أَوْ بُلْدَانِهِمْ إِذِ الْعِبْرَةُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ ضَلَالِهِمْ أَوْ إِيمَانِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَوَاضِعُ الْعِبْرَةِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً إِلَى قَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً الْآيَاتِ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ مِنْ أَيِّ قَوْمٍ وَفِي أَيِّ عَصْرٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِيهَا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ [الْكَهْف: ١٩] فَلم يذكر أَيْن مَدِينَةٍ هِيَ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْعِبْرَةِ هُوَ انْبِعَاثُهُمْ وَوُصُولُ رَسُولِهِمْ إِلَى مَدِينَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الْكَهْف: ٢١].
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:
مَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةِ التَّارِيخِ من معرفَة ترَتّب الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالتَّعْمِيرِ وَالتَّخْرِيبِ لِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ وَتَحْذَرَ، قَالَ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: ٥٢] وَمَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةِ ظُهُورِ الْمُثُلِ الْعُلْيَا فِي الْفَضِيلَةِ وَزَكَاءِ النُّفُوسِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:
مَا فِيهَا مِنْ مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا لَحِقَ الْأُمَمَ الَّتِي عَانَدَتْ رُسُلَهَا، وَعَصَتْ أَوَامِرَ رَبِّهَا حَتَّى يَرْعَوُوا عَنْ غَلْوَائِهِمْ، وَيَتَّعِظُوا بِمَصَارِعِ نُظَرَائِهِمْ وَآبَائِهِمْ، وَكَيْفَ يُورِثُ الْأَرْضَ أَوْلِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ قَالَ تَعَالَى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: ١٧٦] وَقَالَ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسُف: ١١١] وَقَالَ:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٥] وَهَذَا فِي الْقِصَصِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا مَا لَقِيَهُ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ كَقِصَصِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَهْلِ الرَّسِّ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ.
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ:
أَنَّ فِي حِكَايَةِ الْقِصَصِ سُلُوكَ أُسْلُوبِ التَّوْصِيفِ وَالْمُحَاوَرَةِ وَذَلِكَ أُسْلُوبٌ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا للْعَرَب فَكَانَ مجيؤه فِي الْقُرْآنِ ابْتِكَارَ أُسْلُوبٍ جَدِيدٍ فِي الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ شَدِيدِ التَّأْثِيرِ فِي نُفُوسِ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَهُوَ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ إِذْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّهُ أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ إِذْ لَمْ يَعْتَادُوهُ، انْظُرْ إِلَى حِكَايَةِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْأَعْرَافِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ
فَكَانَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ عَجْزِ الْعَرَبِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:
أَنَّ الْعَرَبَ بِتَوَغُّلِ الْأُمِّيَّةِ وَالْجَهْلِ فِيهِمْ أَصْبَحُوا لَا تَهْتَدِي عُقُولُهُمْ إِلَّا بِمَا يَقَعُ تَحْتَ الْحِسِّ، أَوْ مَا يُنْتَزَعُ مِنْهُ فَفَقَدُوا فَائِدَةَ الِاتِّعَاظِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَجَهِلُوا مُعْظَمَهَا وَجَهِلُوا أَحْوَالَ الْبَعْضِ الَّذِي عَلِمُوا أَسْمَاءَهُ فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ إِعْرَاضًا عَنِ السَّعْيِ لِإِصْلَاحِ
إِلَى قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْبَقَرَة: ١٠١] الْآيَةَ وَمَا قَابَلَ بِهِ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، ثُمَّ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قِلَّةَ وَفَائِهِمْ بِوَصَايَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَأَنَّهُمْ سَدَنَةُ بَيْتِهِ فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة:
١١٤] الْآيَاتِ، فَنَوَّهَ بِإِبْرَاهِيمَ وَبِالْكَعْبَةِ وَاسْتِقْبَالِهَا وَشَعَائِرِهَا وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ رَدُّ مَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٤٦] (يُرِيدُ عُلَمَاءَهُمْ) ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِتَكْمِلَةِ فَضَائِلِ الْكَعْبَةِ وَشَعَائِرِهَا، فَلَمَّا تَمَّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا رَمَاهُمْ بِهِ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا إِلَخْ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي الْخَطَابَةِ هِيَ إِيفَاءُ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ حَقَّهُ وَتَقْصِيرُ الِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَثْنَائِهِ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى مَا يُهِمُّ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ اسْتِطْرَادٍ أَوِ اعْتِرَاضٍ تَخَلَّلَ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ.
فَجُمْلَةُ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إِلَخِ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ يَعْرِفُ مِنْهُ السَّامِعُ تَفْصِيلَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ إجماله، والتوكيد بإنّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَالْكَتْمُ وَالْكِتْمَانُ عَدَمُ الْإِخْبَارِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ مِنْ حَادِثٍ مَسْمُوعٍ أَوْ مَرْئِيٍّ وَمِنْهُ كَتْمُ السِّرِّ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي تُخْبِرُ بِهِ غَيْرَكَ وَتَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْتُمَهُ فَلَا يُخْبِرُهُ غَيْرَهُ.
وَعَبَّرَ فِي: يَكْتُمُونَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ كَاتِمُونَ لِلْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَلَوْ وَقَعَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الْمَعْنِيَ بِهِ قَوْمٌ مَضَوْا مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ. وَيُعْلَمُ حُكْمُ الْمَاضِينَ وَالْآتِينَ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ لِمُسَاوَاتِهِمْ فِي ذَلِك.
وَالْمرَاد بِمَا أَنْزَلْنَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ مِنَ الدَّلَائِلِ والإرشاد، وَالْمرَاد بِالْكتاب التَّوْرَاةُ.
وَالْبَيِّنَاتُ جُمَعُ بَيِّنَةٍ وَهِيَ الْحُجَّةُ وَشَمَلَ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، وَيَشْمَلُ الْأَدِلَّةَ الْمُرْشِدَةَ إِلَى الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَحْوَالِ الرُّسُلِ وَأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بدلائل صدق لَا سِيمَا الرَّسُولُ الْمَبْعُوثُ فِي إِخْوَةِ إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ ظَهَرَتْ بِعْثَتُهُ بَيْنَهُمْ وَانْتَشَرَتْ مِنْهُمْ، وَالْهُدَى هُوَ مَا بِهِ الْهُدَى أَيِ الْإِرْشَادُ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ فَيَشْمَلُ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ فِي مُجْتَمَعِهِمْ.
أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانَ الْمُنْفَقِ وَالْمَنْذُورِ بِمَا فِي تَنْكِيرِ مَجْرُورَيْ (مِنْ) مِنْ إِرَادَةِ أَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ فَأَكَّدَ بِذَلِكَ الْعُمُومِ مَا أَفَادَتْهُ مَا الشَّرْطِيَّةُ مِنَ الْعُمُومِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: «مِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ يَكُونُ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ وَمَنْعِ الْخُصُوصِ».
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِالْكَائِنَاتِ لَا يَشُكُّ فِيهِ السَّامِعُونَ، فَأُرِيدَ لَازِمُ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ لَازِمًا لَهُ لِأَنَّ الْقَادِرَ لَا يَصُدُّهُ عَنِ الْجَزَاءِ إِلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَا يَفْعَلُهُ الْمُحْسِنُ أَوِ الْمُسِيءُ.
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
هَذَا وَعِيدٌ قُوبِلَ بِهِ الْوَعْدُ الَّذِي كَنَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ عَلَنًا وَالْمُنَافِقُونَ، لِأَنَّهُمْ إِنْ مَنَعُوا الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةَ فَقَدْ ظَلَمُوا مَصَارِفَهَا فِي حَقِّهِمْ فِي الْمَالِ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِإِلْقَائِهَا فِي تَبِعَاتِ الْمَنْعِ، وَإِنْ مَنَعُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ فَقَدْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِحِرْمَانِهَا مِنْ فَضَائِلِ الصَّدَقَاتِ وَثَوَابِهَا فِي الْآخِرَةِ.
وَالْأَنْصَارُ جَمْعُ نَصِيرٍ، وَنَفْيُ الْأَنْصَارِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ النَّصْرِ وَالْغَوْثِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا بَخِلُوا بِنَصْرِهِمُ الْفَقِيرَ بِأَمْوَالِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْدِمُهُمُ النَّصِيرَ فِي الْمَضَائِقِ، وَيُقَسِّي عَلَيْهِمْ قُلُوبَ عِبَادِهِ، وَيُلْقِي عَلَيْهِمُ الْكَرَاهِيَةَ من النَّاس.
[٢٧١]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٧١]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَاشِئٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [الْبَقَرَة: ٢٧٠]، إِذْ أَشْعَرَ تَعْمِيمَ «مِنْ نَفَقَةٍ» بِحَالِ الصَّدَقَاتِ الْخَفِيَّةِ فَيَتَسَاءَلُ السَّامِعُ فِي نَفْسِهِ هَلْ إِبْدَاءُ الصَّدَقَاتِ يُعَدُّ رِيَاءً وَقَدْ سَمِعَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ [الْبَقَرَة: ٢٦٤]،
أَهْلَ الْكِتَابِ بَعْدَ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا آمَنُوا بِجَمِيعِ رُسُلِ اللَّهِ وَكُتُبِهِمْ كَانُوا يَنْسُبُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى هُدًى ذَهَبَ زَمَانُهُ، وَأَدْخَلُوا فِيهِ التَّحْرِيفَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ يَرْمُقُونَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالضَّلَالَةِ وَاتِّبَاعِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ. وَهَذَانَ النَّظَرَانِ، مِنَّا وَمِنْهُمْ، هُمَا أَصْلُ تَسَامُحِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قُوَّتِهِمْ، وَتَصَلُّبِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِمْ.
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ.
جُمْلَةُ وَتُؤْمِنُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تُحِبُّونَهُمْ كَمَا أَنَّ جُمْلَةَ وَإِذا لَقُوكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَكُلُّهَا أَحْوَالٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَى ضَمَائِرِ الْخِطَابِ وَضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ.
والتعريف فِي بِالْكِتابِ لِلْجِنْسِ وَأُكِّدَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ، وَأَرَادَ بِهَذَا جَمَاعَةً مِنْ مُنَافِقِي الْيَهُودِ أَشْهَرُهُمْ زَيْدُ بْنُ الصِّتِيتِ الْقَيْنُقَاعِيُّ.
