[٢٢]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٢]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.
يَتَعَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلرَّبِّ لِأَنَّ مَسَاقَهَا مَسَاقُ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١]، وَالْمَقْصُودُ الْإِيمَاءُ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَإِفْرَادِهِ بِهَا فَإِنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ عِبَادَتَهُ أَنَّهُ خَالِقُ النَّاسِ كُلِّهِمْ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي عِبَادَتَهُمْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ، وَهِيَ نِعَمُهُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ دَلَائِلِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ فَإِنَّهُ مَكَّنَ لَهُمْ سُبُلَ الْعَيْشِ وَأَوَّلُهَا الْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلِاسْتِقْرَارِ عَلَيْهِ بِدُونِ لُغُوبٍ فَجَعَلَهُ كَالْفِرَاشِ لَهُمْ وَمِنْ إِحَاطَةِ هَذَا الْقَرَارِ بِالْهَوَاءِ النَّافِعِ لِحَيَاتِهِمْ وَالَّذِي هُوَ غِذَاءُ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، وَذَلِكَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَالسَّماءَ بِناءً وَبِكَوْنِ تِلْكَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ وَاقِيَةَ النَّاسِ مِنْ إِضْرَارِ طَبَقَاتٍ فَوْقَهَا مُتَنَاهِيَةٍ فِي الْعُلُوِّ، مِنْ زَمْهَرِيرٍ أَوْ عَنَاصِرَ غَرِيبَةٍ قَاتِلَةٍ خَانِقَةٍ، فَالْكُرَةُ الْهَوَائِيَّةُ جُعِلَتْ فَوْقَ هَذَا الْعَالَمِ فَهِيَ كَالْبِنَاءِ لَهُ وَنَفْعُهَا كَنَفْعِ الْبِنَاءِ فَشُبِّهَتْ بِهِ عَلَى
طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَبِأَنْ أَخْرَجَ لِلنَّاسِ مَا فِيهِ إِقَامَةُ أَوَدِ حَيَاتِهِمْ بِاجْتِمَاعِ مَاءِ السَّمَاءِ مَعَ قُوَّةِ الْأَرْضِ وَهُوَ الثِّمَارُ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ هُنَا إِطْلَاقُهَا الْعُرْفِيُّ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ كَالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ وَهُوَ كُرَةُ الْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِالْأَرْضِ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة:
١٩] وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ الْغَالِبُ إِذَا أُطْلِقَ السَّمَاءُ بِالْإِفْرَادِ دُونَ الْجَمْعِ.
وَمَعْنَى جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا أَنَّهَا كَالْفِرَاشِ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ وَالِاضْطِجَاعِ عَلَيْهَا وَهُوَ أَخَصُّ أَحْوَالِ الِاسْتِقْرَارِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهَا مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ شِدَّةِ الصُّخُورِ بِحَيْثُ تُؤْلِمُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ رَخَاوَةِ الْحَمْأَةِ بِحَيْثُ يَتَزَحْزَحُ الْكَائِنُ فَوْقَهَا وَيَسُوخُ فِيهَا وَتِلْكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ.
وَأَمَّا وَجْهُ شَبَهِ السَّمَاءِ بِالْبِنَاءِ فَهُوَ أَنَّ الْكُرَةَ الْهَوَائِيَّةَ جَعَلَهَا اللَّهُ حَاجِزَةً بَيْنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَبَيْنَ الْكُرَةِ الْأَثِيرِيَّةِ فَهِيَ كَالْبِنَاءِ فِيمَا يُرَادُ لَهُ الْبِنَاءُ وَهُوَ الْوِقَايَةُ مِنَ الْأَضْرَارِ النَّازِلَةِ، فَإِنَّ لِلْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ دَفْعًا لِأَضْرَارٍ أَظْهَرُهَا دَفْعُ ضَرَرِ طُغْيَانِ مِيَاهِ الْبِحَارِ عَلَى الْأَرْضِ وَدَفْعُ أَضْرَارِ بُلُوغِ أَهْوِيَةٍ تَنْدَفِعُ عَنْ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ إِلَيْنَا وَتَلْطِيفُهَا حَتَّى تَخْتَلِطَ بِالْهَوَاءِ أَوْ صَدُّ الْهَوَاءِ إِيَّاهَا عَنَّا مَعَ مَا فِي مشابهة منظر الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ لِهَيْئَةِ الْقُبَّةِ، وَالْقُبَّةُ بَيْتٌ مَنْ أَدَمٍ مُقَبَّبٍ وَتُسَمَّى بِنَاءً،
وَ (أَكْبَرُ) أَيْ أَشَدُّ كِبَرًا أَيْ قُوَّةً فِي الْمَحَارِمِ، أَيْ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ.
وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَعَا إِلَى الِاعْتِرَاضِ بِهَا مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ صُدُورِ الْفِتْنَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ الْفِتْنَةُ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ الَّتِي تَدَاوَلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ. إِذِ الْقِتَالُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِ الْأَذَى وَلَيْسَ الْقَتْلُ إِلَّا بَعْضَ أَحْوَالِ الْقِتَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: ٣٩] فَسَمَّى فِعْلَ الْكُفَّارِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مُقَاتَلَةً وَسَمَّى الْمُسْلِمِينَ مُقَاتَلِينَ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُضْمِرُونَ غَزْوَ الْمُسْلِمِينَ وَمُسْتَعِدُّونَ لَهُ وَإِنَّمَا تَأَخَّرُوا عَنْهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، لِأَنَّهُمْ
كَانُوا يُقَاسُونَ آثَارَ سِنِي جَدْبٍ فَقَوْلُهُ لَا يَزالُونَ وَإِنْ أَشْعَرَ أَنَّ قِتَالَهُمْ مَوْجُودٌ فَالْمُرَادُ بِهِ أَسْبَابُ الْقِتَالِ، وَهُوَ الْأَذَى وَإِضْمَارُ الْقِتَالِ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ إِنْ شَرَعُوا فِيهِ لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْهُ، عَلَى أَنَّ صَرِيحَ لَا يَزَالُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا يَدُومُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَ (حَتَّى) لِلْغَايَةِ وَهِيَ هُنَا غَايَةٌ تَعْلِيلِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِتْنَتَهُمْ وَقِتَالَهُمْ يَدُومُ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ غَرَضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطاعُوا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، فَمَوْقِعُ هَذَا الشَّرْطِ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ مِمَّا قَدْ تُوهِمُهُ الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَلِهَذَا جَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) الْمُشْعِرِ بِأَنَّ شَرْطَهُ مَرْجُوٌّ عَدَمُ وُقُوعِهِ.
