُ الْمَكْنُونُ: هُوَ بَيْضُ النَّعَامِ، وَالنَّعَامُ يُكِنُّ بَيْضَهُ فِي حُفَرٍ فِي الرَّمْلِ وَيَفْرِشُ لَهَا مِنْ دَقِيقِ رِيشِهِ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْحُفَرُ: الْأُدَاحِيَّ، وَاحِدَتُهَا أُدْحِيَّةٌ بِوَزْنِ أُثْفِيَّةٍ. فَيَكُونُ الْبَيْضُ شَدِيدَ لَمَعَانِ اللَّوْنِ وَهُوَ أَبْيَضُ مَشُوبٌ بَيَاضُهُ بِصُفْرَةٍ
مِنْهُمْ وَالْمَعْنَى: إِذْ قُلُوبُ الَّذِينَ تُنْذِرُهُمْ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا قُلُوبُ الصَّالِحِينَ يَوْمَئِذٍ فَمُطْمَئِنَّةٌ.
وَالْقُلُوبُ: الْبَضْعَاتُ الصُّنُوبَرِيَّةُ الَّتِي تَتَحَرَّكُ حَرَكَةً مُسْتَمِرَّةً مَا دَامَ الْجِسْمُ حَيًّا فَتَدْفَعُ الدَّمَ إِلَيَّ الشَّرَايِينِ الَّتِي بِهَا حَيَاةُ الْجِسْمِ.
وَالْحَنَاجِرُ: جَمْعُ حَنْجَرَةٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ الْحُلْقُومُ. وَمَعْنَى الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ: أَنَّ الْقُلُوبَ يَشْتَدُّ اضْطِرَابُ حَرَكَتِهَا مِنْ فَرْطِ الْجزع مِمَّا يُشَاهِدهُ أَهْلُهَا مِنْ بَوَارِقِ الْأَهْوَالِ حَتَّى تَتَجَاوَزَ الْقُلُوبُ مَوَاضِعَهَا صَاعِدَةً إِلَى الْحَنَاجِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ يَوْمِ الْأَحْزَابِ: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَاب: ١٠].
وَكَاظِمٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَظَمَ كُظُومًا، إِذَا احْتَبَسَ نَفَسُهُ (بِفَتْحِ الْفَاءِ). فَمَعْنَى كاظِمِينَ: اكنين لَا يَسْتَطِيعُونَ كَلَامًا. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يُقَدَّرُ لِ كاظِمِينَ مَفْعُولٌ لِأَنَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ. وَيُقَالُ: كَظَمَ كَظْمًا، إِذا سدّ شَيْئا مَجْرَى مَاءٍ أَوْ بَابًا أَوْ طَرِيقًا فَهُوَ كَاظِمٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَفْعُولُ مُقَدَّرًا. وَالتَّقْدِيرُ: كَاظِمِينَهَا، أَيْ كَاظِمِينَ حَنَاجِرَهُمْ إِشْفَاقًا مِنْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا قُلُوبُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الِاضْطِرَابِ. وَانْتَصَبَ كاظِمِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: أَنْذِرْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَالَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ بِإِسْنَادِ الْكَاظِمِ إِلَى الْقُلُوبِ وَإِنَّمَا الْكَاظِمُ أَصْحَابُ الْقُلُوبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ [الْبَقَرَة: ٧٩] وَإِنَّمَا الْكَاتِبُونَ هُمْ بِأَيْدِيهِمْ.
وَجُمْلَةُ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَسْتَشْرِفُوا إِلَى شَفَاعَةِ مَنِ اتَّخَذُوهُمْ
لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَلْفَوْنَ صَدِيقًا وَلَا شَفِيعًا. وَالْحَمِيمُ: الْمُحِبُّ الْمُشْفِقُ.
والتعريف فِي لِلظَّالِمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِيَعُمَّ كُلَّ ظَالِمٍ، أَيْ مُشْرِكٍ فَيَشْمَلُ الظَّالِمِينَ الْمُنْذَرِينَ، وَمَنْ مَضَى مِنْ أَمْثَالِهِمْ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ وَلِذَلِكَ فَلَيْسَ ذِكْرُ الظَّالِمِينَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
مُؤْمِنُونَ، فَالِانْتِصَارُ لِأَنْفُسِهِمْ رَادِعٌ لِلْبَاغِينَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي الْبَغْيِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ، وَذَلِكَ الرَّدْعُ عَوْنٌ عَلَى انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، إِذْ يَقْطَعُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُخَالِجَ نُفُوسَ الرَّاغِبِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ هَوَاجِسِ خَوْفِهِمْ مِنْ أَنْ يُبْغَى عَلَيْهِمْ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ بَيْنَ قَوْلِهِ هُنَا وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ آنِفًا وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: ٣٧] تَعَارَضٌ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا وَكَانُوا إِذَا قَدَرُوا عَفَوْا.
