وَالْبِنَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُرْفَعُ سُمْكُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلْوِقَايَةِ سَوَاءً كَانَ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مِنْ أَدَمٍ أَوْ مِنْ شَعْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ إِذَا تَزَوَّجَ لِأَنَّ الْمُتَزَوِّجَ يَجْعَلُ بَيْتًا يَسْكُنُ فِيهِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَقَدِ اشْتَهَرَ اطلاق الْبناء على الْقبَّة مَنْ أَدَمٍ وَلِذَلِكَ سَمُّوا الْأَدَمَ الَّذِي تُبْنَى مِنْهُ الْقِبَابُ مَبْنَاةً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣٢] :
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً.
فَإِنْ قُلْتَ يَقْتَضِي كَلَامُكَ هَذَا أَنَّ الِامْتِنَانَ بِجَعْلِ السَّمَاءِ كَالْبِنَاءِ لِوِقَايَةِ النَّاسِ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي أَشَرْتَ إِلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ وَذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْأَجْيَالُ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ زَمَانِ النُّزُولِ فَمَاذَا يَكُونُ حَظُّ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ بَيْنَهُمُ الْآيَة:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: ١٠] فِي عِدَّةِ أَجْيَالٍ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ لِلسَّمَاءِ خَاصِّيَّةَ الْبِنَاءِ فِي الْوِقَايَةِ وَغَايَةُ مَا كَانُوا يَتَخَيَّلُونَهُ أَنَّ السَّمَاءَ تُشْبِهُ سَقْفَ الْقُبَّةِ كَمَا قَالَتِ الْأَعْرَابِيَّةُ حِينَ سُئِلَتْ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّجُومِ: أَيَجْهَلُ أَحَدٌ خَرَزَاتٍ مُعَلَّقَةً فِي سقفه فتتمحض الْآيَةُ لِإِفَادَةِ الْعِبْرَةِ بِذَلِكَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنَ الِامْتِنَانِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَكُمُ فَهَلْ نَخُصُّ تَعَلُّقَهُ بِفِعْلِ جَعَلَ الْمُصَرَّحِ بِهِ دُونَ تَعَلُّقِهِ بِالْفِعْلِ
الْمَطْوِيِّ تَحْتَ وَاوِ الْعَطْفِ، أَوْ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فِراشاً فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالسَّماءَ بِناءً مَعْطُوفًا عَلَى مَعْمُولِ فِعْلِ الْجَعْلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّقْيِيدِ بِالْمُتَعَلِّقِ.
قُلْتُ: هَذَا يُفْضِي إِلَى التَّحَكُّمِ فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: لَكُمُ تَحَكُّمًا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لِلسَّامِعِ بَلِ الْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ لَكُمُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ جَعَلَ وَيَكْفِي فِي الِامْتِنَانِ بِخَلْقِ السَّمَاءِ إِشْعَارُ السَّامِعِينَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ مَا فِي إِقَامَةِ الْبِنَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ عَلَى الْإِجْمَالِ لِيَفْرِضَهُ السَّامِعُونَ عَلَى مِقْدَارِ قَرَائِحِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ ثُمَّ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ فِي قَابِلِ الْأَجْيَالِ.
وَحُذِفَ (لَكُمْ) عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاءِ إِيجَازًا لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي قَوْله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.
وَ (جَعَلَ) إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى أَوْجَدَ فَحَمْلُ الِامْتِنَانِ هُوَ إِنْ كَانَتَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى صَيَّرَ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ قَدِ انْتَقَلَتَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ حَتَّى صَارَتَا كَمَا هُمَا وَصَارَ أَظْهَرَ فِي مَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ وَقَوَاعِدُ عِلْمِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ (الْجِيُولُوجْيَا) تُؤْذِنُ بِهَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ مِنَّتَانِ وَعِبْرَتَانِ فِي جَعْلِهِمَا عَلَى مَا رَأَيْنَا وَفِي الْأَطْوَارِ الَّتِي انْتَقَلَتَا فِيهِمَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْنِهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما إِلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٠- ٣٢]
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها.
اعْتِرَاضٌ ثَانٍ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى الِاعْتِرَاضِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْمَقْصِدُ مِنْهُ التَّحْذِيرُ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حِرْصَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَقَّبَهُ بِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَعْقَبَهُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَجِيءَ بِصِيغَةِ يَرْتَدِدْ وَهِيَ صِيغَةُ مُطَاوَعَةٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ رُجُوعَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِنْ قُدِّرَ حُصُولُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ مُحَاوَلَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ لَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ رُجُوعُهُ عَنْهُ وَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ إِلَّا بِعَنَاءٍ، وَلَمْ يُلَاحَظِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي هُنَا إِذْ لَا اعْتِبَارَ بِالدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا نِيطَ الْحُكْمُ بِالِارْتِدَادِ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَيِّ دِينٍ وَمِنْ يَوْمِئِذٍ صَارَ اسْمُ الرِّدَّةِ لَقَبًا شَرْعِيًّا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِينِ
الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْخُرُوجِ رُجُوعٌ إِلَى دِينٍ كَانَ عَلَيْهِ هَذَا الْخَارِجُ.
وَقَوْلُهُ (فَيَمُتْ) مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ فَهُوَ كَشَرْطٍ ثَانٍ.
