إِلَى ضِدِّ مَوْصُوفِهَا وَهُوَ ضِدٌّ وَاحِدٌ أَيْ إِلَى مُسَاوِي نَقِيضِهِ تَعَيَّنَتْ لَهُ الْغَيْرِيَّةُ فَصَارَتْ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُ غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ، إِذْ غَيْرِيَّةُ الشَّيْءِ لِنَقِيضِهِ ثَابِتَةٌ لَهُ أَبَدًا فَقَوْلُكَ عَلَيْكَ بِالْحَرَكَةِ غَيْرِ السُّكُونِ هُوَ غَيْرُ قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ غَيْرِ عَمْرٍو وَقَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ.
وَمِنْ غَرَضِ وَصْفِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ التَّعَوُّذُ مِمَّا عَرَضَ لِأُمَمٍ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِ الْخَيْرِ بِحَسَبِ زَمَانِهِمْ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إِلَى الْحَقِّ فَتَقَلَّدُوهَا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمْ سُوءُ الْفَهْمِ فِيهَا فَغَيَّرُوهَا وَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَالتَّبَرُّؤُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي بَطَرِ النِّعْمَةِ وَسُوءِ الِامْتِثَالِ وَفَسَادِ التَّأْوِيلِ وَتَغْلِيبِ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا التَّبَرُّؤُ مِنْ حَالِ الَّذِينَ هُدُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَمَا صَرَفُوا عِنَايَتَهُمْ لِلْحِفَاظِ عَلَى السَّيْرِ فِيهِ بِاسْتِقَامَةٍ، فَأَصْبَحُوا مِنَ الضَّالِّينَ بَعْدَ الْهِدَايَةِ إِذْ أَسَاءُوا صِفَةَ الْعِلْمِ بِالنِّعْمَةِ فَانْقَلَبَتْ هِدَايَتُهُمْ ضَلَالًا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَحِقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ فَلَمْ يَسْبِقْ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا وَالْيَهُودُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَالنَّصَارَى مِنْ جُمْلَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى تَارِيخِ ظُهُورِ الدِّينَيْنِ فِيهِمْ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ اخْتِصَاصُ أَوَّلِ الْوَصْفَيْنِ بِالْيَهُودِ وَالثَّانِي بِالنَّصَارَى فَإِنَّ فِي الْأُمَمِ أَمْثَالَهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ فِي التَّفْسِيرِ هُوَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ مَعَهُ مَقَامُ الدُّعَاءِ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَو كَانَ المرادين الْيَهُودِيَّةِ وَدِينَ النَّصْرَانِيَّةِ لَكَانَ الدُّعَاءُ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ نَاسِخًا لَهُمَا.
وَيَشْمَلُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالُّونَ فِرَقَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي تَعَمَّدَتْ ذَلِكَ وَاسْتَخَفَّتْ بِالدِّيَانَةِ عَنْ عَمْدٍ أَوْ عَنْ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جِدًّا، وَالضَّالُّونَ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي أَخْطَأَتِ الدِّينَ عَنْ سُوءِ فَهْمٍ وَقِلَّةِ إِصْغَاءٍ وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَذْمُومٌ لِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَصَرْفِ الْجُهْدِ إِلَى إِصَابَتِهِ، وَالْيَهُودُ مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ
وَالنَّصَارَى مِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي. وَمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ مِمَّا ظَاهِرُهُ تَفْسِيرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْيَهُودِ وَالضَّالِّينَ بِالنَّصَارَى فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ تَعْرِيضًا بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ حَقَّ عَلَيْهِمَا هَذَانِ الْوَصْفَانِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَارَ عَلَمًا فِيمَا أُرِيدَ التَّعْرِيضُ بِهِ فِيهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَطْفَ وَلَا الضَّالِّينَ عَلَى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ارْتِقَاءٌ فِي التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّ التَّعَوُّذَ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي جَلَبَ لِأَصْحَابِهِ غَضَبَ اللَّهِ لَا يُغْنِي عَنِ التَّعَوُّذِ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِأَصْحَابِهِ تِلْكَ الدَّرَكَاتِ وَذَلِكَ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَلَا الضَّالِّينَ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ كَانَ بِسُؤَالِ النَّفْيِ، فَالتَّدَرُّجُ فِيهِ يَحْصُلُ
وَقَوْلُهُ: مَواقِيتُ لِلنَّاسِ أَيْ مَوَاقِيتُ لِمَا يُوَقَّتُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ أَيْ لِفَائِدَةِ النَّاسِ وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ لِأَعْمَالِ النَّاسِ، وَلَمْ تُذْكَرِ الْأَعْمَالُ الْمُوَقَّتَةُ بِالْأَهِلَّةِ لِيَشْمَلَ الْكَلَامُ كُلَّ عَمَلٍ مُحْتَاجٍ إِلَى التَّوْقِيتِ، وَعَطَفَ الْحَجَّ عَلَى النَّاسِ مَعَ اعْتِبَار الْمُضَاف الْمَحْذُوفِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَاحْتِيَاجُ الْحَجِّ لِلتَّوْقِيتِ ضَرُورِيٌّ إِذْ
لَوْ لَمْ يُوَقَّتْ لَجَاءَ النَّاسُ لِلْحَجِّ مُتَخَالِفِينَ فَلَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي أَسْفَارِهِمْ وَحُلُولِهِمْ بِمَكَّةَ وَأَسْوَاقِهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَتْ مُوَقَّتَةً بِالْأَهِلَّةِ، وَبِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ تَوْقِيتَهُ بِالْهِلَالِ تَكْمِيلِيٌّ لَهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَقْصُورَةٌ عَلَى الذَّاتِ فَلَوْ جَاءَ بِهَا الْمُنْفَرِدُ لَحَصَلَ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ وَلَكِنْ شُرِعَ فِيهِ تَوْحِيدُ الْوَقْتِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، فَإِنَّ الصَّعْبَ يَخِفُّ بِالِاجْتِمَاعِ وَلِيَكُونَ حَالُهُمْ فِي تِلْكَ الْمدَّة متماثلا فَلَا يَشُقُّ أَحَدٌ عَلَى آخَرَ فِي اخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا.
وَالْمَوَاقِيتُ جَمْعُ مِيقَاتٍ وَالْمِيقَاتُ جَاءَ بِوَزْنِ اسْمِ الْآلَةِ مِنْ وَقَّتَ وَسَمَّى الْعَرَبُ بِهِ الْوَقْتَ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا مُشْتَقًّا مِنَ الشُّهْرَةِ، لِأَنَّ الَّذِي يَرَى هِلَالَ الشَّهْرِ يُشْهِرُهُ لَدَى النَّاسِ. وَسَمَّى الْعَرَبُ الْوَقْتَ الْمُعَيَّنَ مِيقَاتًا كَأَنَّهُ مُبَالَغَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ الْوَقْتُ عَيْنُهُ. وَقِيلَ:
الْمِيقَاتُ أَخَصُّ مِنَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ وَقْتٌ قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، قُلْتُ: فَعَلَيْهِ يَكُونُ صَوْغُهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْآلَةِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ يَكُونُ وَسِيلَةً لِتَحْدِيدِ الْوَقْتِ فَكَأَنَّهُ آلَةٌ لِلضَّبْطِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا وَقْتَ لَهَا فَلَا تَكُونُ لِلْأَهِلَّةِ فَائِدَةٌ فِي فِعْلِهَا.
وَمَجِيءُ ذِكْرِ الْحَجِّ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَطِيعُونَ الْحَج حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَمْنَعُونَهُمْ- إِشَارَةً إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ ثَابِتٌ وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ حَالُوا دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَهُ (١). وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ٩٧] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَة: ١٩٧] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
_________
(١) فِيهِ نظر إِذْ الْأَظْهر أَن هَذِه الْآيَة نزلت بعد فرض الْحَج كَمَا قدمنَا قَرِيبا.
الشُّرُورَ، إِذَا تَسَرَّبَتْ إِلَى النُّفُوسِ، تَعَذَّرَ أَوْ عَسُرَ اقْتِلَاعُهَا مِنْهَا، وَكَانَتِ
الشَّرَائِعُ تَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى مُتَابَعَةِ وَصَايَاهَا بِالْمُبَاشَرَةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ بِطَرِيقَتَيْنِ: طَرِيقَةٍ مُبَاشِرَةٍ، وَطَرِيقَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْفَسَادِ، وَغَالِبُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَأَحْسَبُهَا أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُرِيدَ بِالْمُشْتَبِهَاتِ
فِي حَدِيثِ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ»
. الْمَظْهَرُ السَّابِعُ: الرَّأَفَةُ بِالنَّاسِ حَتَّى فِي حَمْلِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ بِالِاقْتِصَارِ فِي التَّشْرِيعِ عَلَى مَوْضِعِ الْمَصْلَحَةِ، مَعَ تَطَلُّبِ إِبْرَازِ ذَلِكَ التَّشْرِيعِ فِي صُورَةٍ لَيِّنَةٍ، وَفِي الْقُرْآنِ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥]
وَفِي الْحَدِيثِ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ- وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»
وَكَانَتِ الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ تَحْمِلُ عَلَى الْمُتَابَعَةِ بِالشِّدَّةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلْبَقَاءِ لِأَنَّهَا رُوعِيَ فِيهَا حَالُ قَسَاوَةِ أُمَمٍ فِي عُصُورٍ خَاصَّةٍ، وَلَمْ تَكُنْ بِالَّتِي يُنَاسِبُهَا مَا قُدِّرَ مَصِيرُ الْبَشَرِ إِلَيْهِ مِنْ رِقَّةِ الطِّبَاعِ وَارْتِقَاءِ الْأَفْهَامِ.
