بِالِاسْتِعَانَةِ أَيْضًا مَعَ تَخْصِيصِكَ بِالْعِبَادَةِ.
وَالِاسْتِعَانَةُ طَلَبُ الْعَوْنِ. وَالْعَوْنُ وَالْإِعَانَةُ تَسْهِيلُ فِعْلِ شَيْءٍ يَشُقُّ وَيَعْسُرُ عَلَى الْمُسْتَعِينِ وَحْدَهُ، فَهِيَ تَحْصُلُ بِإِعْدَادِ طَرِيقِ تَحْصِيلِهِ مِنْ إِعَارَةِ آلَةٍ، أَوْ مُشَارَكَةٍ بِعَمَلِ الْبَدَنِ كَالْحَمْلِ وَالْقَوْدِ، أَوْ بِقَوْلٍ كَالْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، أَوْ بِرَأْيٍ كَالنَّصِيحَةِ. قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ: «وَخُلُقِيٌّ نِعْمَ الْعَوْنُ»، أَوْ بِمَالٍ كَدَفْعِ الْمَغْرَمِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْأَمْرُ بِعَسِيرٍ مِنْ جُهُودِ الْمُسْتَعِينِ وَالْمُعِينِ.
وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ فَهِيَ طَلَبُ الْمَعُونَةِ عَلَى مَا لَا قِبَلَ لِلْبَشَرِ بِالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَلَا قِبَلَ لِلْمُسْتَعِينِ بِتَحْصِيلِهِ بِمُفْرَدِهِ، وَلِذَلِكَ فَهِيَ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ الْمُسْتَعِينَ يَصْرِفُ مَقْدِرَتَهُ لِتَحْصِيلِ الْفِعْلِ وَيَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ الْعَوْنَ عَلَيْهِ بِتَيْسِيرِ مَا لَا قِبَلَ لِقُدْرَةِ الْمُسْتَعِينِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِمُفْرَدِهِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمَعُونَةُ شَرْعًا. وَقَدْ فَسَّرَهَا الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهَا هِيَ خَلْقُ مَا بِهِ تَمَامُ الْفِعْلِ أَوْ تَيْسِيرُهُ، فَتَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ضَرُورِيَّةٌ أَيْ مَا يَتَوَقَّفُ الْفِعْلُ عَلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا أَيْ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ تَوَفُّرِ مُتَعَلِّقِهَا وَهِيَ إِعْطَاءُ الِاقْتِدَارِ لِلْفَاعِلِ وَتَصَوُّرُهُ لِلْفِعْلِ وَحُصُولُ الْمَادَّةِ وَالْآلَةِ، وَمَجْمُوعُ هَاتِهِ الْأَرْبَعَةِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَبِهَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْمُسْتَطِيعِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي الْمَعُونَةُ غَيْرُ الضَّرُورِيَّةِ وَيَنْبَغِي أَنْ تُخَصَّ بِاسْمِ الْإِعَانَةِ وَهِيَ إِيجَادُ الْمُعِينِ مَا يَتَيَسَّرُ بِهِ الْفِعْلُ لِلْمُعَانِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِ وَيَقْرُبَ مِنْهُ كَإِعْدَادِ الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ. وَبِانْضِمَامِ هَذَا الْمَعْنَى لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْفِيقِ الْمُعَرَّفِ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ خَلْقُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَسَمَّى الرَّاغِبُ هَذَا الْقِسْمَ الثَّانِيَ بِالتَّوْفِيقِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ كَلَامِهِ وَبَيْنَ تَعْرِيفِهِمْ إِيَّاهُ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْمَعُونَةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَتَمَّ التَّوْفِيقُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُهِمَّةِ كُلِّهَا الَّتِي أَعْلَاهَا تَلَقِّي الدِّينِ وَكُلِّ مَا يَعْسُرُ عَلَى الْمَرْءِ تَذْلِيلُهُ مِنْ تَوَجُّهَاتِ النُّفُوسِ إِلَى الْخَيْرِ وَمَا يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ. وَقَرِينَةُ هَذَا الْمَقْصُودِ رَسْمُهُ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَوُقُوعُ تَخْصِيصِ الْإِعَانَةِ عَقِبَ التَّخْصِيصِ بِالْعِبَادَةِ. وَلِذَلِكَ حَذَفَ مُتَعَلِّقَ نَسْتَعِينُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُذْكَرَ مَجْرُورًا بِعَلَى، وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَذْفُ الْهَامُّ عُمُومَ الِاسْتِعَانَةِ الْمَقْصُورَةِ عَلَى الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ تَأَدُّبًا مَعَهُ تَعَالَى، وَمِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ وَأَسْبَابِهِ وَهِيَ الْمَعَارِفُ وَالْإِرْشَادَاتُ وَالشَّرَائِعُ وَأُصُولُ الْعُلُومِ فَكُلُّهَا مِنَ الْإِعَانَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَكُلُّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَنَا مَبَادِئَ الْعُلُومِ وَكَلَّفَنَا الشَّرَائِعَ وَلَقَّنَنَا النُّطْقَ، قَالَ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: ٨- ١٠]- فَالْأَوَّلُ إِيمَاءٌ إِلَى طَرِيقِ الْمَعَارِفِ وَأَصْلُهَا الْمَحْسُوسَاتُ وَأَعْلَاهَا الْمُبْصِرَاتُ، وَالثَّانِي إِيمَاءٌ إِلَى
وَقَدْ جِيءَ فِي الْغَايَةِ بِحَتَّى وَبِالتَّبَيُّنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ يَكُونُ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْفَجْرِ لِلنَّاظِرِ وَهُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ تَحْدِيدٌ لِنِهَايَةِ وَقْتِ الْإِفْطَارِ بِصَرِيحِ الْمَنْطُوقِ وَقَدْ عُلِمَ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ زَمَنِ الصَّوْمِ، إِذْ لَيْسَ فِي زَمَانِ رَمَضَانَ إِلَّا صَوْمٌ وَفِطْرٌ وَانْتِهَاءُ أَحَدِهِمَا مَبْدَأُ الْآخَرِ فَكَانَ قَوْلُهُ: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ بَيَانًا لِنِهَايَةِ وَقْتِ الصِّيَامِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا وَلَمْ يَقُلْ ثُمَّ صُومُوا لِأَنَّهُمْ صَائِمُونَ مِنْ قَبْلُ.
وإِلَى اللَّيْلِ غَايَةٌ اخْتِيرَ لَهَا (إِلَى) لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْجِيلِ الْفِطْرِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِأَن إِلَى لَا تَمْتَدُّ مَعَهَا الْغَايَةُ بِخِلَافِ حَتَّى، فَالْمُرَادُ هُنَا مُقَارَنَةُ إِتْمَامِ الصِّيَامِ بِاللَّيْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ثُمَّ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَهُوَ اهْتِمَامٌ بِتَعْيِينِ وَقْتِ الْإِفْطَارِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْبِشَارَةِ لَهُمْ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَبَّازُ السَّمَرْقَنْدِيُّ مِنْ قُدَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِثُمَّ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ تَأْخِيرِ النِّيَّةِ عَنِ الْفَجْرِ احْتِجَاجًا لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ النِّيَّة إِلَى الصحوة الْكُبْرَى. بِنَاءً عَلَى أَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي وَأَنَّ إِتْمَامَ الصِّيَامِ يَسْتَلْزِمُ ابْتِدَاءَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ بَعْدَ تَبْيِينِ الْخَيْطَيْنِ مِنَ الْفَجْرِ صُومُوا أَوْ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ فَيَنْتِجُ مَعْنَى صُومُوا بَعْدَ تَرَاخٍ عَنْ وَقْتِ الْفَجْرِ وَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالْمَصِيرِ إِلَى دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ الْخَفِيفَةِ غَفْلَةٌ عَنْ مَعْنَى التَّرَاخِي فِي عَطْفِ (ثُمَّ) لِلْجُمَلِ.
هَذَا، وَقَدْ رُوِيَتْ قِصَّةٌ فِي فَهْمِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِي نُزُولِهَا مُفَرَّقَةً،
فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عَمِدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي الْأَبْيَضُ مِنَ الْأَسْوَدِ فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ،
وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّكَ لِعَرِيضُ الْقَفَا، إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ».
وَرَوَيَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ نَزَلَتْ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْفَجْرِ فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ مِنَ الْفَجْرِ، فَيَظْهَرُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ مِثْلَ مَا عَمِلَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَدْ كَانَ عَمِلَهُ غَيْرُهُ مِنْ قَبْلِهِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَإِنَّ عَدِيًّا أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ سَنَةَ عَشْرٍ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ فُرِضَ
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْعَرْضِ تَشْوِيقًا مِنْ نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى تَلَقِّي مَا سَيُقَصُّ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الصَّفّ: ١٠] الْآيَةَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كثير، وَأَبُو عمر، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوَيْسٍ عَن يَعْقُوب: أأنبئكم بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَاوًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوب، وَخلف: بتَخْفِيف الْهَمْزَتَيْنِ.
وَجُمْلَةُ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَهِيَ الْمُنَبَّأُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مُتَعَلِّقًا بقوله: «خير» و «جنّات» مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ: أَيْ لَهُمْ، أَوْ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَقَدْ أُلْغِيَ مَا يُقَابِلُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا فِي ذِكْرِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ لَذَّةَ الْبَنِينَ وَلَذَّةَ الْمَالِ هُنَالِكَ مَفْقُودَةٌ، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ لَذَّةُ الْخَيْلِ وَالْأَنْعَامِ إِذْ لَا دَوَابَّ فِي الْجَنَّةِ، فَبَقِيَ مَا يُقَابِلُ النِّسَاءَ وَالْحَرْثَ، وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَالْأَزْوَاجُ، لِأَنَّ بِهِمَا تَمَامُ النَّعِيمِ وَالتَّأَنُّسِ، وَزِيدَ عَلَيْهِمَا رِضْوَانُ اللَّهِ الَّذِي حُرِمَهُ مَنْ جَعَلَ حَظَّهُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنِ الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى الْمُطَهَّرَةِ الْمُنَزَّهَةُ مِمَّا يَعْتَرِي نِسَاءَ الْبَشَرِ مِمَّا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ النُّفُوسُ، فَالطَّهَارَةُ هُنَا حِسِّيَّةٌ لَا مَعْنَوِيَّةٌ.
وَعَطَفَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا أَعَدَّ لِلَّذِينِ اتَّقَوْا عِنْدَ اللَّهِ: لِأَنَّ رِضْوَانَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ الْمَادِّيِّ لِأَنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ تَقْرِيبٌ رُوحَانِيٌّ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِضْوانٌ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَأَظْهَرَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ، دُونَ أَنْ يَقُولَ وَرِضْوَانٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ رَبِّهِمْ: لِمَا فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عَظَمَةِ ذَلِكَ الرِّضْوَانِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ الْوَعْدِ أَيْ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِالَّذِينَ اتَّقَوْا وَمَرَاتِبِ تَقْوَاهُمْ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ، وَلِتَضَمُّنِ بَصِيرٌ مَعْنَى عَلِيمٍ عُدِّيَ بِالْبَاءِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ لِقَصْدِ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ لِتَكُونَ كَالْمَثَلِ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ عَطْفُ بَيَانٍ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى وَبِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ. وَمَعْنَى الْقَوْلِ هُنَا الْكَلَامُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ فِي الْخَبَرِ، وَالْجَارِي عَلَى
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ ذَلِكَ بَلْ لَازَمَهُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ إِمَّا كِتَابَتُهُ فِي صَحَائِفِ آثَامِهِمْ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُكْتَبَ فِي صَحَائِفِ الْحَسَنَاتِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ وُجُودَ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ أَمْرٌ يَحْصُلُ فِيمَا بَعْدُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ مِنَ الْكِتَابَةِ عَدَمُ الصَّفْحِ عَنْهُ وَلَا الْعَفْوُ بَلْ سَيُثْبَتُ لَهُمْ وَيُجَازُونَ عَنْهُ فَتَكُونُ الْكِتَابَةُ كِنَايَةً عَنِ الْمُحَاسَبَةِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ وَعِيدًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَهْدِيدًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مِنْ (سَنَكْتُبُ) وَبِنَصْبِ اللَّامِ مِنْ (قَتْلَهُمُ) عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ (نَكْتُبُ) وَ (نَقُولُ) بِنُونٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ: سَيُكْتَبُ- بِيَاءِ الْغَائِبِ مَضْمُومَةً وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ لِأَنَّ فَاعِلَ الْكِتَابَةِ مَعْلُومٌ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِرَفْعِ اللَّامِ مِنْ (قَتْلُهُمُ) عَلَى أَنه نَائِب الْفَاعِل. (وَيَقُولُ) بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ.
وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ زِيَادَةٌ فِي مَذَمَّتِهِمْ بِذِكْرِ مَسَاوِي أَسْلَافِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ هُمْ غَيْرُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ بَلْ هُمْ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، فَذُكِرَ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةٌ قَدِيمَةٌ فِيهِمْ، وَهِيَ الِاجْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَاتِّحَادُ الضَّمَائِرِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُعَادِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي الْمَحَامِدِ وَالْمَذَامِّ الَّتِي تُنَاطُ بِالْقَبَائِلِ.
قَالَ الْحَجَّاجُ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ يَوْمِ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ يُخَاطِبُ أَهْلَ الْعِرَاقِ: أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ أَضْمَرْتُمُ الشَّرَّ وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يَوْمُ الزَّاوِيَةِ وَمَا يَوْمُ الزَّاوِيَةِ.. إِلَخْ، مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ مَاتَ وَمَنْ طَرَأَ بَعْدُ.
وَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عُطِفَ أَثَرُ الْكُتُبِ عَلَى الْكُتُبِ أَيْ سَيُجَازَوْنَ عَنْ ذَلِكَ بِدُونِ صَفْحٍ، وَنَقُولُ ذُوقُوا وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ بِأَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ.
وَالذَّوْقُ حَقِيقَتُهُ إِدْرَاكُ الطُّعُومِ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الْإِحْسَاسِ بِالْعَذَابِ فَعَلَاقَتُهُ الْإِطْلَاقُ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الذَّوْقَ فِي الْعُرْفِ يَسْتَتْبِعُ تَكَرُّرَ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ لِأَنَّ الذَّوْقَ يَتْبَعُهُ الْأَكْلُ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ «ذُوقُوا» اسْتِعَارَةً.
التَّأْوِيلُ هُوَ الْبَيِّنُ فِي مَحْمَلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَيَكُونُ ثُبُوتُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ بِدُونِ الْخَوْفِ وَقَصْرُ الصَّلَاةِ فِي الْحَضَرِ عِنْدَ الْخَوْفِ ثَابِتَيْنِ بِالسُّنَّةِ، وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ.
وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ خِفْتُمْ وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ. فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»
. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَحْمَلَ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عُمَرَ عَلَى فَهْمِهِ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقَصْرِ لِأَجْلِ الْخَوْفِ، فَكَانَ الْقَصْرُ لِأَجْلِ الْخَوْفِ رُخْصَةً لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ، وَقَوْلُهُ: لَهُ صَدَقَةٌ إِلَخْ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ لِغَيْرِ الْخَوْفِ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ، أَيْ تَخْفِيفٌ، وَهُوَ دُونَ الرُّخْصَةِ فَلَا تَرُدُّوا رُخْصَتَهُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا تَمَحَّلُوا بِهِ فِي تَأْوِيلِ الْقَيْدِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَتَقْتَصِرُ الْآيَةُ عَلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَيَسْتَغْنِي الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَائِلُونَ بِتَأْكِيدِ سُنَّةِ الْقَصْرِ مِثْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ، عَنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ بِمَا لَا يُلَائِمُ إِطْلَاقَ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِعَادَةً لِتَشْرِيعِ رُخْصَةِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ لِقَصْدِ التَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ:
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الْآيَاتِ.
أَمَّا قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْفِعْلِيَّةُ، وَاتَّبَعَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ إِلَّا عَائِشَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، حَتَّى بَالَغَ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ بَقِيَتْ عَلَى فَرْضِهَا، فَلَوْ صَلَّاهَا رُبَاعِيَّةً لَكَانَتْ زِيَادَةً فِي الصَّلَاةِ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ. وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ إِلَّا الْقَصْرُ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ. وَإِنَّمَا أَتَمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الصَّلَاةَ فِي الْحَجِّ خَشْيَةَ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْأَعْرَابُ أَنَّ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا رَكْعَتَانِ. غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ لِمُنَافَاتِهِ لِصِيَغِ الْوُجُوبِ. وَلَقَدْ أَجَادَ مَحَامِلَ الْأَدِلَّةِ.
وَأُخْبِرَ عَنِ الْكَافِرِينَ وَهُوَ جَمْعٌ بِقَوْلِهِ: عَدُوًّا وَهُوَ مُفْرَدٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ [النِّسَاء: ٩٢].
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: تُقْطَعُ يَدُهُ لِأَجْلِ أَخْذِ الْمَالِ، وَرِجْلُهُ لِلْإِخَافَةِ لِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْعُضْوُ الَّذِي بِهِ الْأَخْذُ، وَالرِّجْلَ هِيَ الْعُضْوُ الَّذِي بِهِ الْإِخَافَةُ، أَيِ الْمَشْيُ وَرَاءَ النَّاسِ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ.
وَالنَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ: الْإِبْعَادُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ وَطَنُهُ لِأَنَّ النَّفْيَ مَعْنَاهُ عَدَمُ الْوُجُودِ. وَالْمُرَادُ الْإِبْعَادُ، لِأَنَّهُ إِبْعَادٌ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ حَارَبُوهُمْ. يُقَالُ: نَفَوْا فُلَانًا، أَيْ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُوَ الْخَلِيعُ، وَقَالَ النّابغة:
ليهنىء لَكُمْ أَنْ قَدْ نَفَيْتُمْ بُيُوتَنَا أَيْ أَقْصَيْتُمُونَا عَنْ دِيَارِكُمْ. وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنًى لِلنَّفْيِ غَيْرَ هَذَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّفْيُ هُوَ السَّجْنُ. وَحَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ التَّفَادِي مِنْ دَفْعِ أَضْرَارِ الْمُحَارِبِ عَنْ قَوْمٍ كَانَ فِيهِمْ بِتَسْلِيطِ ضُرِّهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ. وَهُوَ نَظَرٌ يَحْمِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ النَّفْيَ يَحْصُلُ بِهِ دَفْعُ الضُّرِّ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا أُخْرِجَ أحد من وظنه ذُلَّ وَخُضِّدَتْ شَوْكَتُهُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعَيَّلِ وَذَلِكَ حَالٌ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْعَرَبِ فَإِنَّ لِلْمَرْءِ فِي بَلَدِهِ وَقَوْمِهِ مِنَ الْإِقْدَامِ مَا لَيْسَ لَهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ. عَلَى أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يُنْفَوْنَ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ مُنْحَازٍ إِلَى جِهَةٍ بِحَيْثُ يَكُونُ فِيهِ كَالْمَحْصُورِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كَانَ النَّفْيُ قَدِيمًا إِلَى (دَهْلَكَ) وَإِلَى (بَاضِعَ) (١) وَهُمَا جَزِيرَتَانِ فِي بَحْرِ الْيَمَنِ.
_________
(١) دهلك- بِفَتْح الدّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَفتح اللَّام- جَزِيرَة بَين الْيمن والحبشة. وباضع- بموحّدة فِي أوّله وبكسر الضّاد الْمُعْجَمَة- جَزِيرَة فِي بَحر الْيمن.
(٢٨)
الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ الْوَاقِعِ بَعْدَهُ تَسْلِيَةً لَهُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الْأَنْعَام: ٢٦] فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ فَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الْأَنْعَام: ٢٦] ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِتَمْثِيلِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيَشْتَرِكُ مَعَ الرَّسُولِ فِي هَذَا الْخِطَابِ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْخَبَرَ.
ولَوْ شَرْطِيَّةٌ، أَيْ لَوْ تَرَى الْآنَ، وإِذْ ظَرْفِيَّةٌ، وَمَفْعُولُ تَرى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ وُقِفُوا، أَيْ لَوْ تَرَاهُمْ، ووُقِفُوا مَاضٍ لَفْظًا وَالْمَعْنَى بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، أَيْ إِذْ يُوقَفُونَ. وَجِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي خَبَرِهِ.
وَمَعْنَى: وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أُبْلِغُوا إِلَيْهَا بَعْدَ سَيْرٍ إِلَيْهَا، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِ عَلَى.