وَفِعْلُ حَبِطَ مِنْ بَابِ سَمِعَ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، قَالَ اللُّغَوِيُّونَ أَصْلُهُ مِنَ الْحَبَطِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ انْتِفَاخٌ فِي بُطُونِ الْإِبِلِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ فَتَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى إِبْطَالِ الْأَعْمَالِ تَمْثِيلٌ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَأْكُلُ الْخَضِرَ شَهْوَةً لِلشِّبَعِ فَيَئُولُ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ، فَشَبَّهَ حَالَ مَنْ عَمِلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِنَفْعِهَا فِي الْآخِرَةِ فَلَمْ يَجِدْ لَهَا أَثَرًا بِالْمَاشِيَةِ الَّتِي أَكَلَتْ حَتَّى أَصَابَهَا الْحَبَطُ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُقَيَّدِ الْأَعْمَالُ بِالصَّالِحَاتِ لِظُهُورِ ذَلِكَ التَّمْثِيلِ.
وَحَبَطُ الْأَعْمَالِ: زَوَالِ آثَارِهَا الْمَجْعُولَةِ مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا شَرْعًا، فَيَشْمَلُ آثَارَهَا فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ سِرُّ قَوْلِهِ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.
فَالْآثَارُ الَّتِي فِي الدُّنْيَا هِيَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ وَأَوَّلُهَا آثَارُ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ مِنْ حُرْمَةِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَآثَارُ الْعِبَادَاتِ وَفَضَائِلُ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ وَالْأُخُوَّةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَوَلَاءُ الْإِسْلَامِ وَآثَارُ الْحُقُوقِ مثل حق الْمُسلمين فِي بَيْتِ الْمَالِ وَالْعَطَاءِ وَحُقُوقِ التَّوَارُثِ وَالتَّزْوِيجِ فَالْوِلَايَاتِ وَالْعَدَالَةِ وَمَا ضَمِنَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلَ قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: ٩٧].
جَوَابًا مِنْهُ عَنْ قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [الْأَنْعَام: ٨١]. تَوَلَّى جَوَابَ اسْتِفْهَامِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ جَوَابَهُمْ لِكَوْنِ الْجَوَابِ مِمَّا لَا يَسَعُ الْمَسْئُولَ إِلَّا أَنْ يُجِيبَ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ تَبْكِيتٌ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا يَسْأَلُ الْعَالِمُ وَيُجِيبُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، أَيْ بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ قُلْتَ قُلْتُ».
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقِيلَ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدِ انْتَهَى قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: ٨١] بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِابْتِدَاءِ حُكْمٍ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَصْدِيقًا لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةٌ لِكَلَامٍ صَدَرَ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [الْأَنْعَام: ٨١]. وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: قَالَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِلَخ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ قَوْمِهِ لَمَا اسْتَمَرَّ بِهِمُ الضَّلَالُ وَالْمُكَابَرَةُ إِلَى حَدِّ أَنْ أَلْقَوْا إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ.
وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ آمَنُوا لِظُهُورِهِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ.
وَحَقِيقَةُ يَلْبِسُوا يَخْلِطُوا، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعَمَلِ بِشَيْئَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. شُبِّهَ بِخَلْطِ الْأَجْسَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَة: ٤٢].
وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ حَقٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِشْرَاكُ غَيْرِ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ فِي اعْتِقَادِ الْإِلَهِيَّةِ وَفِي الْعِبَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣] لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الِاعْتِدَاءِ، إِذْ هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ الْمُطْلَقِ الْعَظِيمِ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا وَقَوْلًا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ.
فَفِي الْحَدِيثِ «حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»
. وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُ الظُّلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالشِّرْكِ.
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «لَمَّا نَزَلَتِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»
[لُقْمَان: ١٣] اهـ. وَذَلِكَ أَنَّ الشِّرْكَ جَمَعَ بَيْنَ
وَقَالَ مَعْدَانُ بْنُ جَوَّاسٍ الْكِنْدِيُّ، أَوْ حُجَيَّةُ بْنُ الْمُضَرِّبِ السَّكُونِيُّ:
إِنْ كَانَ مَا بُلِّغْتِ عَنِّي فَلَامَنِي | صَدِيقِي وَشَلَّتْ مِنْ يَدَيَّ الْأَنَامِلُ |
وَكُفِّنْتُ وَحْدِي مُنْذَرًا بِرِدَائِهِ | وَصَادَفَ حَوْطًا مِنْ أَعَادِيَّ قَاتِلُ |
بُقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا | وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ |
إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً | لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِنْ نَهَابِ نُفُوسِ |
فَمَعْنَى كَلَامِهِمْ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ حَقًّا مِنْ عِنْدِكَ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَأَصِبْنَا بِالْعَذَابِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ وَلَيْسَ الشَّرْطُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى يُفِيدَ تَرَدُّدَهُمْ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَلَكِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَمِينِ وَقَدْ كَانُوا لِجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يَتَصَدَّى لِمُخَاطَرَتِهِمْ، فَإِذَا سَأَلُوهُ أَنْ يُمْطِرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنْهُ أَمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةَ وَأَرَادُوا أَنْ يُظْهِرُوا لِقَوْمِهِمْ صِحَّةَ جَزْمِهِمْ بِعَدَمِ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ فَأَعْلَنُوا الدُّعَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ عَاجِلٌ إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ لِيَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِ نُزُولِ الْعَذَابِ
عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ كَمَا عَلِمْتَ.
وَتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، فَهُمْ غَيْرُ جَازِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَمُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ بَلْ هُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ وَالْيَقِينُ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ أَخَصُّ مِنْ عَدَمِ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ حَقٌّ.
وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ فَهُوَ يَقْتَضِي تَقَوِّي الْخَبَرِ أَيْ: إِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا وَمِنْ عِنْدِكَ بِلَا شَكٍّ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ فَاجْتَمَعَ فِي التَّرْكِيبِ تَقَوٍّ وَحَصْرٌ وَذَلِكَ تَعْبِيرُهُمْ يَحْكُونَ بِهِ أَقْوَالَ الْقُرْآنِ الْمُنَوِّهَةَ بِصِدْقِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمرَان: ٦٢]
فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهَا التَّبَايُنُ. أَمَّا طُرُقُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْوَجْهِيُّ. وَتَفْصِيلُهُ يَخْرُجُ بِنَا إِلَى تَطْوِيلٍ، وَذِهْنُكَ فِي تَفْكِيكِهَا غَيْرُ كَلِيلٍ.
فَإِلَى الْحِكْمَةِ تَرْجِعُ صِنَاعَةُ الْبُرْهَانِ لِأَنَّهُ يَتَأَلَّفُ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ وَهِيَ حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ تَقْتَضِي حُصُولَ مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.
وَإِلَى الْمَوْعِظَةِ تَرْجِعُ صِنَاعَةُ الْخَطَابَةِ لِأَنَّ الْخَطَابَةَ تَتَأَلَّفُ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ظَنِّيَّةٍ لِأَنَّهَا مُرَاعًى فِيهَا مَا يَغْلِبُ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ الْمُعْتَادَةِ. وَكَفَى بِالْمَقْبُولَاتِ الْعَادِيَّةِ مَوْعِظَةً. وَمِثَالُهَا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا [سُورَة النِّسَاء: ٢٢] فَقَوْلُهُ: وَمَقْتاً أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَهُ نِكَاحَ الْمَقْتِ، فَأُجْرِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ لِأَنَّهُ مُقْنِعٌ بِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ خَطَابِيٌّ.
وَأَمَّا الْجَدَلُ فَمَا يُورَدُ فِي الْمُنَاظَرَاتِ وَالْحِجَاجِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُسَلَّمَةِ بَيْنَ الْمُتَحَاجِّينَ أَوْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمَشْهُورَةِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ الْجَدَلِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يَرُوجُ فِي خُصُوصِ الْمُجَادَلَةِ وَلَا يَلْتَحِقُ بِمَرْتَبَةِ الْحِكْمَةِ. وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا يُقْبَلُ مِثْلُهُ فِي الْمَوْعِظَةِ لَوْ أُلْقِيَ فِي غَيْرِ حَالِ الْمُجَادَلَةِ. وَسَمَّاهُ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ جَدَلًا تَقْرِيبًا لِلْمَعْنَى الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الدَّعْوَةِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ، وَبَعْدَ وَصْفِ أَحْوَالِ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.
بِهَيْئَةِ إِقْبَالِ الْغَيْثِ مُنْبِتِ الزَّرْعِ وَنَشْأَتِهِ عَنْهُ وَنَضَارَتِهِ وَوَفْرَتِهِ ثُمَّ أَخْذِهِ فِي الِانْتِقَاصِ وَانْعِدَامِ التَّمَتُّعِ بِهِ ثُمَّ تَطَايُرِهِ أَشْتَاتًا فِي الْهَوَاءِ، تَشْبِيهًا لِمُرَكَّبٍ مَحْسُوسٍ بِمُرَكَّبٍ مَحْسُوسٍ وَوَجْهُ الشَّبَهِ كَمَا عَلِمْتَ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ. مَوْقِعُهَا التَّذْكِيرُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا، وَجَعْلُ أَوَائِلِهَا مُفْضِيَةً إِلَى أَوَاخِرِهَا، وَتَرْتِيبُهُ أَسْبَابَ الْفَنَاءِ عَلَى أَسْبَابِ الْبَقَاءِ، وَذَلِكَ اقْتِدَارٌ عَجِيبٌ. وَقَدْ أُفِيدَ ذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ بِالْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ بِذَلِكَ الْعُمُومِ أَشْبَهَ التَّذْيِيلَ. وَالْمُقْتَدِرُ:
الْقوي الْقُدْرَة.
[٤٦]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٤٦]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
اعْتِرَاضٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَوْعِظَةُ وَالْعِبْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النِّعْمَةِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ مَا هُوَ إِلَّا زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي عَلِمْتُمْ أَنَّهَا إِلَى زَوَالٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: ١٩٦] وَأَنَّ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَخَيْرٌ أَمَلًا. وَالِاغْتِبَاطُ بِالْمَالِ وَالْبَنِينَ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْعَرَبِ، قَالَ طَرَفَةُ:
فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كَنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ | وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كَنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ |
فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي | بَنُونَ كِرَامٌ سادة لمسوّد |
وَجَعَلَ اللَّهُ عِقَابَهُ يَوْمَ الْحَشْرِ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى تَمْثِيلًا لِحَالَتِهِ الْحِسِّيَّةِ يَوْمَئِذٍ بِحَالَتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ حَالَةُ عَدَمِ النَّظَرِ فِي وَسَائِلَ الْهُدَى والنجاة. وَذَلِكَ الْعَمى عُنْوَانٌ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِقْصَائِهِ عَنْ رَحْمَتِهِ، فَ أَعْمى الْأَوَّلُ مُجَازُ وأَعْمى الثَّانِي حَقِيقَةٌ.
وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَجُمْلَةُ قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ إِلَخْ وَاقِعَةٌ فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَبْلَغَ الْإِنْسَانَ مِنْ يَوْمِ نَشْأَتِهِ التَّحْذِيرَ مِنَ الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا فِي الْفِطْرَةِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: بِأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ مِنَ الْأُمَم الَّتِي يكون فِي الفتر بَيْنَ الشَّرَائِعِ مُسْتَحِقٌّ صَاحِبُهُ الْعِقَابَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ قَاطِبَةً: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْلِ (١)، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ إِلَى الْحَذَرِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنْذَارٌ لَهُمْ بِعَاقِبَةٍ مِثْلِ حَالِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ فِي كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَى الْمُضَمَّنِ فِي قَوْلِهِ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَالِ الَّتِي تَسَاءَلْتَ عَنْ سَبَبِهَا كُنْتَ نَسِيتَ آيَاتِنَا حِينَ أَتَتْكَ، وَكُنْتَ تُعْرِضُ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ حِينَ تُدْعَى إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْحَالُ كَانَ عِقَابُكَ عَلَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَةُ احْتِبَاكَاتٍ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَوَّلِ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى وَنَنْسَاهُ، أَيْ نُقْصِيهِ مِنْ رَحْمَتِنَا. وَتَقْدِيرُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَعَمِيتَ عَنْهَا فَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَتُحْشَرُ أَعْمَى.
_________
(١) فِي المطبوعة (بِالْفِعْلِ).
وَالْكِتَابُ هُوَ مَا بِهِ حِفْظُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ: إِمَّا عَلَى تَشْبِيهِ تَمَامِ الْحِفْظِ بِالْكِتَابَةِ، وَإِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِذَلِكَ كِتَابًا لَائِقًا بِالْمُغَيَّبَاتِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ الِاسْتِفْهَام من الْكِتَابَة عَنِ الْجَزَاءِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى مَضْمُونِ الِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْكِنَايَةِ فَتَأْوِيلُهُ بِالْمَذْكُورِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا بَيَانًا لِجُمْلَةِ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْعِلْمِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ يَعْلَمُ، أَيْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ حَاصِلٌ دُونَ اكْتِسَابٍ، لِأَنَّ عِلْمَهُ ذَاتِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُطَالَعَةٍ وَبَحْثٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ يَسِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِهِ فِي جَانِبِ عِلْمِ الله تَعَالَى.
[٧١]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٧١]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ حَرْفَ عَطْفٍ وَتَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ بِمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْله جادَلُوكَ [الْحَج: ٦٨]، وَالْمَعْنَى: جَادَلُوكَ فِي الدِّينِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ بَعْدَ مَا رَأَوْا مِنَ الدَّلَائِلِ، وَتَتَضَمَّنُ الْحَالُ تَعْجِيبًا مِنْ شَأْنِهِمْ فِي مُكَابَرَتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ.
عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ عَطِيَّةَ مِنَ الْوَعْدِ بِإِيتَائِهِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ بَلْ هُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِأَنَّ حَظَّ الرَّسُولِ عِنْدَ رَبِّهِ لَيْسَ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِي الْحَقِيرِ وَلَكِنَّهُ فِي خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ الْخَالِدَةِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، أَيْ أَنَّ هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَمُقْنِعٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يُصَدِّقُونَ بِالسَّاعَةِ وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا فَهُمْ مُتَمَادُونَ عَلَى ضَلَالِهِمْ لَا تُقْنِعُهُمُ الْحُجَجُ.
وَالسَّاعَةُ: اسْمٌ غَلَبَ عَلَى عَالَمِ الْخُلُودِ، تَسْمِيَةً بِاسْمِ مَبْدَئِهِ وَهُوَ سَاعَةُ الْبَعْثِ. وَإِنَّمَا قَصَرَ تَكْذِيبَهُمْ عَلَى السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ فَهُمْ بِمَا وَرَاءَهُ أَحْرَى تَكْذِيبًا.
وَجُمْلَةُ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً مُعْتَرِضَةٌ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ، وَهُوَ لِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ. وَمِنْ غَرَضِهِ مُقَابَلَةُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْعَاقِبَةِ بِمَا أَعَدَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالسَّعِيرُ: الِالْتِهَابُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَسْعُورٌ، أَيْ زِيدَ فِيهَا الْوَقُودُ، وَهُوَ مُعَامَلٌ مُعَامَلَةَ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ اللَّهَبِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٧]. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى جَهَنَّمَ وَذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَات سعير.
