وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي كِلَا مَعْنَيَيْهِ. وَمِثَالُ اسْتِعْمَالِ الْمُرَكَّبِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: ١] فَمُرَكَّبُ وَيْلٌ لَهُ يُسْتَعْمَلُ خَبَرًا وَيُسْتَعْمَلُ دُعَاءً، وَقَدْ حَمَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ يَكُونُ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُفَسِّرُونَ، أَوْ تَرْجِيحُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ كَانَ الْمُفَسِّرُونَ غَافِلِينَ عَنْ تَأْصِيلِ هَذَا الْأَصْلِ فَلِذَلِكَ كَانَ الَّذِي يُرَجِّحُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، يَجْعَلُ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى
مُلْغًى. وَنَحْنُ لَا نُتَابِعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَرَى الْمَعَانِيَ الْمُتَعَدِّدَةَ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ بِدُونِ خُرُوجٍ عَنْ مَهِيعِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ، مَعَانِيَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَنَحْنُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا إِذَا ذَكَرْنَا مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا فَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ، وَإِذَا تَرَكْنَا مَعْنًى مِمَّا حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ تَرْكُنَا إِيَّاهُ دَالًّا عَلَى إِبْطَالِهِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِتَرَجُّحِ غَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ فِي تَفَاسِيرَ أُخْرَى تَجَنُّبًا لِلْإِطَالَةِ، فَإِنَّ التَّفَاسِيرَ الْيَوْمَ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يعوزهم استقراءها وَلَا تَمْيِيزُ مَحَامِلِهَا مَتَى جَرَوْا عَلَى هَذَا الْقَانُونِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُرِيهِمْ عَوَاقِبَ أَعْمَالِهِمْ إِرَاءً مِثْلَ هَذَا الْإِرَاءِ إِذْ لَا يَكُونُ إِرَاءٌ لِأَعْمَالِهِمْ أَوْقَعَ مِنْهُ فَهُوَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ كَأَنَّهُ يُرَامُ أَنْ يُرِيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فِي كَيْفِيَّةٍ شَنِيعَةٍ فَلَمْ يُوجَدْ أَشْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا مِثْلُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ فِي نَحْوِ شِعْرِي شِعْرِي، أَوْ بِمُرَادِفِهِ نَحْوُ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.
وَالْإِرَاءَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ حَالٌ مِنْ أَعْمالَهُمْ وَمَعْنَى يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ يُرِيهِمْ مَا هُوَ عَوَاقِبُ أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تُدْرَكُ بِالْبَصَرِ لِأَنَّهَا انْقَضَتْ فَلَا يُحِسُّونَ بِهَا.
وَالْحَسْرَةُ حُزْنٌ فِي نَدَامَةٍ وَتَلَهُّفٍ وَفِعْلُهُ كَفَرِحَ وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْحَسْرِ وَهُوَ الْكَشْفُ لِأَنَّ الْكَشْفَ عَنِ الْوَاقِعِ هُوَ سَبَبُ النَّدَامَةِ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عَدَمِ الْحَيْطَةِ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ حَالٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِقَصْدِ التَّذْيِيلِ لِمَضْمُونِ كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا لَا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ تَعَيَّنَ أَنَّ تَمَنِّيَهُمُ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا وَحُدُوثَ الْخَيْبَةِ لَهُمْ مَنْ صُنْعِ رُؤَسَائِهِمْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا إِدْخَالُ أَلَمِ الْحَسَرَاتِ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَهُمْ بَاقُونَ فِي النَّارِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَعُدِلَ عَنِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ «وَمَا يَخْرُجُونَ» إِلَى الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ، وَلَيْسَ لِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا نُكْتَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِذْ لَا تَتَأَتَّى بِسِوَى هَذَا التَّقْدِيمِ، فَلَيْسَ فِي التَّقْدِيمِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصٍ لِمَا عَلِمْتَ وَلِأَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الْمُسْنَدِ الْمُشْتَقِّ لَا يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْمَعَانِي، بَلِ الِاخْتِصَاصُ مَفْرُوضٌ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ خَاصَّةً، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَرَّحَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَبَعًا لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ بِأَنَّ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ هُنَا كَمَوْقِعِهِ فِي قَوْلِ الْمُعَذَّلِ الْبَكْرِيِّ:
هُمْ يَفْرِشُونَ اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّةٍ | وَأَجْرَدَ سَبَّاقٍ يَبُذُّ الْمَغَالِيَا |
وَادَّعَى صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» أَن تَقْدِيم الْمُسْتَند إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْمُشْتَقِّ قَدْ يُفِيدُ
الِاخْتِصَاصَ
وَالْأَمْرُ فِي «فَاكْتُبُوهُ» قِيلَ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْبَقَرَة: ٢٨٣] تَكْمِيلًا لِمَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ. وَقِيلَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَهُوَ قَول دَاوُود، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَلَعَلَّ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ الْآتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ قَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْكِتَابَةِ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْبَقَرَة: ٢٨٣] تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ أَزْمِنَةِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْأَمر للتكرار، لَا سِيمَا مَعَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، وَسَمَّاهُ الْأَقْدَمُونَ فِي عِبَارَاتِهِمْ نَسْخًا.
وَالْقَصْدُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ التَّوَثُّقُ لِلْحُقُوقِ وَقَطْعُ أَسْبَابِ الْخُصُومَاتِ، وَتَنْظِيمُ مُعَامَلَاتِ الْأُمَّةِ، وَإِمْكَانُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ. وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ، وَقَدْ تَأَكَّدَ بِهَذِهِ الْمُؤَكِّدَاتِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الْآيَةَ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِحَالَةِ الِائْتِمَانِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنَ كَمَا سَيَأْتِي- فَإِنَّ حَالَةَ الِائْتِمَانِ حَالَةٌ سَالِمَةٌ مِنْ تَطَرُّقِ التَّنَاكُرِ وَالْخِصَامِ- لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْأُمَّةِ قَطْعَ أَسْبَابِ التَّهَارُجِ وَالْفَوْضَى فَأوجب عَلَيْهِم التوثّق فِي مَقَامَاتِ الْمُشَاحَنَةِ، لِئَلَّا يَتَسَاهَلُوا ابْتِدَاءً ثُمَّ يُفْضُوا إِلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ فِي الْوُجُوبِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ عَنِ الدَّائِنِ إِذَا طَلَبَ مِنْ مَدِينِهِ الْكَتْبَ حَتَّى لَا يَعُدَّ الْمَدِينُ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ، فَإِنَّ فِي الْقَوَانِينِ مَعْذِرَةً لِلْمُتَعَامِلَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «الصَّحِيحُ عَدَمُ الْوُجُوبِ لِأَنَّ لِلْمَرْءَ أَنْ يَهَبَ هَذَا الْحَقَّ وَيَتْرُكَهُ بِإِجْمَاعٍ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ نَدْبٌ لِلِاحْتِيَاطِ». وَهَذَا كَلَامٌ قَدْ يَرُوجُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ وَلَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ مَقَامَ التَّوَثُّقِ غَيْرُ مُقَامِ التَّبَرُّعِ.
وَمَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ تَنْبِيهُ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ حَتَّى لَا يَتَسَاهَلُوا ثُمَّ يَنْدَمُوا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِبْطَالَ ائْتِمَانِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، كَمَا أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِهَا دَفْعَ مُوجِدَةِ الْغَرِيمِ مِنْ تَوَثُّقِ دَائِنِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ مَقَاصِدِهَا قَطْعُ أَسْبَابِ الْخِصَامِ.
وَقَوْلُهُ: فَاكْتُبُوهُ يَشْمَلُ حَالَتَيْنِ:
الْأُولَى حَالَةُ كِتَابَةِ الْمُتَدَايِنَيْنِ بِخَطَّيْهِمَا أَوْ خَطِّ أَحَدِهِمَا وَيُسَلِّمُهُ لِلْآخَرِ إِذَا كَانَا يُحْسِنَانِ الْكِتَابَةَ مَعًا، لِأَنَّ جَهْلَ أَحَدِهِمَا بِهَا يَنْفِي ثِقَتَهُ بِكِتَابَةِ الْآخَرِ.
فَلَمْ تَكُونُوا مَهْزُومِينَ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ كَفَافًا، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرٌ مُبِينٌ. وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ بِمَا أَصَابَ الْعَدُوَّ يَوْمَ بَدْرٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَسْلِيَةً وَلَيْسَ إِعْلَامًا بِالْعُقُوبَةِ كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ سَأَلَ هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَان: كَيفَ كَانَ قتالكم لَهُ قَالَ «الْحَرْب بَيْننَا سِجَال ينَال منّا وننال مِنْهُ، فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ».
وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى مَا سَيُذْكَرُ بَعْدُ، فَالْإِشَارَةُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَهَذَا الْخَبَرُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ تَعْلِيلٍ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ: فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ.
والْأَيَّامُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَمْعَ يَوْمٍ مُرَادٍ بِهِ يَوْمَ الْحَرْبِ، كَقَوْلِهِمْ: يَوْمُ بَدْرٍ وَيَوْمُ بُعَاثٍ وَيَوْمُ الشَّعْثَمَيْنِ، وَمِنْهُ أَيَّامُ الْعَرَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى الزَّمَانِ كَقَوْلِ طَرَفَةَ:
وَمَا تَنْقُصُ الْأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدُ أَيِ الْأَزْمَانُ.