وَالِاسْتِعْلَاءُ الْمُسْتَفَادُ بِ عَلَى مَجَازِيٌّ مَعْنَاهُ قُوَّةُ الِاتِّصَالِ بِالْمَكَانِ، فَلَا تَدُلُّ (عَلَى) عَلَى أَنَّ وُقُوفَهُمْ عَلَى النَّارِ كَانَ مِنْ أَعْلَى النَّارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: ٣٠]، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: وَقَفْتُ رَاحِلَتِي عَلَى زَيْدٍ، أَيْ بَلَغْتُ إِلَيْهِ
فَحَبَسْتُ نَاقَتِي عَنِ السَّيْرِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِمَيَّةَ نَاقَتِي | فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ |
وَعَطَفَ عَلَيْهِ فَقالُوا بِالْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْقِيبِ، لِأَنَّ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْهَوْلِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ جَزَاءُ تَكْذِيبِهِمْ بِإِلْهَامٍ أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ أَوْ بِإِخْبَارِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، فَعَجِلُوا فَتَمَنَّوْا أَنْ يَرْجِعُوا.
وَحَرْفُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: يَا لَيْتَنا نُرَدُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ، لِأَنَّ النِّدَاءَ يَقْتَضِي بُعْدَ الْمُنَادَى، فَاسْتُعْمِلَ فِي التَّحَسُّرِ لِأَنَّ الْمُتَمَنَّى صَارَ بَعِيدًا عَنْهُمْ، أَيْ غَيْرَ مُفِيدٍ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٦].
وَمَعْنَى نُرَدُّ نَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ بَعْدَ (لَا) النَّافِيَةِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَطْفًا عَلَى نُرَدُّ، فَيَكُونُ
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها [الْأَنْعَام: ١٥٧] لِأَنَّهُ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: مَاذَا كَانُوا يَتَرَقَّبُونَ مِنَ الْآيَاتِ فَوْقَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ.
وهَلْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَهِيَ تَرِدُ لَهُ كَمَا تَرِدُ لَهُ الْهَمْزَةُ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بعده الِاسْتِثْنَاء.
ويَنْظُرُونَ مُضَارِعُ نَظَرَ بِمَعْنَى انْتَظَرَ، وَهُوَ مُشْتَرِكٌ مَعَ نَظَرَ بِمَعْنَى رَأَى فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَالْمَصْدَرِ، وَيُخَالِفهُ فِي التّعدية، فَفعل نظر الْعين متعدّ بإلى، وَفعل الِانْتِظَار متعدّ بِنَفسِهِ، وَيُخَالِفُهُ أَيْضًا فِي أَنَّ لَهُ اسْمَ مَصْدَرٍ وَهُوَ النَّظِرَةُ- بِكَسْرِ الظَّاءِ- وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي النَّظَرِ بِالْعَيْنِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنِ الْآيَاتِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ وَاقِعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ انْتِظَارُ آيَاتٍ، كَمَا يَقْتَرِحُونَ، فَمَعْنَى الْحَصْرِ:
أَنَّهُمْ مَا يَنْتَظِرُونَ بَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِهَا إِلَّا الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَسَأَلُوهَا وَشَرَطُوا أَنْ لَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يُجَاءُوا بِهَا، وَهِيَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً- إِلَى قَوْلِهِ- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٠- ٩٢]- وَقَوْلِهِ- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨] فَهُمْ يَنْتَظِرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ بِجِدٍّ مِنْ عَامَّتِهِمْ، فَالِانْتِظَارُ حَقِيقَةٌ، وَبِسُخْرِيَةٍ مِنْ قَادَتِهِمْ وَمُضَلِّلِيهِمْ، فَالِانْتِظَارُ مَجَازٌ بِالصُّورَةِ، لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَظْهَرِ الْمُنْتَظِرِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا [التَّوْبَة: ٦٤] الْآيَةَ.
وَالْمُرَادُ بِبَعْضِ آيَاتِ رَبِّكَ: مَا يَشْمَلُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٠- ٩٣]. وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ- إِلَى قَوْلِهِ- فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَنْعَام: ٨- ١٠] فَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَبِعَقَائِدِهِمْ.
الْمُرَادَ التَّذَكُّرُ الشَّامِلُ الَّذِي يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عِبْرَةً وَإِيمَانًا، وَالَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْلِعَ مِنَ الْمُشْرِكِ اعْتِقَادَ الشِّرْكِ وَمِنْ مُنْكِرِ الْبَعْثِ إِنْكَارَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ- بِتَشْدِيدِ الذَّالِ- عَلَى إِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ فِي الذَّالِ بَعْدَ قَلْبِهَا ذَالًا، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ تَذَكَّرُونَ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ.
[٥٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٥٨]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى [الْأَعْرَاف: ٥٧] وَبَيْنَ جُمْلَةِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الْأَعْرَاف: ٥٩] تَتَضَمَّنُ تَفْصِيلًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الْأَعْرَاف: ٥٧] إِذْ قَدْ بَيَّنَ فِيهَا اخْتِلَافَ حَالِ الْبَلَدِ الَّذِي يُصِيبُهُ مَاءُ السَّحَابِ، دَعَا إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ لَمَّا مُثِّلَ إِخْرَاجُ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ بِإِخْرَاجِ الْمَوْتَى مِنْهَا يَوْمَ الْبَعْثِ تَذْكِيرًا بِذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِبْطَالًا لِإِحَالَةِ الْبَعْثِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، مُثِّلَ هُنَا بِاخْتِلَافِ حَالِ إِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ اخْتِلَافُ حَالِ النَّاسِ الْأَحْيَاءِ فِي الِانْتِفَاعِ بِرَحْمَةِ هُدَى اللَّهِ، فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى [الْأَعْرَاف: ٥٧] وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ هَذَا بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ كَمَا ذُيِّلَ مَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: ٥٧].
وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى وَكَذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِرَحْمَةِ الْهَدْيِ مَنْ خُلِقَتْ فِطْرَتُهُ طَيِّبَةً قَابِلَةً لِلْهُدَى كَالْبَلَدِ الطَّيِّبِ يَنْتَفِعُ بِالْمَطَرِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْهُدَى مَنْ خُلِقَتْ فِطْرَتُهُ خَبِيثَةً كَالْأَرْضِ الْخَبِيثَةِ لَا تَنْتَفِعُ بِالْمَطَرِ فَلَا تُنْبِتُ نَبَاتًا نَافِعًا، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ التَّمْثِيلُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ تَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ بَعْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْمَسُوقَ لَهُ الْكَلَامُ
وَيُدْفَعُ بِهِ الضُّرُّ الْأَبَدِيُّ، لِأَنَّ آلَاتِ الْإِدْرَاكِ وَالْعِلْمِ خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي جَلْبِ أَفْضَلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ أَكْبَرِ الْمَضَارِّ، نُفِيَ عَنْهُمْ عَمَلُهَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَعُمُّ، مِثْلَ النَّكِرَةِ، فَهَذَا عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ غَيْرِ هَذَا، فَالنَّفْيُ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ بَعْضِ الْمَوْجُودِ بِالْمَعْدُومِ كُلِّهِ.
وَلَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْأَعْيُنِ عَلَى الْآذَانِ مُخَالَفَةٌ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ مِنْ تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ لتشريف السّمع يتلَقَّى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة: ٧] لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ هَذِهِ سَلَكَ طَرِيقَ التَّرَقِّي مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّ الْمُدْرَكَاتِ إِلَى آلَاتِ الْإِدْرَاكِ الْأَعْيُنِ ثُمَّ الْآذَانِ فَلِلْآذَانِ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى فِي الِارْتِقَاءِ.
وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ كَلَامٍ بِتَفْظِيعِ حَالِهِمْ فَجُعِلَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لِيَكُونَ أَدْعَى لِلسَّامِعِينَ. وَعُرِّفُوا بِالْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ بِسَبَبِهَا أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيُذْكَرُ مِنْ تْسَوِيَتِهِمْ بِالْأَنْعَامِ أَوْ جَعْلِهِمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَتَشْبِيهِهِمْ بِالْأَنْعَامِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعُقَلَاءُ فَكَأَنَّ قُلُوبَهُمْ وَأَعْيُنَهُمْ وَآذَانَهُمْ، قُلُوبُ الْأَنْعَامِ وَأَعْيُنُهَا وَآذَانُهَا، فِي أَنَّهَا لَا تَقِيسُ الْأَشْيَاءَ عَلَى أَمْثَالِهَا، وَلَا تنْتَفع بِبَعْض للدلائل الْعَقْلِيَّةِ فَلَا تَعْرِفُ كَثِيرًا مِمَّا يُفْضِي بِهَا إِلَى سُوءِ الْعَاقِبَةِ.
وَ (بَلْ) فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لِلِانْتِقَالِ وَالتَّرَقِّي فِي التَّشْبِيهِ فِي الضَّلَالِ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الشَّبَهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْله: كَالْأَنْعامِ يؤول إِلَى مَعْنَى الضَّلَالِ، كَانَ الِارْتِقَاءُ فِي التَّشْبِيهِ بِطَرِيقَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ فِي الضَّلَالِ.
وَوَجْهُ كَوْنِهِمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ: أَنَّ الْأَنْعَامَ لَا يَبْلُغُ بِهَا ضَلَالُهَا إِلَى إِيقَاعِهَا فِي مُهَاوِي الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ، لِأَنَّ لَهَا إِلْهَامًا تَتَفَصَّى بِهِ عَنِ الْمَهَالِكِ كَالتَّرَدِّي مِنَ الْجِبَالِ وَالسُّقُوطِ فِي الْهُوَّاتِ، هَذَا إِذَا حُمِلَ التَّفْضِيلُ فِي الضَّلَالِ عَلَى التَّفْضِيلِ فِي جِنْسِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى التَّفْضِيلِ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّلَالِ وَمُقَارَنَاتِهِ كَانَ وَجْهُهُ أَنَّ الْأَنْعَامَ قَدْ خُلِقَ إِدْرَاكُهَا مَحْدُودًا لَا يَتَجَاوَزُ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، فَنُقْصَانُ انْتِفَاعِهَا بِمَشَاعِرِهَا لَيْسَ عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْهَا، فَلَا تَكُونُ بِمَحِلِّ الْمَلَامَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الضَّلَالَة فَإِنَّهُم حجروا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُدْرَكَاتِهِمْ، بِتَقْصِيرٍ مِنْهُمْ وَإِعْرَاضٍ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ.
وَتَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَإِقَامَةِ الْحَجِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: ٩٧].
وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَوْقَاتِ وَالْبِقَاعِ يُشْبِهُ تَفْضِيلَ النَّاسِ، فَتَفْضِيلُ النَّاسِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَتَفْضِيلُ غَيْرِهِمْ مِمَّا لَا إِرَادَةَ لَهُ بِمَا يُقَارِنُهُ مِنَ الْفَضَائِلِ، الْوَاقِعَةِ فِيهِ، أَوِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ. فَتَفْضِيلُ الْأَوْقَاتِ وَالْبِقَاعِ إِنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَبَرٍ مِنْهُ، أَوْ بِإِطْلَاعٍ عَلَى مُرَادِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا فَضَّلَهَا جَعَلَهَا مَظَانَّ لِتَطَلُّبِ رِضَاهُ، مِثْلَ كَوْنِهَا مَظَانَّ إِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، أَوْ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: ٣] أَيْ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»
وَاللَّهُ الْعَلِيمُ
بِالْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا فُضِّلَ زَمَنٌ عَلَى زَمَنٍ، وَفُضِّلَ مَكَانٌ عَلَى مَكَانٍ وَالْأُمُورُ الْمَجْعُولَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ شؤون وَأَحْوَالٌ أَرَادَهَا اللَّهُ، فَقَدَّرَهَا، فَأَشْبَهَتِ الْأُمُورَ الْكَوْنِيَّةَ، فَلَا يُبْطِلُهَا إِلَّا إِبْطَالٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَبْطَلَ تَقْدِيسَ السَّبْتِ بِالْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَجْعَلُوا تَفْضِيلًا فِي أَوْقَاتٍ دِينِيَّةٍ: لِأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي يَجْعَلُهَا النَّاسُ تُشْبِهُ الْمَصْنُوعَاتِ الْيَدَوِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ إِلَّا إِذَا أُرِيدَتْ بِهَا مَقَاصِدُ صَالِحَةٌ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُغَيِّرُوا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْفَضْلِ لِأَزْمِنَةٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ أَوْ نَاسٍ.
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ: مِنْ عِدَّةِ الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَعِدَّةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. أَيْ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ هُوَ الدِّينُ الْكَامِلُ، وَمَا عَدَاهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنِ اعْتَرَاهُ التَّبْدِيلُ أَوِ التَّحَكُّمُ فِيهِ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ النَّاسِ بِمَعْرِفَتِهِ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي صِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ.
وَالدِّينُ: النِّظَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْخَالِقِ الَّذِي يُدَانُ النَّاسُ بِهِ، أَيْ يُعَامَلُونَ بِقَوَانِينِهِ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩]، كَمَا وُصِفَ
وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ إِبْهَامِ الْحَاصِلِ مِنَ الْحَالَيْنِ لِإِيقَاعِ النَّاسِ بَين الْخَوْف والرجاء وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءَ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُرَادُ بِ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ أُوعِدُوا بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ. فَالْمَعْنَى إِنْ وَقَعَ عَذَابُ الدُّنْيَا بِهِمْ فَرَأَيْتَهُ أَنْتَ أَوْ لَمْ يَقَعْ فَتَوَفَّاكَ اللَّهُ فَمَصِيرُهُمْ إِلَيْنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَمَضْمُونُ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ.
وَالْجُمْلَتَانِ مَعًا جُمْلَتَا شَرْطٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ.
وَلَمَّا جُعِلَ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ إِرْجَاعَهُمْ إِلَى اللَّهِ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ الْعِقَابِ الْآجِلِ، تَعَيَّنَ أَنَّ التَّقْسِيمَ الْوَاقِعَ فِي الشَّرْطِ تَرْدِيدٌ بَيْنَ حَالَتَيْنِ لَهُمَا مُنَاسَبَةٌ بِحَالَةِ تَحَقُّقِ الْإِرْجَاعِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، وَهُمَا حَالَةُ التَّعْجِيلِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَحَالَةُ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ إِلَى الْآخِرَة. وَأما إراءة الرَّسُولِ تَعْذِيبَهُمْ وَتُوَفِّيهِ بِدُونِ إِرَائَتِهِ فَلَا مُنَاسَبَةَ لَهُمَا بِالْإِرْجَاعِ إِلَى اللَّهِ عَلَى كِلْتَيْهِمَا إِلَّا بِاعْتِبَارِ مُقَارَنَةِ إِحْدَاهُمَا لِحَالَةِ التَّعْجِيلِ وَمُنَاسَبَةِ الْأُخْرَى لِحَالَةِ التَّأْخِيرِ.
وَإِنَّمَا كُنِّيَ عَنِ التَّعْجِيلِ بِأَنْ يُرِيد اللَّهُ الرَّسُولَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ حَالَةَ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهَا إِلَّا الِانْتِصَافَ لِرَسُولِهِ بِأَنْ يُرِيَهُ عَذَابَ مُعَانَدِيهِ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ ضِدُّ التَّعْجِيلِ فَكُنِّيَ بِتَوَفِّيهِ عَنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ بَلْ عَنْ تَأْخِيرِهِ إِذْ كَانَتْ حِكْمَةُ التَّعْجِيلِ هِيَ الِانْتِصَافَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا جَعَلَ مَضْمُونَ جُمْلَةِ: نَتَوَفَّيَنَّكَ قَسِيمًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: نُرِيَنَّكَ تَعَيَّنَ أَنَّ إِرَاءَتَهُ مَا أُوعِدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ جَزَاءٌ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَذَاهُمْ لَهُ انْتِصَارًا لَهُ حَتَّى يَكُونَ أَمْرُهُ جَارِيًا عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي الْمُرْسَلِينَ، كَمَا قَالَ نُوحٌ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما
كَذَّبُونِ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٢٦] وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ [يُونُس: ٤٧] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨]. وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِمَا لَقُوا مِنَ
وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «فِي الزَّوَايَا خَبَايَا وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا». فَمِنْ هُنَالِكَ أُطْلِقَتْ عَلَى الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ فِي صِفَاتِ النَّاسِ فَيُقَالُ: فِي فُلَانٍ بَقِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى هُنَا: أُولُو فَضْلٍ وَدِينٍ وَعِلْمٍ
بِالشَّرِيعَةِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الرُّسُلَ وَلَكِنْ أُرِيدَ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَحَمَلَةُ الشَّرَائِعِ يَنْهَوْنَ قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
وَالْفساد: الْمعاصِي وَاخْتِلَاف الْأَحْوَالِ، فَنَهْيُهُمْ يَرْدَعُهُمْ عَنِ الِاسْتِهْتَارِ فِي الْمَعَاصِي فَتَصْلُحُ أَحْوَالُهُمْ فَلَا يَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَهْنُ وَالِانْحِلَالُ كَمَا حَلَّ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ عَدِمُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ. وَفِي هَذَا تنويه بأصحاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَدعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَان حَتَّى آمَنَ كُلُّهُمْ، وَأُولُو بَقِيَّةٍ بَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ اخْتَلَطُوا بِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ وَيُعَلِّمُونَ الدِّينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: ١١٠].
وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْبِشَارَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُونَ كَذَلِك ممّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِكُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ «بِقْيَةٍ» - بِكَسْرِ الْبَاءِ- الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ- فَهِيَ لُغَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصْحَابُ كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَعَلَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْهَيْئَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَخَيُّلِ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ.
وإِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ أُولُوا بَقِيَّةٍ وَهُوَ يَسْتَتْبِعُ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْقُرُونِ إِذِ الْقُرُونُ الَّذِينَ فِيهِمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي حُكْمِ الْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْضِيضِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقُرُونِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ فَهْمِ الَّذِينَ يَنْعَى عَلَيْهِمْ فُقْدَانُ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْهُمْ. وَهَؤُلَاءِ الْقُرُونُ لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يُسْتَثْنَى إِذْ كُلُّهُمْ غَيْرُ نَاجِينَ مِنْ عَوَاقِبِ الْفَسَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْنَى التَّحْضِيضِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرُونِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَدِمُوا أُولِي بَقِيَّةٍ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْقُرُونِ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ كَانَ الْمُوَقَّعُ لِلِاسْتِدْرَاكِ
وَ (يَسْتَحِبُّونَ) بِمَعْنَى يُحِبُّونَ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ اسْتَقْدَمَ واستأخر. وَضُمِّنَ يَسْتَحِبُّونَ مَعْنَى يُؤْثِرُونَ، لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَعَدَّتْ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَقِبَ ذِكْرِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ لَهُمْ، فَأَنْبَأَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ خَيْرَ الدُّنْيَا دُونَ خَيْرِ الْآخِرَةِ إِذْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فِي شَقَاءٍ، فَنَشَأَ مِنْ هَذَا مَعْنَى الْإِيثَارِ، فَضَمَّنَهُ فَعُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ آخَرَ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ عَلَى فِي قَوْلِهِ:
عَلَى الْآخِرَةِ أَيْ يُؤْثِرُونَهَا عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٥]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٩]، فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ.
وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: مَنْعُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ. شَبَّهَ ذَلِكَ بِمَنْ
يَمْنَعُ الْمَارَّ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ. وَجُعِلَ الطَّرِيقُ طَرِيقَ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَى مَرْضَاتِهِ فَكَأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَيْهِ، أَوْ يَصُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا مَوَاهِبَهُمْ وَمَدَارِكَهُمْ مِنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُمْ صَدُّوهَا عَنِ السَّيْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَ السَّبِيلَ الْعَوْجَاءَ، فَعُلِمَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ مُسْتَقِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [سُورَة الْأَنْعَام:
١٥٣].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الضَّلَالِ بِسَبَبِ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَابْتِغَائِهِمْ سَبِيلَ الْبَاطِلِ، فَ أُولئِكَ فِي مَحَلِّ مُبْتَدَأٍ وفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ خَبَرٌ عَنْهُ. وَدَلَّ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَ مُحِيطٌ بِهِمْ فَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ.
وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ هُمُ الضَّالُّونَ، أَيْ ضَلَالًا بَعُدُوا بِهِ عَنِ الْحَقِّ فَأُسْنِدَ الْبُعْدُ إِلَى سَبَبِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَصْفُهُ بِالْبُعْدِ عَلَى تَشْبِيهِهِ بِالطَّرِيقِ الشَّاسِعَةِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ رُجُوعُ سَالِكِهَا، أَيْ ضَلَالٍ قَوِيٍّ يَعْسُرُ إِقْلَاعُ صَاحِبِهِ عَنْهُ. فَفِيهِ اسْتِبْعَادٌ
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْإِعْلَامِ بِازْدِيَادِ الْأُنْثَى بِفِعْلِ بُشِّرَ فِي مَوْضِعَيْنِ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِذِ ازْدِيَادُ الْمَوْلُودِ نِعْمَةٌ عَلَى الْوَالِدِ لِمَا يَتَرَقَّبُهُ مِنَ التَّأَنُّسِ بِهِ وَمِزَاحِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِخِدْمَتِهِ وَإِعَانَتِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ نَسْلِ الْقَبِيلَةِ الْمُوجِبِ عِزَّتَهَا، وَآصِرَةِ الصِّهْرِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ بِشَارَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالتَّعْبِيرُ بِهِ يُفِيدُ تَعْرِيضًا بِالتَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ يَعُدُّونَ الْبِشَارَةَ مُصِيبَةً وَذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِهِمُ الْحَقَائِقَ. وَالتَّعْرِيضُ مِنْ أَقْسَامِ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَةُ تُجَامِعُ الْحَقِيقَةَ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْأُنْثى لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْبِشَارَةِ وَعُلِّقَتْ بِذَاتِ الْأُنْثَى. وَالْمُرَادُ بِوِلَادَتِهَا، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ.