الْمَظْهَرُ الثَّامِنُ: امْتِزَاجُ الشَّرِيعَةِ بِالسُّلْطَانِ فِي الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّشْرِيعِ إِلَّا تَأْسِيسُ قَانُونٍ لِلْأُمَّةِ، وَمَا قِيمَةُ قَانُونٍ لَا تَحْمِيهِ الْقُوَّةُ وَالْحُكُومَةُ.
وَبِامْتِزَاجِ الْحُكُومَةِ مَعَ الشَّرِيعَةِ أَمْكَنَ تَعْمِيمُ الشَّرِيعَةِ، وَاتِّحَادُ الْأُمَّةِ فِي الْعَمَلِ وَالنِّظَامِ.
الْمَظْهَرُ التَّاسِعُ: صَرَاحَةُ أُصُولِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَتَكَرَّرُ فِي الْقُرْآنِ مَا تُسْتَقْرَى مِنْهُ قَوَاطِعُ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى تَكُونَ الشَّرِيعَةُ مَعْصُومَةً مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّحْرِيفَاتِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَى أَهْلِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَيَزْدَادُ هَذَا بَيَانًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: ٢٠].
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
عَطَفَ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ سُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ فِي دِينِهِمْ.
(١٩٤)
هَذَا غَرَضٌ أُنُفٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَتَابَعَ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، انْتُقِلَ بِهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَقْصِدِ وَالْمُتَخَلِّلَاتِ بِالْمُنَاسَبَاتِ، إِلَى غَرَضٍ جَدِيدٍ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ وَأَعْرَاضِهَا وَالتَّنْوِيهُ بِالَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ آيَاتٍ.
وَمِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ يَكُونُ إِيذَانًا بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ عَلَى أَغْرَاضِ السُّورَةِ، عَلَى تَفَنُّنِهَا، فَقَدْ كَانَ التَّنَقُّلُ فِيهَا مِنَ الْغَرَضِ إِلَى مُشَاكِلِهِ وَقَدْ وَقَعَ الِانْتِقَالُ الْآنَ إِلَى غَرَضٍ عَامٍّ: وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الِاتِّعَاظِ بِذَلِكَ، وَهَذَا النَّحْوُ فِي الِانْتِقَالِ يَعْرِضُ لِلْخَطِيبِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَغْرَاضِهِ عَقِبَ إِيفَائِهَا حَقَّهَا إِلَى غَرَضٍ آخَرَ إِيذَانًا بِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الِانْتِهَاءِ، وَشَأْنُ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ بِالْمَوْعِظَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ أَغْرَاضِ الرِّسَالَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي خِتَامِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.
وَالْمُرَادُ بِ خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هُنَا: إِمَّا آثَارُ خَلْقِهَا، وَهُوَ النِّظَامُ الَّذِي جُعِلَ فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: ١١]. وَأولُوا الْأَلْبَابِ أَهْلُ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ لبّ الشَّيْء هُوَ خُلَاصَتُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانَ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ [الْبَقَرَة: ١٦٤] إِلَخْ.
ويَذْكُرُونَ اللَّهَ إِمَّا مِنَ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ وَإِمَّا مِنَ الذِّكْرِ القلبي وَهُوَ التفكّر، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ عُمُومَ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَهُ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَقَوْلِهِمْ: اشْتَهَرَ كَذَا عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ هِيَ مُتَعَارَفُ أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي السَّلَامَةِ، أَيْ أَحْوَالِ الشُّغْلِ وَالرَّاحَةِ وَقَصْدِ النَّوْمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَحْوَالَ الْمُصَلِّينَ:
مِنْ قَادِرٍ، وَعَاجِزٍ، وَشَدِيدِ الْعَجْزِ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ بَعِيدٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَطْفٌ مُرَادِفٌ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِيمَا سبق التفكّر، وَإِعَادَتَهُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمُتَفَكَّرِ فِيهِ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ مُغَايِرٌ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَذْكُرُونَ ذكر اللِّسَان. والتفكّر عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ
مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ أُرِيدَ بِهِ عَمَلُ السُّوءِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُقُوقِهِمْ، وَأَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ هُوَ الْمَعَاصِي الرَّاجِعَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْمَرْءِ فِي أَحْوَالِهِ الْخَاصَّةِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ.
وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ وَطَلَبُ الْعَفْوِ مِنَ اللَّهِ عَمَّا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَمَعْنَى يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، فَاسْتُعِيرَ فِعْلُ يَجِدِ
لِلتَّحَقُّقِ لِأَنَّ فِعْلَ وَجَدَ حَقِيقَتُهُ الظَّفَرُ بِالشَّيْءِ وَمُشَاهَدَتُهُ، فَأُطْلِقَ عَلَى تَحْقِيقِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.
وَمَعْنَى غَفُوراً رَحِيماً
شَدِيدَ الْغُفْرَانِ وَشَدِيدَ الرَّحْمَةِ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُمُومِ وَالتَّعْجِيلِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى يَجِدِ اللَّهَ غَافِرًا لَهُ رَاحِمًا لَهُ، لِأَنَّهُ عَامُّ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَحَدٌ اسْتَغْفَرَهُ وَتَابَ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ شُمُولُ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ زَمَنًا، فَكَانَتْ صِيغَةُ غَفُوراً رَحِيماً
مَعَ يَجِدِ
دَالَّةً عَلَى الْقَبُولِ مِنْ كُلِّ تَائِبٍ بِفَضْلِ اللَّهِ.
وَذِكْرُ الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَالْمُرَادُ بِالْخَطِيئَةِ الْمَعْصِيَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِثْمِ الْكَبِيرَةُ.
وَالرَّمْيُ حَقِيقَتُهُ قَذْفُ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى نِسْبَةِ خَبَرٍ أَوْ وَصْفٍ لِصَاحِبِهِ بِالْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي نِسْبَةِ غَيْرِ الْوَاقِعِ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ» وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّور: ٤] وَكَذَلِكَ هُوَ هُنَا، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْقَذْفُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا.
وَمَعْنَى يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ وَيَحْتَالُ لِتَرْوِيجِ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ يَنْزِعُ ذَلِكَ الْإِثْمَ عَنْ
نَفْسِهِ وَيَرْمِي بِهِ الْبَرِيءَ. وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الْفَاحِشُ. وَجُعِلَ الرَّمْيُ بِالْخَطِيئَةِ وَبِالْإِثْمِ مَرْتَبَةً وَاحِدَةً فِي كَوْنِ ذَلِكَ إِثْمًا مُبِينًا: لِأَنَّ رَمْيَ الْبَرِيءِ بِالْجَرِيمَةِ فِي ذَاتِهِ كَبِيرَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ. وَدَلَّ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْبُهْتَانِ بِقَوْلِهِ: احْتَمَلَ
تَمْثِيلًا لِحَالِ فَاعِلِهِ بِحَالِ عَنَاءِ الْحَامِلِ ثِقْلًا. وَالْمُبِينُ الَّذِي يَدُلُّ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى أَنَّهُ إِثْمٌ، أَيْ إِثْمًا ظَاهِرًا لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهِ إِثْمًا.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
عُطِفَ عَلَى وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النِّسَاء: ١٠٥].
كَانُوا يَنْتَظِرُونَ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي التَّوْرَاةِ حُكْمُ رَجْمِ الزَّانِي فَيَتَّخِذُوا ذَلِكَ عُذْرًا لِإِظْهَارِ مَا أَبَطَنُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِعِلَّةِ تَكْذِيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ الْتِجَاءَ الْيَهُودِ إِلَى تحكيم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِأَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِرِسَالَتِهِ وَلَا لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ حُكْمَهُ تَرْجِيحًا فِي اخْتِلَافِهِمْ وَلَكِنْ لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهُ وَلِيَّ الْأَمْرِ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا. وَلَهُمْ فِي قَوَاعِدِ أَعْمَالِهِمْ وَتَقَادِيرِ أَحْبَارِهِمْ أَنْ يُطِيعُوا وُلَاةَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ. فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ دِينِهِمْ جَعَلُوا الْحُكْمَ لِغَيْرِ الْمُخْتَلِفِينَ لِأَنَّ حُكْمَ وَلِيِّ الْأَمْرِ مُطَاعٌ عِنْدَهُمْ. فَحَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ حُكْمًا جَمَعَ بَيْنَ إِلْزَامِهِمْ بِمُوجِبِ تَحْكِيمِهِمْ وَبَيْنَ إِظْهَارِ خَطَئِهِمْ فِي الْعُدُولِ عَنْ حُكْمِ كِتَابِهِمْ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقِسْطَ
فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ رَأْيِ مَنْ يُثْبِتُ مِنْهُمْ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولٌ لِلْأُمِّيِّينَ خَاصَّةً. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْيَهُودُ الْعِيسَوِيَّةُ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ مُؤَيِّدًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ يُعَدُّ كَالْإِخْبَارِ عَنِ التَّوْرَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ يَهُودِيًّا زَنَى بِيَهُودِيَّةٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ أَفْتَى بِالْجَلْدِ دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَقُلْنَا فُتْيَا نَبِيءٍ مِنْ أَنْبِيَائِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الِاعْتِضَادِ بِمُوَافَقَةِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ تَرْجِيحُ أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ بِمُوَافَقَتِهِ لِشَرْعٍ آخَرَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُود وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَدَلُوا عَنْ حُكْمِ شَرِيعَتِهِمْ تَوَقُّفًا عِنْدَ التَّعَارُضِ فَمَالُوا إِلَى التَّحْكِيمِ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي شَرْعِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا استفتوا النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ مَعَ أَصْحَابِهِ حتّى جَاءَ الْمدَارِس- وَهُوَ بَيْتُ تَعْلِيمِ الْيَهُودِ- وَحَاجَّهُمْ فِي حُكْمِ الرَّجْمِ، وَأَجَابَهُ حَبْرَانِ مِنْهُمْ يُدْعَيَانِ بِابْنَيْ صُورِيَّا بِالِاعْتِرَافِ بِثُبُوتِ حُكْمِ الرَّجْمِ، فِي التَّوْرَاةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا حكّموا النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا لِاخْتِبَارِهِ فِيمَا يَدَّعِي مِنَ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ حُكْمُ الرَّجْمِ عِنْدَهُمْ مَكْتُومًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا خَاصَّةُ أَحْبَارِهِمْ،
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، أَفَلا تَعْقِلُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ-، فَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَائِدٌ
لِمَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ قَبْلَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تأييس للْمُشْرِكين.