وَأَدْخَلَ ضَمِيرَ الْفَصْلِ بَقَوْلِهِ: هُمْ يَنْتَصِرُونَ الَّذِي فَصَلَ بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَبَيْنَ خَبَرِهِ
لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْخَبَرِ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَدَّدُوا فِي الِانْتِصَارِ لِأَنْفُسِهِمْ.
وَأُوثِرَ الْخَبَرُ الْفِعْلِيُّ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: مُنْتَصِرُونَ، لِإِفَادَةِ مَعْنَى تَجَدُّدِ الِانْتِصَارِ كُلَّمَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ.
وَأَمَّا مَجِيءُ الْفِعْلِ مُضَارِعًا فَلِأَنَّ الْمُضَارِعَ هُوَ الَّذِي يَجِيءُ مَعَهُ ضمير الْفَصْل.
[٤٠]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٤٠]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)
هَذِهِ جُمَلٌ ثَلَاثٌ مُعْتَرِضَةٌ الْوَاحِدَةُ تِلْوَ الْأُخْرَى بَيْنَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ [الشورى: ٣٩] إِلَخْ وَجُمْلَةِ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ [الشورى: ٤١]. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ تَحْدِيدُ الِانْتِصَارِ وَالتَّرْغِيبُ فِي الْعَفْوِ ثُمَّ ذَمُّ الظُّلْمِ وَالِاعْتِدَاءِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الْإِذْنِ فِي الِانْتِصَارِ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ إِلَى تَحْدِيدِ إِجْرَائِهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ عَلَى جُمْلَةِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها إِذْ سُمِّيَ تَرْكُ الِانْتِصَارِ عَفْوًا وَإِصْلَاحًا وَلَا عَفْوَ وَلَا إِصْلَاحَ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ.
وَبِقَرِينَةِ الْوَعْدِ بِأَجْرٍ مِنَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَفْوِ وَلَا يَكُونُ عَلَى الْإِصْلَاحِ مَعَ أَهْلِ الشِّرْكِ أَجْرٌ.
وَالْأَقْفَالُ: جَمْعُ قُفْلٍ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شُبِّهَتِ الْقُلُوبُ، أَيِ الْعُقُولُ فِي عَدَمِ إِدْرَاكِهَا الْمَعَانِيَ بِالْأَبْوَابِ أَوِ الصَّنَادِيقِ الْمُغْلَقَةِ، وَالْأَقْفَالُ تَخْيِيلٌ كَالْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا | أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ |
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضهَا | أَو يتَعَلَّق بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا |
وَإِضَافَةُ (أَقْفَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ قُلُوبٍ نَظْمٌ بَدِيعٌ أَشَارَ إِلَى اخْتِصَاصِ الْأَقْفَالِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ، أَيْ مُلَازَمَتِهَا لَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا قاسية.
[٢٥]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥)
لَمْ يَزَلِ الْكَلَامُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَالَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مُنَافِقُونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَقًّا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضُعَفَاءَ الْإِيمَانِ قَلِيلِي الِاطْمِئْنَانِ وَهُمُ الَّذِينَ مَثَّلَهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧] بِقَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ الْآيَةَ.
فَالْمُرَاد ب لِمَنْ يَشاءُ مَنْ يَشَاؤُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، أَيْ فَإِذَا أَذِنَ لِأَحَدِهِمْ قُبِلَتْ شَفَاعَتُهُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ هِيَ اللَّامُ الَّتِي تَدْخُلُ بَعْدَ مَادَّةِ الشَّفَاعَةِ عَلَى الْمَشْفُوعِ لَهُ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِشَفَاعَتِهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، وَلَيْسَتِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِ يَأْذَنَ اللَّهُ. وَمَفْعُولُ يَأْذَنَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْ يَأْذَنَهُمُ اللَّهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لتعدية يَأْذَنَ إِذا أُرِيدُ بِهِ مَعْنَى يَسْتَمِعُ، أَيْ أَنْ يُظْهِرَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْهُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَزَالُونَ يَتَقَرَّبُونَ بِطَلَبِ إِلْحَاقِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَرَاتِبِ الْعُلْيَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غَافِر: ٧] وَقَوْلُهُ:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٥] فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ دُعَاءٌ وَالشَّفَاعَةَ تَوَجُّهٌ أَعْلَى، فالملائكة يعلمُونَ إِذا أَرَادَ اللَّهُ اسْتِجَابَةَ دَعْوَتِهِمْ فِي بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ أُذِنَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَيَشْفَعَ فَتُقْبَلَ شَفَاعَتُهُ، فَهَذَا تَقْرِيبُ كَيْفِيَّةِ الشَّفَاعَةِ. وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ.