وَالْعَضُّ: شَدُّ الشَّيْءِ بِالْأَسْنَانِ. وَعَضُّ الْأَنَامِلِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَالتَّحَسُّرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَضَّ أَنَامِلَ مَحْسُوسًا، وَلَكِنْ كُنِّيَ بِهِ عَنْ لَازَمِهِ فِي الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اضْطَرَبَ بَاطِنُهُ مِنَ الِانْفِعَالِ صَدَرَتْ عَنْهُ أَفْعَالٌ تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِنْفِعَالَ، فَقَدْ تَكُونُ مُعِينَةً عَلَى دَفْعِ انْفِعَالِهِ كَقَتْلِ عَدُوِّهِ، وَفِي ضِدِّهِ تَقْبِيلُ مَنْ يُحِبُّهُ، وَقَدْ تَكُونُ قَاصِرَةً عَلَيْهِ يَشْفِي بِهَا بَعْضَ انْفِعَالِهِ، كَتَخَبُّطِ الصَّبِيِّ فِي الْأَرْضِ إِذَا غَضِبَ، وَضَرْبِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ مِنَ الْغَضَبِ، وَعَضِّهِ أَصَابِعَهُ مِنَ الْغَيْظِ، وَقَرْعِهِ سِنَّهُ مِنَ النَّدَمِ، وَضَرْبِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ مِنَ التَّحَسُّرِ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّأَوُّهُ وَالصِّيَاحُ وَنَحْوُهَا، وَهِيَ ضُرُوبٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْجَزَعِ، وَبَعْضُهَا جِبِلِّيٌّ كَالصِّيَاحِ، وَبَعْضُهَا عَادِيٌّ يُتَعَارَفُهُ النَّاسُ وَيَكْثُرُ بَيْنَهُمْ، فَيَصِيرُونَ يَفْعَلُونَهُ بِدُونِ تَأَمُّلٍ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ الْمُرِّيُّ:
وَلَكِنَّهُمَا سَكَتَتَا عَنْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُمَا لِعِلْمِهِمَا بِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ، وَهَذَا أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ رَوَاهَا عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ، وَمَرْوَانُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيُّ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إِلَخْ ذِكْرُ حَالَةِ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الِاغْتِسَالِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ نَازِلَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ حُكْمِ التَّيَمُّمِ بِحَذَافِرِهِ. وَفِي جَمْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي نَسَقٍ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَحَصَلَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ عَلى سَفَرٍ بَيَانٌ لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ إِنْ كَانَ فِيهِ إِجْمَالٌ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ جَدِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلا من الْغُسْلِ، بِذِكْرِ التَّيَمُّمِ الْوَاقِعِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ إِيعَابًا لِنَوْعَيِ التَّيَمُّمِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِهِ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَذْكُورِ. فَالْمَرِيضُ أُرِيدَ بِهِ الَّذِي اخْتَلَّ نِظَامُ صِحَّتِهِ بِحَيْثُ صَارَ الِاغْتِسَالُ يَضُرُّهُ أَوْ يزِيد علّته. أَوْ جاءَ... مِنَ الْغائِطِ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ الْبَشَرِيَّةِ، شَاعَ فِي كَلَامِهِمُ التَّكَنِّي بِذَلِكَ لِبَشَاعَةِ الصَّرِيحِ.
وَالْغَائِطُ: الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَا غَابَ عَنِ الْبَصَرِ، يُقَالُ: غَاطَ فِي الْأَرْضِ- إِذَا غَابَ- يَغُوطُ، فَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَذْهَبُونَ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ مِنْ جِهَةِ الْحَيِّ بَعِيدٍ عَنْ بُيُوتِ سُكْنَاهُمْ، فَيُكِنُّونَ عَنْهُ: يَقُولُونَ ذَهَبَ إِلَى الْغَائِطِ أَوْ تَغَوَّطَ، فَكَانَتْ كِنَايَةً لَطِيفَةً ثُمَّ اسْتَعْمَلَهَا النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَسَمَجَتْ، فَصَارَ الْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى نَفْسِ الْحَدَثِ وَيُعَلِّقُونَهُ بِأَفْعَالٍ تُنَاسِبُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرىء (لامَسْتُمُ) - بِصِيغَة المفاعلة-، وقرىء (لَمَسْتُمْ) - بِصِيغَةِ الْفِعْلِ- كَمَا سَيَأْتِي، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَمَنْ حَاوَلَ التَّفْصِيلَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ تَحْصِيلٌ. وَأَصْلُ اللَّمْسِ الْمُبَاشَرَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَقَدْ أُطْلِقَ مَجَازًا وَكِنَايَةً عَلَى الِافْتِقَادِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الْجِنّ: ٨] وَعَلَى النُّزُولِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
لِيَلْتَمِسَنْ بِالْجَيْشِ دَارَ الْمُحَارِبِ
لَيْسَ فِيهَا وَلَدٌ وَفِيهَا وَالِدٌ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكَلَالَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: هِيَ كَلَالَةٌ.
وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُجِيبَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْفَرِيضَةِ، فَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ لَا لِلْقَصْرِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ الْمُسْتَفْتُونَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَنْطِقُ إِلَّا عَن وَحي، فَهِيَ لَمَّا اسْتَفْتَوْهُ فَإِنَّمَا طَلَبُوا حُكْمَ اللَّهِ، فَإِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى اللَّهِ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأُخْتِ هُنَا الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوِ الَّتِي لِلْأَبِ فِي عَدَمِ الشَّقِيقَةِ بِقَرِينَةٍ مُخَالِفَةٍ نَصِيبُهَا لِنَصِيبِ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ الْمَقْصُودَةِ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ الْأُولَى، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَهُوَ يَرِثُها لِأَنَّ الْأَخَّ لِلْأُمِّ لَا يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأُخْتِهِ لِلْأُمِّ وَلَدٌ إِذْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا السُّدُسُ.
وَقَوْلُهُ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ تَقْدِيرُهُ: إِنْ هَلَكَ امْرُؤٌ، فَامْرُؤٌ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِ (هَلَكَ) فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ (هَلَكَ) بِوَصْفٍ لِ (امْرُؤٌ) فَلِذَلِكَ كَانَ الِامْرُؤُ الْمَفْرُوضُ هُنَا جِنْسًا عَامًّا.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَرِثُها يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى لَفْظِ (امْرُؤٌ) الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، الْمُفِيدِ لِلْعُمُومِ: ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لَفْظُ (امْرُؤٌ) وَلَفْظُ (أَخٍ) أَوْ (أُخْتٍ)، وَكُلُّهَا نَكِرَاتٌ وَاقِعَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَهِيَ عَامَّةٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا أَجْنَاسُ مَدْلُولَاتِهَا، وَلَيْسَ مَقْصُودًا بِهَا شَخْصٌ مُعَيَّنٌ قَدْ هَلَكَ، وَلَا أُخْتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدْ وَرِثَتْ، فَلَمَّا قَالَ وَهُوَ يَرِثُها كَانَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعًا إِلَى (امْرُؤٌ) لَا إِلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ قَدْ هَلَكَ، إِذْ لَيْسَ لِمَفْهُومِ اللَّفْظِ هُنَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ فَلَا يُشْكِلُ عَلَيْكَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: امْرُؤٌ هَلَكَ يَتَأَكَّدُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ يَرِثُها إِذْ كَيْفَ يَصِيرُ الْهَالِكُ وَارِثًا. وَأَيْضًا كَانَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي «يَرِثُهَا» عَائِدًا إِلَى مَفْهُومِ لَفْظِ أُخْتٍ لَا إِلَى أُخْتٍ مُعَيَّنَةٍ، إِذْ لَيْسَ لِمَفْهُومِ اللَّفْظِ هُنَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَرِثُها أَنَّ الْأُخْتَ إِنْ تُوُفِّيَتْ وَلَا وَلَدَ لَهَا يَرِثُهَا أَخُوهَا، وَالْأَخُ هُوَ الْوَارِثُ فِي هَذِهِ
عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ. قَالَ الأئمّة: وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَمَحْمَلُهُ أَنَّهُ رَأْيٌ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ افْتِتَاحَ الْآيَةِ بِخِطَابِ الَّذِينَ آمَنُوا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَحْوِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْ مَقَاصِدِ الْمُسْتَهْزِئِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا [الْبَقَرَة: ١٠٤]، أَوْ أُرِيدَ بِالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ، عَلَى أَنَّ لَهْجَةَ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ خَالِيَةٌ عَنِ الْإِيمَاءِ إِلَى قَصْدِ الْمُسْتَهْزِئِينَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَا تَقُولُوا راعِنا [الْبَقَرَة: ١٠٤] فَقَدْ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْبَقَرَة:
١٠٤].
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا نَزَلَتْ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: ٩٧] قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كُلِّ عَامٍ، فَسَكَتَ، فَأَعَادُوا. فَقَالَ: لَا، وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ قَرِيبًا مِنْهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ أَنَّ الْآيَةَ تُلِيَتْ عِنْدَ وُقُوعِ هَذَا السُّؤَالِ وَإِنَّمَا كَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ حُدُوثِهِ فَظَنَّهَا الرَّاوُونَ نَزَلَتْ حِينَئِذٍ. وَتَأْوِيلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ الْأُمَّةَ تَكُونُ فِي سَعَةٍ إِذَا لَمْ يُشْرَعْ لَهَا حُكْمٌ، فَيَكُونُ النَّاسُ فِي سَعَةِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ بِهِمْ بعد الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا سَأَلُوا وَأُجِيبُوا مِنْ قبل الرَّسُول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِمَا أُجِيبُوا بِهِ. وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ وَالْأَعْصَارُ فَيَكُونُونَ فِي حَرَجٍ إِنْ رَامُوا تَغْيِيرَهُ فَيَكُونُ مَعْنَى إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهَا تَسُوءُ بَعْضَهَمْ أَوْ تَسُوءُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إِذَا شَقَّتْ عَلَيْهِمْ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ سَأَلُوا رَسُول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي. وَقَالَ مِثْلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ.