[٣٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٣٣]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَتْ بِهِ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرُهُ بِالصَّبْرِ، وَوَعْدُهُ بِالنَّصْرِ، وَتَأْيِيسُهُ مِنْ إِيمَانِ الْمُتَغَالِينَ فِي الْكُفْرِ، وَوَعْدُهُ بِإِيمَانِ فِرَقٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى - إِلَى قَوْلِهِ- يَسْمَعُونَ. وَقَدْ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِهَذَا الْغَرَضِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَإِبْطَالِ إِنْكَارِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَرَاغِ مِنْ وَعِيدِهِمْ وَفَضِيحَةِ مُكَابَرَتِهِمِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: ٤] إِلَى هُنَا.
وَقد تَحْقِيقٌ لِلْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَهُوَ فِي تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ (إِنَّ) فِي تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. فَحَرْفُ قَدْ مُخْتَصٌّ بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُتَصَرِّفَةِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُثْبَتَةِ الْمُجَرَّدَةِ مَنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ وَحَرْفِ تَنْفِيسٍ، وَمَعْنَى التَّحْقِيقِ مُلَازِمٌ لَهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مَدْخُولُهَا مَاضِيًا أَوْ مُضَارِعًا، وَلَا يَخْتَلِفُ مَعْنَى قَدْ بِالنِّسْبَةِ لِلْفِعْلَيْنِ. وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ قَدْ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْمُضَارِعِ أَفَادَ تَقْلِيلَ حُصُولِ الْفِعْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَمِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْلِيلِ لَكِنْ بِالْقَرِينَةِ وَلَيْسَتْ بِدَلَالَةٍ أَصْلِيَّةٍ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدِي.
وَلِذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ دُخُولِ قَدْ عَلَى فِعْلِ الْمُضِيِّ وَدُخُولِهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي إِفَادَةِ تَحْقِيقِ الْحُصُولِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ النُّورِ [٦٤]. فَالتَّحْقِيقُ يُعْتَبَرُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي إِنْ
أَيْ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا، فَرُوعِيَ فِي اسْمِ الْعَدَدِ مَعْنَى مُمَيِّزِهِ دُونَ لَفْظِهِ وَهُوَ أَمْثَالٌ. وَالْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرَةِ أَضْعَافٍ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ جَزَاءُ غَالِبِ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ زَادَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْحَسَنَاتِ أَنْ ضَاعَفَهَا سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
[الْبَقَرَة: ٢٦١] فَذَلِكَ خَاصٌّ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ»
. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَشْرُ أَمْثالِها بِإِضَافَةِ عَشْرُ إِلَى أَمْثالِها. وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوف، وقرأه يَعْقُوبُ- بِتَنْوِينِ عَشْرُ وَرَفْعِ أَمْثالِها، عَلَى أنّه صفة ل عَشْرُ، أَيْ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ مُمَاثِلَةٍ لِلْحَسَنَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا. وَمُمَاثَلَةُ الْجَزَاء للحسنة موكول إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لِأَجْلِ مَا فِي صِيغَتِهِ مِنْ تَقْدِيمِ جَانِبِ النَّفْيِ، اهْتِمَامًا بِهِ، لِإِظْهَارِ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ، فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ، وَلَيْسَ فِي الْحَصْرِ الْحَقِيقِيِّ رَدُّ اعْتِقَادٍ بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ يُسَاوِيهِ أَنْ يُقَالَ:
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَيُجْزَى مِثْلَهَا، لَوْلَا الِاهْتِمَامُ بِجَانِبِ نَفْيِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ. وَنَظِيرُهُ
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَتْهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا، فَقَالَ لَهَا: «لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ»
وَلَمْ يَقُلْ لَهَا: أَطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»
فَأَكَّدَهَا بِوَاحِدَةٍ تَحْقِيقًا لِعَدَمِ الزِّيَادَةِ فِي جَزَاءِ السَّيِّئَةِ.
وَلَا لِرَجُلٍ دُونَ رَجُلٍ، فَإِنَّ النَّاسَ سَوَاءٌ، وَالذِّكْرَ سَوَاءٌ فِي قَبُولِهِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَرَدِّهِ لِمَنْ حُرِمَ التَّوْفِيقَ، أَي هَذَا الحَدِيث الَّذِي عَظَّمْتُمُوهُ وَضَجَجْتُمْ لَهُ مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ.
وَوَصْفُ رَجُلٍ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِهِمُ الْبَشَرِيِّ فَضْحٌ لِشُبْهَتِهِمْ، وَمَعَ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ فَضْحِ شُبْهَتِهِمْ فِيهِ أَيْضًا رَدٌّ لَهَا بِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يَكُونَ مَا جَعَلُوهُ مُوجِبَ اسْتِبْعَادٍ وَاسْتِحَالَةٍ هُوَ مُوجِبُ الْقَبُولِ وَالْإِيمَانِ، إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يَنْظُرُوا فِي الذِّكْرِ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَنْ لَا يُسْرِعُوا إِلَى تَكْذِيبِ الْجَائِي بِهِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ كَوْنَ الْمُذَكِّرِ رَجُلًا مِنْهُمْ أَقْرَبُ إِلَى التَّعَقُّلِ مِنْ كَوْنِ مُذَكِّرِهِمْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ مَلَكٍ أَوْ جِنِّيٍّ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فِي إِبْطَالِ دَعْوَى الْخَصْمِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِصِدْقِ دَعْوَى الْمُجَادِلِ، وَهُوَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ سَنَدِ الْمَنْعِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ.
وَمَعْنَى (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ يُشْعِرُ بِأَنَّ جاءَكُمْ ضُمِّنَ مَعْنَى نَزَلَ:
أَيْ نَزَلَ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَهَذَا مُخْتَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنْ (عَلَى) بِمَعْنَى مَعَ.
وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَكُمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ هُوَ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: جاءَكُمْ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي تَشْوِيهِ خَطَئِهِمْ إِذْ جَعَلُوا ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا، وَإِنَّمَا هُوَ هَدْيٌ وَاضِحٌ لِفَائِدَتِكُمْ بِتَحْذِيرِكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَإِرْشَادِكُمْ إِلَى تَقْوَى اللَّهِ، وَتَقْرِيبِكُمْ مَنْ رَحْمَتِهِ.
وَقَدْ رُتِّبَتِ الْجُمَلُ عَلَى تَرْتِيبِ حُصُولِ مَضْمُونِهَا فِي الْوُجُودِ، فَإِنَّ الْإِنْذَارَ مُقَدَّمٌ لِأَنَّهُ حَمْلٌ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَوِ الْوَثَنِيَّةِ، ثُمَّ يَحْصُلُ بَعْدَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَتُرْجَى مِنْهُ الرَّحْمَةُ.
وَالْإِنْذَارُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٩].
وَالتَّقْوَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَإِمَّا مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ وَافْتِرَاءٌ على الرَّسُول.
[١٨٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٨٥]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
تَرَقٍّ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي حَالِ رَسُولِهِمْ. إِلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعَمُّ، وَهُوَ ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا هُوَ آيَاتٌ مِنْ آيَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي دعاهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ: أَنَّ دَعْوَةَ الرَّسُولِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ هُوَ مِنْ أَكْبَرِ بَوَاعِثِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥].
وَعُدِّيَ فِعْلُ (النَّظَرِ) إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّأَمُّلُ بِتَدَبُّرٍ، وَهُوَ التَّفَكُّرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١] وَتَقُولُ نَظَرْتُ فِي شَأْنِي، فَدَلَّ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّفَكُّرَ عَمِيقٌ مُتَغَلْغِلٌ فِي أَصْنَافِ الْمَوْجُودَاتِ وَهِيَ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ.
وَالْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ الْعَظِيمُ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٥].
وَإِضَافَتُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بَيَانِيَّةٌ أَيِ الْمُلْكُ الَّذِي هُوَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَيْ مُلْكُ اللَّهِ لَهُمَا، فَالْمُرَادُ السَّمَاءُ بِمَجْمُوعِهَا وَالْأَرْضُ بِمَجْمُوعِهَا الدَّالَّيْنِ عَلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَطَفَ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عَلَى مَلَكُوتِ فَقَسَّمَ النَّظَرَ إِلَى نَظَرٍ فِي عَظِيمِ
مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى نَظَرٍ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَدَقَائِقِ أَحْوَالِهَا الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالنَّظَرُ إِلَى عَظمَة السَّمَوَات وَالْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْحَقِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالصُّنْعِ فَهُوَ الْحَقِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَوْ نَظَرُوا فِي ذَلِكَ نَظَرَ اعْتِبَارٍ لَعَلِمُوا أَنْ
عَطِيَّةَ: «لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِتَابًا عَلَى تَخَلُّفِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، إِذْ تَخَلَّفَ عَنْهَا قَبَائِلُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقُونَ» فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التَّوْبَة: ٣٦]- وَبِقَوْلِهِ- قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التَّوْبَة: ٢٩- ٣٥] كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ.
وَهُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينَ حَصَلَ مِنْهُمُ التَّثَاقُلُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، حِينَ نَضِجَتِ الثِّمَارُ، وَطَابَتِ الظِّلَالُ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ فِي شِدَّةِ حَاجَةٍ إِلَى الظَّهْرِ وَالْعُدَّةِ. فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَجَلَّى رَسُولُ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِمَا يُوهِمُ مَكَانًا غَيْرَ الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، فَحَصَلَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ تَثَاقُلٌ، وَمِنْ بَعْضِهِمْ تَخْلُفٌ، فَوَجَّهَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْمَلَامَ الْمُعَقَّبَ بِالْوَعِيدِ.
فَإِنْ نَحْنُ جَرَيْنَا عَلَى أَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ كَانَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّهُ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، كَمَا هُوَ الْأَرْجَحُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، كَانَ مَحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا عِتَابٌ عَلَى مَا مَضَى وَكَانَتْ إِذا مُسْتَعْمَلَةً ظَرْفًا لِلْمَاضِي، عَلَى خِلَافِ غَالِبِ اسْتِعْمَالِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: ١١] وَقَوْلِهِ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ [التَّوْبَة: ٩٢] الْآيَةَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: ٧٥] صَالِحٌ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ، وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا تَنْفِرُوا وإِلَّا تَنْصُرُوهُ وانْفِرُوا خِفافاً مُرَادٌ بِهِ مَا يُسْتَقْبَلُ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ الْآيَاتِ.
وَإِنْ جَرْيَنَا عَلَى مَا عَزَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى النِّقَاشِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ، كَانَتِ الْآيَةُ عِتَابًا عَلَى تَكَاسُلٍ وَتَثَاقَلٍ ظَهَرَا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَكَانَتْ إِذا ظَرْفًا
لِلْمُسْتَقْبَلِ، عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهَا، وَكَانَ قَوْلُهُ: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [التَّوْبَة:
٣٩] تَحْذِيرًا مِنْ تَرْكِ الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعِيدٌ مِمَّا ثَبَتَ فِي «السِّيرَةِ» وَمَا تَرَجَّحَ فِي نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ الْوَاقِعُ، فَهُوَ بِمَعْنَى حَاقٍّ، أَيْ ثَابِتٍ، أَيْ أَنَّ وُقُوعَهُ ثَابِتٌ، فَأَسْنَدَ
الثُّبُوتَ لِذَاتِ الْعَذَابِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ إِذْ لَا تُوصَفُ الذَّاتُ بِثُبُوتٍ.
وَجُمْلَةُ: أَحَقٌّ هُوَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُعَلِّقَةٌ فِعْلَ يَسْتَنْبِئُونَكَ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَسْتَنْبِئُونَكَ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ.
وَالضَّمِيرُ يَجُوزُ كَونه مُبْتَدأ، وأَ حَقٌّ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ.
وَاسْتَعْمَلُوا الِاسْتِفْهَامَ تَبَالُهًا، وَلِذَلِكَ اشْتَمَلَ الْجَوَابُ الْمَأْمُورُ بِهِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْحَالَتَيْنِ فَاعْتَبَرَ أَوَّلًا ظَاهِرَ حَالِ سُؤَالِهِمْ فَأُجِيبُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ كَلَامِهِمْ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِهِمْ سُؤَالُ الِاسْتِرْشَادِ تَغْلِيطًا لَهُمْ وَاغْتِنَامًا لِفُرْصَةِ الْإِرْشَادِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ حَالِ سُؤَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْجَوَابَ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ إِذْ جَمَعَ بَيْنَ حَرْفِ إِي وَهُوَ حَرْفُ جَوَابٍ يُحَقَّقُ بِهِ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَوَابِ، وَبِالْقَسَمِ، وَإِنَّ، وَلَامِ الِابْتِدَاءِ، وَكُلُّهَا مُؤَكِّدَاتٌ.
وَالِاعْتِبَارُ الثَّانِي اعْتِبَارُ قَصْدِهِمْ مِنِ اسْتِفْهَامِهِمْ فَأُجِيبُوا بِقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.
فَجُمْلَةُ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ فَمَضْمُونُهَا مِنَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ جَوَابًا عَنِ اسْتِفْهَامِهِمْ كَانَ مَضْمُونُ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ جَوَابًا عَنِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ مَا أَضْمَرُوهُ مِنَ التَّكْذِيبِ، أَيْ هُوَ وَاقِعٌ وَأَنْتُمْ مُصَابُونَ بِهِ غَيْرَ مُفْلِتِينَ مِنْهُ. وَلَيْسَ فِعْلُ يَسْتَنْبِئُونَكَ مُسْتَعْملا فِي الظَّاهِر بِمَعْنَى الْفِعْلِ كَمَا اسْتُعْمِلَ قَوْلُهُ:
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التَّوْبَة: ٦٤]، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَرَاءَةٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِنْبَاءِ وَاقِعَةٌ هُنَا إِذْ قَدْ صَرَّحُوا بِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وإِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ: حَرْفُ جَوَابٍ لِتَحْقِيقِ مَا تَضَمَّنَهُ سُؤَالُ سَائِلٍ، فَهُوَ مُرَادِفُ (نَعَمْ)، وَلَكِنْ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْحَرْفِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا وَبَعْدَهُ الْقَسَمُ.
وَالْمُعْجِزُونَ: الْغَالِبُونَ، أَيْ وَمَا أَنْتُمْ بِغَالِبِينَ الَّذِي طَلَبَكُمْ، أَيْ بِمُفْلِتِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٤].
وَالْمُرَادُ أَنْ يَعْبُدَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ بِقَرِينَةِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَبِقَرِينَةِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ كُلُّ أَمْرٍ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنَ الْعِبَادَةِ وَلَا مِنَ التَّوَكُّلِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِوُجُوبِ سَبَبِ تَخْصِيصِهِ بِهِمَا.
وَجُمْلَةُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فَذْلَكَةٌ جَامِعَةٌ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَالْوَاوُ فِيهِ كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ عَدَمَ غَفْلَتِهِ عَنْ أَيِّ عَمَلٍ أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَ وَصْفُ الْغَافِلِ بِالْعَمَلِ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِالذَّوَاتِ نَحْوَ: بِغَافِلٍ عَنْكُمْ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ عَلَى الْعَمَلِ جَزَاءً.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ «عَمَّا تَعْمَلُونَ» - بِتَاءٍ فوقية- خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فِي الْخِطَابِ. وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُمْ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الْكُفَّارِ فَهُوَ تَسْلِيَة للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالتَّذْيِيلُ مَعَ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَتَشَابُهِ عَقْلِيَّاتِهِمْ فِي حُجَجِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَرَدِّ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ مَا رَدَّ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي مَوَاضِعَ، ثُمَّ خُتِمَ بِالْوَعِيدِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ لِأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُهُمْ، فَأَمَّا قَوْمُ نُوحٍ فَقَدْ تَوَاتَرَ خَبَرُهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ بِسَبَبِ خَبَرِ الطُّوفَانِ، وَأَمَّا عَادٌ وَثَمُودُ فَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَمَسَاكِنُهُمْ فِي بِلَادِهِمْ وَهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَيُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٤٥] وَقَالَ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[سُورَة الصافات: ١٣٧].
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَشْمَلُ أَهْلَ مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقَوْمَ تُبَّعٍ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أُمَمٍ انْقَرَضُوا وَذَهَبَتْ أَخْبَارُهُمْ فَلَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [سُورَة الْفرْقَان: ٣٨].
وَجُمْلَةُ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الْوَاقِعَةُ حَالًا مِنَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُهَا انْتِفَاءُ عِلْمِ النَّاسِ بِهِمْ.
وَمَعْنَى جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ جَاءَ كُلَّ أُمَّةٍ رسولها.
وضمائر فَرَدُّوا وأَيْدِيَهُمْ وأَفْواهِهِمْ عَائِدٌ جَمِيعُهَا إِلَى قَوْمِ نُوحٍ وَالْمَعْطُوفَاتِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا أَعْهَدُ سَبْقَ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَمَعْنَى فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ يَحْتَمِلُ عِدَّةَ وُجُوهٍ أَنْهَاهَا فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى سَبْعَةٍ وَفِي بَعْضِهَا بُعْدٌ، وَأَوْلَاهَا بِالِاسْتِخْلَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ إِخْفَاءً لِشِدَّةِ الضَّحِكِ مِنْ كَلَامِ الرُّسُلِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَظْهَرَ دَوَاخِلُ أَفْوَاهِهِمْ. وَذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالرُّسُلِ.
وَعَبَّرَ عَنِ الضَّلَالِ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِيَّةِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الضَّلَالِ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَالْعَرَبُ اخْتَلَفَتْ ضَلَالَتُهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، عَبَدَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ صَنَمًا، وَعَبَدَ بَعْضُهُمُ الشَّمْسَ وَالْكَوَاكِبَ، وَاتَّخَذَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ لِنَفْسِهَا أَعْمَالًا يَزْعُمُونَهَا دِينًا صَحِيحًا. وَاخْتَلَفُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الدِّينِ.
وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِالْأَهَمِّ مِنْ غَايَةِ الْقُرْآنِ وَفَائِدَتِهِ الَّتِي أُنْزِلَ لِأَجْلِهَا. فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِيَرْغَبَ السَّامِعُونَ فِي تَلَقِّيهِ وَتَدَبُّرِهِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ كُلٌّ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ حَتَّى يَسْتَوُوا فِي الِاهْتِدَاءِ.