وَالرَّدُّ: الصَّرْفُ عَنْ شَيْءٍ وَالْإِرْجَاعُ إِلَى مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِإِلَى وَعَنْ، وَقَدْ حُذِفَ هُنَا أَحَدُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِوَاسِطَةِ إِلَى لِظُهُورِ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَهُمْ لِيَرُدُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الشِّرْكِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ دِينٍ إِذَا اعْتَقَدُوا صِحَّةَ دِينِهِمْ حَرَصُوا عَلَى إِدْخَالِ النَّاسِ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٠]، وَقَالَ: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا [النِّسَاء: ٨٩].
وَتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِإِنَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اسْتِطَاعَتَهُمْ ذَلِكَ وَلَوْ فِي آحَادِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدُ الْحُصُولِ لِقُوَّةِ إِيمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ مُحَاوَلَةُ الْمُشْرِكِينَ رَدَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنَاءً بَاطِلًا.
وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ حُذِفَتْ (مِنْ) الْمُتَعَلِّقَةُ بِ تَخافُونَ لِاطِّرَادِ حَذْفِ الْجَارِّ مَعَ (أَنْ)، أَيْ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَخَافُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا الْإِشْرَاكَ بِهِ. وَمَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مَوْصُولٌ مَعَ صِلَتِهِ مَفْعُولُ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ.
وَمَعْنَى لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ بِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي عَبَدْتُمُوهَا وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِعِبَادَتِهَا خَبَرًا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ فَلِذَلِكَ اسْتَعَارَ لِذَلِكَ الْخَبَرِ التَّنْزِيلَ تَشْبِيهًا لِعِظَمِ قَدْرِهِ
بِالرِّفْعَةِ، وَلِبُلُوغِهِ إِلَى مَنْ هُمْ دُونَ الْمُخْبَرِ، بِنُزُولِ الشَّيْءِ الْعَالِي إِلَى أَسْفَلِ مِنْهُ.
وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ لِأَنَّهَا تَتَسَلَّطُ عَلَى نَفْسِ الْمُخَاصِمِ، أَيْ لَمْ يَأْتِكُمْ خَبَرٌ مِنْهُ تَجْعَلُونَهُ حُجَّةً عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالتَّعْجِيبُ فَرْعٌ عَلَيْهِمَا اسْتِفْهَامًا مُلْجِئًا إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ آلِهَتِهِمْ.
والاستفهام ب فَأَيُّ لِلتَّقْرِيرِ بِأَنَّ فَرِيقَهُ هُوَ وَحْدَهُ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ.
وَالْفَرِيقُ: الطَّائِفَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَمَيِّزَةُ عَنْ غَيْرِهَا بِشَيْءٍ يَجْمَعُهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، مُشْتَقٌّ مِنْ فَرَّقَ إِذَا مَيَّزَ. وَالْفِرْقَةُ أَقَلُّ مِنَ الْفَرِيقِ، وَأَرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ هُنَا قَوْمَهُ وَنَفْسَهُ، فَأَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ الْفَرِيقَ تَغْلِيبًا، أَوْ أَرَادَ نَفْسَهُ وَمَنْ تَبِعَهُ إِنْ كَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ سَاعَتَئِذٍ، قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: ٢٦]، أَوْ أَرَادَ مَنْ سَيُوجَدُ مِنْ أَتْبَاعِ مِلَّتِهِ، كَمَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: ٨٢].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْنُ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَجَوَابُ شَرْطِهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ، تَقْدِيرُهُ: فَأَجِيبُونِي، وَفِيهِ اسْتِحْثَاثٌ على الْجَواب.
[٨٢]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٨٢]
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ فَيَكُونُ
«الأساطير» جَمْعُ أُسْطُورَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥].
وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وجوابها إِذْ جُعِلَ شَرْطُهَا مُضَارِعًا وَالْجَزَاءُ مَاضِيًا جَرَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي (لَوْ) غَالِبًا، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمَاضِي فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ جُزْأَيْ جُمْلَتِهَا مَاضِيًا، أَوْ كِلَاهُمَا. فَإِذَا أُرِيدَ التَّفَنُّنَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا، فَالتَّقْدِيرُ: لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ احْتِبَاكًا قَائِمًا مَقَامَ شَرْطَيْنِ وَجَزَاءَيْنِ فَإِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقْبَلَةٌ وَالْأُخْرَى مَاضِيَةٌ، فَالتَّقْدِيرُ لَوْ نَشَاءُ أَنْ نَقُولَ نَقُولُ، وَلَوْ شِئْنَا الْقَوْلَ فِي الْمَاضِي لَقُلْنَا فِيهِ، فَذَلِكَ أَوْعَبُ لِلْأَزْمَانِ، وَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السَّجْدَة: ١٣]- وَقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرَّعْد: ٣١] فَهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا ادَّعَوُا الْقُدْرَةَ عَلَى قَوْلٍ مِثْلِهِ فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ إِغْرَاقًا فِي النفاجة والوقاحة.
