التَّحَدِّي سَلِيمًا مِنَ الْقَادِحِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَاهَدْ أَوْضَاعَ اللُّغَةِ فَهُوَ مِنْ تَعَاهُدِ النَّظْمِ وَالْبَلَاغَةِ
عَلَى مَرَاحِلَ» (١).
وَلِعِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالْمَعَانِي مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُمَا وَسِيلَةٌ لِإِظْهَارِ خَصَائِصِ الْبَلَاغَةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْمَعَانِي وَإِظْهَارِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَانِ الْعِلْمَانِ يُسَمَّيَانِ فِي الْقَدِيمِ عِلْمَ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«عِلْمُ التَّفْسِيرِ الَّذِي لَا يَتِمُّ لِتَعَاطِيهِ وَإِجَالَةِ النَّظَرِ فِيهِ كُلُّ ذِي عِلْمٍ، فَالْفَقِيهُ وَإِنْ بَرَزَ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي عِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ، والمتكلم وَإِن بز أَهْلَ الدُّنْيَا فِي صِنَاعَةِ الْكَلَامِ، وَحَافِظُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ وَإِنْ كَانَ مِنِ ابْنِ الْقَرْيَةِ أَحْفَظَ، وَالْوَاعِظُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَوْعَظَ، وَالنَّحْوِيُّ وَإِنْ كَانَ أَنْحَى مِنْ سِيبَوَيْهِ، وَاللُّغَوِيُّ وَإِنْ عَلَكَ اللُّغَاتِ بِقُوَّةِ لَحْيَيْهِ، لَا يَتَصَدَّى مِنْهُمْ أَحَدٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ الطَّرَائِقِ، وَلَا يَغُوصُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، إِلَّا رَجُلٌ قَدْ بَرَعَ فِي عِلْمَيْنِ مُخْتَصَّيْنِ بِالْقُرْآنِ وَهُمَا عِلْمَا الْبَيَانِ وَالْمَعَانِي اهـ» (٢).
وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّمَرِ [٦٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ:
«وَكَمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ التَّنْزِيلِ وَحَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ، قَدْ ضِيمَ وَسِيمَ الْخَسْفَ، بِالتَّأْوِيلَاتِ الْغَثَّةِ، وَالْوُجُوهِ الرَّثَّةِ، لِأَنَّ مَنْ تَأَوَّلَهَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ عِيرٍ وَلَا نَفِيرٍ، وَلَا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْهُ مِنْ دَبِيرٍ» يُرِيدُ بِهِ عِلْمَ الْبَيَانِ.
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ «الْمِفْتَاحِ» :«وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ عَلَى تَمَامِ مُرَادِ الْحَكِيمِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ مِنْ كَلَامِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَى هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ (الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ) كُلَّ الِافْتِقَارِ، فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ تَعَاطَى التَّفْسِيرَ وَهُوَ فِيهِمَا رَاجِلٌ».
قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي «شَرْحِهِ» :«وَلَا شَكَّ أَنَّ خَوَاصَّ نَظْمِ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ بَلِيغًا سَلِيقَةً، مِنْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ. وَقَدْ أَصَابَ (السَّكَّاكِيُّ) بِذِكْرِ الْحَكِيمِ الْمَحَزِّ، أَيْ أَصَابَ الْمَحَزَّ إِذْ خَصَّ بِالذِّكْرِ هَذَا الِاسْمَ مِنْ بَيْنِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، لِأَنَّ كَلَامَ الْحَكِيمِ يَحْتَوِي عَلَى مَقَاصِدَ جَلِيلَةٍ وَمَعَانِي غَالِيَةٍ، لَا يَحْصُلُ الِاطِّلَاعُ عَلَى جَمِيعِهَا أَوْ مُعْظَمِهَا إِلَّا بَعْدَ التَّمَرُّسِ بِقَوَاعِدِ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ الْمُفْرَغَةِ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ يُنَبِّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلَكِنَّهُ قَدْ يَغْفُلُ عَنْهُ،
_________
(١) اُنْظُرْهُ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٥].
(٢) ديباجة «الْكَشَّاف»
.