وَفِعْلُ ظَلَّ مِنْ أَفْعَالِ الْكَوْنِ أَخَوَاتِ كَانَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ فَاعِلِهَا بِحَالَةٍ لَازِمَةٍ فَلِذَلِكَ تَقْتَضِي فَاعِلًا مَرْفُوعًا يُدْعَى اسْمًا وَحَالًا لَازِمًا لَهُ مَنْصُوبًا يُدْعَى خَبَرًا لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ. وَسَمَّاهَا النُّحَاةُ لِذَلِكَ نَوَاسِخَ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِيمَا لَوْلَاهَا لَكَانَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَمَّا تَغَيَّرَ مَعَهَا حُكْمُ الْخَبَرِ سُمِّيَتْ نَاسِخَةً لِرَفْعِهِ، كَمَا سُمِّيَتْ (إِنَّ) وَأَخَوَاتُهَا وَ (ظَنَّ) وَأَخَوَاتُهَا كَذَلِكَ. وَهُوَ اصْطِلَاحٌ تَقْرِيبِيٌّ وَلَيْسَ بِرَشِيقٍ.
وَيُسْتَعْمَلُ ظَلَّ بِمَعْنَى صَارَ. وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي لَوْنِ وَجْهِ الْكَئِيبِ إِذْ تَرْهَقُهُ غَبَرَةٌ، فَشُبِّهَتْ بِالسَّوَادِ مُبَالَغَةً.
وَالْكَظِيمُ: الْغَضْبَانُ الْمَمْلُوءُ حَنَقًا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُوَ كَظِيمٌ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٨٤]، أَيْ أَصْبَحَ حَنِقًا عَلَى امْرَأَتِهِ. وَهَذَا مِنْ جَاهِلِيَّتِهِمُ الْجَهْلَاءِ وَظُلْمِهِمْ، إِذْ يُعَامِلُونَ الْمَرْأَةَ مُعَامَلَةَ مَنْ لَوْ كَانَتْ وِلَادَةُ الذُّكُور باختيارها، وَلماذَا لَا يَحْنَقُ عَلَى نَفْسِهِ إِذْ يُلَقِّحُ امْرَأَتَهُ بِأُنْثَى، قَالَتْ إِحْدَى نِسَائِهِمْ أَنْشَدَهُ الْأَصْمَعِيُّ تَذْكُرُ بَعْلَهَا وَقَدْ هَجَرَهَا لِأَنَّهَا تَلِدُ الْبَنَاتِ:
فَضْلِهَا وَبَرَكَتِهَا. وَأَيْضًا فَهِيَ يَحْضُرُهَا أَكْثَرُ الْمُصَلِّينَ لِأَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ النَّشَاطِ وَبَعْدَهَا يَنْتَظِرُ النَّاسُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لِيَخْرُجُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَيَكْثُرَ سَمَاعُ الْقُرْآن حِينَئِذٍ.
[٧٩]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٧٩]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)
عَطْفٌ عَلَى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] فَإِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ لِكَوْنِهِ مَعْمُولًا لفعل أَقِمِ [الْإِسْرَاء: ٧٨].
وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ الْمُتَعَلِّقُ بِ «تَهَجَّدْ» عَلَى مُتَعَلِّقِهِ اهْتِمَامًا بِهِ وَتَحْرِيضًا عَلَيْهِ. وَبِتَقْدِيمِهِ اكْتَسَبَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَجُعِلَ مُتَعَلِّقُهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَزَاءِ فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فَاءُ الْجَزَاءِ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فَصِيحٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: ٢٦]
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»
، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٧].
وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فِي مَعْنَى الْإِغْرَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَصْبَ
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] عَلَى الْإِغْرَاءِ فَيَكُونُ فَتَهَجَّدْ تَفْرِيعًا عَلَى الْإِغْرَاءِ تَفْرِيعَ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ، وَتَكُونُ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى (بَعْضٍ) كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ [النِّسَاء: ٤٦] وَهُوَ أَيْضًا حَسَنٌ.
وَضَمِيرُ بِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] وَإِنْ كَانَ الْمَعَادُ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ فِي الْفَجْرِ وَالْمَذْكُورُ هُنَا مُرَادًا مُطْلَقُهُ، كَقَوْلِكَ. عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ دِرْهَمٍ لَا نِصْفُ الدِّرْهَمِ الَّذِي عِنْدَكَ.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٢ إِلَى ٦]
مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦)افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِمُلَاطَفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ إِرْسَالِهِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْقَى بِذَلِكَ، أَيْ تُصِيبَهُ الْمَشَقَّةُ وَيَشُدُّهُ التَّعَبُ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُذَكِّرَ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدَهُ. وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ أَيْضًا بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الَخَشْيَةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ادَّكَرُوا بِالْقُرْآنِ.
وَفِي هَذِهِ الْفَاتِحَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ مِنْ أَمْرِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالِاضْطِلَاعِ بِأَمْرِ التَّبْلِيغِ، وَبِكَوْنِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِثْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُفَرِّطًا فِي الْعَزْمِ كَمَا كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِمَنْ أُنْزَلَ عَلَيْهِ وَجَاءَ بِهِ.
وَالشَّقَاءُ: فَرْطُ التَّعَبِ بِعَمَلٍ أَوْ غَمٍّ فِي النَّفْسِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
إِلَّا مَقَالَةَ أَقْوَامٍ شَقِيتُ بِهِمْ | كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ قَرْعًا عَلَى كَبِدِي |
وَوُقُوعُ فِعْلِ أَنْزَلْنا فِي سِيَاقِ النَّفْي يَقْتَضِي عُمُومَ مَدْلُولِهِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِهِ، وَعُمُومُ الْفِعْلِ يسْتَلْزم عُمُوم متعلقانه مِنْ مَفْعُولٍ وَمَجْرُورٍ.
فَيَعُمَّ نَفْيَ جَمِيعِ كُلِّ
وَتَفْظِيعُ جِدَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَنِدُونَ إِلَى عِلْمٍ وَأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْحُجَّةِ لِيُضِلُّوا النَّاسَ.
- وَأَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ فِي الْبَعْثِ وَهُوَ ثَابِتٌ لَا رِيبَةَ فِيهِ وَكَيْفَ يَرْتَابُونَ فِيهِ بِعِلَّةِ اسْتِحَالَةِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَلَا يَنْظُرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ طَوَّرَهُ أَطْوَارًا.
- وَأَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ الْمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ فَتَحْيَا وَتُخْرِجُ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، فَاللَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ، فَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
- وَأَنَّ مُجَادَلَتَهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ صَادِرَةٌ عَنْ جَهَالَةٍ وَتَكَبُّرٍ عَنِ الِامْتِثَالِ لقَوْل الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
- وَوَصْفُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي اتِّبَاعِ دِينِ الْإِسْلَامِ.
- وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ بِتَكَبُّرِهِمْ عَنْ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ حُمَاةُ دِينِهِ وَأُمَنَاءُ بَيْتِهِ وَهُمْ يُخَالِفُونَهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ.
- وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ مِنَ الْمَنَافِعِ فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ.
- وَتَنْظِيرُهُمْ فِي تَلَقِّي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الرُّسُلِ بِالْإِعْرَاضِ وَالْكُفْرِ فَحَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ.
- وَأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَحِلَّ بِهَؤُلَاءِ مِثْلُهُ فَلَا يَغُرُّهُمْ تَأْخِيرُ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ إِمْلَاءٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ كَمَا أَمْلَى لِلْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تأنيس للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَبِشَارَةٌ لَهُمْ بِعَاقِبَةِ النَّصْرِ عَلَى الَّذِينَ فَتَنُوهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
(١٩)
لَمَّا حَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ مَا خَاضُوا بِهِ مِنَ الْإِفْكِ عَلَى جَمِيعِ أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ أَعْقَبَ تَحْذِيرَهُمْ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا عَسَى أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَحَبَّةِ شُيُوعِ الْفَاحِشَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَاسْمُ الْمَوْصُولِ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَتَّصِفُ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَيَعُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِخْبَارٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَجَعَلَ الْوَعِيدَ عَلَى الْمَحَبَّةِ لِشُيُوعِ الْفَاحِشَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ ذَلِكَ
تَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِأَنَّ مَحَبَّةَ ذَلِكَ دَالَّةٌ عَلَى خُبْثِ النِّيَّةِ نَحْوَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ شَأْنِ تِلْكَ الطَّوِيَّةِ أَنْ لَا يَلْبَثَ صَاحِبُهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَصْدُرَ عَنْهُ مَا هُوَ محب لَهُ أَوْ يُسَرَّ بِصُدُورِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَالْمَحَبَّةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّهَيُّؤِ لِإِبْرَازِ مَا يُحِبُّ وُقُوعَهُ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ. وَأَصْلُ الْكِنَايَةِ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ وَلَازَمِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَنْشَأَ عَنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ وَعَذَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ النَّوَايَا الْخَبِيثَةُ. وَتِلْكَ الْمَحَبَّةُ شَيْءٌ غَيْرُ الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ وَغَيْرُ حَدِيثِ النَّفْسِ لِأَنَّهُمَا خَاطِرَانِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْكُفَ عَنْهُمَا صَاحِبُهُمَا، وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ الْمُسْتَمِرَّةُ فَهِيَ رَغْبَةٌ فِي حُصُولِ الْمَحْبُوبِ. وَهَذَا نَظِيرُ الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:
٣] كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ وُقُوعِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَالْوَعِيدُ هُنَا عَلَى مَحَبَّةِ وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنْ تَشِيعَ لِأَنَّ (أَنْ) تُخْلِصُ الْمُضَارِعَ لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ الْمَاضِيَةُ فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ [النُّور: ١٤].