وَالْمُدَاوَلَةُ تَصْرِيفُهَا غَرِيبٌ إِذْ هِيَ مَصْدَرُ داول فلَان فلَانا الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ عِنْدَهُ دُولَةً وَدُولَةً عِنْدَ الْآخَرِ أَيْ يدوله كلّ مِنْهُمَا أَيْ يُلْزِمُهُ حَتَّى يَشْتَهِرَ بِهِ، وَمِنْهُ دَالَ يَدُولُ دَوْلًا اشْتَهَرَ، لِأَنَّ الْمُلَازِمَةَ تَقْتَضِي الشُّهْرَةَ بِالشَّيْءِ، فَالتَّدَاوُلُ فِي الْأَصْلِ تَفَاعُلٌ مِنْ دَالَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ وَالْكَلَامِ، يُقَالُ: كَلَامٌ مُدَاوَلٌ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوا دَاوَلْتُ الشَّيْءَ مَجَازًا، إِذَا جَعَلْتَ غَيْرَكِ يَتَدَاوَلُونَهُ، وَقَرِينَةُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنْ تَقُولَ: بَيْنَهُمْ. فَالْفَاعِلُ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ لَا حَظَّ لَهُ مِنِ الْفِعْلِ، وَلَكِنْ لَهُ الْحَظُّ فِي الْجَعْلِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: اضْطَرَرْتُهُ إِلَى كَذَا، أَيْ جَعَلْتُهُ مُضْطَرًّا مَعَ أَنَّ أَصْلَ اضْطَرَّ أَنَّهُ مُطَاوِعُ ضَرَّهُ.
والنَّاسِ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ لِأَنَّ هَذَا مِنَ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، فَلَا يُخْتَصُّ بِالْقَوْمِ الْمُتَحَدَّثِ
عَنْهُمْ.
وَالرَّدُّ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّحَاكُمِ إِلَى الْحَاكِمِ وَفِي تَحْكِيمِ ذِي الرَّأْيِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ.
وَحَقِيقَتُهُ إِرْجَاعُ الشَّيْءِ إِلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ الْعَارِيَةِ وَالْمَغْصُوبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى التَّخَلِّي عَنِ الِانْتِصَافِ بِتَفْوِيضِ الْحُكْمِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَعَنْ عَدَمِ تَصْوِيبِ الرَّأْيِ بِتَفْوِيضِ تَصْوِيبِهِ إِلَى الْغَيْرِ، إِطْلَاقًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، وَغَلَبَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فِي الْكَلَامِ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ.
وَعُمُومُ لَفْظِ شَيْءٍ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَمْرِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَعُمُومُ أَحْوَالِ التَّنَازُعِ، تَبَعًا لِعُمُومِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ الْخُصُومَاتُ وَالدَّعَاوَى فِي الْحُقُوقِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ من الْآيَة بادىء بَدْءٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» فَإِنَّ هَذَا
كَالْمُقَدِّمَةِ لِذَلِكَ فَأَشْبَهَ سَبَبَ نُزُولٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ الْعَامِّ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّنَازُعِ فِي طُرُقِ تَنْفِيذِ الْأَوَامِرِ الْعَامَّةِ، كَمَا يَحْصُلُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجُيُوشِ وَبَيْنَ بَعْضِ قُوَّادِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نِزَاعٍ حَدَثَ بَيْنَ أَمِيرِ سَرِيَّةِ الْأَنْصَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ كَمَا سَيَأْتِي، وَمِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعقد فِي شؤون مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَرُومُونَ حَمْلَ النَّاسَ عَلَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ وَالنَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ.
فَكُلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ مَأْمُورٌ أَصْحَابُهُ بِرَدِّ أَمْرِهِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَرَدُّ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُرْجَى مَعَهُ زَوَالُ الِاخْتِلَافِ، وَذَلِكَ بِبَذْلِ الْجُهْدِ وَالْوُسْعِ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ الْجَلِيِّ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ. فَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ فِي تَفْسِيرِ التَّنَازُعِ بِتَنَازُعِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْفَرْدِ الْأَخْفَى مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ.
وَذِكْرُ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ فِي هَذَا مَقْصُودٌ مِنْهُ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ انْجِلَاءِ الْحَقِّ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الرَّدَّ إِلَى الرَّسُولِ يَحْصُلُ بِهِ الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ، إِذِ الرَّسُولُ هُوَ الْمُنْبِئُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ هُنَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ.
إِلَى الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ الْمُنَافِقُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧]. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: بِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَنِكَايَةً بِالْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْقُرْطُبِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي
سَتَأْتِي عَقِبَهَا. وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَجَمْعٍ، وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
فَ الْيَوْمَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَهُوَ يَوْمُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُوَ إِنْ أُرِيدَ بِهِ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ أَبْهَجَ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ، وَظَهَرَ فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الدِّينِ، بَيْنَ ظَهَرَانِيِّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشِّرْكِ، مَا أَيْأَسَهُمْ مِنْ تَقَهْقُرِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قُلُوبَ جَمِيعِ الْعَرَبِ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَكَّةَ وَمَوْسِمِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ: الَّتِي كَانَتْ فِيهَا حَيَاتُهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالتِّجَارِيَّةُ وَالدِّينِيَّةُ والأدبية، وقوام شؤونهم، وَتَعَارُفُهِمْ، وَفَصْلُ نِزَاعِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ انْفِرَادُ الْمُسْلِمِينَ بِتِلْكَ الْمَوَاطِنِ قَاطِعًا لِبَقِيَّةِ آمَالِهِمْ: مِنْ بَقَاءِ دِينِ الشِّرْكِ، وَمِنْ مُحَاوَلَةِ الْفَتِّ فِي عَضُدِ الْإِسْلَامِ. فَذَلِكَ الْيَوْمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ: يَوْمُ تَمَامِ الْيَأْسِ وَانْقِطَاعِ الرَّجَاءِ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يُعَاوِدُهُمُ الرَّجَاءُ تَارَةً. فَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ «اعْلُ هُبَلُ- وَقَالَ- لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ». وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ أَوْ أَخُوهُ، يَوْمَ هَوَازِنَ، حِينَ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ وَظَنَّهَا هَزِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ: «أَلَا بَطُلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ».
وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا يُؤَيِّدُهُ
قَوْلُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَئِذٍ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ السِّيَرِ «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِيمَا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ»
. والْيَوْمَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ، جَدِيرٌ بِالِامْتِنَانِ بِزَمَانِهِ،
وَإِيرَادُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدِهِ.
وَعَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ تَأْوِيلُ قَوْلِ الرُّسُلِ لَا عِلْمَ لَنا بِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مَا كَانَ من آخر أَمر الْأُمَمِ بَعْدَ مَوْتِ رُسُلِهِمْ مِنْ دَوَامٍ عَلَى إِقَامَةِ الشَّرَائِعِ أَوِ التَّفْرِيطِ فِيهَا وَتَبْدِيلِهَا فَيَكُونُ قَوْلُ الرُّسُلِ لَا عِلْمَ لَنا مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيَكُونُ مَحْمَلُ مَاذَا عَلَى قَوْلِهِ: مَاذَا أُجِبْتُمْ هُوَ مَا أجِيبُوا بِهِ مِنْ تَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ وَمِنْ دَوَامِ الْمُصَدِّقِينَ عَلَى تصديقهم أَو نقض ذَلِكَ، وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا جَاءَ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ الْآيَةَ- فَإِنَّ الْمُحَاوَرَةَ مَعَ عِيسَى بَعْضٌ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الرُّسُلِ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ.
وَعَبَّرَ فِي جَوَابِ الرُّسُلِ بِ قالُوا الْمُفِيدُ لِلْمُضِيِّ مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ لَمْ يَقَعْ، لِلدَّلَالَةِ على تَحْقِيق أنّه سَيَقَعَ حَتَّى صَارَ الْمُسْتَقْبَلُ مِنْ قُوَّةِ التَّحَقُّقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَاضِي فِي التَّحَقُّقِ. عَلَى
أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي تُحْكَى بِهِ الْمُحَاوَرَاتُ لَا يُلْتَزَمُ فِيهِ مُرَاعَاةُ صِيغَتِهِ لِزَمَانِ وُقُوعِهِ لِأَنَّ زَمَانَ الْوُقُوعِ يَكُونُ قَدْ تَعَيَّنَ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْغُيُوبِ- بِضَمِّ الْغَيْنِ-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- وَهِيَ لُغَةٌ لِدَفْعِ ثِقَلِ الِانْتِقَالِ مِنَ الضَّمَّةِ إِلَى الْبَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بُيُوتٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [١٥].
وَفَصَلَ قالُوا جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَقَوْلُهُ: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ظَرْفٌ، هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، فَإِنَّ يَوْمَ الْجَمْعِ مُشْتَمِلٌ عَلَى زَمَنِ هَذَا الْخِطَابِ لِعِيسَى، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ مَا يُقَالُ لِعِيسَى يَوْمَئِذٍ هُوَ تَقْرِيعُ الْيَهُودِ. وَالنَّصَارَى الَّذِينَ ضَلُّوا فِي شَأْنِ عِيسَى بَيْنَ طَرَفَيْ إِفْرَاطِ بُغْضٍ وَإِفْرَاطِ حُبٍّ.