وَقَوْلُهُ: أَشْياءَ تَكْثِيرُ شَيْءٍ، وَالشَّيْءُ هُوَ الْمَوْجُودُ، فَيَصْدُقُ بِالذَّاتِ وَبِحَالِ الذَّاتِ، وَقَدْ سَأَلُوا عَنْ أَحْوَالِ بَعْضِ الْمَجْهُولَاتِ أَوِ الضَّوَالِّ أَوْ عَنْ أَحْكَامِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ.
وَ (أَشْيَاءَ) كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى جَمْعِ (شَيْءٍ)، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صِيغَةُ جَمْعٍ لِأَنَّ زِنَةَ شَيْءٍ (فَعْلٌ)، وَ (فَعْلٌ) إِذَا كَانَ مُعْتَلَّ الْعَيْنِ قِيَاسُ جَمْعِهِ (أَفْعَالٌ) مِثْلَ بَيْتٍ وَشَيْخٍ. فَالْجَارِي عَلَى مُتَعَارَفِ
لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِالْآيَاتِ، وَهُوَ ثَوَابُ دَارِ السَّلَامِ، نَاسَبَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ ذِكْرَ جَزَاءِ الَّذِينَ لَا يَتَذَكَّرُونَ، وَهُوَ جَزَاءُ الْآخِرَةِ أَيْضًا، فَجُمْلَةُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: ١٢٧]. وَالْمَعْنَى:
وَلِلْآخَرِينَ النَّارُ مَثْوَاهُمْ خَالِدِينَ فِيهَا. وَقَدْ صَوَّرَ هَذَا الْخَبَرَ فِي صُورَةِ مَا يَقَعُ فِي حِسَابِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى غَايَةِ ذَلِكَ الْحِسَابِ، وَهُوَ خُلُودُهُمْ فِي النَّارِ.
وَانْتَصَبَ: يَوْمَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ انْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الْأَنْعَام: ١٢٤] الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام:
١٢٥] فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُقَابِلُ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ، فَإِنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ يُعْتَبَرُونَ مُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ فَرِيقٌ وَاحِدٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُعْتَبَرُ الْمُشْرِكُونَ فَرِيقًا مُبَائِنًا لَهُمْ بَعيدا عَنْهُم، فيتحدّث عَنْهُمْ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، فَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ وَأُكِّدَ بِ جَمِيعاً لِيَعُمَّ كُلَّ الْمُشْرِكِينَ، وَسَادَتَهُمْ، وَشَيَاطِينَهُمْ، وَسَائِرَ عُلَقِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الشَّيَاطِينِ وَأَوْلِيَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الْأَنْعَام: ١٢١] إِلَخْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَحْشُرُهُمْ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَلَمَّا أُسْنِدَ الْحَشْرُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ تَعَيَّنَ أَنَّ النِّدَاءَ فِي قَوْلِهِ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ إِضْمَارُ قَوْلٍ صَادِرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ نَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ، لِأَنَّ النِّدَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَوْلًا.
وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ طَلَبُ إِقْبَالِ أَحَدٍ إِلَيْكَ، وَلَهُ حُرُوفٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ: تَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ النِّدَاءِ عَلَى هَذَا حَتَّى صَارَ مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَتَفَرَّعَ عَنْهُ طَلَبُ الْإِصْغَاءِ وَإِقْبَالُ الذِّهْنِ مِنَ الْقَرِيبِ مِنْكَ، وَهُوَ إِقْبَالٌ مَجَازِيٌّ.
وَناداهُما رَبُّهُما مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ: وَهُوَ طَلَبُ الْإِقْبَالِ، عَلَى أَنَّ الْإِقْبَالَ مَجَازِيٌّ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ كَقَوْلِه تَعَالَى: وزكرياء إِذْ نَادَى رَبَّهُ [الْأَنْبِيَاء: ٨٩] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْكَلَامِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [الْبَقَرَة: ١٧١] وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الْأَعْرَاف: ٤٣] وَقَوْلُ بَشَّارٍ:

نَادَيْتُ إِنَّ الْحُبَّ أَشْعَرَنِي قَتْلًا وَمَا أَحْدَثْتُ مِنْ ذَنْبِ
وَرَفْعُ الصَّوْتِ يَكُونُ لِأَغْرَاضٍ، وَمَحْمَلُهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُ صَوْتُ غَضَبٍ وَتَوْبِيخٍ.
وَظَاهِرُ إِسْنَادِ النِّدَاءِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمَا بِكَلَامٍ بِدُونِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ مُرْسَلٍ، مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى، وَهَذَا وَاقِعٌ قَبْلَ الْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مُوسَى هُوَ أَوَّلُ نَبِيءٍ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِدَاءُ آدَمَ بِوَاسِطَةِ أَحَدِ الْمَلَائِكَةِ.
وَجُمْلَة: ألم أنهاكما فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ (نَادَاهُمَا)، وَلِهَذَا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي ألم أنهاكما لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، وَأُولِيَ حَرْفُ النَّفْيِ زِيَادَةً فِي
التَّقْرِيرِ، لِأَنَّ نَهْيَ اللَّهِ إِيَّاهُمَا وَاقع فانتفاؤه منتفا، فَإِذَا أُدْخِلَتْ أَدَاةُ التَّقْرِيرِ وَأَقَرَّ الْمُقَرِّرُ بِضِدِّ النَّفْيِ كَانَ إِقْرَارُهُ أَقْوَى فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِمُوجَبِهِ، لأنّه قد هييء لَهُ سَبِيلُ الْإِنْكَارِ، لَوْ كَانَ يَسْتَطِيعُ إِنْكَارًا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٠]، وَلِذَلِكَ اعْتَرَفَا بِأَنَّهُمَا ظَلَمَا أَنْفَسَهُمَا.
وَالْعَرَبُ يَدْعُونَ لِلْمُسَافِرِ بِقَوْلِهِمْ «عَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ»، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ التَّطَيُّرِ فِي مَعْنَى التَّشَاؤُمِ خَاصَّةً، يُقَالُ الطِّيَرَةُ أَيْضًا، كَمَا
فِي الْحَدِيثِ
«لَا طِيَرَةَ وَإِنَّمَا الطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ»
أَيْ: الشُّؤْمُ يَقَعُ عَلَى مَنْ يَتَشَاءَمُ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ لَفْظُ الطِّيَرَةِ عَلَى التَّشَاؤُمِ لِأَنَّ لِلْأَثَرِ الْحَاصِلِ مِنْ دَلَالَةِ الطَّيَرَانِ عَلَى الشُّؤْمِ دَلَالَةً أَشُدَّ عَلَى النَّفْسِ، لِأَنَّ تَوَقُّعَ الضُّرِّ أَدْخَلُ فِي النُّفُوسِ مِنْ رَجَاءِ النَّفْعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَة أَنهم يَتَشَاءَمُونَ بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فَاسْتُعْمِلَ التَّطَيُّرَ فِي التَّشَاؤُمِ بِدُونِ دَلَالَةٍ مِنَ الطَّيْرِ، لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَزْجُرُ الطَّيْرَ فِيمَا عَلِمْنَا مِنْ أَحْوَالِ تَارِيخِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى فِيهِمْ كَانَتْ سَبَبَ مَصَائِبَ حَلَّتْ بِهِمْ، فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّطَيُّرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْبِيرِ الْعَرَبِيِّ.
وَالتَّشَاؤُمُ: هُوَ عد الشَّيْء مشؤوما، أَيْ: يَكُونُ وُجُودُهُ. سَبَبًا فِي وُجُودِ مَا يُحْزِنُ وَيَضُرُّ، فَمَعْنَى يَطَّيَّرُوا بِمُوسى يَحْسَبُونَ حُلُولَ ذَلِكَ بِهِمْ مُسَبَّبًا عَنْ وُجُودِ مُوسَى وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ كَانُوا مُتَعَلِّقِينَ بِضَلَالِ دِينِهِمْ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِذَا حَافَظُوا عَلَى اتِّبَاعِهِ كَانُوا فِي سَعَادَةِ عَيْشٍ، فَحَسِبُوا وُجُودَ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُمْ بَيْنَهُمْ سَبَبًا فِي حُلُولِ الْمَصَائِبِ وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ فَتَشَاءَمُوا بِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ سَبَبَ الْمَصَائِبِ هُوَ كُفْرُهُمْ وَإِعْرَاضُهُمْ، لِأَنَّ حُلُولَ الْمَصَائِبِ بِهِمْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسَبَّبًا عَنْ أَسْبَابٍ فِيهِمْ لَا فِي غَيْرِهِمْ.
وَهَذَا مِنَ الْعَمَايَةِ فِي الضَّلَالَةِ فَيَبْقَوْنَ مُنْصَرِفِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الْحَقِيقَيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّطَيُّرُ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى نِسْبَةِ الْمُسَبَّبَاتِ لِغَيْرِ أَسْبَابِهَا، وَذَلِكَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الَّذِينَ وَضَعُوا لَهُمْ دِيَانَةَ الشِّرْكِ وَأَوْهَامَهَا.
فِي الْحَدِيثِ «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ»
(١) وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهَا: مِنْ بَقَايَا دِينِ الشِّرْكِ، وَيَقَعُ بَعْدَ فِعْلِ التَّطَيُّرِ بَاءٌ، وَهِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ تَدْخُلُ عَلَى مُوجِبِ التَّطَيُّرِ، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: تَطَيَّرَ مِنْ كَذَا.
وَعَطْفُ وَمَنْ مَعَهُ، أَيْ: مَنْ آمَنُوا بِهِ، لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ يَعُدُّونَ مُوجِبَ شُؤْمِ مُوسَى هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يُرْضِي آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَلَوْلَا دِينُهُ لم يكن مشؤوما كَمَا قَالَ ثَمُودُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود: ٦٢].
_________
(١) رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن.
وَعَنِ النَّقَّاشِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْبَيْدَاءِ فِي بَدْرٍ، قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ، فَيَكُونُ نُزُولُهَا مُتَقَدِّمًا عَلَى أَوَّلِ السُّورَةِ ثُمَّ جُعِلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ السُّورَةِ.
وَالتَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا ظَاهِرٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا
نَزَلَتْ مَعَ تَمَامِ السُّورَةِ فَهِيَ تَمْهِيدٌ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ لِيُحَقِّقُوا كفايتهم الرَّسُول.