[١٢- ١٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
تَخَلَّصَ مِنَ الْيَأْسِ مِنِ اقْتِنَاعِهِمْ إِلَى وَصْفِ السَّعِيرِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ، وَأُجْرِيَ عَلَى السَّعِيرِ ضَمِيرُ رَأَتْهُمْ بِالتَّأْنِيثِ لِتَأْوِيلِ السَّعِيرِ بِجَهَنَّمَ إِذْ هُوَ عَلَمٌ عَلَيْهَا بِالْغَلَبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ إِلَى النَّارِ اسْتِعَارَةٌ وَالْمَعْنَى: إِذَا سِيقُوا إِلَيْهَا فَكَانُوا مِنَ النَّارِ بِمَكَانٍ مَا يَرَى الرَّائِي مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا مِنْ مَكَانٍ
فَهُوَ مُرَادِفٌ لِ أَقْسَمُوا، فَتَقْدِيرُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ قَسَمًا جَهْدًا، وَهُوَ صِفَةٌ بِالْمَصْدَرِ أُضِيفَتْ إِلَى مَوْصُوفِهَا.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَقْسَمُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ الْآيَة [طه: ١٢٠].
وَعَبَّرَ عَنِ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ مُجَادَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِيَّاهُمْ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى تَخْوِيفٍ وَإِنْذَارٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى وَصْفِ النَّذِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [الْمَائِدَة: ١٩]. وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنْ تَكُونَ الْمُجَادَلَةُ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ النَّصَارَى لِأَنَّ الْإِنْجِيلَ مُعْظَمُهُ نِذَارَةٌ.
وإِحْدَى الْأُمَمِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ ذَاتِ الدِّينِ فَإِنْ عَنَوْا بِهَا أُمَّةً مَعْرُوفَةً: إِمَّا الْأُمَّةَ النَّصْرَانِيَّةَ، وَإِمَّا الْأُمَّةَ الْيَهُودِيَّةَ، أَوِ الصَّابِئَةَ كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِ إِحْدَى الْأُمَمِ إِبْهَامًا لَهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْهَامًا مِنْ كَلَامِ الْمُقْسِمِينَ تَجَنُّبًا لِمُجَابَهَةِ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِصَرِيحِ التَّفْضِيلِ عَلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْهَامًا مِنْ كَلَامِ الْقُرْآنِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّرَفُّعِ عَمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ أَشْهَدُوا اللَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ يَكُونُوا أَسْبَقَ مِنْ غَيْرِهِمُ اهْتِدَاءً فَإِذَا هُمْ لَمْ يَشُمُّوا رَائِحَةَ الِاهْتِدَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَظَرُوا فِي قَسَمِهِمْ بِهَدْيِ الْيَهُودِ، وَفَرِيقٌ نَظَرُوا بِهَدْيِ النَّصَارَى، وَفَرِيقٌ بِهَدْيِ الصَّابِئَةِ، فَجَمَعَتْ عِبَارَةُ الْقُرْآنِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ لِيَأْتِيَ عَلَى مَقَالَةِ كُلِّ فَرِيقٍ مَعَ الْإِيجَازِ.
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْأُمَمِ بِمَعْنَى أَفْضَلِ الْأُمَمِ، فَيَكُونَ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُقْسِمِينَ، أَيْ أَهْدَى مِنْ أَفْضَلِ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى التَّنْظِيرِ بِمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِحْدَى الْإِحَدِ (بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ فِي الْإِحَدِ) وَلَا يَتِمُ التَّنْظِيرُ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إِحْدَى الْإِحَدِ، جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي اسْتِعْظَامِ الْأَمْرِ فِي الشَّرِّ أَوِ الْخَيْرِ. وَقَرِينَةُ إِرَادَةِ الِاسْتِعْظَامِ إِضَافَةُ «إِحْدَى» إِلَى اسْمٍ مِنْ لَفْظِهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعْنًى يُرَادُ فِي حَالَةِ تَجَرُّدِ إِحْدَى عَنِ الْإِضَافَةِ.
وَبَيْنَ: أَهْدى وإِحْدَى الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا وَمَا يُؤْثَرُ مِنْ تَنَصُّرِ بَعْضِ الْعَرَبِ وَمِنِ اتِّسَاعِ بَعْضِهِمْ فِي
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.
اسْتِدْلَالٌ بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْعَامِ عُطِفَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ يَوْمَئِذٍ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ بِالْأَنْعَامِ وَلَا تَخْلُو الْأُمَمُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ وَلَمْ تَزَلِ الْحَاجَةُ إِلَى الْأَنْعَامِ حَافَّةً بِالْبَشَرِ فِي قِوَامِ حَيَاتِهِمْ. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَبَيْنَ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لِمُنَاسِبَةِ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ لِزَوْجِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
لَكُمْ لِأَنَّ فِي الْأَنْعَامِ مَوَادَّ عَظِيمَةً لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْل: ٥- ٧] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها إِلَخْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٠].
وَالْإِنْزَالُ: نَقْلُ الْجِسْمِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَذْلِيلِ الْأَمْرِ الصَّعْبِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الصَّعْبَ يُتَخَيَّلُ صَعْبَ الْمَنَالِ كَالْمُعْتَصِمِ بِقِمَمِ الْجِبَالِ، قَالَ خَصَّابُ بْنُ الْمُعَلَّى مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
أَنْزَلَنِي الدَّهْرُ عَلَى حُكْمِهِ | مِنْ شَاهِقٍ عَالٍ إِلَى خَفْضِ |
وَبِخَاصَّةٍ زُعَمَاءُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَيِمَّةُ الْكُفْرِ مِثْلَ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبِي جَهْلٍ وَقُرَنَائِهِمْ. وآياتِ اللَّهِ أَيِ الْقُرْآنُ فَإِنَّهَا الْمَتْلُوَّةُ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِصْرَارَ بَعْدَ سَمَاعِ مِثْلِ تِلْكَ الْآيَاتِ أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ، فَهُوَ يُصِرُّ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ اللَّهِ وَلَيْسَ إِصْرَارُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ.