فَقَوْلُهُ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ- إِلَى قَوْلِهِ- لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: ١١٥] اسْتِئْنَاسٌ
كَانَتْ زَرْقَاءَ أَوْ بَرْشَاءَ، أَوْ شَيْمَاءَ، أَوْ رَسْحَاءَ، تَشَاؤُمًا بِهِنَّ- وَهَذَا مِنْ خَوَرِ أَوْهَامِهِمْ- وَأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير: ٨، ٩]، وَقِيلَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْغِيرَةِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْتِينَ مَا يَتَعَيَّرَ مِنْهُ أَهْلُهُنَّ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي «الْكَامِلِ»، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّ تَمِيمًا مَنَعَتِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ الْإِتَاوَةَ فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُ الرَّيَّانَ بْنَ الْمُنْذِرِ فَاسْتَاقَ النِّعَمَ وَسَبَى الذَّرَارِيَّ، فَوَفَدَتْ إِلَيْهِ بَنُو تَمِيمٍ فَأَنَابُوا وَسَأَلُوهُ النِّسَاءَ فَقَالَ النُّعْمَانُ: كُلُّ امْرَأَةٍ اخْتَارَتْ أَبَاهَا رُدَّتْ إِلَيْهِ وَإِنِ اخْتَارَتْ صَاحِبَهَا (أَيِ الَّذِي صَارَتْ إِلَيْهِ بِالسَّبْيِ) تُرِكَتْ عَلَيْهِ فَكُلُّهُنَّ اخْتَارَتْ أَبَاهَا إِلَّا ابْنَةٌ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ اخْتَارَتْ صَاحِبَهَا عَمْرَو بْنَ الْمُشَمْرَجِ، فَنَذَرَ قَيْسٌ أَنْ لَا تُولَدَ لَهُ ابْنَةٌ إِلَّا قَتَلَهَا فَهَذَا شَيْءٌ يَعْتَلُّ بِهِ مَنْ وَأَدُوا، يَقُولُونَ: فَعَلْنَاهُ أَنَفَةً، وَقَدْ أَكْذَبَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ بِقَوْلِهِ:
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً [الْأَنْعَام: ١٤٠].
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: كَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يُحْيِيَ الْمَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَ مَؤُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَؤُونَتَهَا. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ الْبِنْتَ وَقْتَ وِلَادَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَرَاهَا أمّها، قَالَ الله تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [النَّحْل: ٥٨، ٥٩]. وَكَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ
مُجَاشِعٍ، وَهُوَ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ، يَفْدِي الْمَوْءُودَةَ، يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. وَقَدِ افْتَخَرَ الْفَرَزْدَقُ بِذَلِكَ فِي شِعْرِهِ فِي قَوْلِهِ:
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ | وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوءَدِ |
وَالْفَوَاحِشُ جَمْعُ فَاحِشَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعْنَى الْفَاحِشَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٢] وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً [الْأَعْرَاف: ٢٨].
وَمَا ظَهَرَ مِنْها هُوَ مَا يُظْهِرُهُ النَّاسُ بَيْنَ قُرَنَائِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ مِثْلَ الْبِغَاءِ وَالْمُخَادَنَةِ، وَمَا بَطَنَ هُوَ مَا لَا يُظْهِرُهُ النَّاسُ مِثْلَ الْوَأْدِ وَالسَّرِقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥١]. وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحِلُّونَ هَذِهِ الْفَوَاحِشَ وَهِيَ مَفَاسِدُ قَبِيحَةٌ لَا يَشُكُّ أُولُو الْأَلْبَابِ، لَوْ سُئِلُوا، أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى بِهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَوَاحِشِ: الزِّنَا، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ وَمَا بَطَنَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ الزُّنَاةِ، وَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَأَمَّا الْإِثْمُ فَهُوَ كُلُّ ذَنْبٍ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٩]. وَقَوْلِهِ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٠]، فَيَكُونُ ذِكْرُ الْفَوَاحِشِ قَبْلَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّحْذِيرِ مِنْ عُمُومِ الذُّنُوبِ، فَهُوَ مَنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ قَبْلَ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ، كَذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، إِلَّا أَنَّ الِاهْتِمَامَ الْحَاصِلَ بِالتَّخْصِيصِ مَعَ التَّقْدِيمِ أَقْوَى لِأَنَّ فِيهِ اهْتِمَامًا مِنْ جِهَتَيْنِ.
وَأَمَّا الْبَغْيُ فَهُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ بِأَذَاهُمْ، وَالْكِبْرُ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْبَغْيِ، فَمَا كَانَ بِوَجْهِ حَقٍّ فَلَا يُسَمَّى بَغْيًا وَلَكِنَّهُ أَذًى، قَالَ الله تَعَالَى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: ١٦] وَقَدْ كَانَ الْبَغْيُ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَ الْقَوِيُّ يَأْكُلُ الضَّعِيفَ، وَذُو الْبَأْسِ يُغِيرُ عَلَى أَنْعَامِ النَّاسِ وَيَقْتُلُ أَعْدَاءَهُ مِنْهُمْ، وَمِنَ الْبَغْيِ أَنْ يَضْرِبُوا مَنْ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ بِثِيَابِهِ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْحُمْسِ، وَأَنْ يُلْزِمُوهُ بِأَنْ لَا يَأْكُلَ غَيْرَ طَعَامِ الْحُمْسِ، وَلَا يَطُوفَ إِلَّا فِي ثِيَابِهِمْ.
وَسَمَّى الْحُكَمَاءُ الْحَوَاسَّ الْخَمْسَ الْعَقْلِيَّةَ بِالْقُوَى الْبَاطِنِيَّةِ وَهِيَ الْحَافِظَةُ، وَالْوَاهِمَةُ، وَالْمُفَكِّرَةُ، وَالْمُخَيِّلَةُ، وَالْحِسُّ الْمُشْتَرَكُ.
فَيُقَالُ: فَرَسٌ قَوِيٌّ، وَجَمَلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُقَالُ: عُودٌ قَوِيٌّ، إِذَا كَانَ عسير الانكسار، وأسّس قَوِيٌّ، إِذَا كَانَ لَا يَنْخَسِفُ بِمَا يُبْنَى عَلَيْهِ مِنْ جِدَارٍ ثَقِيلٍ، إِطْلَاقًا قَرِيبًا مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَهَاتِهِ الْحَالَةُ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ لِأَنَّهَا فِي بَعْضِ مَوْصُوفَاتِهَا أَشَدُّ مِنْهَا فِي بَعْضٍ آخَرَ، وَيَظْهَرُ تَفَاوُتُهَا فِي تَفَاوُتِ مَا يَسْتَطِيعُ مَوْصُوفُهَا أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ عَمَلٍ مِمَّا هِيَ حَالَّةٌ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْقُوَّةِ أَنَّ قُدْرَةَ صَاحِبِهَا عَلَى عَمَلِ مَا يُرِيدُهُ أَشَدُّ مِمَّا هُوَ الْمُعْتَادُ، وَالْأَعْمَالُ عَلَيْهِ أَيْسَرُ، شَاعَ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْوَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا الْمَرْء على تذليل الْمَصَاعِبِ مِثْلَ السِّلَاحِ وَالْعَتَادِ، وَالْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَنَائِيٌّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٣٣].
وَلِكَوْنِهَا يَلْزَمُهَا الِاقْتِدَارُ عَلَى الْفِعْلِ وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِ الْقَوِيِّ أَيِ الْكَامِلِ الْقُدْرَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٢].
وَالْقُوَّةُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَخُذْها بِقُوَّةٍ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الْعَزْمِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِي الْأَلْوَاحِ، بِمُنْتَهَى الْجِدِّ وَالْحِرْصِ دُونَ تَأْخِيرٍ وَلَا تَسَاهُلٍ وَلَا انْقِطَاعٍ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ وَلَا مَلَلٍ، بِحَالَةِ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ عَمَلٌ يُرِيدُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [١٢].
وَهَذَا الْأَخْذُ هُوَ حَظُّ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ الْمُبَلِّغِينَ لِلشَّرِيعَةِ وَالْمُنَفِّذِينَ لَهَا، فَاللَّهُ الْمُشَرِّعُ، وَالرَّسُولُ الْمُنَفِّذُ، وَأَصْحَابُهُ وَوُلَاةُ الْأُمُورِ هُمْ أَعْوَانٌ عَلَى التَّنْفِيذِ، وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ بِهَذَا الْأَخْذِ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حَضْرَتِهِ وَعِنْدَ مَغِيبِهِ، وَهُوَ وَهُمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ كَسَائِرِ الْأُمَّةِ.
فَقَوْلُهُ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها تَعْرِيجٌ عَلَى مَا هُوَ حَظُّ عُمُومِ الْأُمَّةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِهَا، فَهَذَا الْأَخْذُ مَجَازٌ فِي التَّمَسُّكِ وَالْعَمَلِ وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِالْبَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى اللُّصُوقِ، يُقَالُ: أَخَذَ بِكَذَا إِذَا تَمَسَّكَ بِهِ وَقَبَضَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ [الْأَعْرَاف: ١٥٠] وَقَوْلِهِ: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
[طه: ٩٤]. وَلَمْ يُعَدَّ فِعْلُ الْأَخْذِ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَخُذْها لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّلَقِّي وَالْحِفْظِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنَ الْأَخْذِ بِمَعْنَى التَّمَسُّكِ وَالْعَمَلِ، فَأَنَّ الْأَوَّلَ حَظُّ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَالثَّانِي حَظُّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ.
وَالْإِشَارَةِ إِلَى التَّجْهِيزِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ.
وَذَمِّ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَثَاقِلِينَ وَالْمُعْتَذِرِينَ وَالْمُسْتَأْذِنِينَ فِي التَّخَلُّفِ بِلَا عُذْرٍ. وَصِفَاتِ أَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ جُبْنٍ وَبُخْلٍ وَحِرْصٍ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُسْتَحِقِّيهَا.
وَذِكْرِ أَذَاهُمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ. وَأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ وَأَمْرِهِمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَكَذِبِهِمْ فِي عُهُودِهِمْ وَسُخْرِيَتِهِمْ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْأَمْرِ بِضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمَذَمَّةِ مَا أَدْخَلَهُ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ فِي دِينِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَمِنَ التَّكَالُبِ عَلَى الْأَمْوَالِ.
وَأَمْرِ اللَّهِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَنَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي جِهَادِهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ.
وَنَهْيِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَاهُمْ.
وَضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
وَذِكْرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدَ الضِّرَارِ عَنْ سُوءِ نِيَّةٍ، وَفَضْلِ مَسْجِدِ قِبَاءَ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ.
وَانْتَقَلَ إِلَى وَصْفِ حَالَةِ الْأَعْرَابِ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَمُسِيئِهِمْ وَمُهَاجِرِهِمْ وَمُتَخَلِّفِهِمْ.
وَقُوبِلَتْ صِفَاتُ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ بِأَضْدَادِهَا صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ.
وَذُكِرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَضْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَفَضْلُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَالْجِهَادِ وَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالتَّذْكِيرِ بِنَصْرِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعْدَ يَأْسِهِمْ.
وَالتَّنْوِيهِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وَجَيْشِهَا.
وَالَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا.
وَمَعْنَى (اطْمَأَنُّوا بِهَا) سَكَنَتْ أَنْفُسُهُمْ وَصَرَفُوا هِمَمَهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَنَافِعِهَا وَلَمْ يَسْعَوْا لِتَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ السُّكُونَ عِنْدَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّحَرُّكِ لِغَيْرِهِ.
وَعَنْ قَتَادَةَ: إِذَا شِئْتَ رَأَيْتَ هَذَا الْمَوْصُوفَ صَاحِبَ دُنْيَا، لَهَا يَرْضَى، وَلَهَا يَغْضَبُ، وَلَهَا يَفْرَحُ، وَلَهَا يَهْتَمُّ وَيَحْزَنُ.
وَالَّذِينَ هُمْ غَافِلُونَ هُمْ عَيْنُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ اللِّقَاءَ، وَلَكِنْ أُعِيدَ الْمَوْصُولُ لِلِاهْتِمَامِ بِالصِّلَةِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهَا وَحْدَهَا كَافِيَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنَ الْخَبَرِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَعُدِ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا لِأَنَّ الرِّضَى بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ تَكْمِلَةِ مَعْنَى الصِّلَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا.
وَالْمُرَادُ بِالْغَفْلَةِ: إِهْمَالُ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ أَصْلًا، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ والسياق وَبِمَا تومىء إِلَيْهِ الصِّلَةُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ الدَّالَّةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَبِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ مِنْ كَوْنِ غَفْلَتِهِمْ غَفْلَةً عَنْ آيَاتِ اللَّهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا مِمَّا يَدُلُّ مَجْمُوعُهُ عَلَى أَنَّ غَفْلَتَهُمْ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ دَأْبٌ لَهُمْ وَسَجِيَّةٌ، وَأَنَّهُمْ يعتمدونها فتؤول إِلَى مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِبَاءِ النَّظَرِ فِيهَا عِنَادًا وَمُكَابَرَةً. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ تَعْرِضُ لَهُ الْغَفْلَةُ عَنْ بَعْضِ الْآيَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
وَأُعْقِبَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِشَارَة لزِيَادَة إحصاء صِفَاتِهِمْ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ، وَلِمَا يُؤذن بِهِ جِيءَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأً عَقِبَ أَوْصَافٍ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِالْخَبَرِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَالْمَأْوَى: اسْمُ مَكَانِ الْإِيوَاءِ، أَيِ الرُّجُوعُ إِلَى مَصِيرِهِمْ وَمَرْجِعِهِمْ.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَالْإِتْيَانُ بِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: بِما كَسَبُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، أَيْ أَنَّ مَكْسُوبَهُمْ سَبَبٌ فِي مَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَفَادَ تَأْكِيدَ السَّبَبِيَّةِ الْمُفَادَةِ بِالْبَاءِ.
وَالْإِتْيَانُ بِ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَكْسُوبَ دَيْدَنُهُمْ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرِيرِ، فَيَكُونُ دَيْدَنُهُمْ تَكْرِيرَ ذَلِكَ الَّذِي كسبوه.
قَوْلِهِ:
فَكِيدُونِي جَمِيعاً. وَلَمَّا كَانَتِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَقْتَضِي اعْتِقَادَ عَجْزِهَا عَنْ إِلْحَاقِ إِضْرَارٍ بِهِ فَرَّعَ عَلَى الْبَرَاءَةِ جُمْلَةَ فَكِيدُونِي جَمِيعاً. وَجَعَلَ الْخِطَابَ لِقَوْمِهِ لِئَلَّا يَكُونَ خِطَابُهُ لِمَا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَسْمَعُ، فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِأَنْ يَكِيدُوهُ. وَأَدْخَلَ فِي ضَمِيرِ الْكَائِدِينَ أَصْنَامَهُمْ مُجَارَاةً لِاعْتِقَادِهِمْ وَاسْتِقْصَاءً لِتَعْجِيزِهِمْ، أَيْ أَنْتُمْ وَأَصْنَامُكُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ.
وَالْأَمْرُ بِ (كِيدُونِي) مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيزِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْنَامِ وَبِالنِّسْبَةِ لِقَوْمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات: ٣٩]. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ:
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ تَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَكِيدُوهُ ثُمَّ ارْتَقَى فِي رُتْبَةِ التَّعْجِيزِ وَالِاحْتِقَارِ فَنَهَاهُمْ عَنِ التَّأْخِيرِ بِكَيْدِهِمْ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الِاسْتِخْفَافِ بِأَصْنَامِهِمْ وَبِهِمْ وَكِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي تَوَكَّلْتُ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ فَكِيدُونِي وَهُوَ التَّعْجِيزُ وَالِاحْتِقَارُ. يَعْنِي:
أَنَّهُ وَاثِقٌ بِعَجْزِهِمْ عَنْ كَيْدِهِ لِأَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ، فَهَذَا مَعْنًى دِينِيٌّ قَدِيمٌ.
وَأُجْرِيَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ اسْتِدْلَالًا عَلَى صِحَّةِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ ضُرِّهِمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَالِكُهُمْ جَمِيعًا يَدْفَعُ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وَجُمْلَةُ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها فِي مَحَلِّ صِفَةٍ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، أَوْ حَالٍ
مِنْهُ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا مِثْلُ الْغَرَضِ مِنْ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَالْأَخْذُ: الْإِمْسَاكُ.
وَالنَّاصِيَةُ: مَا انْسَدَلَ عَلَى الْجَبْهَةِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ. وَالْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلتَّمَكُّنِ، تَشْبِيهًا بِهَيْئَةِ إِمْسَاكِ الْإِنْسَانِ مِنْ نَاصِيَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ رَأْسُهُ بِيَدِ آخِذِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ انْفِلَاتًا. وَإِنَّمَا كَانَ تَمْثِيلًا لِأَنَّ دَوَابَّ كَثِيرَةً لَا نَوَاصِيَ لَهَا فَلَا يَلْتَئِمُ الْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ مَعَ عُمُومِ مَا مِنْ دَابَّةٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا صَارَ مَثَلًا
وَالْوَاوُ الَّتِي عَطَفَتْ أَسْمَاءَ الْمَوْصُولِ عَلَى الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ لِلتَّقْسِيمِ فَهِيَ بِمَعْنى أَو.
[١١]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١١]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ جُمْلَةُ لَهُ مُعَقِّباتٌ إِلَى آخِرِهَا، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِ مِنْ الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ:
مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرَّعْد: ١٠].
عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ.
وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَحْفَظُونَهُ، وَضَمِيرَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ جَاءَتْ مُفْرَدَةً لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا عَائِدٌ إِلَى أَحَدِ أَصْحَاب تِلْكَ الصلات حَيْثُ إِنَّ ذِكْرَهُمْ ذِكْرُ أَقْسَامٍ مِنَ الَّذِينَ جُعِلُوا سَوَاءً فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لِكُلِّ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ مُعَقِّبَاتٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ غَوَائِلِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَتَّصِلَ الْجُمْلَةُ بِ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرَّعْد: ١٠]، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ لِمُرَاعَاةِ عَطْفِ صِلَةٍ عَلَى صِلَةٍ دُونَ إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ. وَالْمَعْنَى كالوجه الأول.
و (المعقبات) جُمَعُ مُعَقِّبَةٍ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَكْسُورَةً- اسْمُ فَاعِلِ عَقَبَهُ إِذَا تَبِعَهُ. وَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْعَقِبِ. يُقَالُ: عَقَبَهُ إِذَا اتَّبَعَهُ وَاشْتِقَاقُهُ من الْعقب- يُقَال فَكَسْرٍ- وَهُوَ اسْمٌ لِمُؤَخَّرِ الرَّجُلِ فَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ لِأَنَّ الَّذِي يَتْبَعُ غَيْرَهُ كَأَنَّهُ يَطَأُ عَلَى عَقِبَهُ، وَالْمُرَادُ: مَلَائِكَةٌ مُعَقِّبَاتٌ. وَالْوَاحِدُ مُعَقِّبٌ.
وَإِنَّمَا جُمِعَ جَمْعَ مُؤَنَّثٍ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَاتِ.