[٦٥]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٦٥]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥)
أُعِيدَ نِدَاءُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْكَلَامِ الْوَارِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ وَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْمَقْصِدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَكَفَّلَ اللَّهُ لَهُ الْكِفَايَةَ، وَعَطَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِسْنَادِ الْكِفَايَةِ إِلَيْهِمْ، احْتِيجَ إِلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةِ كِفَايَتِهِمْ، وَتِلْكَ هِيَ الْكِفَايَةُ بِالذَّبِّ عَنِ الْحَوْزَةِ وَقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقِتالِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْقِتَالُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ، أَعْنِي: قِتَالَ أَعْدَاءِ الدِّينِ.
وَالتَّحْرِيضُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّلَبِ.
وَلَمَّا كَانَ عُمُومُ الْجِنْسِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْقِتَالِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَحْوَالِ بِاعْتِبَارِ الْمُقَاتَلِينَ- بِفَتْحِ التَّاءِ- وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِجْمَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَدُوُّ كَثِيرِينَ وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ أَقَلَّ مِنْهُمْ، بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الْآيَةَ.
وَضَمِيرُ مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ لِأَنَّهَا لَمَّا جُعِلَتْ بَيَانًا لِإِجْمَالٍ كَانَتْ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الْإِجْمَالَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ سُؤَالَ سَائِلٍ عَمَّا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْعَدُوِّ كَثِيرًا، فَقَدْ صَارَ الْمَعْنَى: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ.
تَكُونَ جُمْلَةُ: وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً لِأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِمَّا أَثْرَتْهُ السُّورَةُ. أَمَّا جُمْلَةُ: وَهُمْ كافِرُونَ فَهِيَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ماتُوا.
وَقُوبِلَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ فِي جَانِبِ الْمُنَافِقِينَ تَحْسِينًا بِالِازْدِوَاجِ، بِحَيْثُ كَانَتْ لِلسُّورَةِ فَائِدَتَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُصِيبَتَانِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَجُعِلَ مَوْتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ الْمُتَسَبِّبِ عَلَى زِيَادَةِ السُّورَةِ فِي كُفْرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مُصِيبَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ زِيَادَةً فِي الْمُصِيبَةِ الْأُولَى.
هَذَا وَجْهُ نَظْمِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّسْجِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَدِيعِ، وَقَدْ أُغْفِلَ فِيمَا رَأَيْتُ مِنَ التَّفَاسِيرِ، فَمِنْهَا مَا سَكَتَ عَنْ بَيَانِهِ. وَمِنْهَا مَا نُشِرَتْ فِيهِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ وَتُرِكَ جَانِبُ نَظْمِ الْكَلَامِ.
وَالِاسْتِبْشَارُ: أَثَرُ الْبُشْرَى فِي النَّفْسِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَعْجَمَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٧١]، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ:
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ [التَّوْبَة: ١١١].
وَالْمُرَادُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَبِزِيَادَةِ الرِّجْسِ الرُّسُوخُ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ النَّفْسِ.
وَالرِّجْسُ: هُنَا الْكُفْرُ. وَأَصْلُهُ الشَّيْءُ الْخَبِيثُ. كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٠]. وَقَوْلِهِ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٥].
وَالْمَرَضُ فِي الْقُلُوبِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [١٠].
وتعدية فَزادَتْهُمْ بِ إِلى لِأَنَّ زَادَ قَدْ ضَمِنَ مَعْنَى الضَّمِّ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ مِثْلُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: ٨٢].
أُوحِيَ إِلَيْهِ هَذَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً [نوح: ٦، ٧].
وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِ قَدْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ قَدْ آمَنَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ حَصَلَ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ يَقِينًا دُونَ الَّذين ترددوا.
[٣٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣٧]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)
لَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنِ الِابْتِئَاسِ بِفِعْلِهِمْ مَعَ شِدَّةِ جُرْمِهِمْ مُؤْذِنًا بِأَنَّ اللَّهَ يَنْتَصِرُ لَهُ، أَعْقَبَهُ بِالْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ لِتَهْيِئَةِ نَجَاتِهِ وَنَجَاةِ مَنْ قَدْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِقَوْمِهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [الْقَمَر: ١٠، ١١] الْآيَةَ، فَجُمْلَةُ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَبْتَئِسْ [هود: ٣٦] وَهِيَ بِذَلِكَ دَاخِلَةٌ فِي الْمُوحَى بِهِ فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ كَيْفِيَّةَ صُنْعِ الْفُلْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَوَحْيِنا، وَلِذَلِكَ فَنُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الْفُلْكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا لِلْبَشَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنْذُ قُرُونٍ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا يُوجَدُ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنْ إِحْصَاءِ قُرُونِهَا.
وَالْفُلْكُ اسْمٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَالْبَاءُ فِي بِأَعْيُنِنا لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (اصْنَعِ).
وَالْأَعْيُنُ اسْتِعَارَةٌ لِلْمُرَاقَبَةِ وَالْمُلَاحَظَةِ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي بِأَعْيُنِنا بِمَعْنَى الْمُثَنَّى، أَيْ بِعَيْنَيْنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨]. وَالْمُرَادُ الْكِنَايَةُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ الْحِفْظُ مِنَ الْخَلَلِ وَالْخَطَأِ فِي الصُّنْعِ.
بِوَسَائِلِ بَثِّ الْقُرْآنِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَدْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي صَدْرِ زَمَانِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ
لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»
أَيْ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ. ثُمَّ لَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَبَلَغَتْ دَعْوَتُهُ الْأَسْمَاعَ صَارَتِ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٠٤].
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَسُبْحانَ اللَّهِ على جملَة أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ، أَيْ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَأُنَزِّهُهُ.
وَسُبْحَانَ: مَصْدَرُ التَّسْبِيحِ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانًا، أَيْ أَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ وَأُنَزِّهُهُ عَنِ النَّقَائِصِ الَّتِي يُشْرِكُ بِهَا الْمُشْركُونَ من دُعَاء الشُّرَكَاءِ، وَالْوَلَدِ، وَالصَّاحِبَةِ.
وَجُمْلَةُ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا تَعُمُّ مَا تضمنته.
[١٠٩، ١١٠]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ١٠٩ إِلَى ١١٠]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ [سُورَة يُوسُف: ١٠٣] إِلَخْ. هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَّصِلٌ مَعْنَاهُمَا بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [سُورَة يُوسُف:
١٠٢] إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [سُورَة يُوسُف: ١٠٤] وَقَوْلِهِ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي الْآيَة [سُورَة يُوسُف: ١٠٨]، فَإِنَّ تِلْكَ الْآي تَضَمَّنَتِ الْحُجَّةَ
[سُورَة الْحجر: ٧٣].
[٦٧- ٦٩]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٦٩]
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩)
عَطْفُ جُزْءٍ مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ الْجُزْءُ الْأَهَمُّ فِيهَا.
وَمَجِيءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَيْهِ وَمُحَاوَرَتُهُ مَعَهُمْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَلَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمَا أَشْفَقَ مِمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمَّا عَلِمَ بِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مُجَادَلَتِهِمْ مَعَهُ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٨١].
وَالْوَاوُ لَا تفِيد تَرْتِيب مَعْطُوفِهَا.
وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لُوطٍ الْمُسْتَتِرِ فِي فِعْلِ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [سُورَة الْحجر: ٦٢]، أَو من الْهَاءِ فِي إِلَيْهِ، وَلَا إِشْكَالَ حِينَئِذٍ. وَالْمَدِينَةُ هِيَ سَدُومُ.
ويَسْتَبْشِرُونَ يَفْرَحُونَ وَيُسَرُّونَ. وَهُوَ مُطَاوِعُ بَشَّرَهُ فَاسْتَبْشَرَ، قَالَ تَعَالَى:
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [١١١]. وَصِيغَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ مُبَالَغَةً فِي الْفَرَحِ. ذَلِك أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ رِجَالًا غُرَبَاءَ حَلُّوا بِبَيْتِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَفَرِحُوا بِذَلِكَ لِيَغْتَصِبُوهُمْ كَعَادَتِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَالْفَضْحُ وَالْفَضِيحَةُ: شُهْرَةُ حَالٍ شَنِيعَةٍ. وَكَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِإِهَانَةِ الضَّيْفِ وَيُعَدُّ ذَلِكَ مَذَلَّةً لِمُضِيفِهِ. وَقَدْ ذَكَّرَهُمْ بِالْوَازِعِ الدِّينِيِّ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا اسْتِقْصَاءً لِلدَّعْوَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا، وَبِالْوَازِعِ الْعُرْفِيِّ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبْدِ بَنِي الْحِسْحَاسِ:
كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥]. وَتَقَدَّمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَة هود.
هُوَ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَاسِبَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ إِذْ لَا عِبَادَةَ لَهُمْ.
وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فَصَلَ فِيهَا حُكْمُ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَحُكْمُ الْقَتْلِ وَحُكْمُ الْإِنْفَاقِ وَلَمْ يَفْصِلْ مَا فِي آيَة الْأَنْعَامُ.
وَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ خَمْسَةَ عَشَرَ تَشْرِيعًا هِيَ أُصُولُ التَّشْرِيعِ الرَّاجِعِ إِلَى نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ اشْتُهِرَتْ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَكَّةَ وَتَنَاقَلَهَا الْعَرَبُ فِي الْآفَاقِ، فَلِذَلِكَ أَلَمَّ الْأَعْشَى بِبَعْضِهَا فِي قَصِيدَتِهِ الْمَرْوِيَّةِ الَّتِي أَعَدَّهَا لمدح النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَ يُرِيدُ الْإِيمَانَ فَصَدَّتْهُ قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ الْقَصِيدَةُ الدَّالِيَّةُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ نَبِيءِ الْإِلَهِ حِينَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا
فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تَأْكُلَنَّهَا وَلَا تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتَفْصَدَا
وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا
وَذَا الرَّحِمِ الْقُرْبَى فَلَا تَقْطَعَنَّهُ لِفَاقَتِهِ وَلَا الْأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا
وَلَا تَسْخَرَنْ مِنْ بَائِسٍ ذِي ضِرَارَةٍ وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدًا
وَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا (١)
وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ وَالْوَصَايَا بِفِعْلِ الْقَضَاءِ اهْتِمَامًا بِهِ وَأَنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرًا جَازِمًا وَحُكْمًا لَازِمًا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاء: ٤] لِظُهُورِ أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ هُنَا مِمَّا يَقَعُ وَلَا يَقَعُ.