ثمَّ إِن هَذَا الْقَصْرَ يُعَرِّضُ بِتَفْنِيدِ أَقْوَالِ مَنْ حَسِبُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِذِكْرِ الْقَصَصِ لِتَعْلِيلِ الْأَنْفُسِ فِي الْأَسْمَارِ وَنَحْوِهَا حَتَّى قَالَ مُضِلُّهُمْ: أَنَا آتِيكُمْ بِأَحْسَنِ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، آتِيكُمْ بِقصَّة (رستم) و (إسفنديار). فَالْقُرْآنُ أَهَمُّ مَقَاصِدِهِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ الْجَامِعَةُ لِأُصُولِ الْخَيْرِ، وَهِيَ كَشْفُ الْجَهَالَاتِ وَالْهُدَى إِلَى الْمَعَارِفِ الْحَقِّ وَحُصُولُ أَثَرِ ذَيْنَكِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الرَّحْمَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ مُجَانَبَةِ الضَّلَالِ وَإِتْبَاعِ الْهُدَى.
وَأُدْخِلَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى فِعْلِ «تَبَيَّنَ» الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ لَا مِنْ فِعْلِ فَاعِلِ أَنْزَلْنا، فَالنَّبِيءُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْبَيَانِ بِالْقُرْآنِ تَبْلِيغًا وَتَفْسِيرًا.
فَلَا يَصِحُّ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْإِتْيَانُ بِالتَّبْيِينِ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ إِذْ لَيْسَ مُتَّحِدًا مَعَ الْعَامِلِ فِي الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ فِي الْمَعْطُوفِ فَنُصِبَ هُدىً وَرَحْمَةً لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ مُنْزِلِ الْقُرْآنِ، فَاللَّهُ هُوَ الْهَادِي وَالرَّاحِمُ بِالْقُرْآنِ، وَكُلٌّ مِنَ الْبَيَانِ وَالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ حَاصِلٌ بِالْقُرْآنِ فَآلَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ إِلَى أَنَّهَا صِفَاتٌ لِلْقُرْآنِ أَيْضًا.
عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْي قَالَ: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
الْآيَةَ. فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ:
أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَأَلُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظَنَّ النَّبِيءُ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى فهم معنى الرُّوحِ فَانْتَظَرَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِمَا يُجِيبُهُمْ بِهِ أَبْيَنَ مِمَّا أَجَابَ بِهِ قُرَيْشًا، فَكَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْزَالَ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ أَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتْلُوَهَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمَ أَنَّهُمْ وَقُرَيْشًا سَوَاءٌ فِي الْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتَغَيَّرُ.
هَذَا، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي: أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ تَخْلِيطًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا اسْتَقَوْا مِنَ
الْيَهُودِ شَيْئًا وَمِنَ النَّصَارَى شَيْئًا فَقَدْ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ مُخَالَطَةٌ مَعَ نَصَارَى الشَّامِ فِي رِحْلَتِهِمُ الصَّيْفِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، لِأَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنَّمَا هِيَ من شؤون النَّصَارَى، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ كَانُوا نَصَارَى كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيَّ يَظْهَرُ أَنَّهَا مِمَّا عُنِيَ بِهِ النَّصَارَى لِارْتِبَاطِ فُتُوحَاتِهِ بِتَارِيخِ بِلَادِ الرُّومِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْيَهُودَ مَا لَقَّنُوا قُرَيْشًا إِلَّا السُّؤَالَ عَنِ الرُّوحِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ السَّبَبُ فِي إِفْرَادِ السُّؤَالِ عَنِ الرُّوحِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذِكْرُ الْقِصَّتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَرَّرَ السُّؤَالُ فِي مُنَاسَبَاتٍ وَذَلِكَ شَأْنُ الَّذِينَ مَعَارِفُهُمْ مَحْدُودَةٌ فَهُمْ يُلْقُونَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ.
وَسُؤَالُهُمْ عَنِ الرُّوحِ مَعْنَاهُ أَنهم سَأَلُوا عَنْ بَيَانِ مَاهِيَّةِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالرُّوحِ وَالَّتِي يَعْرِفُ كُلُّ أَحَدٍ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ أَنَّهَا حَالَّةٌ فِيهِ.
وَالرُّوحُ: يُطْلَقُ عَلَى الْمَوْجُودِ الْخَفِيِّ الْمُنْتَشِرِ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُهُ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالتَّفْكِيرِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَوَّمُ فِي الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ حِينَ يَكُونُ جَنِينًا بَعْدَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى نُزُولِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: ٧٢]. وَهَذَا يُسَمَّى أَيْضًا بِالنَّفْسِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفجْر: ٢٧].
وَجُمْلَةُ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ نُودِيَ. وَبِهَذَا النِّدَاءِ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ كَلَامٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ الْعَوَائِدَ الَّتِي قَرَّرَهَا فِي الْأَكْوَانِ إِلَّا لِإِرَادَةِ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ لَهُ عِنَايَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمُغَيَّرِ، فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ أَصْوَاتًا خَلْقًا غَيْرَ
مُعْتَادٍ غَيْرَ صَادِرَةٍ عَنْ شَخْصٍ مُشَاهَدٍ، وَلَا مُوَجَّهَةٍ لَهُ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ يَتَوَلَّى هُوَ تَبْلِيغَ الْكَلَامِ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ إِلَيْهِ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاء: ١٦٤]، إِذْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ تِلْكَ الْأَصْوَاتِ دَالَّةٌ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَصْوَاتُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ هُوَ مَا نُسَمِّيهِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ. وَلَيْسَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ هُوَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى لِأَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْمَاعِ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّهُ رَبُّ الْمُخَاطَبِ لِتَسْكِينِ رَوْعَةِ نَفْسِهِ مِنْ خِطَابٍ لَا يُرَى مُخَاطِبُهُ فَإِنَّ شَأْنَ الرَّبِّ الرِّفْقُ بِالْمَرْبُوبِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِهِ لِأَجْلِ غَرَابَتِهِ دَفْعًا لِتَطَرُّقِ الشَّكِّ عَنْ مُوسَى فِي مَصْدَرِ هَذَا الْكَلَامِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ «أَنِّيَ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى حَذْفِ بَاءِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: نُودِيَ بَأَنِيَ أَنَا رَبِّكَ. وَالتَّأْكِيدُ حَاصِلٌ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ عَلَى الْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ رَبُّهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَدْ حَلَّهُ التَّقْدِيسُ بِإِيجَادِ كَلَامٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهِ.
وَالْخَلْعُ: فَصَلُ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ.
أَعَادَ خِطَابَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ بِزَلْزَلَةِ السَّاعَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَأَعَادَ خِطَابَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَتَنْظِيرِهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَهُوَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ. قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:
١٥]. فَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَدَمٍ وَأَخْرَجَهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ كَوَّنَهُ مِنْ مَاءٍ. ثُمَّ خَلَقَهُ أَطْوَارًا عَجِيبَةً، إِلَى أَنْ يَتَوَفَّاهُ فِي أَحْوَالِ جِسْمِهِ وَفِي أَحْوَالِ عَقْلِهِ وَإِدْرَاكِهِ، قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ بَعْدَ فَنَائِهِ.
وَدخُول الْمُشْركين بادىء ذِي بَدْءٍ فِي هَذَا الْخِطَابِ أَظْهَرُ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي الْخِطَابِ السَّابِقِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا خَاصٌّ بِهِمْ.
وَجُعِلَ رَيْبُهُمْ فِي الْبَعْثِ مَفْرُوضًا بِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ مَعَ أَنَّ رَيْبَهُمْ مُحَقَّقٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَقَامَ لَمَّا حَفَّ بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُبْطِلَةِ لِرَيْبِهِمْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَقَامِ مَنْ لَا يَتَحَقَّقُ رَيْبُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥].
وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُفَادَةُ بِ (فِي) مَجَازِيَّةٌ. شُبِّهَتْ مُلَابَسَةُ الرَّيْبِ إِيَّاهُمْ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ.
وَجُمْلَةُ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ جَوَابِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّهَا لَا يَصْلُحُ لَفْظُهَا لِأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ هِيَ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاعْلَمُوا أَوْ فَنُعْلِمُكُمْ بِأَنَّهُ مُمْكِنٌ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ مِثْلِ الرُّفَاتِ الَّذِي تَصِيرُ إِلَيْهِ الْأَجْسَادُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَانْظُرُوا فِي بَدْءِ خَلْقِكُمْ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ.
وَبِهَذِهِ الْآيَاتِ انْتَهَتْ زَوَاجِرُ قصَّة الْإِفْك.
[٢٧، ٢٨]
[سُورَة النُّور (٢٤) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)
ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْأَغْرَاضِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَشْرِيعُ نِظَامِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ الْعَائِلِيَّةِ فِي التَّجَاوُرِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَحْكَامِ التَّزَاوُرِ وَتَعْلِيمِ آدَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَتَحْدِيدِ مَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ كَيْلَا يَكُونَ النَّاسُ مُخْتَلِفِينَ فِي كَيْفِيَّتِهِ عَلَى تَفَاوُتِ اخْتِلَافِ مَدَارِكِهِمْ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَالْمُفِيدِ.