وَ (أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا) مُتَعَلِّقٌ بِ أَنْذِرُوا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ حَذْفًا مُطَّرِدًا مَعَ (أَنْ). وَالتَّقْدِيرُ: أَنْذِرُوا بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ (أَنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ مَسُوقًا لِلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى وَكَانَ ذَلِكَ ضَلَالًا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ الْعِقَابَ جَعَلَ إِخْبَارَهُمْ بضدّ اعْتِقَادهم وتحذيرهم مِمَّا هُمْ فِيهِ إِنْذَارًا.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَاتَّقُونِ وَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ أَحَاطَتْ جُمْلَةُ أَنْ أَنْذِرُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُونِ بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، لِأَن جملَة أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَرْجِعُ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَى إِصْلَاحِ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِكَمَالِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ فَاتَّقُونِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاجْتِنَابِ وَالِامْتِثَالِ اللَّذَيْنِ هُمَا مُنْتَهَى كَمَالِ الْقُوَّة العملية.
[٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: ١] لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَرَقَّبُوا دَلِيلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُرَكَاءُ. فَابْتُدِئَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُخْلَقُ لَا يُوصَفُ بِالْإِلَهِيَّةِ كَمَا أنبأ عَنهُ التّفريع عَقِبَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ بِقَوْلِهِ الْآتِي: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٧].
وَأَعْقَبَ قَوْلَهُ: سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تَحْقِيقًا لِنَتِيجَةِ الدَّلِيلِ، كَمَا يُذْكَرُ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ ذِكْرِ الْقِيَاسِ فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ ثُمَّ يُذْكَرُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ عَقِبَ الْقِيَاسِ فِي صُورَةِ النَّتِيجَةِ تَحْقِيقًا لِلْوَحْدَانِيَّةِ، لِأَنَّ الضَّلَالَ فِيهَا هُوَ أَصْلُ انْتِقَاضِ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ هُوَ الَّذِي حَدَاهُمْ
فَهُوَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّأْوِيلِ بِمَعَانِيهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِير.
[٣٦]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٣٦]
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)
الْقَفْوُ: الِاتِّبَاعُ، يُقَالُ: قَفَاهُ يَقْفُوهُ إِذَا اتَّبَعَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْقَفَا، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْعُنُقِ. وَاسْتُعِيرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِلْعَمَلِ. وَالْمُرَادُ بِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الْخَاطِرُ النَّفْسَانِيُّ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا غَلَبَةَ ظَنٍّ بِهِ.
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا خَلَّةٌ مِنْ خِلَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ الطَّعْنُ فِي أَنْسَابِ النَّاسِ، فَكَانُوا يَرْمُونَ النِّسَاءَ بِرِجَالٍ لَيْسُوا بِأَزْوَاجِهِنَّ، وَيَلِيطُونَ بَعْضَ الْأَوْلَادِ بِغَيْرِ آبَائِهِمْ بُهْتَانًا، أَوْ سُوءَ ظَنٍّ إِذَا رَأَوْا بُعْدًا فِي الشَّبَهِ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ أَوْ رَأَوْا شَبَهَهُ بِرَجُلٍ آخَرَ مِنَ الْحَيِّ أَوْ رَأَوْا لَوْنًا مُخَالِفًا لِلَوْنِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، تَخَرُّصًا وَجَهْلًا بِأَسْبَابِ التَّشَكُّلِ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَنْزِعُ فِي الشَّبَهِ وَفِي اللَّوْنِ إِلَى أُصُولٍ مِنْ سِلْسِلَةِ الْآبَاءِ أَوِ الْأُمَّهَاتِ الْأَدْنَيْنَ أَوِ الْأَبْعَدِينَ، وَجَهْلًا بِالشَّبَهِ النَّاشِئ عَن الوحم.
وَقَدْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ (يُرِيدُ أَنْ يَنْتَفِيَ مِنْهُ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: مَا أَلْوَانُهُنَّ؟ قَالَ: وُرْقٌ. قَالَ: وَهَلْ فِيهَا مِنْ جَمَلٍ أَسْوَدَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَلَّ ابْنَكَ نَزَعَهُ عِرْقٌ»
، وَنَهَاهُ عَنِ الِانْتِفَاءِ مِنْهُ. فَهَذَا كَانَ شَائِعًا فِي مُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا الْقَذْفُ بِالزِّنَى وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُسَاوِي بِدُونِ مُشَاهَدَةٍ، وَرُبَّمَا رَمَوُا الْجِيرَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُهُمْ إِذَا غَابَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ
الْخُصُوصِ قَوْلُهُ مَا دُمْتُ حَيًّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ حَيَّاتِهِ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، أَيْ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَتَصَدَّقَ فِي أَوْقَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ غَيْرِ أَوْقَاتِ الدَّعْوَةِ أَوِ الضَّرُورَاتِ.
فَالِاسْتِغْرَاقُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَا دُمْتُ حَيًّا اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مُرَادٌ بِهِ الْكَثْرَةُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَتَيْنِ عَلَى أُمَّتِهِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي أَوْصَافٍ تَمَيَّزَ بِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَرْعِ صَلَاةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا شُرِعَ فِي التَّوْرَاةِ.
وَالْبَرُّ- بِفَتْحِ الْبَاءِ-: اسْمٌ بِمَعْنَى الْبَارِّ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ بَيْنَ قَوْمِهِ، لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ كَانَ ضَعِيفًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ، وَبِخَاصَّةٍ الْوَالِدَةُ لِأَنَّهَا تُسْتَضْعَفُ، لِأَنَّ فَرْطَ حَنَانِهَا وَمَشَقَّتِهَا قَدْ يُجَرِّئَانِ الْوَلَدَ عَلَى التَّسَاهُلِ فِي الْبِرِّ بِهَا.
وَالْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ الْغَلِيظُ عَلَى النَّاسِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٩] قَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
وَالشَّقِيُّ: الْخَاسِرُ وَالَّذِي تَكُونُ أَحْوَالُهُ كَدِرَةً لَهُ وَمُؤْلِمَةً، وَهُوَ ضِدُّ السَّعِيدِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ [١٠٥].
وَوُصِفَ الْجَبَّارُ بِالشَّقِيِّ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ فِي الْآخِرَةِ وَرُبَّمَا فِي الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ إِلَى آخِرِهِ، تَنْوِيهٌ بِكَرَامَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ رَبِّهِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ ذِكْرِ يَحْيَى.
وَجِيءَ بِالسَّلَامِ هُنَا معرّفا بِاللَّامِ الدَّالَّة عَلَى الْجِنْسِ مُبَالَغَةً فِي تَعَلُّقِ السَّلَامِ بِهِ حَتَّى كَانَ جِنْسُ السَّلَامِ بِأَجْمَعِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مُؤْذِنٌ
حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْمُفْرَدِ الْبَحْتِ وَإِنْ كَانَ شَأْنُ فِعْلِ الْقَوْلِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى الْجُمْلَةِ أَوْ إِلَى مُفْرَدٍ فِيهِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠].
وَمَعْنَى عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ عَلَى مُشَاهَدَةِ النَّاسِ، فَاسْتُعِيرَ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِتَمَكُّنِ الْبَصَرِ فِيهِ حَتَّى كَانَ الْمَرْئِيَّ مَظْرُوفٌ فِي الْأَعْيُنِ.
وَمَعْنَى يَشْهَدُونَ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ الَّذِي تَوَعَّدَ الْأَصْنَام بالكيد.
[٦٢- ٦٧]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٧]
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧)
وَقَعَ هُنَا حَذْفُ جُمْلَةٍ تَقْتَضِيهَا دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأْتُوا بِهِ فَقَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَلْ إِبْطَالٌ لِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ (بَلْ) تَقْتَضِي نَفْيَ مَا دَلَّ عَلَى كَلَامِهِمْ مِنِ اسْتِفْهَامِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّشْكِيكِ، أَيْ لَعَلَّهُ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِذْ لَمْ يَقْصِدْ إِبْرَاهِيمُ نِسْبَةَ التَّحْطِيمِ إِلَى الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ
وَاللَّجَاجُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْخِصَامِ وَعَدَمُ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ. يُقَالُ: لَجَّ يَلِجُّ وَيَلَجُّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ عَلَى اخْتِلَافِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي.
وَالطُّغْيَانُ: أَشَدُّ الْكِبْرِ. وَالْعَمَهُ: التَّرَدُّدُ فِي الضَّلَالَةِ. وفِي طُغْيانِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَعْمَهُونَ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ، وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُرَادُ مِنْهَا مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٥].
[٧٦، ٧٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٧٦ إِلَى ٧٧]
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٧٥] بِسَابِقِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ وَعَدَمِ الِاتِّعَاظِ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ جَزَاءُ شِرْكِهِمْ.
وَالْجُمْلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ خطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعْلَمُ صِدْقَهُ فَلَمْ يَكُنْ بِحَاجَةٍ إِلَى الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّهُ لَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمُشْرِكِينَ وَكَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَسْمَاعَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَا شَكَّ فِي صِدْقِهِ، كَانَ الْمَقَامُ مَحْفُوفًا بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِمْ بِشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا مَضَى وَلِذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَهُ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٤]، وَوَقَعَ بَعْدَهُ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٤].