[٣٢، ٣٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٣٢ إِلَى ٣٣]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)
عُطِفَ عَلَى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَال: ٣٠] أَوْ عَلَى قالُوا قَدْ سَمِعْنا [الْأَنْفَال: ٣١] وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَاحِبُ الْمَقَالَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَهَا أَيْضًا أَبُو جَهْلٍ وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي أُسْنِدَ لَهُ قَوْلُ النَّضِرِ قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَال: ٣١] فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ طَرِيقُ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ إِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ هُنَالِكَ مِنْ حِكَايَةِ الْمَعْنَى.
وَكَلَامُهُمْ هَذَا جَارٍ مَجْرَى الْقَسَمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ بِطَرِيقَةِ الدُّعَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذَا كَانَ مَا حَصَلَ فِي الْوُجُودِ عَلَى خِلَافِ مَا يَحْكُونَهُ أَوْ يَعْتَقِدُونَهُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ مُسْتَجَابَةً، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ شَهِيرَةٌ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ:
وَمِنَ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَمَعَتْ أُصُولَ الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ الْحَقِّ، وَهِيَ الْبُرْهَانُ وَالْخَطَابَةُ وَالْجَدَلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ بِالصِّنَاعَاتِ وَهِيَ الْمَقْبُولَةُ مِنَ الصِّنَاعَاتِ. وَأَمَّا السَّفْسَطَةُ وَالشِّعْرُ فَيَرْبَأُ عَنْهُمَا الْحُكَمَاءُ الصَّادِقُونَ بَلْهَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: «إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَقَالَةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى حُجَّةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْحُجَّةِ إِمَّا تَقْرِيرُ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ، وَإِمَّا إِلْزَامُ الْخَصْمِ وَإِفْحَامُهُ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حُجَّةً حَقِيقِيَّةً يَقِينِيَّةً مُبَرَّأَةً مِنِ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ تَكُونَ مُفِيدَةً ظَنًّا ظَاهِرًا وَإِقْنَاعًا، فَظَهَرَ انْحِصَارُ الْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ:
أَوَّلُهَا: الْحُجَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْعَقَائِدِ الْيَقِينِيَّةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْحِكْمَةِ.
وَثَانِيهَا: الْأَمَارَاتُ الظَّنِّيَّةُ وَهِيَ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ.
وَثَالِثُهَا: الدَّلَائِلُ الَّتِي الْقَصْدُ مِنْهَا إِفْحَامُ الْخَصْمِ وَذَلِكَ هُوَ الْجَدَلُ.
وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ، لِأَنَّهُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْجَدَلُ الْوَاقِعُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ بَاطِلَةٍ يُحَاوِلُ قَائِلُهَا تَرْوِيجَهَا عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ بِالْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ. وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْفَضْلِ»
اه.
وَهَذَا هُوَ الْمَدْعُوُّ فِي الْمَنْطِقِ بِالسَّفْسَطَةِ، وَمِنْهُ الْمُقَدِّمَاتُ الشِّعْرِيَّةُ وَهِيَ سَفْسَطَةٌ مُزَوَّقَةٌ.
وَالْآيَةُ جَامِعَةٌ لِأَقْسَامِ الْحُجَّةِ الْحَقِّ جَمْعًا لِمَوَاقِعِ أَنْوَاعِهَا فِي طُرُقِ الدَّعْوَةِ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّدَاخُلِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّبَايُنِ وَالتَّقْسِيمِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْمَنْطِقِيِّينَ، فَإِنَّ الْحُجَجَ الِاصْطِلَاحِيَّةَ عِنْدَهُمْ بَعْضُهَا قَسِيمٌ لِبَعْضٍ،
وَتُطْلَقُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَلَى مُدَّةِ حَيَاةِ الْأَفْرَادِ، أَيْ حَيَاةِ كُلِّ أَحَدٍ. وَوَصْفُهَا بِ (الدُّنْيَا) بِمَعْنَى الْقَرِيبَةِ، أَيِ الْحَاضِرَة غير المنتظرة، كَنَّى عَنِ الْحُضُورِ بِالْقُرْبِ، وَالْوَصْفُ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَهِيَ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَماءٍ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنَ (الْحَيَاةِ) الْمُضَافِ إِلَيْهِ (مَثَلَ). أَيِ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا لَهَا حَالَ أَنَّهَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ.
وَهَذَا الْمَثَلُ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِإِطْلَاقَيْهَا، فَهُمَا مَرَادَانِ مِنْهُ. وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنَاسُقُ ضَمَائِرِ الْجُمَعِ الْآتِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ- عُرِضُوا
-لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
[الْكَهْف: ٤٧- ٤٨].
وَاخْتِلَاطُ النَّبَاتِ: وَفْرَتُهُ وَالْتِفَافُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مِنْ قُوَّةِ الْخِصْبِ وَالِازْدِهَارِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِهِ) بَاءُ السَّبَبِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى (مَاءٍ) أَيْ فَاخْتَلَطَ النَّبَاتُ بِسَبَبِ الْمَاءِ، أَيِ اخْتَلَطَ بَعْضُ النَّبَاتِ بِبَعْضٍ. وَلَيْسَتِ الْبَاءُ لتعدية فعل فَاخْتَلَطَ إِلَى الْمَفْعُولِ
لِعَدَمِ وُضُوحِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَفِي ذِكْرِ الْأَرْضِ بَعْدَ ذِكْرِ السَّمَاءِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَ (أَصْبَحَ) مُسْتَعْمَلَةٌ بِمَعْنَى صَارَ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ.
وَالْهَشِيمُ: اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَهْشُومًا مُحَطَّمًا. وَالْهَشْمُ: الْكَسْرُ وَالتَّفْتِيتُ.