وَمَعْنَى: أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أَنْ يَشِيعَ خَبَرُهَا، لِأَنَّ الشُّيُوعَ مِنْ صِفَاتِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ كَالْفُشُوِّ وَهُوَ: اشْتِهَارُ التَّحَدُّثِ بِهَا. فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ أَنْ يَشِيعَ خَبَرُهَا إِذِ الْفَاحِشَةُ هِيَ الْفَعْلَةُ الْبَالِغَةُ حَدًّا عَظِيمًا فِي الشَّنَاعَةِ.
وَشَاعَ إِطْلَاقُ الْفَاحِشَةِ عَلَى الزِّنَى وَنَحْوِهِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٥]. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفَاحِشَةِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ
وَالَّذِي يَشْهَدُ لِذَلِكَ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَهْلِ مَدْيَنَ وَصَفَ شُعَيْبًا بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ، وَلَمَّا ذَكَرَهَا لِأَصْحَابِ لَيْكَةَ لَمْ يَصِفْ شُعَيْبًا بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ شُعَيْبٌ نَسِيبًا وَلَا صِهْرًا لِأَصْحَابِ لَيْكَةَ، وَهَذَا إِيمَاءٌ دَقِيقٌ إِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ. وَمِمَّا يُرَجِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٧٨، ٧٩] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ، فَجَعَلَ ضَمِيرَهُمْ مُثَنًّى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ مَجْمُوعُ قَبِيلَتَيْنِ: مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ لَيْكَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَإِنَّمَا تُرْسَلُ الرُّسُلُ مَنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ قَالَ تَعَالَى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يُوسُف: ١٠٩] وَتَكُونُ الرِّسَالَةُ شَامِلَةً لِمَنْ حَوْلَ الْقَرْيَةِ.
وَافْتَتَحَ شُعَيْبٌ دَعَوْتَهُ بِمِثْلِ دَعَوَاتِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ.
وَشَمَلَ قَوْلُهُ: أَلا تَتَّقُونَ النَّهْيَ عَنِ الْإِشْرَاكِ فَقَدْ كَانُوا مُشْرِكِينَ كَمَا فِي آيَةِ سُورَة
هود.
[١٨١- ١٨٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٨١ إِلَى ١٨٣]
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣)
اسْتِئْنَافٌ مِنْ كَلَامِهِ انْتَقَلَ بِهِ مِنْ غَرَضِ الدَّعْوَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء:
١٧٧] إِلَى آخِرِهِ إِلَى الدَّعْوَةِ التَّفْصِيلِيَّةِ بِوَضْعِ قَوَانِينِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمْ، فَقَدْ كَانُوا مَعَ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ يُطَفِّفُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَيَبْخَسُونَ أَشْيَاءَ النَّاسِ إِذَا ابْتَاعُوهَا مِنْهُمْ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.
فَأَمَّا تَطْفِيفُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ فَظُلْمٌ وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَلَمَّا كَانَ تجارهم قد تمالؤوا عَلَيْهِ اضْطُرَّ النَّاسُ إِلَى التَّبَايُعِ بِالتَّطْفِيفِ.
وأَوْفُوا أَمْرٌ بِالْإِيفَاءِ، أَيْ جعل الشَّيْء وافيا، أَي تَامًّا، أَيِ اجْعَلُوا الْكَيْلَ غَيْرَ نَاقِصٍ. وَالْمُخْسِرُ: فَاعِلُ الْخَسَارَةِ لِغَيْرِهِ، أَيِ الْمُنْقِصُ، فَمَعْنَى وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُطَفِّفِينَ. وَصَوْغُ مِنَ الْمُخْسِرِينَ أَبْلَغُ مِنْ: لَا تَكُونُوا مُخْسِرِينَ. لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الصَّنِيعِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦] فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
[٨٠]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٨٠]وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠)
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا [الْقَصَص: ٧٩] فَهِيَ مُشَارِكَةٌ لَهَا فِي مَعْنَاهَا لِأَنَّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ خِرْجَةُ قَارُونَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَلَامِحُهُ مِنْ فِتْنَةٍ بِبَهْرَجَتِهِ وَبِزَّتِهِ دَالَّةٌ عَلَى قِلَّةِ اعْتِدَادِهِ بِثَوَابِ اللَّهِ وَعَلَى تَمَحُّضِهِ لِلْإِقْبَالِ عَلَى لَذَائِذِ الدُّنْيَا وَمَفَاخِرِهَا الْبَاطِلَةِ فَفِي كَلَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تَنْبِيهٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِزَالَةٌ لِمَا تَسْتَجْلِبُهُ حَالَةُ قَارُونَ مِنْ نُفُوسِ الْمُبْتَلِينَ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا.
وَ (وَيْلٌ) اسْمٌ لِلْهَلَاكِ وَسُوءِ الْحَالِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩]. وَيُسْتَعْمَلُ لَفْظُ (وَيْلٌ) فِي التَّعَجُّبِ الْمَشُوبِ بِالزَّجْرِ، فَلَيْسَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَاعِينَ بِالْوَيْلِ عَلَى الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِمَقَامِ الْمَوْعِظَةِ لِينُ الْخِطَابِ لِيَكُونَ أَعْوَنَ عَلَى الِاتِّعَاظِ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ تَعَلُّقِ نُفُوسِ أُولَئِكَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاغْتِبَاطِهِمْ بِحَالِ قَارُونَ دُونَ اهْتِمَامٍ بِثَوَابِ اللَّهِ الَّذِي يَسْتَطِيعُونَ تَحْصِيلَهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْعَمَلِ بِالدِّينِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَارُونَ غَيْرُ مُتَخَلِّقٍ بِالْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِيَتَمَكَّنَ الْخَبَرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الثَّوَابِ الْمُضَافِ إِلَى أَوْسَعِ الْكُرَمَاءِ كَرَمًا مِمَّا تَسْتَشْرِفُ إِلَيْهِ النَّفْسُ.
وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً دُونَ: خَيْرٌ لَكُمْ، لِمَا فِي الْإِظْهَارِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ إِنَّمَا يَنَالُهُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وَأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَوَفْرَةِ الْعَمَلِ، مَعَ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الشُّمُولِ لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ وَلِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ الْمَقَامَ.
وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَهِيَ مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، أَمَرُوا الَّذِينَ فَتَنَهُمْ حَالُ قَارُونَ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِمَّا فِيهِ قَارُونُ.
وَفِي قَوْلِهِ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ حَذْفُ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ.
وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا كَخَلْقِ وَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَذَلِكَ إِيجَازٌ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدَ مَخَافَتِي | عَلَى وَعْلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ |
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ: إِمَّا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ اسْتِدْلَالًا بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ وَالْأَسْبَابِ وَتَفَاصِيلِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا وَمِنْ
شَأْنِ الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَعْلُومَاتِ كَمَا يَشَاءُ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إِيجَادِ بَعْضِ مَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْإِرَادَة إِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ خَفَاءِ السَّبَبِ الْمُوصِلِ إِلَى إِيجَادِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَوْ عُقَلَاؤُهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ جَعَلَ تَسْلِيمَهُمْ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى إِقْنَاعِهِمْ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَإِمَّا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِمَا يَنْشَأُ عَنِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ بَعْثَهُمْ كَنَفْسٍ مِنْ تَعَجُّبِ فَرِيقٍ مِمَّنْ أَسَرُّوا إِنْكَارَ الْبَعْثِ فِي نُفُوسِهِمُ الَّذِينَ أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ قَوْلُهُ آنِفًا:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [لُقْمَان: ٢٣]، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ عليم قدير.
[٢٩]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٩]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩)
اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ الْخَلْقِ الثَّانِي وَهُوَ الْبَعْثُ فِي مُتَنَاوَلِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالِ مَا هُوَ أَعْظَمُ حَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ بِتَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ وَأُفُقِهَا بَيْنَ لَيْلٍ وَنَهَارٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَغْيِيرًا يُشْبِهُ طُرُوَّ الْمَوْتِ عَلَى الْحَيَاةِ فِي دُخُولِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، وَطُرُوَّ الْحَيَاةِ عَلَى الْمَوْتِ فِي دُخُولِ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ، وَبِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا سَخَّرَهُ مِنْ سَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ بِإِمْكَانِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ من شؤون الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ أَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ الْكُلِّيِّ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ
وَهَؤُلَاءِ مِنْ قُوَّة الانفعال أَو الممانعة عَلَى حَسَبِ السُّنَنِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ سُلْطَانٍ، وَحُذِفَ الْمُسْتَثْنَى وَدَلَّ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا سُلْطَانًا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ. فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُلْطَانٌ مَجْعُولٌ لَهُ بِجَعْلِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ أَنَّ تَعْلِيلَهُ مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ.
وَانْظُرْ مَا قُلْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٤٢] وَضُمَّهُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ هُنَا.
وَاقْتُصِرَ مَنْ عَلَّلَ تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى تَمْيِيزِ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا لِمُرَاعَاةِ أَحْوَالِ الَّذِينَ سَبَقَتْ إِلَيْهِمُ الْمَوْعِظَةُ بِأَهْلِ سَبَإٍ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِأَن جحودهم الْآخِرَة قَرِينٌ لِلشِّرْكِ وَمُسَاوٍ لَهُ فَإِنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا بِالْآخِرَةِ لَآمَنُوا بِرَبِّهَا وَهُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ عِلَلَ جَعْلِ الشَّيْطَانِ لِلْوَسْوَسَةِ كَثِيرَةٌ مَرْجِعُهَا إِلَى تَمْيِيزِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُعْرِضِينَ. وَكُنِّيَ بِ «نَعْلَمَ» عَنْ إِظْهَارِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ الظُّهُورَ يُلَازِمُ الْعِلْمَ فِي الْعرف. قَالَ قبيضة الطَّائِيُّ مِنْ رِجَالِ حَرْبِ ذِي قَارٍ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا | لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا |
التَّعَلُّقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ قَائِلَهُ. وَخُولِفَ فِي النَّظْمِ بَيْنَ الصِّلَتَيْنِ فَجَاءَتْ جُمْلَةُ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ فِعْلِيَّةً، وَجَاءَتْ جُمْلَةُ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ اسْمِيَّةً لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ طَارِئٌ عَلَى كُفْرِهِمُ السَّابِقِ وَمُتَجَدِّدٌ وَمُتَزَايِدٌ آنًا فَآنًا. فَكَانَ مُقْتَضَى الْحَالِ إِيرَادُ الْفِعْلِ فِي صِلَةِ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا شَكُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ هُوَ أَمْرٌ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ فَاجْتُلِبَتْ لِأَصْحَابِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ تَفْسِيرُهُمْ لِذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ مُتَكَرَّرِ أَقْوَالِهِمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْمُجِيبِ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ. وَإِنَّمَا أُرِيدَ مِنِ اسْتِفْسَارِهِمْ صُورَةُ الِاسْتِفْسَارِ مُضَايَقَةً لَهُمْ وَلِيَنْتَقِلَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِفْسَارِ إِلَى مَقَامِ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، فَذَلِكَ الِانْتِقَالُ ابْتِدَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: ١٥٠] وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ شَهِدَ إِذَا حَضَرَ وَرَأَى، ثُمَّ قَوْلِهِ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَرَدَّدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا قَدِ اسْتَنَدُوا إِلَى دَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ أَوْ إِلَى دَلِيلٍ غَيْرِهِ وَهُوَ هُنَا مُتَعَيَّنٌ لِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَقْطُوعًا بِصِدْقِهِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا غَيْرُ ذَلِكَ، فَدَلِيلُ الْمُشَاهَدَةِ مُنْتَفٍ بِالضَّرُورَةِ، وَدَلِيلُ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ مُنْتَفٍ أَيْضًا إِذْ لَا دَلِيلَ مِنَ الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ وَلَا عَلَى أَنَّهُمْ ذُكُورٌ.
فَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ غَيْرُ مَفْرُوضٍ هُنَا انْحَصَرَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ فِي دَلِيلِ السَّمْعِ وَهُوَ الْخَبَرُ الصَّادِقُ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْعِلْمِ لِلْخَلْقِ مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ: أُشِيرَ إِلَى دَلِيلِ الْحِسِّ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ شاهِدُونَ، وَإِلَى دَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
وَهُوَ دَلِيلُ السَّمْعِ. فَأَسْقَطَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ احْتِمَالَ دَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ انْتِفَاءَهُ مَقْطُوعٌ إِذْ لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ وَانْحَصَرَ دَلِيلُ السَّمْعِ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا عَلِمْتَ إِذْ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِ اللَّهِ غَيْرُهُ.
ثُمَّ خُوطِبُوا بِأَمْرِ التَّعْجِيزِ بِأَنْ يَأْتُوا بِكِتَاب أَي بِكِتَابٍ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا عَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَةَ مَجِيءِ رَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاسْتِحَالَةَ أَنْ يُكَلِّمَ اللَّهُ أَحَدًا مَنْ خَلْقِهِ، فَانْحَصَرَ الدَّلِيلُ الْمَفْرُوضُ مِنْ جَانِبِ السَّمْعِ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ فِي أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣]، وَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ.
فَذِكْرُ لَفْظِ «كِتَابِكُمْ» إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَأْتُوا بِهِ، أَيِ السُّلْطَانِ الْمُبِينِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كِتَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِضَافَةُ كِتَابٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مِنْ إِضَافَةِ مَا فِيهِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ إِلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً وَالْمَوْصُولُ صِفَةً لَهُ وَيَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلَهُ:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غَافِر: ٦٤] وَيَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ مُعْتَرِضَةً، أَوْ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً وَالْمَوْصُولُ خَبَرًا.
وَاعْتِبَارُ الْجُمْلَةِ مُسْتَأْنَفَةً أَحْسَنُ مِنِ اعْتِبَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَدَلًا لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِالتَّوْقِيفِ عَلَى سُوءِ شُكْرِهِمْ، وَبِمَقَامِ تَعْدَادِ الدَّلَائِلِ وَأَسْعَدُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غَافِر: ٦٤]، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: ٦٠]، أَيْ تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ الْعِقَابِ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِذْ جَعَلَ لَهُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَعَلَى هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ كُلِّهَا فَقَدْ سَجَّلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّاسِ تَقْسِيمَهُمْ إِلَى: شَاكِرِ نِعْمَةٍ، وَكَفُورِهَا، كَمَا سَجَّلَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَةُ السَّابِقَةُ تَقْسِيمَهُمْ إِلَى: مُؤْمِنٍ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَكَافِرٍ بِهَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ كَمَا اقْتَضَاهُ لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ:
لَكُمُ وَاقْتَضَاهُ التَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ. وَأُدْمِجَ فِي التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ بِالْخَلْقِ، وَالتَّدْبِيرِ الَّذِي هُوَ مُلَازِمٌ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ.
وَابْتُدِئَ الِاسْتِدْلَالُ بِدَلَائِلِ الْأَكْوَانِ الْعُلْوِيَّةِ وَآثَارِهَا الْوَاصِلَةِ إِلَى الْأَكْوَانِ السُّفْلِيَّةِ، وَهِيَ مَظْهَرُ النِّعْمَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَهُمَا تَكْوِينَانِ عَظِيمَانِ دَالَّانِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ مُكَوِّنِهِمَا وَمُنَظِّمِهِمَا وَجَاعِلِهِمَا مُتَعَاقِبَيْنِ، فَنِيطَتْ بِهِمَا أَكْثَرُ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَصَالِحِ أَهْلِهِ، فَمِنْ مَصَالِحِ الْعَالَمِ حُصُولُ التَّعَادُلِ بَيْنَ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ، وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ لِتَكُونَ الْأَرْضُ لَائِقَةً بِمَصَالِحِ مَنْ عَلَيْهَا فَتُنْبِتُ الْكَلَأَ وَتُنْضِجُ الثِّمَارَ، وَمِنْ مَصَالِحِ سُكَّانِ الْعَالَمِ سُكُونُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِي اللَّيْلِ لِاسْتِرْدَادِ النَّشَاطِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي يُعْيِيهِ عَمَلُ الْحَوَاسِّ وَالْجَسَدِ فِي النَّهَارِ، فَيَعُودُ النَّشَاطُ إِلَى الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فِي الْجَسَدِ كُلِّهِ وَإِلَى الْحَوَاسِّ، وَلَوْلَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ لَكَانَ النَّوْمُ غَيْرَ
ذَلِكَ الْإِنْكَارَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَعِيدِ. وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوَعُّدِ. وَكِتَابَةُ الشَّهَادَةِ كِنَايَةٌ عَن تحقق الْعقَاب عَلَى كَذِبِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
[الزخرف: ٤] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا [آل عمرَان: ١٨١]. والسّين فِي سَتُكْتَبُ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ.
وَالْمُرَادُ بِشَهَادَتِهِمْ: ادِّعَاؤُهُمْ أَن الْمَلَائِكَة إِنَاثًا، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا شَهَادَةً تَهَكُّمًا بِهِمْ.
وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ تَهْدِيدٍ وَإِنْذَارٍ بِالْعِقَابِ وَلَيْسَ مِمَّا يُتَطَلَّبُ عَنْهُ جَوَابٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: ٨]، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ | وَقِيلَ إنّك مَنْسُوب ومسؤول |
[٢٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٠]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: ٩]، فَإِنَّهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ غَيْرُ أَهْلٍ لِأَنْ تُعْبَدَ. فَحُكِيَ هُنَا مَا اسْتَظْهَرُوهُ مِنْ مَعَاذِيرِهِمْ عِنْدَ نُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ يَرُومُونَ بِهَا إفحام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ، أَيْ لَوْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ نَعْبُدَهَا لَكَانَ اللَّهُ صَرَفَنَا عَنْ أَنْ نَعْبُدَهَا، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ هَذَا قَاطِعٌ لجدال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ دِينِهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْحَوَادِثِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ.
فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي مَا عَبَدْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ ذِكْرِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُمُ الْغَالِبُ، وَأَقْوَامٌ مِنْهُمْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: ٤١].
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَأَقْوَامٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ مِثْلَ بَنِي مُلَيْحٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ. فَضَمِيرُ جَمْعِ
يَكُفُّهُمْ عَنْكُمْ وَلَا كَفَّكُمْ عَنْهُمْ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، لَا أَنْتُمْ وَلَا هُمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ الشَّرَّ بِكُمْ وَأَنْتُمْ حِينَ أَحَطْتُمْ بِهِمْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ أَوْ أَسْرَهُمْ فَإِنَّ دَوَاعِيَ امْتِدَادِ أَيْدِيهِمْ إِلَيْكُمْ وَامْتِدَادِ أَيْدِيكُمْ إِلَيْهِمْ مُتَوَفِّرَةٌ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَوَانِعَ لَهُمْ وَلَكُمْ لَاشْتَبَكْتُمْ فِي الْقِتَالِ، فَكَفَّ أَيْدِيَهِمْ عَنْكُمْ بِأَنْ نَبَّهَكُمْ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئُوكُمْ وَكَفَّ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ حِينَ أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيُطْلِقَهُمْ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى كَفَّ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَسْبَابٍ أَوْجَدَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِإِرَادَتِهِ عَدَمَ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ، وَهِيَ مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ مِثْلُ الْمِنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى كَفٍّ عَنِ الْقِتَالِ يَسَّرَهُ اللَّهُ رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ وَإِبْقَاءً عَلَى قُوَّتِهِمْ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَوَقْعَةِ أُحُدٍ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ الْأَوَّلُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَفَّ وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَبَعْضُهَا فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى بَعْضٍ «أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُقَدَّرُ بِسِتَّةٍ أَوْ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَوْ بِثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ مُسَلَّحِينَ نَزَلُوا إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى غِرَّةٍ فَفَطِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُمْ دُونَ حَرْب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِهِمْ» وَكَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ كَانَ السُّفَرَاءُ يَمْشُونَ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين أَهْلِ مَكَّةَ وَلَعَلَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَهُمْ تَجَنُّبًا لِمَا يُعَكِّرُ صَفْوَ الصُّلْحِ.
وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ رَاجِعَةٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفَتْح: ٢٢] وَوَجْهُ عَوْدِهِ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ فَرِيقٌ غَيْرَ الْفَرِيقِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ أَنَّ عُرْفَ كَلَامِ الْعَرَبِ جَارٍ عَلَى أَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الْقَوْمِ يُنْسَبُ إِلَى
الْقَوْمِ بِدُونِ تَمْيِيزٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٣] فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَسَاسِ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَطْنِ جَوْفُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي مَعَانِي الْمُنْخَفَضِ مِنَ الشَّيْءِ أَوِ الْمُتَوَسِّطِ مَجَازٌ، قَالَ
بِالتَّخْفِيفِ إِذَا ضَبَطَهُ وَعَيَّنَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: ٤٩] وَمَحَلُّ عَلى أَمْرٍ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَاءِ.