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ بِالْعَذابِ لِلْعَهْدِ، أَيْ بِالْعَذَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٤] إِلَخْ. وَمَصَبُّ الْحَالِ هُوَ مَا عُطِفَ عَلَى جُمْلَتِهَا مِنْ قَوْلِهِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ، فَلَا تَتَوَهَّمَنَّ أَنَّ إِعَادَةَ ذِكْرِ
وَمَعْنَى (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١]، أَيْ تَحَقَّقَ، أَيْ سَوْفَ تَتَحَقَّقُ أَخْبَارُ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ الَّذِي كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي سَوْفَ تَبْلُغُهُمْ أَخْبَارُ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْقُرْآنِ، أَيْ أَخْبَارُ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ. وَأُوثِرَ إِفْرَادُ فِعْلِ «يَأْتِيهِمْ» مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِغَيْرِ مُذَكِّرٍ حَقِيقِيٍّ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ
لِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَخَفُّ فِي الْكَلَامِ لِكَثْرَة دورانه.
[٧- ٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٧ إِلَى ٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشُّعَرَاء: ٥] فَالْهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مِنْهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ لَفْظًا لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدَارَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا تُغْنِي فِيهِمُ الْآيَاتُ لِأَنَّ الْمُكَابَرَةَ تَصْرِفُهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ، وَالْآيَاتُ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ قَائِمَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُمْ قَدْ عَمُوا عَنْهَا فَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَلَا عَجَبَ أَنْ يَضِلُّوا عَنْ آيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَوْنُ الْقُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ فَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُتَطَلِّعِينَ إِلَى الْحَقِّ بَاحِثِينَ عَنْهُ لَكَانَ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِّرُوا بِهَا مَقْنَعٌ لَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي يَقْتَرِحُونَهَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: ١٨٥]، وَقَالَ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: ١٠١] أَيْ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُعِدُّوا أَنْفُسَهُمْ لِلْإِيمَانِ.
فَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ دَالَّةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ لِأَنَّ هَذَا الصُّنْعَ الْحَكِيمَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، وَدَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ بَعْدَ الْجَفَافِ مَثِيلٌ لِإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ رُفَاتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣]. وَهَذَا دَلِيلٌ تَقْرِيبِيٌّ
غَنَمٍ وَأَنَّ مُوسَى رَعَى غَنَمَهُ. فَيَكُونُ إِطْلَاقُ تَذُودانِ هُنَا مَجَازًا مُرْسَلًا، أَوْ تَكُونُ حَقِيقَةُ الذَّوْدِ طَرْدُ الْأَنْعَامِ كُلِّهَا عَنْ حَوْضِ الْمَاءِ. وَكَلَامُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ غَيْرُ صَرِيحٍ فِي تَبْيِينِ حَقِيقَةِ هَذَا. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمَا غَنَمٌ، وَالذَّوْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمَاشِيَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حُضُورِ
الْمَاءِ بِالْأَنْعَامِ سَقْيُهَا. فَلَمَّا رَأَى مُوسَى الْمَرْأَتَيْنِ تَمْنَعَانِ أَنْعَامَهُمَا مِنَ الشُّرْبِ سَأَلَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا؟ وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ قِصَّتِهِمَا وَشَأْنِهِمَا إِذْ حَضَرَا الْمَاءَ وَلَمْ يَقْتَحِمَا عَلَيْهِ لِسَقْيِ غَنَمِهِمَا.
وَجُمْلَةُ قالَ مَا خَطْبُكُما بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ.
وَالْخَطْبُ: الشَّأْنُ وَالْحَدَثُ الْمُهِمُّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يُوسُف: ٥١]، فَأَجَابَتَا بِأَنَّهُمَا كَرِهَتَا أَنْ تَسْقِيَا فِي حِينِ اكْتِظَاظِ الْمَكَانِ بِالرِّعَاءِ وَأَنَّهُمَا تَسْتَمِرَّانِ عَلَى عَدَمِ السَّقْيِ كَمَا اقْتَضَاهُ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ الرِّعَاءُ.
والرِّعاءُ: جَمْعُ رَاعٍ.
وَالْإِصْدَارُ: الْإِرْجَاعُ عَنِ السَّقْيِ، أَيْ حَتَّى يَسْقِيَ الرِّعَاءُ وَيُصْدِرُوا مَوَاشِيَهُمْ، فَالْإِصْدَارُ جَعْلُ الْغَيْرِ صَادِرًا، أَيْ حَتَّى يَذْهَبَ رِعَاءُ الْإِبِلِ بِأَنْعَامِهِمْ فَلَا يَبْقَى الزِّحَامُ.
وَصَدُّهُمَا عَنِ الْمُزَاحمَة عَادَتهمَا لِأَنَّهُمَا كَانَتَا ذَوَاتَيْ مُرُوءَةٍ وَتَرْبِيَةٍ زَكِيَّةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُصْدِرَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ يُصْدِرَ بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضَمِّ الدَّالِّ عَلَى إِسْنَادِ الصَّدْرِ إِلَى الرِّعَاءِ، أَيْ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنِ الْمَاءِ، أَيْ بِمَوَاشِيهِمْ لِأَنَّ وَصْفَ الرِّعَاءِ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُمْ مَوَاشِيَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ عَادَتُهُمَا كُلَّ يَوْمِ سَقْيٍ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَادَةٌ.
وَكَانَ قَوْلُهُمَا وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ اعْتِذَارًا عَنْ حُضُورِهِمَا لِلسَّقْيِ مَعَ الرِّجَالِ لِعَدَمِ وِجْدَانِهِمَا رَجُلًا يَسْتَقِي لَهُمَا لِأَنَّ الرَّجُلَ الْوَحِيدَ لَهُمَا هُوَ أَبُوهُمَا وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ وُرُودَ الْمَاءِ لِضَعْفِهِ عَنِ الْمُزَاحَمَةِ.
كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: ٢١]. وَقَدَّمَ بِهِ على يُشْرِكُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِ إِشْرَاكِهِمُ الدَّاخِلِ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٣٦- ٣٧]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : الْآيَات ٣٦ إِلَى ٣٧]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
أُعِيدَ الْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ زِيَادَةً فِي بَسْطِ الْحَالَةِ الَّتِي يَتَلَقَّوْنَ بِهَا الرَّحْمَةَ وَضِدَّهَا تَلَقِّيًا يَسْتَوُونَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ مُيِّزَ فِيمَا تَقَدَّمَ حَالُ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِلرَّحْمَةِ بِالْكُفْرَانِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتَلَقُّونَهَا بِالْكُفْرَانِ. فَأُرِيدَ تَنْبِيهُهُمْ هُنَا إِلَى حَالَةِ تَلَقِّيهِمْ ضِدَّ الرَّحْمَةِ بِالْقُنُوطِ لِيَحْذَرُوا ذَلِكَ وَيَرْتَاضُوا بِرَجَاءِ الْفَرَجِ وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَالْأَخْذِ فِي أَسْبَابِ انْكِشَافِهَا. وَالرَّحْمَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى أَثَرِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ وَالْأَحْوَالُ الْحَسَنَةُ الملائمة كَمَا يَنْبَنِي عَنْهُ مُقَابَلَتُهَا بِالسَّيِّئَةِ وَهِيَ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ وَيُحْزِنُهُ فَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَخَلُّقُ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُلِقِ الْكَامِلِ، فَ النَّاسَ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْآيَةَ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وَقُدِّمَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِصَابَةُ الرَّحْمَةِ عَلَى إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ عَكْسَ الَّتِي قَبْلَهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْحَالَةِ الَّتِي جُعِلَتْ مَبْدَأَ الْعِبْرَةِ وَأَصْلَ الِاسْتِدْلَالِ، فَقَوْلُهُ فَرِحُوا بِها وَصْفٌ لحَال النَّاس عِنْد مَا تُصِيبُهُمُ الرَّحْمَةُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ ضِدُّهُ فِي قَوْلِهِ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْقُنُوطُ مِنَ التَّذَمُّرِ وَالْغَضَبِ، فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِإِنْكَارِ الْفَرَحِ حَتَّى نَضْطَرَّ إِلَى تَفْسِيرِ الْفَرَحِ بِالْبَطَرِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِلَا دَاعٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَمَا يَفْرَحُونَ عِنْدَ الرَّحْمَةِ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ زَوَالُهَا وَلَا يَحْزَنُونَ مِنْ خَشْيَتِهِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَن يصبروا عِنْد مَا يَمَسُّهُمُ الضُّرُّ وَلَا يَقْنَطُوا مِنْ زَوَالِهِ لِأَنَّ قُنُوطَهُمْ مِنْ زَوَالِهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاس حَالهم عِنْد مَا تُصِيبُهُمْ رَحْمَةٌ حِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ زَوَالَهَا، فَالْقُنُوطُ هُوَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ [فصلت: ٤٩] فِي أَنَّ مَحَلَّ التَّعْجِيبِ هُوَ
وَالَّذِي يَبْدُو أَنَّهُمْ كَانُوا يصلونَ على النبيء إِذَا تَذكرُوا بعض شؤونه كَمَا كَانُوا يَتَرَحَّمُونَ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا ذَكَرُوا بَعْضَ مَحَاسِنِهِ. وَفِي «السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ» :«لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَرَى عُمَرُ مِنَ الدَّهَشِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ وَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ قَالَ عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ وَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ رَسُولَهُ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ: مَتَى يُحِلُّ الْمُعْتَمِرُ: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالْحَجُونِ «صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ» إِلَى آخِرِهِ.