وتَذْرُوهُ الرِّياحُ أَيْ تُفَرِّقُهُ فِي الْهَوَاءِ. وَالذَّرْوُ: الرَّمْيُ فِي الْهَوَاءِ. شُبِّهَتْ حَالَةُ هَذَا الْعَالَمِ بِمَا فِيهِ بِحَالَةِ الرَّوْضَةِ تَبْقَى زَمَانًا بَهِجَةً خَضِرَةً ثُمَّ يَصِيرُ نَبْتُهَا بَعْدَ حِينٍ إِلَى اضْمِحْلَالٍ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ: الْمَصِيرُ مِنْ حَالٍ حَسَنٍ إِلَى حَال سيّء. وَهَذَا تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ لِأَنَّ الْحَالَةَ الْمُشَبَّهَةَ مَعْقُولَةٌ إِذْ لَمْ يَرَ النَّاسُ بَوَادِرَ تَقَلُّصِ بَهْجَةِ الْحَيَاةِ، وَأَيْضًا شُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِقْبَالِ نَعِيمِ الدُّنْيَا فِي الْحَيَاةِ مَعَ الشَّبَابِ وَالْجِدَةِ وَزُخْرُفِ الْعَيْشِ لِأَهْلِهِ، ثُمَّ تَقَلُّصِ ذَلِكَ وَزَوَالِ نَفْعِهِ ثُمَّ انْقِرَاضِهِ أَشْتَاتًا
أَنْ يَأْمُرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقُرْبَانِ دِيكٍ لِعُطَارِدٍ رَبِّ الْحِكْمَةِ. وَحَالُهُمْ بِخِلَافِ حَالِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَتَلَقُّونَ الْوَحْيَ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ الَّذِي لَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى، وَأَيَّدَهُمُ اللَّهُ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ مُصَانَعَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَكَوَّنَهُمْ تَكْوِينًا خَاصًّا مُنَاسِبًا لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ مُرَادِهِ مِنْهُمْ، وَثَبَّتَ قُلُوبَهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ اللَّأْوَاءِ، وَلَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَإِنَّ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ نَظْرَةَ حَكِيمٍ يَجِدُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى مُرَاعَاةِ أَوْهَامٍ وَعَادَاتٍ.
وَالشَّقَاءُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ وَلا يَشْقى هُوَ شَقَاءُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ إِذَا سَلِمَ مِنَ الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا سَلِمَ مِنَ الشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَدُلُ لِهَذَا مُقَابَلَةُ ضِدِّهِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، إِذْ رَتَّبَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ هَدْيِ اللَّهِ اخْتِلَالَ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمَعِيشَةُ مُرَادٌ بِهَا مُدَّةُ الْمَعِيشَةِ، أَيْ مُدَّةُ الْحَيَاةِ.
وَالضَّنْكُ: مَصْدَرُ ضَنُكَ، مِنْ بَابِ كَرُمَ ضَنَاكَةً وَضَنْكًا، وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَفْظُهُ
بِاخْتِلَافِ مَوْصُوفِهِ، فَوَصَفَ بِهِ هُنَا مَعِيشَةً وَهِيَ مُؤَنَّثٌ. وَالضَّنْكُ: الضِّيقُ، يُقَالُ: مَكَانٌ ضَنْكٌ، أَيْ ضَيِّقٌ. وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي عُسْرِ الْأُمُورِ فِي الْحَيَاةِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
مَا إِنْ أَتَيْتُ بِشَيْءٍ أَنْتَ تَكْرَهُهُ إِذَنْ فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ يَدِي
إِنْ يَلْحَقُوا أَكْرُرْ وَإِنْ يَسْتَلْحِمُوا أَشْدُدْ وَإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ أَنْزِلِ
أَيْ بِمَنْزِلٍ ضَنْكٍ، أَيْ فِيهِ عُسْرٌ عَلَى نَازِلِهِ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى عُسْرِ الْحَالِ مِنَ اضْطِرَابِ الْبَالِ وَتَبَلْبُلِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَجَامِعَ هَمِّهِ وَمَطَامِحَ نَظَرِهِ تَكُونُ إِلَى التَّحَيُّلِ فِي إِيجَادِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ لِمَطَالِبِهِ، فَهُوَ مُتَهَالِكٌ عَلَى الِازْدِيَادِ خَائِفٌ عَلَى الِانْتِقَاصِ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْكِمَالَاتِ وَلَا مَأْنُوسٌ بِمَا يَسْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَبَعْضُهُمْ يَبْدُو لِلنَّاسِ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ وَرَفَاهِيَةِ عَيْشٍ وَلَكِنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مُطَمَئِنَّةٍ.
وَجُمْلَةُ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَيْسَ مِنَ الْمَقُولِ، فَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَيْسَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَيْنَكُمْ. وَالْمَقْصُودُ تَأْيِيدُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: هُوَ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ [الْحَج: ٦٧].
[٧٠]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٧٠]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)
اسْتِئْنَافٌ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ التَّأْيِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْحَج:
٦٩]، أَيْ فَهُوَ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَيُجَازِي كُلًّا عَلَى حِسَابِ عَمَلِهِ، فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ جَزَاءِ كُلٍّ بِمَا يَلِيقُ بِهِ.
وَمَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَا يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ وَمَا كَانُوا يُخَالِفُونَ فِيهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ أَوْ تَقْرِيرِيٌّ، أَيْ إِنَّكَ تَعْلَمُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّسْلِيَةِ أَيْ فَلَا تَضِقْ صَدْرًا مِمَّا تُلَاقِيهِ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، أَيْ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِلْمًا مُفَصَّلًا لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْكِتَابِ أَنْ لَا تَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أَوْ إِلَى (مَا) فِي قَوْله:
فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الْحَج: ٦٩].
جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ (لَوْ)، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ وَلَوْ شَاءَهُ لَفَعَلَهُ وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ عَدَمَ الْبَسْطِ لِلرَّسُولِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُدْرِكُونَ الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ وَالْقُصُورِ لَيْسَتِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا، أَيْ هِيَ جَنَّاتُ الْخُلْدِ وَقُصُورُ الْجَنَّةِ فَيَكُونُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ.
وَاقْتِرَانُ هَذَا الْوَعْدِ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ جَارٍ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَظَمَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَإِلَّا فَسِيَاقُ الْوَعْدِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِحُصُولِهِ، فَاللَّهُ شَاءَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، بِأَنْ يُقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ. فَمَوْقِعُ إِنْ شاءَ اعْتِرَاضٌ.
وَأَصْلُ الْمَعْنَى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ إِلَى آخِرِهِ. وَيُسَاعِدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً بِرَفْعِ يَجْعَلْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ دُونَ إِعْمَالِ حَرْفِ الشَّرْطِ، وَقِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ وَفِعْلُ الشَّرْطِ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ بِالْقَرِينَةِ، وَهَذَا الْمَحْمِلُ أَشَدُّ تَبْكِيتًا لِلْمُشْرِكِينَ وَقَطْعًا لِمُجَادَلَتِهِمْ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً [الْفرْقَان:
١١]، وَهُوَ ضِدٌّ وَمُقَابِلٌ لِمَا أَعَدَّهُ لِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَالْقُصُورُ: الْمَبَانِي الْعَظِيمَةُ الْوَاسِعَةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٤]، وَقَوْلِهِ: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فِي سُورَة الْحَج [٤٥].
[١١]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ١١]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١)
بَلْ لِلْإِضْرَابِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضْرَابَ انْتِقَالٍ مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ فِي صِفَةِ
الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ عَلَى تَأْوِيلِ الْجُمْهُورِ قَوْلَهُ: إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ [الْفرْقَان: ١٠] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ
أَمَّا الْيَهُودُ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَلَكِنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مَنْ يَتَهَوَّدُ كَمَا تَهَوَّدَ عَرَبُ الْيَمَنِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، أَوْ تَشْهِيرِ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، لَا يَخْلُو عَنْهَا عُلَمَاءُ مُوَحِّدُونَ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّصَّاحِ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودِ يَثْرِبَ يَعْرِضُ لِقُرَيْشٍ إِذَا مَرُّوا عَلَى يَثْرِبَ بِأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالٍ مِنَ الشِّرْكِ فَيَعْتَذِرُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهِيَ تُسَاوِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام:
١٥٥- ١٥٧].
فَيَتَّضِحُ بِهَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ أَخْبَارِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَأْنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَفِي شَأْنِ الرِّسَالَةِ وَالتَّدَيُّنِ، وَأَنَّ مَا حُكِيَ فِيهَا هُوَ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ وَمُجَازَفَتِهِمْ.
وَالْقَسَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرُهُ بِاللَّهِ، وَقَدْ يُقْسِمُونَ بِالْأَصْنَامِ وَبِآبَائِهِمْ وَعَمْرِهِمْ.
وَالْغَالِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا: بِاللات وَالْعُزَّى، وَلِذَلِكَ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
، أَيْ مَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ ذَلِكَ جَرْيَ الْكَلَامِ الْغَالِبِ وَذَلِكَ فِي صَدْرِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ.
وَجَهْدُ الْيَمِينِ: أَبْلَغُهَا وَأَقْوَاهَا. وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَهْدِ وَهُوَ التَّعَبُ، يُقَالُ: بَلَغَ كَذَا مِنِّي الْجَهْدُ، أَيْ عَمِلْتُهُ حَتَّى بَلَغَ عَمَلُهُ مِنِّي تَعَبِي، كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ عَزْمِهِ فِي الْعَمَلِ. فَجَهْدُ الْأَيْمَانِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ تَأْكِيدِهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٥٣]، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ النَّحْلِ وَسُورَةِ النُّورِ.
وَانْتَصَبَ جَهْدَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَا كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا وَهُوَ أَيْمانِهِمْ إِذْ هُوَ جمع يَمِينٍ وَهُوَ الْحَلِفُ

[٦]

[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها.
انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّاسِ وَهُوَ الْخَلْقُ الْعَجِيبُ. وَأُدْمِجَ فِيهِ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ أَصْلِهِمْ وَهُوَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تَشَعَّبَ مِنْهَا عَدَدٌ عَظِيمٌ وَبِخَلْقِ زَوْجِ آدَمَ لِيَتَقَوَّمَ نَامُوسُ التَّنَاسُلِ.
وَالْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَكْرِيرًا لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ أَقْبَلَ عَلَى خِطَابِهِمْ لِيَجْمَعَ فِي تَوْجِيهِ الِاسْتِدْلَالِ إِلَيْهِمْ بَيْنَ طَرِيقَيِ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عُطِفَ قَوْلُهُ: جَعَلَ مِنْها زَوْجَها بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالُّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِي لِأَنَّ مَسَاقَهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشَّرِيكِ بِمَرَاتِبِهِ، فَكَانَ خَلْقُ آدَمَ دَلِيلًا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَخَلْقُ زَوْجِهِ مِنْ نَفْسِهِ دَلِيلًا آخَرَ مُسْتَقِلُّ الدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ. فَعُطِفَ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِي إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِهَا بِالدَّلَالَةِ مِثْلَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا، فَكَانَ خَلْقُ زَوْجِ آدَمَ مِنْهُ أَدَلَّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَمِنْ زَوْجِهَا لِأَنَّهُ خَلَقٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ فَكَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ أَجْلَبُ لِعَجَبِ السَّامِعِ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فَجِيءَ لَهُ بِحَرْفِ التَّرَاخِي الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَرَاخِي الْمَنْزِلَةِ لَا فِي تَرَاخِي الزَّمَنِ لِأَنَّ زَمَنَ خَلْقِ زَوْجِ آدَمَ سَابِقٌ عَلَى خَلْقِ النَّاسِ. فَأَمَّا آيَةُ الْأَعْرَافِ فَمَسَاقُهَا مَسَاقُ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ، فَذُكِرَ الْأَصْلَانَ لِلنَّاسِ مَعْطُوفًا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ التَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْكَوْنُ أَصْلًا لِخَلْقِ النَّاسِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ ثَلَاثَ دَلَائِلَ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ خَلْقِ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى بِالْأَصَالَةِ وَخَلْقِ الذَّكَرِ الْأَوَّلِ بِالْإِدْمَاجِ وَخَلْقِ الْأُنْثَى بِالْأَصَالَةِ أَيْضًا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ يُؤْمِنُونَ بالتحتية. وقرأه ابْن عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ فَهُوَ الْتِفَاتٌ.