وَالْإِصْرَارُ: مُلَازَمَةُ الشَّيْءِ وَعَدَمُ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يُصِرُّ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: ٦].
وَشَبَّهَ حَالَهُمْ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْآيَاتِ بِحَالِهِمْ فِي انْتِفَاءِ سَمَاعِ الْآيَاتِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ كِنَايَةً عَنْ وُضُوحِ دَلَالَةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ أَنَّ مَنْ يَسْمَعُهَا يُصَدِّقُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فَلَوْلَا إِصْرَارُهُمْ وَاسْتِكْبَارُهُمْ لَانْتَفَعُوا بِهَا.
وكَأَنْ أَصْلُهَا (كَأَنَّ) الْمُشَدَّدَةُ فَخُفِّفَتْ فَقُدِّرَ اسْمُهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَفُرِّعَ عَلَى حَالَتِهِمْ هَذِهِ إِنْذَارُهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِنْذَارِ اسْمُ الْبِشَارَةِ الَّتِي هِيَ الْإِخْبَار بِمَا يسر عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً السَّمْعُ، أَيْ إِذَا أَلْقَى سَمْعَهُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ اتَّخَذَهُ هُزُؤًا، أَيْ لَا يَتَلَقَّى شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا لِيَجْعَلَهُ ذَرِيعَةً لِلْهُزْءِ بِهِ، فَفِعْلُ عَلِمَ هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى عَرَفَ.
وَضَمِيرُ التَّأْنِيثِ فِي اتَّخَذَها عَائِدٌ إِلَى آياتِنا، أَيِ اتَّخَذَ الْآيَاتِ هزؤا لِأَنَّهُ يستهزىء بِمَا عَلِمَهُ مِنْهَا وَبِغَيْرِهِ، فَهُوَ إِذَا عَلِمَ شَيْئًا مِنْهَا اسْتَهْزَأَ بِمَا عَلِمَهُ وَبِغَيْرِهِ.
وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمُ الْآيَاتِ هُزُؤًا: أَنَّهُمْ يَلُوكُونَهَا بِأَفْوَاهِهِمْ لَوْكَ الْمُسْتَهْزِئِ بِالْكَلَامِ، وَإِلَّا فَإِنَّ مُطْلَقَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْآيَاتِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَمِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِبَعْضِ
الْآيَاتِ تَحْرِيفُهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا وَتَحْمِيلُهَا غَيْرَ الْمُرَادِ مِنْهَا عَمْدًا لِلِاسْتِهْزَاءِ، كَقَوْلِ أَبِي جَهِلٍ لَمَّا سَمِعَ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخان: ٤٣، ٤٤] تَجَاهَلَ بِإِظْهَارِ أَنَّ الزَّقُّومَ اسْمٌ
ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ إِذْ جَاءَ عَلَى بَعِيرِهِ فَصَرَخَ بِبَطْنِ الْوَادِي: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ.
فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا وَخَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ. فَالْمَكَانُ الْقَرِيبُ هُوَ بَطْنُ الْوَادِي فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ.
وَالْخُرُوجُ: خُرُوجُهُمْ لِبَدْرٍ، وَتَعْرِيفُ الْيَوْمِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُرُوجِ لِتَهْوِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ الَّذِي كَانَ اسْتِئْصَالُ سَادَتِهِمْ عَقِبَهُ. وَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَعِيدًا بِأَنَّ اللَّهَ يُمِيتُ سَادَتَهُمْ وَأَنَّهُ يُبْقِي مَنْ قَدَّرَ إِسْلَامَهُ فِيمَا بَعْدُ فَهُوَ يُحْيِيهِ إِلَى يَوْمِ أَجْلِهِ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ الْمُنادِ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَر بِدُونِ يَاء فِي الْوَصْل وبالياء فِي الْوَقْفِ، وَذَلِكَ جَارٍ عَلَى اعْتِبَارٍ أَنَّ الْعَرَبَ يُعَامِلُونَ الْمَنْقُوصَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ مُعَامَلَةَ الْمُنَكَّرِ وَخَاصَّةً فِي الْأَسْجَاعِ وَالْفَوَاصِلِ فَاعْتَبَرُوا عَدَمَ رَسْمِ الْيَاءِ فِي
آخِرِ الْكَلِمَةِ مُرَاعَاةً لِحَالِ الْوَقْفِ كَمَا هُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الرَّسْمِ لِأَنَّ الْأَسْجَاعَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى سُكُونِ الْأَعْجَازِ. وَقَرَأَهَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَخَلَفٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُعَامِلُ الْمَنْقُوصَ الْمُعَرَّفَ مُعَامَلَةَ الْمُنَكَّرِ. وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا اعْتِبَارًا بِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ قَدْ يُخَالِفُ قِيَاسَ الرَّسْمِ فَلَا يُخَالَفُ قِيَاسُ اللَّفْظ لأَجله.