وَ (أَنْ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِمَا فِي (قَضَى) مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مَجْرُورَةً بِبَاءِ جَرٍّ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ قَضَى بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا. وَابْتُدِئَ هَذَاِِ
_________
(١) التأبد: التعزب.
وَالْمَعْنَى: لَمْ أَكُنْ فِيمَا دَعَوْتُكَ مِنْ قبل مَرْدُود الدعْوَة مِنْكَ، أَيْ أَنَّهُ قَدْ عَهِدَ مِنَ اللَّهِ الِاسْتِجَابَةَ كُلَّمَا دَعَاهُ.
وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِلْإِجَابَةِ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِ التَّمْهِيدِ الَّذِي فِي الْجُمَلِ الْمُصَاحِبَةِ لَهُ بل هُوَ بطرِيق الْحَثِّ عَلَى اسْتِمْرَارِ جَمِيلِ صُنْعِ اللَّهِ مَعَهُ، وَتَوَسُّلٌ إِلَيْهِ بِمَا سَلَفَ لَهُ مَعَهُ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ.
رُوِيَ أَنَّ مُحْتَاجًا سَأَلَ حَاتِمًا الطَّائِيَّ أَوْ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةٍ قَائِلًا: «أَنَا الَّذِي أَحْسَنْتَ إِلَيَّ يَوْمَ كَذَا» فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِمَنْ تَوَسَّلَ بِنَا إِلَيْنَا».
وَجُمْلَةُ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، أَيْ قَارَبْتُ الْوَفَاةَ وَخِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ بَعْدِي. وَمَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّاءَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وِرَاثَةِ مَالِهِ»
. فَلَعَلَّهُ خَشِيَ سُوءَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا يُخَلِّفُهُ مِنَ الْآثَارِ الدِّينِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ. وَتِلْكَ أَعْلَاقٌ يَعِزُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ تَلَاشِيهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ فَإِنَّ نُفُوسَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَطْمَحُ إِلَّا لِمَعَالِي الْأُمُورِ وَمَصَالِحِ الدِّينِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ تَبَعٌ.
فَقَوْلُهُ يَرِثُنِي يَعْنِي بِهِ وِرَاثَةَ مَالِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا
أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّاءَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وِرَاثَةِ مَالِهِ»
. وَالظَّوَاهِرُ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يُورَثُونَ، قَالَ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ
[النَّمْل: ١٦]. وَأَمَّا
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»
فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ نَفْسَهُ، كَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ فِي حَدِيثِهِ مَعَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» إِذْ قَالَ عُمَرُ: «يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ بِذَلِكَ نَفْسَهُ»، فَيَكُونُ ذَلِكَ
بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ [الْكَهْفِ: ١٠٦] قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً.
وَجُمْلَةُ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً فَهِيَ فِي مَعْنَى قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ يَكُونُ بِالْكَلَامِ. وَقَدِ انْحَصَرَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ دُونَ أَنْ يَخْلِطُوهُ بِحَدِيثٍ آخَرَ فِي شَأْنِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ، بِقَرِينَةِ الِاسْتِهْزَاءِ.
وَمَعْنَى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ يَذْكُرُهُمْ بِسُوءٍ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا يَذْكُرُ بِهِ
آلِهَتَهُمْ مِمَّا يَسُوءُهُمْ، فَإِنَّ الذِّكْرَ يَكُونُ بِخَيْرٍ وَبِشَرٍّ فَإِذَا لَمْ يُصَرَّحْ بِمُتَعَلِّقِهِ يُصَارُ إِلَى الْقَرِينَةِ كَمَا هُنَا وكما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٦٠]. وَكَلَامُهُمْ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ، أَيْ يَغْضَبُونَ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ آلِهَتُهُمْ بِمَا هُوَ كَشْفٌ لِكُنْهِهَا الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ عَن ذكر الرحمان الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ. فَالذِّكْرُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِي الذِّكْرِ بِالثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ المُرَاد بِذكر الرحمان هُنَا الْقُرْآنُ، أَيِ الذِّكْرُ الْوَارِد من الرحمان. وَالْمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرٍ إِلَى ذِكْرٍ. وَمَعْنَى كفرهم بِذكر الرحمان إِنْكَارُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ آيَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]. وَأَيْضًا كُفْرُهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ.
وَعَبَّرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بَاسِمِ الرَّحْمنِ تَوَرُّكًا عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا يَأْبَوْنَ أَن يكون الرحمان اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً
فِي سُورَةِ [الْفُرْقَانِ: ٦٠].

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٤٩]

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)
لَمَّا ذُكِرَتْ دَعْوَةُ مُوسَى وَهَارُونَ لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ أُكْمِلَتْ قِصَّةُ بَعْثَةِ مُوسَى بِالْمُهِمِّ مِنْهَا الْجَارِي وَمِنْ بَعْثَةِ مَنْ سَلَفَ مِنَ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَهُوَ إِيتَاءُ مُوسَى الْكِتَابَ لِهِدَايَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِحُصُولِ اهْتِدَائِهِمْ لِيَبْنِيَ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّعَاظَ بِخِلَافِهِمْ عَلَى رُسُلِهِمْ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٣] فَإِنَّ مَوْعِظَةَ الْمُكَذِّبِينَ رَسُولَهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَهُنَا وَقَعَ الْإِعْرَاضُ عَنْ هَارُونَ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ قَدِ انْتَهَتْ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِذْ كَانَتْ مَقَامَ مُحَاجَّةٍ وَاسْتِدْلَالٍ فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ إِشْرَاكَ أَخِيهِ هَارُونَ فِي تَبْلِيغِهَا لِأَنَّهُ أَفْصَحُ مِنْهُ لِسَانًا فِي بَيَانِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابَ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ.
وَلِذَلِكَ كَانَ ضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ظَاهِرَ الْعَوْدِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ بَلْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الْقَوْمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَانْتِسَاقُ الضَّمَائِرِ ظَاهِرٌ فِي الْمَقَامِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: آتَيْنا مُوسَى بِمَعْنَى: آتَيْنَا قَوْمَ مُوسَى، كَمَا سَلَكَهُ فِي «الْكَشَّافِ».
وَ (لَعَلَّ) لِلرَّجَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَرَقَّبَ مِنْ إِيتَائِهِ اهْتِدَاءُ النَّاس بِهِ.
[٥٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٥٠]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
لَمَّا كَانَتْ آيَةُ عِيسَى الْعُظْمَى فِي ذَاتِهِ فِي كَيْفِيَّةِ تَكْوِينِهِ كَانَ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِهَا هُنَا، وَلَمْ
تُذْكَرْ رِسَالَتُهُ لِأَنَّ مُعْجِزَةَ تَخْلِيقِهِ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأُمَّهُ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِتَسْفِيهِ الْيَهُودِ فِيمَا رَمَوْا بِهِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَإِنَّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ آيَة لَهَا وَلَا بنها جَعَلُوهُ مَطْعَنًا وَمَغْمَزًا فِيهِمَا.
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفرْقَان: ٤٧] فَيَكْثُرُ الشَّاكِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَمُنَاسَبَاتِهِمْ، وَتُفِيدُ مَعْنَى:
لِيَتَدَارَكَ النَّاسِي مَا فَاتَهُ فِي اللَّيْلِ بِسَبَبِ غَلَبَةِ النَّوْمِ أَوِ التَّعَبِ فَيَقْضِيَهُ فِي النَّهَارِ أَوْ مَا شَغَلَهُ عَنْهُ شَوَاغِلُ الْعَمَلِ فِي النَّهَارِ فَيَقْضِيَهُ بِاللَّيْلِ عِنْدَ التَّفَرُّغِ فَلَا يَرْزَؤُهُ ذَلِكَ ثَوَابَ أَعْمَالِهِ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَطَالَ صَلَاةَ الضُّحَى يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ: صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ؟
فَقَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ وِرْدِي شَيْءٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَقْضِيَهُ وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الْآيَةَ. وَلِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ شُكْرًا لَهُ بِصَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ فَيَكُونَ اللَّيْلُ أَسْعَدَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَالنَّهَارُ أَسْعَدَ بِبَعْضٍ، فَهَذَا مُفَادٌ عَظِيمٌ فِي إِيجَازٍ بَدِيعٍ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ الْمُتَذَكِّرِينَ بِقَوْلِهِ أَنْ يَذَّكَّرَ لِدَلَالَةِ الْمُضَارِعِ عَلَى التَّجَدُّدِ. وَاقْتَصَرَ فِي جَانِبِ الشَّاكِرِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِقَوْلِهِ أَوْ أَرادَ شُكُوراً لِأَنَّ الشُّكْرَ يَحْصُلُ دُفْعَةً.
وَلِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّظْمَيْنِ أُعِيدَ فِعْلُ أَرادَ إِذْ لَا يَلْتَئِمُ عَطْفُ شُكُوراً عَلَى أَنْ يَذَّكَّرَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَذَّكَّرَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ مَفْتُوحَةً، وَأَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ أَنْ يَذَّكَّرَ بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ بِمَعْنَى
الْمُشَدَّدِ إِلَّا أَنَّ الْمُشَدَّدَ أَشَدُّ عَمَلًا، وَكِلَا الْعَمَلَيْنِ يُسْتَدْرَكَانِ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار.
[٦٣]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦٣]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)
عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ هِيَ عِبادُ الرَّحْمنِ إِلَخْ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَخْ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الْفرْقَان: ٧٥]. وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفرْقَان: ٦٢] إِلَخْ. فَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ تُخُلِّصَ إِلَى خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ السُّورَةُ أَغْرَاضَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَمَنِ اتَّبَعُوهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْإِلْمَامِ بِأَهَمِّ أَغْرَاضِهَا فِي طَالِعَةِ تَفْسِيرِهَا. وَهَذَا مِنْ

[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤]

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بَيَان لجملة نَتْلُوا [الْقَصَص: ٣] أَوْ بَيَانٌ لِ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ [الْقَصَص: ٣] فَقُدِّمَ لَهُ الْإِجْمَالُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ نَبَأٌ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ وَخَطَرٌ بِمَا فِيهِ مِنْ شَتَّى الْعِبَرِ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.