وَقَدْ كَانَ الِاسْتِئْذَانُ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ شَكْلُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِ مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ فَكَانَ غَيْرَ مُتَمَاثِلٍ. وَقَدْ يَتْرُكُهُ أَوْ يُقَصِّرُ فِيهِ مَنْ لَا يُهِمُّهُ إِلَّا قَضَاءُ وَطْرِهِ وَتَعْجِيلُ حَاجَتِهِ، وَلَا يَبْعُدُ بِأَنْ يَكُونَ وُلُوجُهُ مُحْرِجًا لِلْمَزُورِ أَوْ مُثْقِلًا عَلَيْهِ فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ لِتَحْدِيدِ كَيْفِيَّتِهِ وَإِدْخَالِهِ فِي آدَابِ الدِّينِ حَتَّى لَا يُفَرِّطَ النَّاسُ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الِاحْتِشَامِ وَالْأَنَفَةِ وَاخْتِلَافِ أَوْهَامِهِمْ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ أَوْ فِي شِدَّتِهَا.
وَشُرِعَ الِاسْتِئْذَانُ لِمَنْ يَزُورُ أَحَدًا فِي بَيْتِهِ لِأَنَّ النَّاسَ اتَّخَذُوا الْبُيُوتَ لِلِاسْتِتَارِ مِمَّا يُؤْذِي الْأَبْدَانَ مِنْ حَرٍّ وَقَرٍّ وَمَطَرٍ وَقَتَامٍ، وَمِمَّا يُؤْذِي الْعِرْضَ وَالنَّفْسَ مِنِ انْكِشَافِ مَا لَا يُحِبُّ السَّاكِنُ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ فِي
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢٠٤ إِلَى ٢٠٧]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٠٢] تَقْدِيرُ جَوَابٍ عَنْ تَكَرُّرِ سُؤَالِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨]، حَيْثُ جَعَلُوا تَأَخُّرَ حُصُولِ الْعَذَابِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ تُفِيدُ تَعْقِيبَ الِاسْتِفْهَامِ عَقِبَ تَكَرُّرِ قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يُونُس: ٤٨] وَنَحْوِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ غُرُورِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَيَسْتَعْجِلُونَ بِعَذَابِنَا فَمَا تَأْخِيرُهُ إِلَّا تَمْتِيعٌ لَهُمْ. وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ فَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ، وَيَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: ١٦]. قَالَ مُقَاتِلٌ:
قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ إِلَى مَتَى تَعِدُنَا بِالْعَذَابِ وَلَا تَأْتِي بِهِ، فَنَزَلَتْ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ.
وَتَقْدِيمُ «بِعَذَابِنَا» لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِهِ فِي مَقَامِ الْإِنْذَارِ، أَيْ لَيْسَ شَأْنُ مِثْلِهِ أَنْ يُسْتَعْجَلَ لِفَظَاعَتِهِ.
وَلَمَّا كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ مُقْتَضِيًا أَنَّهُمْ فِي مُهْلَةٍ مِنْهُ وَمُتْعَةٍ بِالسَّلَامَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي مَنْجَاةٍ مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَهُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابَهَهُمْ بِجُمْلَةِ:
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ لِلتَّقْرِيرِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَغْنى عَنْهُمْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا. وَالرُّؤْيَةُ فِي أَفَرَأَيْتَ قَلْبِيَّةٌ، أَيْ أَفَعَلِمْتَ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ حَتَّى الْمُجْرِمِينَ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ مُعْتَرِضَةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا سَدَّ مَسَدَّ
مَفْعُولَيْ (رَأَيْتَ). وثُمَّ جاءَهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ الشُّرَطِ الْمُعْتَرِضَةِ، وثُمَّ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ، أَيْ جَاءَهُمْ بَعْدَ سِنِينَ. وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ
فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [الْبَقَرَة: ٢٤٣] أَمْرَ تَكْوِينٍ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ لِرَسُولِهِ صَرْفَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَنْ يَصُدُّوهُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ إِذْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ وَيَسَّرَهَا لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ.
وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَعْدِيَّةِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ لتعليل النَّهْي أَيَّامًا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ، أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أَنْزَلَهَا إِلَيْكَ فَإِنَّهُ مَا أَنْزَلَهَا إِلَيْكَ إِلَّا لِلْأَخْذِ بِهَا وَدَوَامِ تِلَاوَتِهَا، فَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْهَا لَذَهَبَ إِنْزَالُهَا إِلَيْكَ بُطْلًا وَعَبَثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ [الْبَقَرَة: ٢١٣].
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى إِيجَادِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ، أَيْ لَا يَصْرِفُكَ إِعْرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ إِعَادَةِ دَعْوَتِهِمْ إِعْذَارًا لَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْأَكْمَلِ مِنْ أَنْوَاعِهِ، أَيْ أَنَّكَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ أَشَدُّ تَمَكُّنًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنْتَ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ تَشْغِيبَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ كَانَ يُرَنِّقُ صَفَاءَ تَفَرُّغِهِ لِلدَّعْوَةِ.
وَجَمِيعُ هَذِهِ النَّوَاهِي وَالْأَوَامِرِ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَلا تَكُونَنَّ
ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ حُمِلَتْ مِنَ فِيهِ عَلَى مَعْنَى التَّبْعِيضِ كَانَ النَّهْي مؤوّلا يُمَثِّلُ مَا أَوَّلُوا بِهِ النَّهْيَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ أَنَّهُ لِلتَّهْيِيجِ، أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُسلمُونَ.
[٨٨]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٨٨]
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
هَذَا النَّهْيُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ إِبْطَالُ الشِّرْكِ وَإِظْهَارُ ضَلَالِ أَهْلِهِ إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِإِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّخَذُوا لَهُ شُرَكَاءَ وَشُفَعَاءَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَقْضِي
هَذَا مَا يُوَضِّحُ مَعْنَى الْبَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [١٤]. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْغَرُورِ بِالْبَاءِ قَرِيبٌ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِ (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي أَيْ: لَا يَغُرَّنَّكِ مِنْ مُعَامَلَتِي مَعَكِ أَنَّ حبك قاتلي.
[٣٤]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٣٤]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
كَانَ مِنْ جُمْلَةِ غَرُورِهِمْ فِي نَفْيِ الْبَعْثِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ عَدَمَ إِعْلَامِ النَّاسِ بِتَعْيِينِ وَقْتِهِ أَمَارَةً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ. قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس:
٤٨] وَقَالَ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى:
١٧، ١٨]، فَلَمَّا جَرَى فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أُعْقِبَتْ بِأَنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِوُقُوعِهَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فِي نُفُوسِ النَّاسِ. وَالْجُمَلُ الْأَرْبَعُ الَّتِي بَعْدَهَا إِدْمَاجٌ لِجَمْعِ نَظَائِرِهَا تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ مُحَارِبِ خَصَفَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ سَمَّاهُ فِي «الْكَشَّافِ» الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو وَوَقع فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ تَسْمِيَتُهُ الْوَارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ وَقَدْ أَجْدَبَتْ بِلَادُنَا فَمَتَى تُخْصِبُ؟ وَتَرَكْتُ امْرَأَتِي حُبْلَى فَمَا تَلِدُ؟ وَمَاذَا أَكْسِبُ غَدًا؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ أَمُوتُ؟، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا يُدْرَى سَنَدُ هَذَا. وَنُسِبَ إِلَى عِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَإِنَّهُ مُقْتَضَى السِّيَاقِ.
وَقَدْ أَفَادَ التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ إِنَّ تَحْقِيقَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَقْتِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ وُقُوعِهَا. وَفِي كَلِمَةٍ عِنْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ الْعِلْمِ لِأَنَّ
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٢٧]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)أُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ رَابِعَ مَرَّةٍ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ وَهُوَ رُجُوع إِلَى مهيع الِاحْتِجَاجَ عَلَى
بُطْلَانِ الشِّرْكِ فَهُوَ كَالنَّتِيجَةِ لِجُمْلَةِ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [سبأ: ٢٤].
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: أَرُونِيَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ، وَهُوَ تَعْجِيزٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ إِبْدَاءِ حُجَّةٍ لِإِشْرَاكِهِمْ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ بِدَلِيلِ النَّظِيرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ
إِلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْبَدَاهَةِ.
وَقَدْ سَلَكَ مِنْ طُرُقِ الْجَدَلِ طَرِيقَ الِاسْتِفْسَارِ، وَالْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَدَلِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْسَارُ مُقَدَّمًا عَلَى طَرَائِقِ الْمُنَاظَرَةِ وَإِنَّمَا أُخِّرَ هُنَا لِأَنَّهُ كَانَ مُفْضِيًا إِلَى إِبْطَالِ دَعْوَى الْخصم بحذافيرها فَأُرِيدَ تَأْخِيرُهُ لِئَلَّا يَفُوتَ افْتِضَاحُ الْخَصْمِ بِالْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ تَبْسِيطًا لِبِسَاطِ الْمُجَادَلَةِ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ دَلِيلٍ مُنَادِيًا عَلَى غَلَطِ الْخُصُومِ وَبَاطِلِهِمْ. وَافْتِضَاحُ الْخَطَأِ مِنْ مَقَاصِدِ الْمُنَاظِرِ الَّذِي قَامَتْ حُجَّتُهُ.
وَالْإِرَاءَةُ هُنَا مِنْ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالْأَصَالَةِ، وَالثَّانِي بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَرُونِي شُخُوصَهُمْ لِنُبْصِرَ هَلْ عَلَيْهَا مَا يُنَاسِبُ صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشَاهد الْأَصْنَام بادىء مَرَّةٍ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهَا خَلِيَّةٌ عَنْ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ إِذْ يَرَى حِجَارَةً لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَفْقَهُ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْأَصْنَامِ بَدِيهِيٌّ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ رُؤْيَةِ حَالِهَا كَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ:
أَنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ وَاعٍ وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمَرْئِيِّ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي جَعْلِهِمْ إِيَّاهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّيِّبِ:
إِنَّ الَّذِينَ تَرُونَهُمْ إِخْوَانَكُمْ | يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا |
وَتِلْكَ حَالَةٌ تُخَالِفُ صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ قَدِيمَةٌ، وَهَذَا الْإِلْحَاقُ اخْتَرَعَهُ لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ، وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ جُمْلَةِ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [سبأ: ٢٤].