[٤٤]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٤٤]
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤)
إِنْ جَرَيْتَ عَلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: ٤٢] أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْهَا مَعَ مَا فِي الْمَعَادِ مِنْهَا مِنْ تَأْكِيدٍ لِمُرَادِفِهِ. وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى مَا ارْتَأَيْتُهُ فِي مَحْمَلِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَفَادَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا اسْتِدْلَالًا عَلَى إِمْكَانِ الْحَشْرِ وَوَصْفِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَهُوَ تَشَقُّقُ الْأَرْضِ عَنْهُمْ، أَيْ عَنْ أَجْسَادٍ مَثِيلَةٍ لِأَجْسَادِهِمْ وَعَنِ الْأَجْسَادِ الَّتِي لَمْ يَلْحَقْهَا الْفَنَاءُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ تَشَقَّقُ بِفَتْحِ التَّاءِ
ضَمِيرَ إِنَّهُ عَائِدًا عَلَى الْقَسَمِ هُوَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ بِأَحْوَالِ مَوَاقِعِ النُّجُومِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَخْلُونَ مِنْ عِلْمٍ إِجْمَالِيٍّ مُتَفَاوِتٍ بِأَنَّ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِعِ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِينَ، أَوْ نُزِّلَ ذَلِكَ الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِأَنَّهُمْ بِكُفْرِهِمْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ فَلَوْ عَلِمُوا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُ مَوَاقِعِ النُّجُومِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَعَلِمُوا أَنَّهَا مَوَاقِعُ قُدْسِيَّةٌ لَا يَحْلِفُ بِهَا إِلَّا بَارٌّ فِي يَمِينِهِ وَلَكِنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ، فَإِنَّ جَلَالَةَ الْمُقْسَمِ بِهِ مِمَّا يَزَعُ الْحَالِفَ عَنِ الْكَذِبِ فِي يَمِينِهِ. وَدَلِيلُ انْتِفَاءِ عِلْمِهِمْ بِعَظَمَتِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ الله بالإلهية فأثبوا لَهُ شُرَكَاءَ لَمْ يَخْلُقُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا مَا يُدَانِيهِ فَتِلْكَ آيَةٌ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا مَا فِي طَيِّ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ حَتَّى اسْتَوَى عِنْدَهُمْ خَالِقُ مَا فِي تِلْكَ الْمَوَاقِعِ وَغَيْرُ خَالِقِهَا.
فَأَمَّا إِنْ جَعَلْتَ ضَمِيرَ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ عَائِدًا إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَمَا احْتَجْتُمْ إِلَى الْقَسَمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَواقِعِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبَعْدَهَا أَلِفٌ، وَقَرَأَهُ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَخلق بِمَواقِعِ سُكُونُ الْوَاوِ دُونَ أَلِفٍ بَعْدَهَا بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ بِوُقُوعِهَا، أَيْ غُرُوبِهَا، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِجِهَةِ غُرُوبِهَا كَقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: ٩].
وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظَمَتَهُ، أَيْ دَلَائِلَ عَظَمَتِهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَ تَعْلَمُونَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِلْمٌ لَكِنَّكُمْ لَا تَتَّصِفُونَ بِالْعِلْمِ.
وَضَمِيرُ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مُسْتَحْضَرًا لَهُمْ.
وَالْقُرْآنُ: الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ، أَيِ الْمَتْلُوُّ الْمُكَرَّرُ، أَيْ هُوَ كَلَامٌ مُتَّعَظٌ بِهِ مَحَلُّ تَدَبُّرٍ وَتِلَاوَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فِي
سُورَةِ يُونُسَ
الْإِنْفَاقُ قَادِرًا عَلَى الِاكْتِسَابِ لِيُنْفِقْ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُهُ أَوْ لِيُكَمِّلْ لَهُ مَا ضَاقَ عَنْهُ مَالُهُ، يُجْبَرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ. وَأَمَّا مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ فَنَفَقَتُهُ أَوْ نَفَقَةُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُهُ عَلَى مَرَاتِبِهَا تَكُونُ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
«وَأَنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تهْلك ماشيتهما يأتيني بِبَيِّنَةٍ يَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَيُّنَا»، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ».
وَفِي عَجْزِ الزَّوْجِ عَنْ إِنْفَاقِ زَوْجِهِ إِذَا طَلَبَتِ الْفِرَاقَ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ خِلَافٌ. فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مُوجِبًا بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَجَلِ رَجَاءٍ يَسُرُّ الزَّوْجُ وَقُدِّرَ بِشَهْرَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَيْ وَتُنْفِقُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالَّذِي يَقْتَضِيهُ النَّظَرُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ قَائِمًا فَإِنَّ مِنْ وَاجِبِهِ نَفَقَةَ الزَّوْجَيْنِ الْمُعْسِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى الْإِنْفَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَانَ حَقًّا أَنْ يُفَرِّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَلَا يَتْرُكَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا فِي احْتِيَاجٍ. وَمَحَلٌّ بَسْطِ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ.
وَجُمْلَةُ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً تَكْمِلَةٌ لِلتَّذْيِيلِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا يُنَاسِبُ مَضْمُونَ جُمْلَةِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.
وَقَوْلَهُ: سَيَجْعَلُ اللَّهُ إِلَخْ تُنَاسِبُ مَضْمُونَ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَخْ. وَهَذَا
الْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي بَعْثِ التَّرَجِّي وَطَرْحِ الْيَأْسِ عَنِ الْمُعْسِرِ مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ. وَمَعْنَاهُ:
عَسَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرِكُمْ يُسْرًا لَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا. وَهَذَا الْخَبَرُ لَا يَقْتَضِي إِلَّا أَنَّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَعْدَ عُسْرِ قَوْمٍ يُسْرًا لَهُمْ، فَمَنْ كَانَ فِي عُسْرٍ رَجَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ فَضْلُ اللَّهِ، فَيُبَدِّلُ عُسْرَهُ بِالْيُسْرِ.