وَابْتُدِئَتِ الْقِصَّةُ بِذِكْرِ أَسْبَابِهَا لِتَكُونَ عِبْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَتَّخِذُونَ مِنْهَا سُنَنًا يَعْلَمُونَ بِهَا عِلَلَ الْأَشْيَاءِ وَمَعْلُولَاتِهَا، ويسيرون فِي شؤونهم عَلَى طَرَائِقِهَا، فَلَوْلَا تَجَبُّرُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مِنْ قَبِيحِ الْخلال من حَلَّ بِهِ وَبِقَوْمِهِ الِاسْتِئْصَالُ، وَلَمَا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَهَذَا مِصْدَاقُ الْمَثَلِ: مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦].
وَصُوِّرَتْ عَظَمَةُ فِرْعَوْنَ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ عَلا فِي الْأَرْضِ لِتَكُونَ الْعِبْرَةُ بِهَلَاكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُلُوِّ أَكْبَرَ الْعِبَرِ.
وَمَعْنَى الْعُلُوِّ هُنَا الْكِبْرُ، وَهُوَ الْمَذْمُومُ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ٨٣]. وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَسْتَشْعِرَ نَفْسَهُ عَالِيًا عَلَى مَوْضِعِ غَيْرِهِ لَيْسَ يُسَاوِيهِ أَحَدٌ، فَالْعُلُوُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى التَّفَوُّقِ عَلَى غَيْرِهِ، غَيْرُ مَحْقُوقٍ
لِحَقٍّ مِنْ دِينٍ أَوْ شَرِيعَةٍ أَوْ رَعْيِ حُقُوقِ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَهُ فَإِذَا اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ لَمْ يَعْبَأْ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بِرَعْيِ صَلَاحٍ وَتَجَنُّبِ فَسَادٍ وَضُرٍّ وَإِنَّمَا يَتْبَعُ مَا تَحْدُوهُ إِلَيْهِ شَهْوَتُهُ وَإِرْضَاءُ هَوَاهُ، وَحَسْبُكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ إِلَهًا وَأَنَّهُ ابْنُ الشَّمْسِ.
فَلَيْسَ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَذْمُومِ رُجْحَانُ أَحَدٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لِأَنَّهُ جَدِيرٌ بِالرُّجْحَانِ فِيهِ جَرْيًا عَلَى سَبَبِ رُجْحَانٍ عَقْلِيٍّ كَرُجْحَانِ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ وَالصَّالِحِ عَلَى الطَّالِحِ وَالذَّكِيِّ عَلَى الْغَبِيِّ، أَوْ سَبَبِ رُجْحَانٍ عَادِيٍّ وَيَشْمَلُ الْقَانُونِيَّ وَهُوَ كُلُّ رُجْحَانٍ لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْجَمَاعَاتِ إِلَّا بِمُرَاعَاتِهِ كَرُجْحَانِ أَمِيرِ الْجَيْشِ عَلَى جُنُودِهِ وَرُجْحَانِ الْقَاضِي عَلَى الْمُتَخَاصِمِينَ.
وَأَعْدَلُ الرُّجْحَانِ مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ كَرُجْحَانِ الْمُؤْمِنِ عَلَى
تُظْهِرُونَ فَإِذَا صَحَّ مَا رُوِيَ عَنْهُ فَتَأْوِيلُهُ: أَنَّ سُبْحَانَ أَمْرٌ بِأَنْ يَقُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ.
وَقَوْلُهُ حِينَ تُمْسُونَ إِلَى آخِرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُنَاسَبَةُ مَعَ سَابِقِهِ أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَهُمْ بِحُسْنِ مَصِيرِهِمْ لَقَّنَهُمْ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي أَجْزَاءِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ الْوَاقِعَيْنِ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ كِنَايَةً عَنِ الشُّكْرِ عَنِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ التَّصَدِّي لِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَقِبَ حُصُولِ الْإِنْعَامِ أَوِ الْوَعْدِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَادِحَ مَا بَعَثَهُ عَلَى الْمَدْحِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ إِلَّا قَصْدُ الْجَزَاءِ عَلَى النِّعْمَةِ بِمَا فِي طَوْقِهِ، كَمَا
وَرَدَ (فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى مُكَافَأَتِهِ فَادْعُوا لَهُ)
. وَلَيْسَتِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَأَوْقَاتُهَا هِيَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَلَكِنْ نُسِجَتْ عَلَى نَسْجٍ صَالِحٍ لِشُمُولِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأَوْقَاتَهَا وَذَلِكَ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَسْبِيحٌ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا السُّبْحَةَ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَأُضِيفَ الْحِينُ إِلَى جُمْلَتَيْ تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ. وَقُدِّمَ فِعْلُ الْإِمْسَاءِ عَلَى فِعْلِ الْإِصْبَاحِ: إِمَّا لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِيَّ يَعْتَبِرُونَ فِيهِ اللَّيَالِي مَبْدَأُ عَدَدِ الْأَيَّامِ كَثِيرًا قَالَ تَعَالَى سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ:
١٨]، وَإِمَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا وَقَعَ عَقِبَ ذِكْرِ الْحَشْرِ مِنْ قَوْله اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الرّوم: ١١] وَذِكْرُ قِيَامِ السَّاعَةِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاءُ وَهُوَ آخِرُ الْيَوْمِ خَاطِرًا فِي الذِّهْنِ فَقُدِّمَ لَهُمْ ذِكْرُهُ.
وعَشِيًّا عَطْفٌ عَلَى حِينَ تُمْسُونَ. وَقَوْلُهُ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الظُّرُوفِ تُفِيدُ أَنَّ تَسْبِيحَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ لَيْسَ لِمَنْفَعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لِمَنْفَعَةِ الْمُسَبِّحِينَ لِأَنَّ اللَّهَ مَحْمُودٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ حَمْدِنَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي وَلَهُ الْحَمْدُ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ لِجِنْسِ الْحَمْدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ حَمْدَهُ هُوَ الْحَمْدُ الْكَامِلُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ الشُّجَاعُ، كَمَا تَقَدَّمَ
تَزَوُّجُ أَمْثَالِهَا، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تَسْتَوْفِ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَجُوزُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَزَوُّجُهَا، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرٌ رُوِيَ عَن أمّ هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِرِجَالِ أُمَّتِهِ نِكَاحُ أَمْثَالِهَا. وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَقْيِيدِ نِسَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَدَدٍ يكون هَذَا الْإِطْلَاق خَاصًّا بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ إِذْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَزَوُّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ.
وَبَنَات عمّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَّ بَنَاتُ إِخْوَةِ أَبِيهِ مِثْلُ: بَنَاتِ الْعَبَّاسِ وَبَنَاتِ أَبِي طَالِبٍ وَبَنَاتِ أَبِي لَهَبٍ. وَأَمَّا بَنَاتُ حَمْزَةَ فَإِنَّهُنَّ بَنَاتُ أَخٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ لَا يَحْلِلْنَ لَهُ، وَبَنَاتُ عَمَّاتِهِ هُنَّ بَنَاتُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ مِثْلُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الَّتِي هِيَ بِنْتُ أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَبَنَاتُ خَالِهِ هُنَّ بَنَاتُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ وَهن أخوال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَدُ يَغُوثَ بْنُ وَهْبٍ أَخُو آمِنَةَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ لَهُ بَنَاتٍ، كَمَا أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى ذِكْرِ خَالَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ فِيمَا رَأَيْتُ مَنْ كُتُبِ الْأَنْسَابِ وَالسَّيَرِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي «الْإِصَابَةِ» فُرَيْعَةَ بِنْتَ وَهْبٍ وَذَكَرُوا هَالَةَ بِنْتَ وَهْبٍ الزُّهْرِيَّةَ إِلَّا أَنَّهَا لِكَوْنِهَا زَوْجَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنَتُهَا صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ فَقَدْ دَخَلَتْ مِنْ قَبْلُ فِي بَنَاتِ عَمِّهِ.
وَإِنَّمَا أَفْرَدَ لَفْظَ (عَمٍّ) وَجَمَعَ لَفْظَ (عَمَّاتٍ) لِأَنَّ الْعَمَّ فِي اسْتِعْمَالِ كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى أَخِي الْأَبِ وَيُطْلَقُ عَلَى أَخِي الْجَدِّ وَأَخِي جَدِّ الْأَبِ وَهَكَذَا فَهِمَ يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ بَنُو عَمٍّ أَوْ بَنَاتُ عَمِّ، إِذَا كَانُوا لِعَمٍّ وَاحِدٍ أَوْ لِعِدَّةِ أَعْمَامٍ، وَيُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنَ الْقَرَائِنِ. قَالَ الرَّاجِزُ أَنْشَدَهُ الْأَخْفَشُ:
مَا بَرِئَتْ مِنْ رِيبَةٍ وَذَمٍّ فِي حَرْبِنَا إِلَّا بَنَاتُ الْعَمِّ
وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ
فَأَمَّا لَفْظُ (الْعَمَّةِ) فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ فِي كَلَامِهِمْ، فَإِذَا قَالُوا: هَؤُلَاءِ بَنُو عَمَّةٍ، أَرَادُوا أَنَّهُمْ بَنو عمَّة معيّنة، فَجِيءَ فِي الْآيَة: عَمَّاتِكَ جمعا لِئَلَّا يفهم مِنْهُ بَنَات عمَّة مُعينَة. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي إِفْرَاد لفظ (الْخَال) مِنْ قَوْلِهِ: بَناتِ خالِكَ وَجَمْعُ الْخَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَبَناتِ خالاتِكَ.
بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦١].
وَالْمُبِينُ: هُوَ الَّذِي أَبَانَ الْمُرَادَ بِفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ بِقَوْلِهِ: عَلَّمْناهُ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ شِعْرًا ثُمَّ إِثْبَاتِ كَوْنِهِ ذِكْرًا وَقُرْآنًا، أَيْ لِأَنَّ جُمْلَةَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي قُوَّةِ أَنْ لَوْ قِيلَ: وَمَا عَلَّمْنَاهُ إِلَّا ذِكْرًا وَقُرْآنًا مُبِينًا لِيُنْذِرَ أَوْ لِتُنْذِرَ. وَجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُتَعَلِّقًا بِ مُبِينٌ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ لِتُنْذِرَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمْناهُ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَائِب، أَي لينذر النَّبِيءِ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ.
وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ بِأَمْرٍ يَجِبُ التَّوَقِّي مِنْهُ.