وَانْتَصَبَ شُرَكاءَ عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ. وَالْمَعْنَى: شُرَكَاءَ لَهُ.
والتولي حَقِيقَتُهُ: الْمُفَارَقَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات: ٩٠]، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِمَا يَقُولُونَهُ وَتَرْكِ النَّكَدِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ.
وَالْحِينُ: الْوَقْتُ. وَأَجْمَلَ هُنَا إِيمَاءً إِلَى تَقْلِيلِهِ، أَيْ تَقْرِيبِهِ، فَالتَّنْكِيرُ لِلتَّحْقِيرِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ التَّقْلِيلُ. وَمَعْنَى أَبْصِرْهُمْ انْظُرْ إِلَيْهِمْ، أَيْ مِنَ الْآنِ، وَعُدِّيَ (أَبْصِرْ) إِلَى ضَمِيرِهِمُ الدَّالِّ عَلَى ذَوَاتِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّظَرَ إِلَى ذَوَاتِهِمْ لَكِنْ إِلَى أَحْوَالِهِمْ، أَيْ تَأَمَّلْ أَحْوَالَهُمْ تَرَ كَيفَ ننصرك عَلَيْهِمْ، وَهَذَا وَعِيدٌ بِمَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَحُذِفَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبْصَارُ مِنْ حَالٍ أَوْ مَفْعُولٍ مَعَهُ بِتَقْدِيرِ: وَأَبْصِرْهُمْ مَأْسُورِينَ مَقْتُولِينَ، أَوْ وَأَبْصِرْهُمْ وَمَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْرٍ وَقَتْلٍ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات: ١٧٢، ١٧٣] عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَيْضًا ذَوَاتِهِمْ، وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي وَأَبْصِرْهُمْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِرْشَادِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ:
إِذَا أَعْجَبَتْكَ الدَّهْرَ حَالٌ مِنِ امْرِئٍ | فَدَعْهُ وَوَاكِلْ أَمْرَهُ وَاللَّيَالِيَا |
وَعبر عَن ترَتّب نُزُولِ الْوَعِيدِ بِهِمْ بِفِعْلِ الْإِبْصَارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُ قَرِيبٌ حَتَّى أَنَّ الْمَوْعُودَ بِالنَّصْرِ يَتَشَوَّفُ إِلَى حُلُولِهِ فَكَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ تَحَقُّقِهِ وَقُرْبِهِ لِأَنَّ تَحْدِيقَ الْبَصَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى شَيْءٍ أَشْرَفَ عَلَى الْحُلُولِ.
وَتَفْرِيعُ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عَلَى وَأَبْصِرْهُمْ تَفْرِيعٌ لِإِنْذَارِهِمْ بِوَعِيدٍ قَرِيبٍ عَلَى بِشَارَةِ النَّبِيءِ بِقُرْبِهِ فَإِن ذَلِك المبصر يسرّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحْزِنُ أَعْدَاءَهُ، فَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَبْصِرْهُمْ وَمَا يَنْزِلُ بِهِمْ فَسَوْفَ تُبْصِرُ مَا وَعَدْنَاكَ وَلِيُبْصِرُوا مَا يَنْزِلُ بِهِمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَهُ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يُبْصِرُونَ لِدَلَالَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْرِيعَ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عَلَى وَأَبْصِرْهُمْ يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَبْصِرْهُمْ حِينَ يَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحِينِ كَمَا لَا يخفى.
ذَاتِهِ بِهَذَا النَّهْيِ دُونَ تَشْرِيكِهِمْ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي إِبْلَاغِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْرَفَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنْ ذَلِكَ إِلْهَامًا إِلَهِيًّا إِرْهَاصًا لِنُبُوءَتِهِ.
ولَمَّا حَرْفٌ أَوْ ظَرْفٌ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ كَلِمَةٌ تُفِيدُ اقْتِرَانَ مَضْمُونِ جُمْلَتَيْنِ تَلِيَانِهَا تُشْبِهَانِ جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلِذَلِكَ يَدْعُونَهَا (لَمَّا) التَّوْقِيتِيَّةَ، وَحُصُولُ ذَلِكَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَقَوْلُهُ: لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي تَوْقِيتٌ لِنَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بِوَقْتِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، أَيْ بَيِّنَاتُ الْوَحْيِ فِيمَا مَضَى وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ وَقْتِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِسْنَادِ الْمَنْهِيَّةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّعْرِيضُ بِنَهْيِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَا قَصْدَ مِنْهُ إِلَّا التَّبْلِيغَ لَهُمْ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَنْ يعبد الَّذين يدعونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَعْنِي: فَإِذَا كُنْتُ أَنَا مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلُوا فِي شَأْنِكُمْ وَاسْتَعْمِلُوا أَنْظَارَكُمْ فِيهِ، لِيَسُوقَهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ سَوْقًا لَيِّنًا خَفِيًّا لِاتِّبَاعِهِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا لَا تَعْرِيضًا فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا [مَرْيَم: ٤٣، ٤٤] وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلنَّائِبِ لِظُهُورِ أَنَّ النَّاهِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ.
وَمَعْنَى الدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَدْعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِ الدُّعَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَسْأَلُ بِهِ حَاجَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَعْبُدُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: ٦٠] فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ، تَفَنُّنَا. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّي ابْتِدَائِيَّةٌ، وَجُعِلَ الْمَجْرُورُ بِ (مِنْ) وَصْفَ (رَبٍّ) مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ مَجْرُورُهَا ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ فِي نُفُوسِ
التَّوْحِيدِ فِي الدُّنْيَا وَمُعَاقَبِينَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي صِحَاحِ الْآثَارِ مِنْ تَعْذِيبِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّذِي سَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ حَامِلُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ عَلَى الشِّرْكِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَقْلًا وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ على قَوْلهم.
[٢٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٩]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩)
إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٢٨]، وَهُوَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ، أَيْ لَمْ يَحْصُلْ مَا رَجَاهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ رُجُوعِ بَعْضِ عَقِبِهِ إِلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِرَعْيِهَا. فَإِنَّ أَقْدَمَ أُمَّةٍ مِنْ عَقِبِهِ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى كَلِمَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ.
وَبَعْدَ بَلْ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِبْطَالُ وَمَا بَعْدَ الْإِبْطَالِ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ:
بَلْ لَمْ يَرْجِعْ هَؤُلَاءِ وَآبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَتَبَرَّأُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَا أَخَذُوا بِوِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَجُمْلَةُ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِسَائِلٍ يَسْأَلُ عَمَّا عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ جَزَاءً عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي وِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ وَهَلَّا اسْتَأْصَلَهُمْ. كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٢٣- ٢٥]، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ مَتَّعَهُمْ بِالْبَقَاءِ إِلَى أَنْ يَجِيئَهُمْ رَسُولٌ بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ يَرْتَبِطُ بِهَا وُجُودُ الْعَرَبِ زَمَنًا طَوِيلًا بِدُونِ رَسُولٍ، وَتَأَخُّرُ مَجِيءِ الرَّسُولِ إِلَى الْإِبَّانِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ.
وَبِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ حَصَلَ التَّخَلُّصُ إِلَى مَا بَدَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِضَافَتِهَا:
أَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ أَصْلُ التَّقْوَى فَإِنَّ أَسَاسَ التَّقْوَى اجْتِنَابُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ شُعَبُ التَّقْوَى كُلُّهَا. وَرُويَتْ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةَ التَّقْوى بِمَعْنَى كَلَامٍ آخَرَ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَهِيَ تَفَاسِيرُ لَا تُلَائِمُ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَلَا نَظْمَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تُحْتَمَلَ كَلِمَةَ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ مَعْنَاهَا فَتَكُونَ مُقْحَمَةً وَتَكُونَ إِضَافَتُهَا إِلَى التَّقْوَى إِضَافَةً بَيَانِيَّةً، أَيْ كَلِمَةً هِيَ التَّقْوَى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَلْزَمَهُمُ التَّقْوَى عَلَى حَدِّ إِقْحَامِ لَفْظِ اسْمٍ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: ٧٨] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِيهِ. وَيَدْخُلُ فِي التَّقْوَى ابْتِدَاءُ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ كَلِمَةَ مُطْلَقًا عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ. وَجِمَاعُ مَعْنَاهُ كَإِطْلَاقِ الِاسْمِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
نُبِّئَتْ زُرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا | يَهْدِي إِلَى غَرَائِبِ الْأَشْعَارِ |
(التَّقْوَى) بِكَلِمَةِ (الشَّهَادَةِ) الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا بِجُزْئِيٍّ مِنَ التَّقْوَى هُوَ أَهَمُّ جُزْئِيَّاتِهَا، أَيْ تَفْسِيرُ مِثَالٍ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ كَلِمَةَ التَّقْوى الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، فَيَكُونُ الْإِلْزَامُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْإِيجَابِ، أَيْ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَفُوا بِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَا يَنْقُضُوا عَهْدَهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْقُضِ الْمُسْلِمُونَ الْعَهْدَ حَتَّى كَانَ الْمُشْرِكُونَ هم الَّذين ابتدأوا بِنَقْضِهِ.
وَالْوَاوُ فِي وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَاوُ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَيْ أَلْزَمَهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَةَ فِي حَالٍ كَانُوا فِيهِ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا مِمَّنْ لَمْ يَلْزَمُوهَا وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا التَّوْحِيدَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [الْبَقَرَة:
١٤٣].