وَعُطِفَ وَيَرْضى عَلَى لِمَنْ يَشاءُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِذْنَ اللَّهِ بِالشَّفَاعَةِ يَجْرِي عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ إِذَا كَانَ الْمَشْفُوعُ لَهُ أَهْلًا لِأَنْ يُشْفَعَ لَهُ. وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ تَحْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي التَّعَرُّض لرضى اللَّهِ عَنْهُمْ لِيَكُونُوا أَهْلًا لِلْعَفْوِ عَمَّا فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ.
[٢٧، ٢٨]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : الْآيَات ٢٧ الى ٢٨]
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ.
اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَتَبَعًا لِمَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ جَعْلِ الْمُشْرِكِينَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بَنَاتٍ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى
[النَّجْم: ١٩- ٢١] ثُنِّيَ إِلَيْهِمْ عَنَانُ الرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ جَمْعًا بَيْنَ رَدِّ بَاطِلَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النَّجْم: ٢٨]، فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالتَّحْقِيرِ لِعَقَائِدِهِمْ إِذْ كَفَرُوا
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: نَسُوهُ لِاسْتِفْظَاعِ هَذَا النِّسْيَانِ فَعَلَّقَ باسم الله الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِمْ بِشِدَّةِ الْفِسْقِ حَتَّى كَأَنَّ فِسْقَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ بِفِسْقٍ فِي جَانِبِ فِسْقِهِمْ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّشْهِيرِ بِهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ.
وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ مِنَ الْمَكَانِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّيْءِ فَهُوَ صِفَةُ ذَمٍّ غَالِبًا لِأَنَّهُ مُفَارَقَةٌ لِلْمَكَانِ اللَّائِقِ بِالشَّيْءِ، وَمِنْهُ قِيلَ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا، فَالْفَاسِقُونَ هُمُ الْآتُونَ
بفواحش السَّيِّئَات ومساوئ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ الْإِبْهَامِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ:
فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ كَأَنَّ السَّامِعَ سَأَلَ: مَاذَا كَانَ إِثْرَ إِنْسَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنْفُسَهُمْ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ بَلَغُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ مُنْتَهَى الْفِسْقِ فِي الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا فِسْقَ بعد فسقهم.
[٢٠]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ٢٠]
لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الْحَشْر: ١٨] إِلَخْ. لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ عَاقِبَةِ الْحَالَيْنِ: حَالِ التَّقْوَى وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ، وَحَالِ نِسْيَانِ ذَلِكَ وَإِهْمَالِهِ، وَلِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ عَاقِبَةُ عَمَلِهِ. وَيَشْمَلُ الْفَرِيقَيْنِ وَأَمْثَالَهُمْ.
وَالْجُمْلَةُ أَيْضًا فَذْلَكَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَالِ الْمُتَّقِينَ وَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ وَنُسُّوا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بَعْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِلتَّعْرِيضِ بِذَلِكَ الْمُتَحَدَّثِ عَنهُ كَقَوْلِك عِنْد مَا تَرَى أَحَدًا يُؤْذِي النَّاسَ:
«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»
، فَمَعْنَى الْآيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَكَوْنِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ وَعْدًا لِلْمُتُّقِينَ وَوَعِيدًا لِلْفَاسِقِينَ.
فِي الْحَرْفِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْهُ فَصَارَ التَّعْظِيمُ وَالْاسْتِفْهَامُ مُتَلَازِمَيْنِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْاسْتِفْهَامَ إِنْكَارِيًّا، أَيْ لَا يَدْرِي أَحَدٌ كُنْهَ هَذَا الْأَمْرِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى كِلَا الْاعْتِبَارَيْنِ هُوَ التَّهْوِيلُ.
هَذَا السُّؤَالُ كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ هَلْ يُسَافِرُ فُلَانٌ.
وَمَا الثَّالِثَةُ عَلَّقَتْ فِعْلَ أَدْراكَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ.
وَكَافُ الْخِطَابِ فِيهِ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلِذَلِكَ لَا يَقْتَرِنُ بِضَمِيرِ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ أَوْ تَأْنِيثٍ إِذَا خُوطِبَ بِهِ غَيْرُ الْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ.