[٧- ١٠]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : الْآيَات ٧ الى ١٠]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً.
أَعْقَبَ ذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ الْعَاقِلِينَ الْمُنْتَفِعِينَ بِدَلَالَةِ آيَاتِ اللَّهِ وَمَا يُفِيدُهُ مَفْهُومُ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْرِيضٍ بِالَّذِينِ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، بِصَرِيحِ ذِكْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يَعْقِلُوهَا كَمَا وَصَفَ لِذَلِكَ قَوْلَهُ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: ٦].
وَافْتَتَحَ ذِكْرَهُ بِالْوَيْلِ لَهُ تَعْجِيلًا لِإِنْذَارِهِ وَتَهْدِيدِهِ قَبْلَ ذِكْرِ حَالِهِ. وَ (وَيْلٌ لَهُ) كَلِمَةُ دُعَاءٍ بِالشُّكْرِ وَأَصْلُ الْوَيْلِ الشَّرُّ وَحُلُولُهُ.
وَ (الْأَفَّاكُ) الْقَوِيُّ الْإِفْكِ، أَيِ الْكَذِبِ. وَالْأَثِيمُ مُبَالَغَةٌ أَوْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَبَالِغِ فِي اقْتِرَافِ الْآثَامِ، أَيِ الْخَطَايَا. وَفَسَّرَهُ الْفَيْرُوزَآبَادِيُّ فِي «الْقَامُوسِ» بِالْكَذَّابِ وَهُوَ
تَسَامُحٌ وَإِنَّمَا الْكَذِبُ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْأَثِيمِ.
وَجُعِلَتْ حَالَتُهُ أَنَّهُ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةِ وَهِيَ حَالَةُ تَكَرُّرِ سَمَاعِهِ آيَاتِ اللَّهِ وَتَكَرُّرِ إِصْرَارِهِ مُسْتَكْبِرًا عَنْهَا تَحْمِلُهُ عَلَى تَكْرِيرِ تَكْذِيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْرِيرِ الْإِثْمِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ أَفَّاكًا أَثِيمًا بَلْهَ مَا تَلَبَّسَ بِهِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي كُلُّهُ كَذِبٌ وإثم.
وَالْمرَاد بِكُل أَفَّاكٍ أَثِيمٍ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا دَعْوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَدُوا فِي مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبإ: ٣١]
لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ النِّدَاءَ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ لَا يَخْفَى عَلَى السَّامِعِينَ بِخِلَافِ النداء من كَانَ بَعِيدٍ.
وبِالْحَقِّ بِمَعْنَى: بِالصِّدْقِ وَهُوَ هُنَا الْحَشْرُ، وُصِفَ بِالْحَقِّ إِبْطَالًا لِزَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ اخْتِلَاقٌ.
وَالْخُرُوجُ: مُغَادَرَةُ الدَّارِ أَوِ الْبَلَدِ، وَأُطْلِقَ الْخُرُوجُ عَلَى التَّجَمُّعِ فِي الْمَحْشَرِ لِأَنَّ الْحَيَّ إِذَا نَزَحُوا عَنْ أَرْضِهِمْ قِيلَ: خَرَجُوا، يُقَالُ: خَرَجُوا بِقَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ جِيءَ بِهِ لِتَهْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ فَأُرِيدَ
كَمَالُ الْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْخَبَرِ الْعَظِيمِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.
ويَوْمُ الْخُرُوجِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، أَيِ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ تَذْيِيلٌ، أَيْ هَذَا الْإِحْيَاءُ بَعْدَ أَنْ أَمَتْنَاهُمْ هُوَ من شؤوننا بِأَنَّا نُحْيِيهِمْ وَنُحْيِي غَيْرَهُمْ وَنُمِيتُهُمْ وَنُمِيتُ غَيْرَهُمْ.
وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: وَنُمِيتُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: نُحْيِي فَإِنَّهُ لِاسْتِيفَاءِ مَعْنَى تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ.
وَتَقْدِيمُ إِلَيْنَا فِي إِلَيْنَا الْمَصِيرُ لِلِاهْتِمَامِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَصِيرُ إِمَّا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ كُلُّ شَيْءٍ صَائِرٌ إِلَى مَا قَدَّرْنَاهُ لَهُ وَأَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ نَامُوسُ الْفَنَاءِ الْمَكْتُوبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ وَإِمَّا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ الْمَصِيرُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَوْتُ لِأَنَّ الْمَصِيرَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ.
وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إِلَى قَوْلِهِ الْمَصِيرُ مَكَانٌ قَرِيبٌ هِيَ مَعَ مَا تُفِيدُهُ مِنْ تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرٌ بِطَرِيقَةِ التَّوْجِيهِ الْبَدِيعِيِّ إِلَى تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا عَقِبَ نِدَاءٍ يُفْزِعُهُمْ فَيَلْقَوْنَ إِثْرَهُ حَتْفَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ فخوطب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرَقُّبِ يَوْمٍ يُنَادِيهِمْ فِيهِ مُنَادٍ إِلَى الْخُرُوجِ وَهُوَ نِدَاءُ الصَّرِيخِ الَّذِي صَرَخَ بِأَبِي جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ بِمَكَّةَ بِأَنَّ عِيرَ قُرَيْشٍ وَفِيهَا أَبُو سُفْيَانَ قَدْ لَقِيَهَا الْمُسْلِمُونَ بِبَدْرٍ وَكَانَ الْمُنَادِي
بِعَظَمَةِ الْكَوَاكِبِ وَبِتَدَاوُلِهَا خِلْفَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ يَحِقُّ الْقَسَمُ بِهِ الرَّاجِعُ إِلَى الْقَسَمِ بِمُبْدِعِهِ.
وَيُطْلَقُ الْوُقُوعُ عَلَى الْحُلُولِ فِي الْمَكَانِ، يُقَالُ: وَقَعَتِ الْإِبِلُ، إِذَا بَرَكَتْ، وَوَقَعَتِ الْغَنَمُ فِي مَرَابِضِهَا، وَمِنْهُ جَاءَ اسْمُ الْوَاقِعَةِ لِلْحَادِثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمَوَاقِعُ: مَحَالُّ وُقُوعِهَا وَخُطُوطُ سَيْرِهَا فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: ١].
وَالْمَوَاقِعُ هِيَ: أَفْلَاكُ النُّجُومِ الْمَضْبُوطَةِ السَّيْرِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ بُرُوجُهَا وَمَنَازِلُهَا.
وَذِكْرُ (مَوَاقِعِ النُّجُومِ) عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَعْظِيمٌ لِأَمْرِهَا لِدَلَالَةِ أَحْوَالِهَا عَلَى دَقَائِقَ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ سَيْرِهَا وَبَدَائِعِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَسْخِيرِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مَوَاقِعِ) جَمْعُ مَوْقِعٍ الْمَصْدَرُ الْمِيمِيُّ لِلْوُقُوعِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ النُّجُومَ أَنَّهَا جَمْعُ نَجْمٍ وَهُوَ الْقِسْطُ الشَّيْءُ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ: نُجُومُ الدِّيَاتِ وَالْغَرَامَاتِ وَجَعَلُوا النُّجُومَ، أَيِ الطَّوَائِفَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ فَيُؤَوَّلُ إِلَى الْقَسَمِ بِالْقُرْآنِ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: ٢، ٣].
وَجُمْلَةُ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ.
وَضَمِيرُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَسَمِ الْمَذْكُور فِي فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، أَو عَائِدًا إِلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ بِتَأْوِيلِهِ بالمذكور فَيكون قسم بِمَعْنَى مُقْسَمٌ بِهِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الْقَسَمِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ.
وَجُمْلَةُ لَوْ تَعْلَمُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ وَهِيَ اعْتِرَاضٌ فِي اعْتِرَاضٍ.
وَالْعِلْمُ الَّذِي اقْتَضَى شَرْطُ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ عَدَمَ حُصُولِهِ لَهُمْ إِنْ جَعَلْتَ
وَمَعْنَى قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ جُعِلَ رِزْقُهُ مَقْدُورًا، أَيْ مَحْدُودًا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّضْيِيقِ. وَضِدُّهُ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غَافِر: ٤٠]، يُقَالُ: قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، إِذَا قَتَّرَهُ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٦] أَيْ مِنْ كَانَ فِي ضِيقٍ مِنَ الْمَالِ فَلْيُنْفِقْ بِمَا يَسْمَحُ بِهِ رِزْقُهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَفَاءِ بِالْإِنْفَاقِ وَمَرَاتِبِهِ فِي التَّقْدِيمِ.
وَهَذَا مُجْمَلٌ هُنَا تَفْصِيلُهُ فِي أَدِلَّةٍ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ،
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»
. وَالْمَعْرُوفُ: هُوَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي مُعْتَادِ تَصَرُّفَاتِهِمْ مَا لَمْ تُبْطِلْهُ الشَّرِيعَةُ.
وَالرِّزْقُ: اسْمٌ لِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي حَاجَاتِهِ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَمَتَاعٍ وَمَنْزِلٍ. سَوَاءٌ كَانَ أَعْيَانًا أَوْ أَثْمَانًا. وَيُطْلَقُ الرِّزْقُ كَثِيرًا عَلَى الطَّعَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: ٣٧].
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ النَّفَقَاتِ لَا تَتَحَدَّدُ بِمَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ
وَالْأَزْمَانِ وَالْبِلَادِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي التَّوَسُّعِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي مَالِ الْمُؤْسِرِ هَلْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى مَنْ يُنْفِقُ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا أَحْسَبُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا اخْتِلَافًا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ وَعَوَائِدِهِمْ وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ حَالِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَمُعْتَادِهِ، كَالزَّوْجَةِ الْعَالِيَةِ الْقَدْرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ: «مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»
. وَجُمْلَةُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ. لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٦]، وَهِيَ قَبْلَ سُورَةِ الطَّلَاقِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقْنَاعُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ مِنَ الْمُنْفِقِ أَكْثَرَ مِنْ مَقْدِرَتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُعْسِرِ إِذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِشْبَاعِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهَا وَإِكْسَائِهَا بِالْمَعْرُوفِ وَلَوْ بِشَظَفٍ، أَيْ دُونَ ضُرٍّ.