وَفِي بَابِ مَا يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مِنْ
«جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةَ الْكُبْرَى قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ
، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «التَّارِيخِ الْكَامِلِ» فِي حَوَادِثِ سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ رَثَى مُحَمَّدًا النَّفْسَ الزَّكِيَّةَ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا:
وَاللَّهِ لَوْ شهد النبيء مُحَمَّدٌ | صَلَّى الْإِلَهُ على النبيء وَسَلَّمَا |
وَلَا شَكَّ أَنَّ إِتْبَاعَ اسْمَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ، وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى قِطْعَةٍ عَتِيقَةٍ مِنْ تَفْسِيرِ يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ الْبَصْرِيِّ مُؤَرَّخٍ نَسْخُهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فَإِذَا فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيءِ عَقِبَ ذِكْرِهِ اسْمَهُ.
وَالزَّجْرَةُ: الصَّيْحَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [الصافات: ٢].
وواحِدَةٌ تَأْكِيدٌ لِمَا تُفِيدُهُ صِيغَةُ الْفَعْلَةِ مِنْ مَعْنَى الْمَرَّةِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّيْحَةِ الْجِنْسَ دُونَ الْوُجُودِ لِأَنَّ وَزْنَ الْفَعْلَةِ يَجِيءُ لِمَعْنَى الْمَصْدَرِ دُونَ الْمَرَّةِ. وَضَمِيرُ هِيَ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ وَهُوَ لَا مُعَادَ لَهُ إِنَّمَا تُفَسِّرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ وَدَلَّ فَاءُ التَّفْرِيعِ عَلَى تَعْقِيبِ الْمُفَاجَأَةِ، وَدَلَّ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ عَلَى سُرْعَةِ حُصُولِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ فِي سُورَةِ يس [٥٣].
وَكُنِيَ عَنِ الْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا دَهْشَ يُخَالِطُهَا بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِهِ: يَنْظُرُونَ لِأَنَّ النَّظَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ تَمَامِ الْحَيَاةِ. وَأُوثِرَ النَّظَرُ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْحَوَاسِّ لِمَزِيدِ اخْتِصَاصِهِ بِالْمَقَامِ وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِمَا اعْتَرَاهُمْ من البهت لمشاهدة الْحَشْر.
[٢٠]
[سُورَة الصافات (٣٧) : آيَة ٢٠]
وَقالُوا يَا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ قَائِلِينَ يَا وَيْلَنا أَيْ يَقُولُ جَمِيعُهُمْ: يَا وَيْلَنَا يَقُولُهُ كُلُّ أَحَدٍ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جملَة يَنْظُرُونَ [الصافات: ١٩].
وَالْمَعْنَى: وَنَظَرُوا وَقَالُوا.
وَالْوَيْلُ: سُوءُ الْحَالِ. وَحَرْفُ النِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ فِي سُورَةِ يس [٣٠].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْيَوْمِ الْمُشَاهَدِ. والدِّينِ: الْجَزَاءُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الْفَاتِحَة.
[٢١]
[سُورَة الصافات (٣٧) : آيَة ٢١]
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُوَجَّهًا إِلَيْهِمْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ:
بَعْدَ سُؤَالِ الصَّفْحِ عَنْهُ كِنَايَةً عَنِ اسْتِدَامَتِهِ وَعَدَمِ اسْتِجَابَةِ سُؤَالِهِمُ الْخُرُوجَ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِتَحْقِيرِهِمْ. وَزِيدَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا بِقَوْلِهِ: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
فَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْبَأَ بِهِ قَوْلُهُ: يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غَافِر: ١٠] وَمَا عَقَّبَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غَافِر: ١١].
وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ. وَضَمِيرُ بِأَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالسَّبَبُ هُوَ مَضْمُونُ الْقِصَّةِ الَّذِي حَاصِلُ سَبْكِهِ: بِكُفْرِكُمْ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَإِيمَانِكُمْ بِالشِّرْكِ.
وإِذا مُسْتَعْمَلَةٌ هُنَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ وَاقِعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ كُفْرُهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، فَالدُّعَاءُ الَّذِي مَضَى مَعَ كُفْرِهِمْ بِهِ كَانَ سَبَبَ وُقُوعِهِمْ فِي الْعَذَابِ.
وَمَجِيءُ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي الْفِعْلَيْنِ مُؤَوَّلٌ بِالْمَاضِي بِقَرِينَةِ مَا قَبْلَهُ، وَإِيثَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي الْفِعْلَيْنِ لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ لِتَكَرُّرِهِ أَثَرًا فِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ.
وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ، وَالتَّوَجُّهُ بِالْخِطَابِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الدُّعَاءُ وَيُطْلَقُ الدُّعَاءُ عَلَى الْعِبَادَةِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦٠]، فَالْمَعْنَى إِذَا نُودِيَ اللَّهُ بِمَسْمَعِكُمْ نِدَاءً دَالًّا عَلَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ مِثْلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى نِدَاءِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَالدُّعَاءُ هُنَا الْإِعْلَانُ وَالذِّكْرُ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، وَالدُّعَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الدُّعَاءِ بِمَعْنَى سُؤَالِ الْحَاجَاتِ وَلَكِنَّهُ يَشْمَلُهُ، أَوْ إِذَا عُبِدَ اللَّهُ وَحْدَهُ.
وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ لَا تُعَيِّنُ التَّسَبُّبَ بَلْ تُجَوِّزُهُ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ قَدْ يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ بِالْوَصْفِ بِالصِّلَةِ، فَتُحَمَلُ عَلَى الْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ وَبِتَأْيِيدِ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ اتِّحَادُ الْمَعَانِي. وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ فَرِيقًا مُعَيَّنًا وَأَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَصَائِبَ مُعَيَّنَةً حَصَلَتْ فِي الْمَاضِي، وَأَنْ يُرَادَ جَمِيعُ الْمَصَائِبِ الَّتِي حَصَلَتْ وَالَّتِي تَحْصُلُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُفِيدُ: أَنَّ مِمَّا يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا مَا هُوَ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَثَلِ الْمُصِيبَةِ أَوِ الْمَصَائِبِ الَّتِي أَصَابَتِ الْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ وأذاهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَتْ (مَا) شَرْطِيَّةً كَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى عُمُومِ مَفْهُومِهَا الْمُبَيَّنِ بِحَرْفِ مِنْ الْبَيَانِيَّةِ أَظْهَرَ لِأَنَّ شَرْطَهَا الْمَاضِيَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الشُّرُوطِ الْمَصُوغَةِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ وَالتَّعْلِيقَ الشَّرْطِيَّ يُمَحِّضُهَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَتْ (مَا) مَوْصُولَةً كَانَتْ دَلَالَتُهَا مُحْتَمِلَةً لِلْعُمُومِ وَلِلْخُصُوصِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَكُونُ لِلْعَهْدِ وَيَكُونُ لِلْجِنْسِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا مَا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَزَاءً عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا بِالنِّسْبَةِ لِأُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ كَانَ فِيهِ نِذَارَةٌ وَتَحْذِيرٌ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَفْعَلُ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِهِمْ أَنْ تَحِلَّ بِهِمْ مَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ زِيَادَةً فِي التَّنْكِيلِ بِهِمْ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ لَا يَطَّرِدُ فَقَدْ يُجَازِي اللَّهُ قُومًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً فِي الدُّنْيَا مَعَ جَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ يَتْرُكُ قَوْمًا إِلَى جَزَاءِ الْآخِرَةِ، فَجَزَاءُ الْآخِرَةِ فِي الْخَيْرِ الشَّرّ هُوَ الْمُطَّرِدُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَالْجَزَاءُ فِي الدُّنْيَا قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ بِوَجْهِ الْكُلِّيَّةِ وَبِوَجْهِ الْجُزْئِيَّةِ، فَمِمَّا جَاءَ بِطَرِيقِ الْكُلِّيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا [الْفجْر: ١٥- ١٩] الْآيَةَ،
وَمَعْنَى آنِفاً: وَقْتًا قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ التَّكَلُّمِ، وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ إِلَّا مَنْصُوبَةً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنِ اسْتَأْنَفَ الشَّيْءَ إِذا ابتدأه اهـ يُرِيدُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلٍ مَزِيدٍ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الْأَنْفُ، أَيْ جَارِحَةُ الشَّمِّ وَكَأَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ أَنْفَ الْبَعِيرِ لِأَنَّ الْأَنْفَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو لِرَاكِبِهِ فَيَأْخُذُ بِخِطَامِهِ، فَلُوحِظَ فِي اسْمِ الْأَنْفِ مَعْنَى الْوَصْفِ بِالظُّهُورِ، وَكُنِّيَ بِذَلِكَ عَنِ الْقُرْبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ أُنُفٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ النُّونِ يُوصَفُ بِهِ الْكَأْسُ الَّتِي لَمْ يُشْرَبْ مِنْهَا مِنْ قَبْلُ، وَتُوصَفُ بِهِ الرَّوْضَةُ الَّتِي لَمْ تُرْعَ قبل، كَأَنَّهُمْ لَا حظوا فِيهَا لَازِمَ وَصْفِ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ أَنَّهُ جَدِيدٌ، أَيْ زَمَنٌ قَرِيبٌ، فَ آنِفاً زَمَانًا لَمْ يَبْعُدِ الْعَهْدُ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: آنِفاً مَعْنَاهُ: السَّاعَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَّا وَهَذَا تَفْسِير الْمَعْنى» اهـ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَسَّرُوهُ بِوَقْتٍ يَقْرُبُ مِنَّا. وَصِيغَ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، فَهَذَا اسْمٌ غَرِيبُ التَّصْرِيفِ وَلَا يُحْفَظُ شَيْءٌ مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ وَقَعَ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ.