وَاسْتِعْمَالُ مَا أَدْراكَ غَيْرُ اسْتِعْمَالِ مَا يُدْرِيكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَاب: ٦٣] وَقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ فِي سُورَةِ الشُّورَى [١٧].
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَدْراكَ فَقَدْ أَدْرَاهُ وَكُلُّ
شَيْءٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ فَقَدْ طُوِيَ عَنْهُ». وَقَدْ رُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَن يحيى بَين سَلَّامٍ فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْمَرْوِيُّ فَإِنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ مَفْعُولَ مَا أَدْراكَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الْاسْتِفْهَامَ فِيهِ لِلتَّهْوِيلِ وَأَنَّ مَفْعُولَ مَا يُدْرِيكَ غَيْرُ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الْاسْتِفْهَامَ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَهُوَ فِي معنى نفي الدارية.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: كُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ وَما أَدْراكَ فَقَدْ عُقِّبَ بِبَيَانِهِ نَحْوُ وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: ١٠- ١١]، وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: ٢- ٣]، ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار: ١٨- ١٩]، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ [الحاقة: ٣- ٤]، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ تَفْسِيرَ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
وَلَمْ أَرَ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ وَفَّى هَذَا التَّرْكِيبَ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يذكرهُ أصلا.
[٤]
[سُورَة الحاقة (٦٩) : آيَة ٤]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)
إِنْ جَعَلْتَ قَوْلَهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ٣] نِهَايَةَ كَلَامٍ فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ:
وَبِذَلِكَ يَسْتَبِينُ أَنَّ مَا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى نَبِيئِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ وَحْيٌ لَهُ بِأَمْرٍ كَانَ مُغَيَّبًا عَنْهُ حِينَ أَقْبَلَ عَلَى دَعْوَةِ الْمُشْرِكِ وَأَرْجَأَ إِرْشَادَ الْمُؤْمِنِ. وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ حَالِهِمَا مَا يُؤْذِنُ بِبَاطِنِهِ وَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهَا غَيْبَ عِلْمِهِ إِلَّا لِإِظْهَارِ مَزِيَّةِ مُؤْمِنٍ رَاسِخِ الْإِيمَانِ وَتَسْجِيلِ كَفْرِ مُشْرِكٍ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْإِيمَانُ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَذْكِيرِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا علمه اللَّهُ مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَفْعِ شَأْنِهِمْ أَمَامَ الْمُشْرِكِينَ. فَمَنَاطُ الْمُعَاتَبَةِ هُوَ الْعُبُوسُ لِلْمُؤْمِنِ بِحَضْرَةِ الْمُشْرِكِ الَّذِي يَسْتَصْغِرُ أَمْثَالَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَمَا وَقَعَ فِي خِلَالِ هَذَا الْعِتَابِ مِنْ ذِكْرِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ إِنَّمَا هُوَ إِدْمَاجٌ لِأَنَّ فِي الْحَادِثَةِ فُرْصَةً مِنَ التَّنْوِيهِ بِسُمُوِّ مَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ لِانْطِوَاءِ قَلْبِهِ عَلَى أَشِعَةٍ تُؤَهِّلُهُ لِأَنْ يَسْتَنِيرَ بِهَا وَيُفِيضَهَا عَلَى غَيْرِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْمُعَاتَبَةِ وَالتَّعْلِيمِ، عَلَى سَنَنِ هَدْيِ الْقُرْآنِ فِي الْمُنَاسَبَاتِ.
[١١- ١٦]
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ١١ الى ١٦]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)
كَلَّا إِبْطَالٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ (كَلَّا) فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٧٩- ٨٢]، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ النَّبَأِ [٤، ٥]، وَهُوَ هُنَا إِبْطَالٌ لِمَا جَرَى فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ وَلَوْ بِالْمَفْهُومِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: ٣]. وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: ١].
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمِ يَنْصَرِفُ الْإِبْطَالُ إِلَى عَبَسَ وَتَوَلَّى خَاصَّةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: ٧] عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، أَيْ لَا تظن أَنَّك مسؤول عَنْ مُكَابَرَتِهِ وَعِنَادِهِ فَقَدْ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِتَبْلِيغِهِ.
إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (٥٠) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦).
اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ حَرْفِ الْإِبْطَالِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِتَابِ ثُمَّ مَا عَقِبَهُ مِنَ الْإِبْطَالِ يُثِيرُ فِي خَاطِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيْرَةَ فِي كَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ فِي دَعْوَةِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ إِذَا لَمْ يَتَفَرَّغْ لَهُمْ لِئَلَّا يَنْفِرُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ يُثِيرُ
الصفحة التالية