كَذَّبُوا بِآياتِنا [آل عمرَان: ١١]. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٤١].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَذَّبُوا إِنْذَارَاتِ رَسُولِهِمْ، أَيْ جَحَدُوهَا ثُمَّ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، فَلِذَلِكَ
فَرَّعَ عَلَى جُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ قَوْلَهُ: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِلَى قَوْلِهِ:
بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنُّذُرِ جَمْعَ النَّذِيرِ وَأُطْلِقَ عَلَى نَذِيرِهِمْ لَكَانَ وَجْهُ النَّظْمِ أَنْ تَقَعَ جُمْلَةُ فَقالُوا أَبَشَراً إِلَى آخِرِهَا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ بَيَانًا لِجُمْلَةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ صَالِحًا جَاءَهُمْ بِالْإِنْذَارَاتِ فَجَحَدُوا بِهَا وَكَانَتْ شُبْهَتُهُمْ فِي التَّكْذِيبِ مَا أَعْرَبَ عَنْهُ قَوْلُهُمْ: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِلَى آخِرِهِ، فَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ جَوَابًا عَنْ دَعْوَةٍ وَإِنْذَارٍ، وَإِنَّمَا فَصَّلَ تَكْذِيبَ ثَمُودَ وَأَجْمَلَ تَكْذِيبَ عَادٍ لِقَصْدِ بَيَانِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ ثَمُودَ وَتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ إِذْ تَشَابَهَتْ أَقْوَالُهُمْ.
وَالْقَوْلُ فِي انْتِظَامِ جُمْلَةِ فَقالُوا أَبَشَراً إِلَخْ بَعْدَ جملَة كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ كالقول فِي جملَة فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: ٩] بعد جُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الْقَمَر: ٩].
وَهَذَا قَوْلٌ قَالُوهُ لِرَسُولِهِمْ لَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِالنُّذُرِ لِأَنَّ قَوْله: كَذَّبَتْ يُؤذن بِمَخْبَرٍ إِذِ التَّكْذِيبُ يَقْتَضِي وُجُودَ مُخْبَرٍ. وَهُوَ كَلَامٌ شَافَهُوا بِهِ صَالِحًا وَهُوَ الَّذِي عَنَوْهُ بِقَوْلِهِمْ:
أَبَشَراً مِنَّا إِلَخْ. وَعَدَلُوا عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَانْتَصَبَ أَبَشَراً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ نَتَّبِعُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ، وَقُدِّمَ لِاتِّصَالِهِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ حَقَّهَا التَّصْدِيرُ وَاتَّصَلَتْ بِهِ دُونَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى نَتَّبِعُ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ هُوَ كَوْنُ الْبَشَرِ مَتْبُوعًا لَا اتِّبَاعُهُمْ لَهُ وَمِثْلُهُ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التغابن: ٦] وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ مَوَاقِعِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا بُيِّنَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ، أَنْكَرُوا أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً.
وَوَصْفُ بَشَراً بِ واحِداً: إِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي دَعْوَتِهِ لَا أَتْبَاعَ لَهُ وَلَا نُصَرَاءَ، أَيْ لَيْسَ مِمَّنْ يُخْشَى، أَيْ بِعَكْسِ قَوْلِ أَهْلِ مَدْيَنَ وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود: ٩١].
عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ مِنْ قَوْلِهِ: يَغْفِرْ لَكُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: أُخْرَى لَكُمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَبَرَ قَوْلَهُ:
نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ.
وَجِيءَ بِهِ وَصْفًا مُؤَنَّثًا بِتَأْوِيلِ نِعْمَةٍ، أَوْ فَضِيلَةٍ، أَوْ خَصْلَةٍ مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصَّفّ: ١٢] إِلَى آخِرِهِ مِنْ مَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْخَصْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها فِي سُورَةِ الْفَتْحِ [٢١].
وَوَصَفَ أُخْرى بِجُمْلَةِ تُحِبُّونَها إِشَارَةً إِلَى الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِإِعْطَائِهِمْ مَا يُحِبُّونَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ إِعْطَاءِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَة: ١٤٤].
ونَصْرٌ مِنَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ أُخْرى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ أُخْرى. وَالْمُرَادُ بِهِ النَّصْرُ الْعَظِيمِ، وَهُوَ نَصْرُ فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ نَصْرًا عَلَى أَشَدِّ أَعْدَائِهِمُ الَّذِينَ فَتَنُوهُمْ وَآذَوْهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَلَّبُوا عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ وَالْأَحْزَابَ. وَرَامُوا تَشْوِيهَ سُمْعَتِهِمْ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ نَصْرُ الدِّينِ بِإِسْلَامِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ أَيِمَّةَ الْكُفْرِ وَمَسَاعِيرَ الْفِتْنَةِ، فَأَصْبَحُوا مُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا وَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة: ٧] وَقَوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمرَان: ١٠٣].
وَذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكُمْ [الصَّفّ: ١٠] كَلَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ أُمِرَ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيرِ «قُلْ».
وَوَصْفُ الْفَتْحِ بِ قَرِيبٌ تَعْجِيلٌ بِالْمَسَرَّةِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ:
يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عَادَاتِ قَوْمِ نُوحٍ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهِيَةً لِكَلَامِ مَنْ يَتَكَلَّمُ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَيَجْعَلَ مِنْ ثَوْبِهِ سَاتِرًا لِعَيْنَيْهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ قَبُولِ كَلَامِهِ وَرُؤْيَةِ مَقَامِهِ بِحَالِ مَنْ يَسُكُّ سَمْعَهُ بِأَنْمُلَتَيْهِ وَيَحْجُبُ عَيْنَيْهِ بِطَرْفِ ثَوْبِهِ.
وَجُعِلَتِ الدَّعْوَةُ مُعَلَّلَةً بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُمْ لِأَنَّهَا دَعْوَةٌ إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةُ أَمْرِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ.
وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَحْمِيقِهِمْ وَتَعَجُّبٌ مِنْ خَلْقِهِمْ إِذْ يُعْرِضُونَ عَنِ الدَّعْوَةِ لِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ فَكَانَ مُقْتَضَى الرَّشَادِ أَنْ يَسْمَعُوهَا وَيَتَدَبَّرُوهَا.
وَالْإِصْرَارُ: تَحْقِيقُ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّرِّ وَهُوَ الشَّدُّ عَلَى شَيْءٍ وَالْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٣٥].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَصَرُّوا لِظُهُورِهِ، أَيْ أَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ.
وَاسْتَكْبَرُوا مُبَالَغَةٌ فِي تَكَبَّرُوا، أَيْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَكْبَرَ مِنْ أَنْ يَأْتَمِرُوا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: ٢٧].
وَتَأْكِيدُ اسْتَكْبَرُوا بِمَفْعُولِهِ الْمُطْلَقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الِاسْتِكْبَارِ. وَتَنْوِينُ اسْتِكْباراً لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ اسْتِكْبَارًا شَدِيدًا لَا يَفَلُّهُ حدّ الدعْوَة.
[٨- ١٢]
[سُورَة نوح (٧١) : الْآيَات ٨ إِلَى ١٢]
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢)
ارْتَقَى فِي شَكْوَاهُ وَاعْتِذَارِهِ بِأَنَّ دَعْوَتَهُ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْحَالَاتِ فِي الْقَوْلِ مِنْ جَهْرٍ وَإِسْرَارٍ، فَعَطْفُ الْكَلَامِ بِ ثُمَّ الَّتِي تُفِيدُ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ
اتُّبِعَ فِي حَذْفِهِ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ إِذَا تَحَدَّثُوا عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَرَادُوا الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِخَبَرٍ جَدِيدٍ.
وَالْمَرْقُومُ: الْمَكْتُوبُ كِتَابَةً بَيِّنَةً تُشْبِهُ الرَّقْمَ فِي الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ.
وَهَذَا الْوَصْفُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ كِتابٌ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً أَو مجَازًا.
[١٠- ١٣]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١٣]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
جُمْلَةُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يَجُوزُ أَنْ تكون مبينَة لمضموم جُمْلَةِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين: ٤، ٥] فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَئِذٍ يُفِيدُ تَنْوِينُهُ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً جُعِلَ التَّنْوِينُ عِوَضًا عَنْهَا تَقْدِيرُهَا: يَوْمَ إِذْ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَيْلٌ فِيهِ لِلْمُكَذِّبِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً وَبَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالْمُطَفِّفِينَ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ فَمِنَ الْمُكَذِّبِينَ مَنْ هُمْ مُطَفِّفُونَ وَمِنَ الْمُطَفِّفِينَ مُسْلِمُونَ وَأَهْلُ كِتَابٍ لَا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ إِدْمَاجًا لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُطَفِّفِينَ.
وَقَدْ ذُكِرَ الْمُكَذِّبُونَ مُجْمَلًا فِي قَوْلِهِ: لِلْمُكَذِّبِينَ ثُمَّ أُعِيدَ مُفَصَّلًا بِبَيَانِ مُتَعَلِّقِ التَّكْذِيبِ، وَهُوَ بِيَوْمِ الدِّينِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ تَكْذِيبِهِمْ أَذْهَانَ السَّامِعِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَالصِّفَةُ هُنَا لِلتَّهْدِيدِ وَتَحْذِيرِ الْمُطَفِّفِينَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَسْتَخِفُّوا بِالتَّطْفِيفِ فَيَكُونُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى التَّكْذِيبِ بِ «يَوْمِ الدِّينِ» التَّكْذِيبُ بِوُقُوعِهِ.
فَالتَّكْذِيبُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ هُوَ مَنْشَأُ الْإِقْدَامِ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَالْجَرَائِمِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ:
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