وَالْحَيُّ: مُسْتَعَارٌ لِكَامِلِ الْعَقْلِ وَصَائِبِ الْإِدْرَاكِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ مَنْ كَانَ مِثْلَ الْحَيِّ فِي الْفَهْمِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: التَّعْرِيضُ بِالْمُعْرِضِينَ عَنْ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ كَالْأَمْوَاتِ لَا انْتِفَاعَ لَهُمْ بِعُقُولِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النَّمْل: ٨٠].
وَعَطَفَ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ عَلَى لِتُنْذِرَ عَطْفَ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ اللَّامَ النَّائِبَ عَنْهُ وَاوُ الْعَطْفِ لَيْسَ لَامَ تَعْلِيلٍ وَلَكِنَّهُ لَامُ عَاقِبَةٍ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]. فَفِي الْوَاوِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الْعَاقِبَةِ احْتِبَاكٌ إِذِ التَّقْدِيرُ: لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ
حَيًّا فَيَزْدَادَ حَيَاةً بِامْتِثَالِ الذِّكْرِ فَيَفُوزَ وَمَنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْإِنْذَارِ فَيَحِقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١]، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْإِنْذَارِ ابْتِدَاءً وَالْبِشَارَةِ آخِرًا.
والْقَوْلُ: هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي جَاءَ بِوَعِيدِ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِإِنْذَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [١٩]، أَوْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ نَظَرَ الْمُقَلِّبِ بَصَرَهُ الْبَاحِثَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّظْرَةِ، أَو الِانْتِظَار.
[٦٩- ٧٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٦٩ إِلَى ٧٠]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
صَوَّرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ جَلَالَ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ وَجَمَالَهُ أَبْدَعَ تَصْوِيرٍ وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ الضِّمْنِيِّ فَقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] أَنَّهُمْ قِيَامٌ عَلَى قَرَارٍ فَإِنَّ الْقِيَامَ يَسْتَدْعِي مَكَانًا تَقُومُ فِيهِ تِلْكَ الْخَلَائِقُ وَهُوَ أَرْضُ الْحَشْرِ وَهِيَ السَّاهِرَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [١٣، ١٤] : فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ النَّقِيَّةُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَرْضَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا قَدِ اضْمَحَلَّتْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيم: ٤٨].
وَإِشْرَاقُ الْأَرْضِ انْتِشَارُ الضَّوْءِ عَلَيْهَا، يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ، وَلَا يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ فِي سُورَةِ ص [١٨].
وَإِضَافَةُ النُّورِ إِلَى الرَّبِّ إِضَافَةُ تَعْظِيمٍ لِأَنَّهُ مُنْبَعِثٌ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ النُّورِ [٣٥]. فإضافة نور إِلَى الرَّبِّ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لِلْمُضَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الْأَعْرَاف: ٧٣] كَمَا أَنَّ إِضَافَةَ (رَبِّ) إِلَى ضَمِيِرِ الْأَرْضِ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ بِنُورٍ خَاصٍّ خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهَا لَا بِسُطُوعِ مِصْبَاحٍ وَلَا بِنُورِ كَوْكَبِ شَمْسٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِذْ قَدْ كَانَ النُّورُ نُورًا ذَاتِيًّا لِتِلْكَ الْأَرْضِ كَانَ إِشَارَةً إِلَى خُلُوصِهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَعْمَالِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْدَاثِ حَقٌّ وَكَمَالٌ فِي بَابِهِ لِأَنَّ عَالَمَ الْأَنْوَارِ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَالَمَ الْأَرْضِيَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ نَيِّرًا بِذَاتِهِ بَلْ كَانَ نُورُهُ مُقْتَبَسًا مِنْ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ لَيْلًا كَانَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَخْلُوقَاتِ
وَكَقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ: نَحْنُ الَّذِينَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَوْلِهِمْ: كِتَابُنَا أَسْبَقُ مِنْ كِتَابِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحُجَّةِ عَلَى شُبُهَاتِهِمْ مُجَارَاةٌ لَهُمْ بِطَرِيقِ التَّهَكُّمِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وَمَفْعُولُ يُحَاجُّونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ:
يُحَاجُّونَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَجَابُوا لَهُ، أَيِ اسْتَجَابُوا لِدَعْوَتِهِ عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَذَفَ فَاعِلَ اسْتُجِيبَ إِيجَازًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بَعْدِ حُصُولِ الِاسْتِجَابَةِ الْمَعْرُوفَةِ.
وَالدَّاحِضَةُ: الَّتِي دَحَضَتْ بِفَتْحِ الْحَاءِ، يُقَالُ: دَحَضَتْ رِجْلُهُ تَدْحَضُ (بِفَتْحِ الْحَاءِ) دُحُوضًا، أَيْ زَلَّتِ. اسْتُعِيرَ الدَّحْضُ لِلْبُطْلَانِ بِجَامِعِ عَدَمِ الثُّبُوتِ كَمَا لَا تَثْبُتُ الْقَدَمُ فِي الْمَكَانِ الدَّحْضِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ دَحْضِهَا اكْتِفَاءً بِمَا بَيَّنَ فِي تَضَاعِيفِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى فَسَادِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، وَعَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَبِمَا ظَهَرَ لِلْعِيَانِ مَنْ تَزَايُدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَأَمْنِهِمْ مِنْ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهِمْ.
وَالْغَضَبُ: غَضَبُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نُكِّرَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّتِهِ. وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ ضَمِيرِهِ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَالتَّقْدِيرُ:
وَعَلَيْهِم غضب مِنْهُ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمُسْنَدَ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ بَقَوْلِهِ: وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ لِلِاهْتِمَامِ بِوُقُوعِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ السَّيْفِ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ يَوْم بدر.
يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالْإِنْذَارِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُقَالُ لَهُمْ مِمَّا لَا ممندوحة لَهُمْ عَنْ الِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِمْ جَمْعًا بَيْنَ مَا رَدَّ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَوْله: بَلى (١) [الْأَحْقَاف: ٣٣] وَمَا يَرُدُّونَ فِي عِلْمِ أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِمْ: بَلى وَرَبِّنا. وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَحْقَاف: ٣٣] إِلَخْ. وَأَوَّلُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ قَوْلُهُ: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ لِأَنَّهُ مَقُولُ فِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَيُقَالُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ
يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ فِي الْأَذْهَانِ.
وَذِكْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ بِالْمَوْصُولِ إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ بِدَلِيل قَوْله بعده قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ. وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ وَتَنْدِيمٌ عَلَى مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجَزَاءَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ، وَقَالُوا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات: ٥٩]، وَإِنَّمَا أَقْسَمُوا عَلَى كَلَامِهِمْ بِقَسَمِ وَرَبِّنا قَسَمًا مُسْتَعْمَلًا فِي الندامة والتغليظ لِأَنْفُسِهِمْ وَجَعَلُوا الْمُقْسَمَ بِهِ بِعُنْوَانِ الرَّبِّ تَحَنُّنًا وَتَخَضُّعًا.
وَفَرَّعَ عَلَى إِقْرَارِهِمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ. وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهَانَةِ.
[٣٥]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٣٥]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَعْلِهِمُ الْقُرْآنَ مُفْتَرًى وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ
[الْأَحْقَاف: ٧]، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مَنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِعَادٍ. فَأمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْهُمْ مِنْ أَذًى، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِالرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ.
_________
(١) فِي المطبوعة: فَلهُ.
عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ دَالًّا عَلَى عَجْزِ الْبَشَرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْقُرْآنِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ [١٣، ١٤] : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣].
وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ: إِحْضَارُهُ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. وَاخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ نَحْوِ: فَلْيَقُولُوا مِثْلَهُ وَنَحْوِهِ، لِقَصْدِ الْإِعْذَارِ لَهُمْ بِأَنْ يُقْتَنَعَ مِنْهُمْ بِجَلْبِ كَلَامٍ مِثْلِهِ وَلَوْ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣] فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، هُمَا:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ، أَو فَأتوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
وَالْحَدِيثُ: الْإِخْبَارُ بِالْحَوَادِثِ، وَأَصْلُ الْحَوَادِثِ أَنَّهَا الْوَاقِعَاتُ الْحَدِيثَةُ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فَأُطْلِقَتْ عَلَى الْوَاقِعَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً كَقَوْلِهِمْ: حَوَادِثُ سَنَةِ كَذَا، وَتَبِعَ ذَلِكَ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى الْخَبَرِ مُطْلَقًا، وَتُوسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَلَامِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِخْبَارًا، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ هُنَا قَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْكَلَامِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَيْ فَلْيَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ، أَيْ فِي غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ لَا خُصُوصَ الْأَخْبَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى الْأَخْبَارِ، أَيْ فَلْيَأْتُوا بِأَخْبَارٍ مِثْلِ قَصَصِ الْقُرْآنِ فَيَكُونَ اسْتِنْزَالًا لَهُمْ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِالْأَخْبَارِ أَسْهَلُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ مِنِ ابْتِكَارِ الْأَغْرَاضِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْقُرْآنَ «أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ»، أَيْ أَخْبَارٌ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ فَقِيلَ لَهُمْ: فَلْيَأْتُوا بِأَخْبَارٍ مِثْلِ أَخْبَارِهِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالشَّرَائِعِ وَالدَّلَائِلِ لَا قِبَلَ لِعُقُولِهِمْ بِهِ، وَقُصَارَاهُمْ أَنْ يَفْهَمُوا ذَلِكَ إِذَا سَمِعُوهُ.
وَمَعْنَى الْمِثْلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: مِثْلِهِ الْمِثْلِيَّةُ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَهِيَ خُصُوصِيَّاتٌ
يُدْرِكُونَهَا إِذَا سَمِعُوهَا وَلَا تُحِيطُ قَرَائِحُهُمْ بِإِيدَاعِهَا فِي كَلَامِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَا أُصُولَ الْإِعْجَازِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
مِنْ دِيَارِهِمْ عَلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِسَعْيِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ وَمُعَالَجَتِهِمْ بَعْضَ أَسْبَابِهِ كَتَخْرِيبِ دِيَارِ بَنِي النَّضِيرِ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ الْقَصْرِ.
وَجُمْلَةُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ عَطْفٌ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ وَهُمْ ظنُّوا أَن الْمُسْلِمِينَ لَا يَغْلِبُونَهُمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَظَنُّوا أَنْ لَا يُخْرَجُوا. مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى خُرُوجِهِمْ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ أَيْ مَانِعَتُهُمْ مِنْ إِخْرَاجِهِمِ اسْتِغْنَاءً عَنْ ذِكْرِ الْمَظْنُونِ بِذِكْرِ عِلَّةِ الظَّنِّ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَظَنُّوا أَنْ لَا يَخْرُجُوا لِأَنَّهُمْ تَمْنَعُهُمْ حُصُونُهُمْ، أَيْ ظَنُّوا ظَنًّا قَوِيًّا مُعْتَمِدِينَ عَلَى حُصُونِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بَنُو النَّضِيرِ (بِوَزْنِ أَمِيرٍ) وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَهُودِ اسْتَوْطَنُوا بِلَادَ الْعَرَبِ هُمْ وَبَنُو عَمِّهِمْ قُرَيْظَةُ، وَيَهُودُ خَيْبَرَ، وَكُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ يُقَالُ لِبَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ: الْكَاهِنَانِ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ وَهُوَ كَاهِنُ الْمِلَّةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَالْكِهَانَةُ: حَفِظُ أُمُورِ الدِّيَانَةِ بِيَدِهِ وَيَدِ أَعْقَابِهِ.
وَقِصَّةُ اسْتِيطَانِهِمْ بِلَادَ الْعَرَبِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَرْسَلَ طَائِفَةً مِنْ أَسْلَافِهِمْ لِقِتَالِ الْعَمَالِيقِ الْمُجَاوِرِينَ لِلشَّامِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ فَقَصَّرُوا فِي قِتَالِهِمْ وَتُوُفِّيَ مُوسَى قَرِيبًا مِنْ
ذَلِكَ. فَلَمَّا عَلِمُوا بِوَفَاةِ مُوسَى رَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِلَى دِيَارِ إِسْرَائِيلَ فِي أَرِيحَا فَقَالَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ: أَنْتُمْ عَصَيْتُمْ أَمْرَ مُوسَى فَلَا تَدْخُلُوا بِلَادَنَا، فَخَرَجُوا إِلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَقَامُوا لِأَنْفُسِهِمْ قُرًى حَوْلَ يَثْرِبَ (الْمَدِينَةِ) وَبَنَوْا لِأَنْفُسِهِمْ حُصُونًا وَقَرْيَةً سَمَّوْهَا الزُّهْرَةَ. وَكَانَتْ حُصُونُهُمْ خَمْسَةً سَيَأْتِي ذِكْرُ أَسْمَائِهَا فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَصَارُوا أَهْلَ زَرْعٍ وَأَمْوَالٍ.
وَكَانَ فِيهِمْ أَهْلُ الثَّرَاءِ مِثْلُ السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا، وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حِلْفٌ وَمُعَامَلَةٌ، فَكَانَ مِنْ بُطُونِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ بَنُو النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةُ وَخَيْبَرُ.
وَوُسِمُوا بِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ كفرُوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الذَّمِيمِ وَقَدْ وُصِفُوا بِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: ٨٩]
وَ (أَيِّ) اسْمٌ مُبْهَمٌ يَتَعَرَّفُ بِمَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ مَدْلُولَ (أَيِّ) فَرْدٌ أَوْ طَائِفَةٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ مُشَارِكٍ فِي طَائِفَتِهِ مِنْ جَنْسٍ أَو وصف بمميّز وَاقِعِيٍّ أَوْ جَعْلِيٍّ، فَهَذَا مَدْلُولُ (أَيِّ) فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهِ، وَلَهُ مَوَاقِعُ كَثِيرَةٌ فِي الْكَلَامِ، فَقَدْ يُشْرِبُ (أَيِّ) مَعْنَى الْمَوْصُولِ، وَمَعْنَى الشَّرْطِ، وَمَعْنَى الْاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَى التَّنْوِيهِ بِكَامِلٍ، وَمَعْنَى الْمُعَرَّفِ بِ (أَلْ) إِذَا وَصَلَ بِنِدَائِهِ.
وَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يُفِيدُ شَيْئًا مُتَمَيِّزًا عَمَّا يُشَارِكُهُ فِي طَائِفَتِهِ الْمَدْلُولَةِ بِمَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ، فَقَوله تَعَالَى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ مَعْنَاهُ: أَيُّ رَجُلٍ، أَوْ أَيُّ فَرِيقٍ مِنْكُمُ الْمَفْتُونُ، فَ (أَيِّ) فِي مَوْقِعِهِ هُنَا اسْمٌ فِي مَوْقِعِ الْمَفْعُولِ لِ (تُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ تَعَلُّقَ الْمَجْرُورِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُ (أَيِّ) فِي الْاسْتِفْهَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٥].
والْمَفْتُونُ: اسْمُ مَفْعُولٍ وَهُوَ الَّذِي أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد بهَا هُنَا الْجُنُونُ فَإِنَّ الْجُنُونَ يُعَدُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ قَبِيلِ الْفِتْنَةِ (يَقُولُونَ لِلْمَجْنُونِ: فَتَنَتْهُ الْجِنُّ) وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا يَصْدُقُ عَلَى الْمُضْطَرِبِ فِي أَمْرِهِ الْمَفْتُونِ فِي عَقْلِهِ حَيْرَةً وَتَقَلْقُلًا، بِإِيثَارِ هَذَا اللَّفْظِ، دُونَ لَفْظِ الْمَجْنُونِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ أَوِ التَّوْرِيَةِ لِيَصِحَّ فَرْضُهُ لِلْجَانِبَيْنِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ يَنْدَفِعُونَ إِلَى مُقَاوَمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ تَبَصُّرٍ يَكُنْ فِي فِتْنَةِ اضْطِرَابِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَضْرَابِهِمَا الَّذِينَ أَغْرَوُا الْعَامَّةَ بِالطَّعْنِ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بمفعوله، وَالْأَصْل: أيّكم الْمَفْتُونُ فَهِيَ كَالْبَاءِ فِي قَوْله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ وَالْمَعْنَى: فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْكُمْ يُوجَدُ الْمَجْنُونُ، أَيْ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُدَبِّرِي السُّوءِ عَلَى دَهْمَاءَ قُرَيْشٍ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الشَّبِيهَةِ بِأَقْوَالِ الْمَجَانِينِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَصَفُوا رَجُلًا مَعْرُوفًا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ مَذْكُورًا بِرَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَالْأَمَانَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ فَكَانُوا كَمَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّهَارَ لَيْلٌ
وَمَنْ وَصَفَ الْيَوْمَ الشَّدِيدَ الْبَرْدِ بِالْحَرَارَةِ، فَهَذَا شُبِّهَ بِالْمَجْنُونِ وَلِذَلِكَ يُجْعَلُ الْمَفْتُونُ فِي الْآيَةِ وَصْفًا ادِّعَائِيًّا عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَمَا
مَوْعِظَةٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ لَازِمُهُ وَهُوَ وُقُوعُ الْبَعْثِ لِأَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي أَجْسَامٍ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِّفَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا سَبَقَ نُزُولُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ فَكَانَ فِي هَذَا الْجَوَابِ تَهْوِيلٌ لِيَوْمِ الْبَعْثِ وَفِي طَيِّهِ تَحْقِيقُ وُقُوعِهِ فَحَصَلَ إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ جَامِعٌ بَيْنَ الْإِنْذَارِ بِوُقُوعِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ.
ويَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ واجِفَةٌ فَآلَ إِلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ الْمُرَادَ تَحْقِيقُهُ هُوَ وُقُوعُ الْبَعْثِ بِأُسْلُوبٍ أَوْقَعَ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ الْمُنْكِرِينَ مِنْ أُسْلُوبِ التَّصْرِيحِ بِجَوَابِ الْقَسَمِ، إِذْ دَلَّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْوَالِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَهْوَالِهِ فَكَانَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ إِنْذَارٌ.
وَلَمْ تُقْرَنْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ بِلَامِ جَوَابِ الْقَسَمِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْجَوَابِ وَبَيْنَ الْقَسَمِ بِطُولِ جُمْلَةِ الْقَسَمِ، فَيَظْهَرُ لِي مِنَ اسْتِعْمَالِ الْبُلَغَاءِ أَنَّهُ إِذَا بَعُدَ مَا بَيْنَ الْقَسَمِ وَبَيْنَ الْجَوَابِ لَا يَأْتُونَ بِلَامِ الْقَسَمِ فِي الْجَوَابِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ إِلَى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: ١- ٤]. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يُؤْتَى بِلَامِ الْقَسَمِ فِي جَوَابِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ مُوَالِيًا لِجُمْلَةِ الْقَسَمِ نَحْوَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٥٧] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: ٩٢]، وَلِأَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لَمْ يَكْثُرِ اقْتِرَانُهُ بِلَامِ الْجَوَابِ وَلَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِجَوَازِهِ وَلَا بِمَنْعِهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» اسْتَظْهَرَ فِي مَبْحَثِ لَامِ الْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [الْبَقَرَة: ١٠٣] أَنَّ اللَّامَ لَامُ جَوَابِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَلَيْسَتْ لَامَ جَوَابِ (لَوْ) بِدَلِيلِ كَوْنِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً، وَالِاسْمِيَّةُ قَلِيلَةٌ مِنْ جَوَابِ (لَوْ) فَلَمْ يَرَ جُمْلَةَ الْجَوَابِ إِذَا كَانَتِ اسْمِيَّةً أَنْ تَقْتَرِنَ بِاللَّامِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَبَعًا لِلْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ جَوَابَ الْقَسَمِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرَهُ: لَتُبْعَثُنَّ.
وَقُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الظَّرْفَ هُوَ الْأَهَمُّ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ وُقُوعِهِ، فَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أُكِّدَ الْكَلَامُ بِالْقَسَمِ شَمِلَ التَّأْكِيدُ مُتَعَلَّقَاتِ الْخَبَرِ الَّتِي مِنْهَا ذَلِكَ الظَّرْفُ، وَالتَّأْكِيدُ اهْتِمَامٌ، ثُمَّ أُكِدَّ ذَلِكَ الظَّرْفُ فِي
الْأَثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ الَّذِي هُوَ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ فَحَصَلَتْ عِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَذَا الْخَبَرِ.


الصفحة التالية
Icon