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِصِيغَةِ فَاعِلٍ وَشَذَّتْ رِوَايَةٌ عَنِ الْبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ آنِفاً بِوَزْنِ كَتِفٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَاتِ نِسْبَتَهَا إِلَى ابْنِ كَثِيرٍ وَلَكِنَّ الشَّاطِبِيَّ أَثْبَتَهَا فِي حِرْزِ الْأَمَانِي وَقَدْ ذَكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ. فَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْبَزِّيِّ عَنْهُ كَانَ آنِفاً حَالًا مِنْ ضَمِيرِ مَنْ يَسْتَمِعُ أُجْرِيَ عَلَى الْإِفْرَادِ رَعْيًا لِلَفْظِ مَنْ.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُ شَدِيدُ الْأَنَفَةِ، أَيِ التَّكَبُّرِ إِظْهَارًا لِتَرَفُّعِهِ عَنْ وَعْيِ مَا يَقُوله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْتَهِي الْكَلَامُ عِنْدَ مَاذَا. وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ: أَنَّ الْبَزِّيَّ تَوَهَّمَهُ مِثْلَ: حَاذِرٍ وَحَذِرٍ. وَلَا يُظَنُّ مثل هَذَا بالبزي لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ هَذَا السُّؤَالِ لِقَوْلِهِ عَقِبَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُوَ سُؤال ينبىء عَنْ مَذَمَّةِ سَائِلِيهِ، فَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُمْ حَقِيقَةً أَنْبَأَ عَنْ قِلَّةِ وَعْيِهِمْ لِمَا يَسْمَعُونَهُ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يَسْتَعِيدُونَهُ مِنَ الَّذِينَ عَلِمُوهُ فَلَعَلَّ اسْتِعَادَتَهُمْ إِيَّاهُ لِقَصْدِ أَنْ يَتَدَارَسُوهُ إِذَا خَلَوْا مَعَ إِخْوَانِهِمْ لِيَخْتَلِقُوا مَغَامِرَ يُهَيِّئُونَهَا بَيْنَهُمْ، أَوْ أَنْ يُجِيبُوا مَنْ يَسْأَلُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ عَمَّا سَمِعُوهُ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ.
وَتَعْدِيَةُ الْفِعْلِ فِيهِمَا بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ، أَيْ هَبْكُمْ غَالَبْتُمُوهُ عَلَى
عِبَادَتِكُمُ الْآلِهَةَ، وَعَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَتَغْلِبُونَهُ عَلَى مَا رأى ببصره.
[١٣- ١٨]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٨]
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (١٦) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧)
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تجحدون رُؤْيَته جِبْرِيل فِي الْأَرْضِ فَلَقَدْ رَآهُ رُؤْيَةً أَعْظَمَ مِنْهَا إِذْ رَآهُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُصَاحِبًا، فَهَذَا مِنَ التَّرَقِّي فِي بَيَانِ مَرَاتِبَ الْوَحْيِ، وَالْعَطْفُ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ ابْتُدِئَ بِالْأَضْعَفِ وَعُقِّبَ بِالْأَقْوَى.
فَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِأَجْلِ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنَ الْغَرَابَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ وَمِنْ حَيْثُ أَنَّهُ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَمِنَ الْأَهَمِّيَّةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَالٌّ عَلَى عَظِيمِ مَنْزِلَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي رَآهُ عَائِدٌ إِلَى صاحِبُكُمْ [النَّجْم: ٢]، وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى جِبْرِيلَ.
ونَزْلَةً فَعْلَةً مِنَ النُّزُولِ فَهُوَ مَصْدَرٌ دَالٌّ عَلَى الْمَرَّةِ: أَيْ فِي مَكَانٍ آخَرَ مِنَ النُّزُولِ الَّذِي هُوَ الْحُلُولُ فِي الْمَكَانِ، وَوَصَفَهَا بِ أُخْرى بِالنِّسْبَةِ لما فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى [النَّجْم: ٨] فَإِنَّ التَّدَلِّيَ نُزُولٌ بِالْمَكَانِ الَّذِي بَلَغَ إِلَيْهِ.
وَانْتِصَابُ نَزْلَةً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَوْ عَلَى النِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بِتَقْدِيرِ: وَقْتِ نَزْلَةٍ أُخْرَى، فَتَكُونَ نَائِبًا عَن ظرف الزَّمَان.
وَقَوْلُهُ: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى مُتَعَلِّقٌ بِ رَآهُ. وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ رُؤْيَتُهُ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى لِعَظِيمِ شَرَفِ الْمَكَانِ بِمَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى وَلِأَنَّهَا مُنْتَهَى الْعُرُوجِ فِي مَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ.
وسِدْرَةِ الْمُنْتَهى: اسْمٌ أَطْلَقَهُ الْقُرْآنُ عَلَى مَكَانٍ عُلْوِيٍّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهَا فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ مِنَ الصِّحَاحِ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
أَيْ فِي الْمُوَالَاةِ لَهُمْ. وَمَعْنَى لَنَنْصُرَنَّكُمْ لَنُعِينَنَّكُمْ فِي الْقِتَالِ. وَالنَّصْرُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْمُعَادِي. وَقَدْ أَعْلَمَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَعْلَمَهُ بِمَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ تَطْمِينًا لِخَاطِرِهِ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ إِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَبْلَ غَزْوِ قُرَيْظَةَ لِئَلَا يتوجس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِيفَةً مِنْ بَأْسِ الْمُنَافِقِينَ، وَسَمَّى اللَّهُ الْخَبَرَ شَهَادَةً لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ يَقِينٍ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ الَّتِي لَا يَتَجَازَفُ الْمُخْبِرُ فِي شَأْنِهَا.
[١٢]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ١٢]
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١٢)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ.
بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الْحَشْر: ١١].
وَاللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ وَهَذَا تَأْكِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوهُ شَيْئًا لِكَيْلَا يَعْبَأَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ مَقَالَتِهِمْ.
وَضَمِيرُ أُخْرِجُوا وقُوتِلُوا عَائِدَانِ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر:
١١]، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا وَلَمَّا يُقَاتِلُوا وَهُمْ قُرَيْظَةُ وَخَيْبَرُ، أَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَقَدْ أُخْرِجُوا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَهُمْ غَيْرُ مَعْنِيِّينَ بِهَذَا الْخَبَرِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْمَعْنَى: لَئِنْ أُخْرِجَ بَقِيَّةُ الْيَهُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَنْصُرُونَهُمْ. وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا الْبَيَانِ طَرِيقَ الْإِطْنَابِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الْحَشْر: ١١] جَمَعَ مَا فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ فَجَاءَ بَيَانُهُ بِطَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ كَذِبِهِمْ.
وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ.
ارْتِقَاءٌ فِي تَكْذِيبِهِمْ عَلَى مَا وَعَدُوا بِهِ إِخْوَانَهُمْ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ وَلَيْسَتْ وَاوَ الْعَطْفِ.
وَفِعْلُ نَصَرُوهُمْ إِرَادَةُ وُقُوعَ الْفِعْلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى إِرَادَتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : الْآيَات ٤٤ إِلَى ٤٥]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥)الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي عَطَفَتْهُ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ لِكَوْنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ سَبَبًا فِي ذِكْرِ مَا بَعْدَهُ، فَبَعْدَ أَنِ اسْتُوفِيَ الْغَرَضُ مِنْ مَوْعِظَتِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ وَتَزْيِيفِ أَوْهَامِهِمْ أَعْقَبَ بِهَذَا الْاعْتِرَاضِ تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ بِالْانْتِصَافِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ وَنَحْوُهُ يُفِيدُ تَمْثِيلًا لِحَالِ مَفْعُولِ (ذَرْ) فِي تَعَهُّدِهِ بِأَن يَكْفِي مؤونة شَيْءٍ دُونَ اسْتِعَانَةٍ بِصَاحِبِ الْمَئُونَةِ بِحَالِ مَنْ يَرَى الْمُخَاطَبَ قَدْ شَرَعَ فِي الْانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ وَرَأَى أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِذَلِكَ مَبْلَغَ مَفْعُولِ (ذَرْ) لِأَنَّهُ أَقْدَرُ مِنَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ فِي الْانْتِصَافِ مِنَ الْمُعْتَدِي فَيَتَفَرَّغُ لَهُ وَلَا يَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ إِعَانَةً لَهُ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ، وَلِذَلِكَ يُؤْتَى بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ التَّرْكِ وَيُؤْتَى بَعْدَهُ بِمَفْعُولٍ مَعَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: ١١] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: ١١] وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي
«الرَّوْضِ الْأُنْفِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: ١١] فِيهِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، أَيْ دَعْنِي وَإِيَّاهُ فَسَتَرَى مَا أَصْنَعُ وَهِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُغْتَاظُ إِذَا اشْتَدَّ غَيْظُهُ وَغَضَبُهُ وَكَرِهَ أَنْ يَشْفَعَ لِمَنِ اغْتَاظَ عَلَيْهِ فَمَعْنَى الْكَلَامِ لَا شَفَاعَةَ فِي هَذَا الْكَافِرِ.
وَالْوَاوُ وَاوُ الْمَعِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ: اتْرُكْنِي مَعَهُمْ.
والْحَدِيثِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ وَتَسْمِيَتُهُ حَدِيثًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ وَأَخْبَارِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ الْآيَةَ فِي [سُورَةِ النَّجْمِ: ٥٩- ٦٠]، وَقَوْلِهِ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٨١].
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَلَى هَذَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُقَدَّرٍ فِي الذِّهْنِ مِمَّا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْبَعْثِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ الْآيَة [الْقَلَم: ٤٢].