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَعْدٌ لِكُلِّ مُعْسِرٍ بِأَنْ يَصِيرَ عُسْرُهُ يُسْرًا. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمُشَاهَدَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّكَلُّفِ بِأَنَّ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ يَوْمَئِذٍ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُبَدِّلُ عُسْرَهُمْ بِالْيُسْرِ، أَوْ وَعْدٌ لِلْمُنْفِقِينَ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا يَشِحُّونَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَسَعُهُ مَالُهُمْ. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْح: ٥].
[سُورَة المدثر (٧٤) : الْآيَات ٥٤ إِلَى ٥٦]
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)(كَلَّا) رَدْعٌ ثَانٍ مُؤَكِّدٌ لِلرَّدْعِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ لَا يُؤْتَوْنَ صُحُفًا مَنْشُورَةً وَلَا يُوزَعُونَ إِلَّا بِالْقُرْآنِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَنْ سُؤَالِهِمْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ صُحُفٌ مُنَشَّرَةٌ، بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ تَذْكِرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: ٥٠، ٥١]. فَضَمِيرُ إِنَّهُ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَتَنْكِيرُ تَذْكِرَةٌ لِلتَّعْظِيمِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ تَذْكِرَةٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [١٩].
وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّذَكُّرِ، أَيِ التَّذَكُّرُ طَوْعُ مَشِيئَتِكُمْ فَإِنْ شِئْتُمْ فَتَذَكَّرُوا.
وَالضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي ذَكَرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّهُ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَيَكُونُ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ وَأَصْلُهُ: ذَكَرَ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِاسْمِهِ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ مُسْتَحْضَرٌ مِنَ الْمَقَامِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل: ١٩].
وَضَمِيرُ شاءَ رَاجِعٌ إِلَى (مَنْ)، أَيْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ آنِفًا لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: ٣٧] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [١٩]
فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا.
وَهُوَ إِنْذَارٌ لِلنَّاسِ بِأَنَّ التَّذَكُّرَ بِالْقُرْآنِ يحصل إِذا شاؤوا التَّذَكُّرَ بِهِ. وَالْمَشِيئَةُ تَسْتَدْعِي التَّأَمُّلَ فِيمَا يُخَلِّصُهُمْ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى التَّقْصِيرِ وَهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي إِهْمَالِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ.
وَجُمْلَة وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِإِفَادَةٍ تَعَلُّمِهُمْ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَذَكُّرَ مَنْ شَاءُوا أَنْ يَتَذَكَّرُوا لَا يَقَعُ إِلَّا مَشْرُوطًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَنْ
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو رَبِّيَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ: أَكْرَمَنِ، وأَهانَنِ بِيَاءٍ بَعْدَ النُّونِ فِي الْوَصْلِ وَبِحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ.
وَقَرَأَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَهُمَا ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَهُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصحف بِدُونِ نون بعد الياءين وَلَا مُنَافَاةَ بَين الرِّوَايَة وَاسم الْمُصْحَفِ. وكَلَّا رَدْعٌ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ أَيْ لَيْسَ ابْتِلَاءُ اللَّهِ الْإِنْسَانَ بِالنَعِيمِ وَبِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ مُسَبَّبًا عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ تَكْرِيمَ الْإِنْسَانِ وَلَا عَلَى إِرَادَتِهِ إِهَانَتَهُ.
وَهَذَا رَدْعٌ مُجْمَلٌ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ لِتَبْيِينِهِ اكْتِفَاءً بِتَذْيِيلِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ فِي نِعْمَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفجْر: ١٤] بَعْدَ قَوْلِهِ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [الْفجْر: ١٣].
بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ١٨ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ١٩ وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ٢٠
بَلْ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ مُنَاسَبَةُ الْمُقَابَلَةِ لِمَضْمُونِ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ مِنْ جِهَةِ مَا تَوَهَّمُوهُ أَنَّ نِعْمَةَ مَالِهِمْ وَسَعَةَ عَيْشِهِمْ تَكْرِيمٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُكْرِمُوا عَبِيدَهُ شُحًّا بِالنِّعْمَةِ إِذْ حَرَمُوا أَهْلَ الْحَاجَةِ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَإِذْ يَسْتَزِيدُونَ مِنَ الْمَالِ مَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ دَحْضٌ لِتَفَخُّرِهِمْ بِالْكَرَمِ وَالْبَذْلِ.
فَجُمْلَةُ: لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ اسْتِئْنَافٌ كَمَا يَقْتَضِيهِ الْإِضْرَابُ، فَهُوَ إِمَّا اسْتِئْنَافُ ابْتِدَاءِ كَلَامٍ، وَإِمَّا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَّا وَأُخْتِهَا كَمَا سَيَأْتِي وإكرام الْيَتِيم: سدخلته، وَحُسْنُ مُعَامَلَتِهِ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ لِفَقْدِ عَائِلِهِ، وَلِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتْرُكُهَا الْآبَاءُ لِأَبْنَائِهِمُ الصِّغَارِ. وَقَدْ كَانَتِ الْأَمْوَالُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَدَاوَلُهَا رُؤَسَاءُ الْعَائِلَاتِ.