وَاكْتَفَى بِهَذَا الْخَبَرِ عَنْ بَقِيَّةِ الْمَعْنَى، وَهُوَ طُغْيَانُ الطُّوفَانِ عَلَيْهِمِ اكْتِفَاءً بِمَا أَفَادَهُ تَفْرِيعُ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ كَمَا تَقَدَّمَ انْتِقَالًا إِلَى وَصْفِ إِنْجَاءِ نُوحٍ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، فَجُمْلَةُ وَحَمَلْناهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى التَّفْرِيعِ عَطْفَ احْتِرَاسٍ.
وَالْمَعْنَى: فَأَغْرَقْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَاهُ.
وذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ صِفَةُ السَّفِينَةِ، أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ هُنَا عِوَضًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْفُلْكِ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ بَيَانَ مَتَانَةِ هَذِهِ السَّفِينَةِ وَإِحْكَامِ صُنْعِهَا. وَفِي ذَلِكَ إِظْهَارٌ لِعِنَايَةِ اللَّهِ بِنَجَاةِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِصُنْعِ السَّفِينَةِ وَأَوْحَى إِلَيْهِ كَيْفِيَّةَ صُنْعِهَا وَلَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ سَفِينَةٌ قَبْلَهَا، قَالَ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [هود: ٣٦، ٣٧]، وَعَادَةُ الْبُلَغَاءِ إِذَا احْتَاجُوا لِذِكْرِ صِفَةٍ بِشَيْءٍ وَكَانَ ذِكْرُهَا دَالًّا عَلَى مَوْصُوفِهَا أَنْ يَسْتَغْنُوا عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ إِيجَازًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ [سبأ: ١١]، أَيْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ.
وَالْحِمْلُ: رَفْعُ الشَّيْءِ عَلَى الظَّهْرِ أَوِ الرَّأْسِ لِنَقْلِهِ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْل: ٧] وَلَهُ مَجَازَاتٌ كَثِيرَةٌ.
وَالْأَلْوَاحُ: جَمْعُ لَوْحٍ، وَهُوَ الْقِطْعَةُ الْمُسَوَّاةُ مِنَ الْخَشَبِ.
وَالدُّسُرُ: جَمْعُ دِسَارٍ، وَهُوَ الْمِسْمَارُ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ (حَمَلْنَا) إِلَى ضَمِيرِ نُوحٍ دُونَ مَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ لِأَنَّ هَذَا الْحِمْلَ كَانَ إِجَابَةً
لِدَعْوَتِهِ وَلِنَصْرِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْحِمْلِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [الْأَعْرَاف: ٧٢] وَقَوْلُهُ: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٨] وَنَحْوُهُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْجَاءِ وَأَنَّ نَجَاةَ قَوْمِهِ بِمَعِيَّتِهِ، وَحَسْبُكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَذْيِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ فَإِنَّ الَّذِي كَانَ كُفِرَ هُوَ نُوحٌ كَفَرَ بِهِ قَوْمُهُ.
الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ كَمَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَنَحْمِلُ الِاسْمَ فِي قَوْلِهِ: اسْمُهُ أَحْمَدُ على مَا يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ مُسَمَّاهُ أَحْمَدُ، وَذِكْرُهُ أَحْمَدَ، وَعَلَمُهُ أَحْمَدُ، وَلْنَحْمِلْ لَفْظَ أَحْمَدَ عَلَى مَا لَا يَأْبَاهُ وَاحِدٌ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ اسْمِ الثَّلَاثَةِ إِذَا قُرِنَ بِهِ وَهُوَ أَنَّ أَحْمَدَ اسْمُ تَفْضِيلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ مَعْنِيًّا بِهِ الْقُوَّةُ فِيمَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، أَيِ الْحَمْدِ وَهُوَ الثَّنَاءُ، فَيَكُونُ أَحْمَدُ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي قُوَّةِ مَفْعُولِيَّةِ الْحَمْدِ، أَيْ حَمْدِ النَّاسِ إِيَّاهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ. «الْعُودُ أَحْمَدُ»، أَيْ مَحْمُودٌ كَثِيرًا.
فَالْوَصْفُ بِ أَحْمَدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي اسْمٍ أَنَّ مُسَمَّى هَذَا الرَّسُولَ وَنَفْسُهُ مَوْصُوفَةٌ بِأَقْوَى مَا يَحْمَدُ عَلَيْهِ مَحْمُودٌ فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَالْخِلْقِيَّةِ وَالنَّسَبِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الكمالات الذاتية والعرضية.
وَيَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحْمَدُ تَفْضِيلًا حَقِيقِيًّا فِي كَلَامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ مُسَمَّاهُ أَحْمَدُ مِنِّي، أَيْ أَفْضَلُ، أَيْ فِي رِسَالَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ. وَعِبَارَاتُ الْإِنْجِيلِ تُشْعِرُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ، فَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ (أَيْ مِنْ رَبِّنَا) فَيُعْطِيَكُمْ
(فَارْقَلِيطَ) آخَرَ لِيَثْبُتَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالِمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْفَارْقَلِيطُ الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَب (الله) باسمي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ»، أَيْ فِي جُمْلَةِ مَا يُعَلِّمُكُمْ أَنْ يُذَكِّرَكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَهَذَا يُفِيدُ تَفْضِيلُهُ عَلَى عِيسَى بفضيلة دوَام شَرِيعَة الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَوْلِ الْإِنْجِيلِ «لِيَثْبُتَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ» وَبِفَضِيلَةِ عُمُومِ شَرْعِهِ لِلْأَحْكَامِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: «يُعَلِّمَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ».
وَالْوَصْفُ بِ أَحْمَدُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فِي الِاسْمِ. أَنَّ سُمْعَتَهُ وَذِكْرَهُ فِي جِيلِهِ وَالْأَجْيَالِ بَعْدَهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ أَشَدُّ ذِكْرٍ مَحْمُودٍ وَسُمْعَةٍ مَحْمُودَةٍ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ «أَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ مَقَامًا مَحْمُودًا.
وَوَصْفُ أَحْمَدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ فِي الِاسْمِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّهُ اسْمُهُ الْعَلَمُ يَكُونُ بِمَعْنَى: أَحْمَدَ، فَإِنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ اسْمٌ مَفْعُولٍ مِنْ حَمَّدَ الْمُضَاعَفِ الدَّالِ عَلَى
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَصْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ.
وَخُشُوعُ الْأَبْصَارِ اسْتِعَارَةٌ لِلنَّظَرِ إِلَى أَسْفَلَ مِنَ الذُّلِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: ٤٥] وَقَالَ: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [الْقَمَر: ٧]. وَأَصْلُ الْخُشُوعِ: ظُهُورُ الطَّاعَةِ أَوِ الْمَخَافَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ.
وَالرَّهَقُ: الْغَشَيَانُ، أَيْ التَّغْطِيَةُ بِسَاتِرٍ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ هُنَا لِأَنَّ الذِّلَّةَ لَا تَغْشَى.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ فَذْلَكَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ فِي أَوَّلِ
أَغْرَاضِهَا مِنْ قَوْلِهِ: بِعَذابٍ واقِعٍ إِلَى قَوْلِهِ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ الْآيَات [المعارج: ١- ٤]، وَهِيَ مُفِيدَةٌ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدَ جُمْلَةِ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. وَفِيهَا مُحَسِّنُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
[سُورَة الانفطار (٨٢) : آيَة ١٨]
ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨)تَكْرِيرٌ لِلتَّهْوِيلِ تَكْرِيرًا يُؤْذِنُ بِزِيَادَتِهِ، أَي تجاوزه حَدِّ الْوَصْفِ وَالتَّعْبِيرِ فَهُوَ مِنَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَقُرِنَ هَذَا بِحَرْفِ ثُمَّ الَّذِي شَأْنُهُ إِذَا عَطَفَ جُمْلَةً عَلَى أُخْرَى أَنْ يُفِيدَ التَّرَاخِيَ الرُّتْبِيَّ، أَيْ تَبَاعُدُ الرُّتْبَةِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ رُتْبَةُ الْعَظَمَةِ وَالتَّهْوِيلِ، فَالتَّرَاخِي فِيهَا هُوَ الزِّيَادَة.
[١٩]
[سُورَة الانفطار (٨٢) : آيَة ١٩]
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً.
فِي هَذَا بَيَانٌ لِلتَّهْوِيلِ الْعَظِيمِ الْمُجْمَلِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار: ١٧، ١٨] إِذِ التَّهْوِيلُ مُشْعِرٌ بِحُصُولِ مَا يَخَافُهُ الْمُهَوَّلُ لَهُمْ فَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنْ وِجْدَانِ نَصِيرٍ أَوْ مُعِينٍ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ يَوْمَ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَدَلًا مُطَابِقًا، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ مِنْ يَوْمُ الدِّينِ الْمَرْفُوعِ بِ مَا أَدْراكَ وَتُجْعَلُ فَتْحَتُهُ فَتْحَةَ بِنَاءٍ لِأَنَّ اسْمَ الزَّمَانِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى
جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَكَانَ فِعْلُهَا مُعْرَبًا جَازَ فِي اسْمِ الزَّمَانِ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْفَتْحِ وَأَنْ يُعْرَبَ بِحَسَبِ الْعَوَامِلِ.
وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مُطَابِقًا مِنْ يَوْمَ الدِّينِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار: ١٥]، وَلَا يَفُوتُ بَيَانُ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار: ١٧] لِأَنَّ يَوْمُ الدِّينِ الْمَرْفُوعَ الْمَذْكُورَ ثَانِيًا هُوَ عَيْنُ يَوْمَ الدِّينِ الْمَنْصُوبِ أَوَّلًا، فَإِذَا وَقَعَ بَيَانٌ لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا حَصَلَ بَيَانُ الْمَذْكُورِ ثَانِيًا إِذْ مَدْلُولُهُمَا يَوْمٌ مُتَّحِدٌ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب مَرْفُوعا، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا مِنْ يَوْمُ الدِّينِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ وَمَعْنَى لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً: لَا تَقْدِرُ نَفْسٌ عَلَى شَيْءٍ لِأَجْلِ نَفْسٍ أُخْرَى، أَيْ لِنَفْعِهَا، لِأَنَّ شَأْنَ لَامِ التَّعْلِيلِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمُنْتَفِعِ بِالْفِعْلِ عَكْسَ (عَلَى)، فَإِنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُتَضَرِّرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: ٢٨٦]،