ومِمَّا آتاهُ اللَّهُ يَشْمَلُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَإِذَا كَانَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ

[سُورَة المدثر (٧٤) : آيَة ٥٢]

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢)
إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ لِذِكْرِ حَالَةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ عِنَادِهِمْ إِذْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نُؤْمِنُ لَكَ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا كِتَابٌ فِيهِ مِنَ اللَّهِ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَهَذَا مِنْ أَفَانِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ.
وَجُمِعَ (صُحُفٌ) إِمَّا لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ تَأْتِي الْوَاحِدَ مِنْهُمْ فِي شَأْنِهِ صَحِيفَةٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا أَنْ تَأْتِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَحِيفَةٌ بِاسْمِهِ وَكَانُوا جَمَاعَةً مُتَّفِقِينَ جُمِعَ لِذَلِكَ فَكَأَنَّ الصُّحُفَ جَمِيعَهَا جَاءَتْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ.
وَالْمُنَشَّرَةُ: الْمَفْتُوحَةُ الْمَقْرُوءَةُ، أَيْ لَا نَكْتَفِي بِصَحِيفَةٍ مَطْوِيَّةٍ لَا نَعْلَمُ مَا كُتِبَ فِيهَا ومُنَشَّرَةً مُبَالَغَةٌ فِي مَنْشُورَةٍ. وَالْمُبَالَغَةُ وَارِدَةٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ (نَشَرَ) الْمُجَرَّدُ مِنْ كَوْنِ الْكِتَابِ مَفْتُوحًا وَاضِحًا مِنَ الصُّحُفِ الْمُتَعَارِفَةِ. وَفِي حَدِيثِ الرَّجْمِ فنشروا التَّوْرَاة.
[٥٣]
[سُورَة المدثر (٧٤) : آيَة ٥٣]
كَلاَّ بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)
كَلَّا إِبْطَالٌ لِظَاهِرِ كَلَامِهِمْ وَمُرَادِهِمْ مِنْهُ وَرَدْعٌ عَنْ ذَلِكَ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ.
ثُمَّ أَضْرَبَ عَلَى كَلَامِهِمْ بِإِبْطَالٍ آخَرَ بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ فَقَالَ: بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أَيْ لَيْسَ مَا قَالُوهُ إِلَّا تَنَصُّلًا فَلَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مَا آمَنُوا وهم لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا فَكُنِّيَ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ بِعَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهَا، لِأَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا بِهَا لَخَافُوهَا إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يخَاف عَذَابهَا إِذْ كَانَتْ إِحَالَتُهُمُ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ أَصْلًا لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ.
وَأُوثِرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ فِي الْجَوَابَيْنِ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَتَجَدُّدِهِ كُلَّمَا حَصَلَ مَضْمُونُ الشَّرْطَيْنِ.
وَحَرْفُ كَلَّا زَجْرٌ عَنْ قَوْلِ الْإِنْسَانِ رَبِّي أَكْرَمَنِ عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ. وَقَوله:
رَبِّي أَهانَنِ عِنْد مَا يَنَالُهُ تَقْتِيرٌ، فَهُوَ رَدْعٌ عَنِ اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَمَنَاطُ الرَّدْعِ كِلَا الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْهُمَا صَادِرٌ عَنْ تَأَوُّلٍ بَاطِلٍ، أَيْ لَيْسَتْ حَالَةُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا دَلِيلًا عَلَى مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مُرَادُ اللَّهِ بِالطُّرُقِ الَّتِي أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً إِلَى قَوْلِهِ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٠٣- ١٠٥]. فَرُبَّ رَجُلٍ فِي نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ وَرُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَطْرُودٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ.
فَمَنَاطُ الرَّدْعِ جَعْلُ الْإِنْعَامِ عَلَامَةً عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ إِكْرَامَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَجَعْلُ التَّقْتِيرِ
عَلَامَةً عَلَى إِرَادَةِ الْإِهَانَةِ، وَلَيْسَ مَنَاطُهُ وُقُوعُ الْكَرَامَةِ وَوُقُوعُ الْإِهَانَةِ لِأَنَّ اللَّهَ أَهَانَ الْكَافِرَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَوْ شَاءَ إِهَانَتَهُ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ الْكُفْرِ لَأَهَانَ جَمِيعَ الْكَفَرَةِ بِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ.
وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ إِثْبَاتِ إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْسَانَ بِقَوْلِهِ: فَأَكْرَمَهُ وَبَيْنَ إِبْطَالِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا لِأَنَّ الْإِبْطَالَ وَارِدٌ عَلَى مَا قَصَدَهُ الْإِنْسَانُ بِقَوْلِهِ: رَبِّي أَكْرَمَنِ أَنَّ مَا نَالَهُ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَامَةٌ عَلَى رِضَى اللَّهِ عَنْهُ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ لِشَأْنِ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ النَّاسَ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَسْرَارًا وَعِلَلًا لَا يُحَاطُ بِهَا، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَهَالَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ إِدْرَاكِ سِرِّهَا بِأَقْيِسَةٍ وَهْمِيَّةٍ، وَالِاسْتِنَادِ لِمَأْلُوفَاتٍ عَادِيَّةٍ، وَأَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَتَطَلَّبُوا الْحَقَائِقَ مِنْ دَلَائِلِهَا الْعَقْلِيَّةِ، وَأَنْ يَعْرِفُوا مُرَادَ اللَّهِ مِنْ وَحْيِهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ أَنْ يَحِيدُوا بِالْأَدِلَّةِ عَنْ مَدْلُولِهَا. وَأَنْ يَسْتَنْتِجُوا الْفُرُوعَ مِنْ غَيْرِ أُصُولِهَا.
وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ فَهُمْ يَضَعُونَ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيَتَوَسَّمُونَ التَّوَسُّمَ الْمُسْتَنِدَ إِلَى الْهَدْيِ وَلَا يَخْلِطُونَ وَلَا يَخْبِطُونَ.


الصفحة التالية
Icon