وَهَذَا رَدٌّ مُتَمَكِّنٌ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْكَامِلَةَ الَّتِي هِيَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيْ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ تَسْتَلْزِمُ الْعِصْمَةَ مِنْ وُقُوعِ الْجَمِيعِ فِي الْخَطَأِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ لَوْ كَانَ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بَاطِلٌ لَانْثَلَمَتْ عَدَالَتُهُمُ اهـ، يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتِ الْعَدَالَةَ الْكَامِلَةَ لِاجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَوْ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَمْرٍ بَاطِلٍ لَانْثَلَمَتْ عَدَالَتُهُمْ أَيْ كَانَتْ نَاقِصَةً وَذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ قَالَ جَمَاعَةٌ الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ وَهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى خَطَأٍ فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ عَدَالَةَ الصَّحَابَةِ لَا تُنَافِي الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ وَقَدْ يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ عَنِ اجْتِهَادٍ أَمَّا إِجْمَاعُهُمْ عَلَى مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ فَيَنْدَرِجُ فِيمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ فِيهَا مَدْحٌ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا لَا لِخُصُوصِ عُلَمَائِهَا فَلَا مَعْنًى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا مِنْ هَاتِهِ الْجِهَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِ الْأُمَّةِ لَا مِنْ أَحْوَالِ جَمِيعِهَا، فَالْوَجْهُ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ لِلشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ وَبِمَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نِسْبَةِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ صفة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا هُوَ تَشْرِيعٌ مُؤَصَّلٌ أَوْ بَيَانٌ مُجْمَلٌ مِثْلُ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَالرَّكَعَاتِ وَصِفَةِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَمِثْلُ نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا
مِنْ أَحْوَالِ إِثْبَاتِ الشَّرِيعَةِ، بِهِ فُسِّرَتِ الْمُجْمَلَاتُ وَأُسِّسَتِ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالُوا بِكَفْرِ جَاحِدِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهُ (١)، وَهُوَ الَّذِي اعْتَبَرَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وِفَاقَ الْعَوَامِّ وَاعْتَبَرَ فِيهِ غَيْرُهُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ الَّذِي يَصِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا (٢).
وَأَمَّا كَوْنُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ إِنَّ الْآيَةَ يُسْتَأْنَسُ بِهَا لِذَلِكَ فَإِنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا وَعَلِمْنَا أَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْخِيَارُ الْعَدْلُ الْخَارِجُ مِنْ بَيْنِ طَرَفَيْ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ عُقُولَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا تُنَشَّأُ عَلَيْهِ عُقُولُهُمْ مِنَ الِاعْتِيَادِ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَمُجَانَبَةِ الْأَوْهَامِ السَّخِيفَةِ الَّتِي سَاخَتْ فِيهَا عُقُولُ الْأُمَمِ، وَمِنَ الِاعْتِيَادِ بِتَلَقِّي الشَّرِيعَةِ مِنْ طُرُقِ الْعُدُولِ وَإِثْبَاتِ أَحْكَامِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ اسْتِنْبَاطًا بِالنِّسْبَةِ لِلْعُلَمَاءِ وَفَهْمًا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامَّةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ عُقُولَ أَفْرَادِ هَاتِهِ الْأُمَّةِ عُقُولٌ قَيِّمَةٌ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا وَسَطًا، ثُمَّ هَذِهِ الِاسْتِقَامَةُ تَخْتَلِفُ بِمَا يُنَاسِبُ كُلَّ طَبَقَةٍ مِنَ الْأُمَّةِ وَكُلَّ فَرْدٍ، وَلَمَّا كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي ذُكِرَ
_________
(١) انْظُر «حَاشِيَة الْعَطَّار على جمع الْجَوَامِع» (٢/ ٢٣٨)، دَار الْكتب العلمية، و «تيسير التَّحْرِير» (٣/ ٢٥٩، ط مصطفى الْحلَبِي.
(٢) قَالَ الْغَزالِيّ: «يجب على الْمُجْتَهد أَن ينظر أول شَيْء فِي الْإِجْمَاع، فَإِن وجد فِي الْمَسْأَلَة إِجْمَاعًا ترك النّظر فِي الْكتاب وَالسّنة فَإِنَّهُمَا يقبلان النّسخ وَالْإِجْمَاع لَا يقبله، فالإجماع على خلاف مَا فِي الْكتاب وَالسّنة دَلِيل قَاطع على النّسخ إِذْ لَا تَجْتَمِع الْأمة على الْخَطَأ» انْظُر «الْمُسْتَصْفى» مَعَ «مُسلم الثُّبُوت» (٢/ ٣٩٢، دَار صادر.
أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مُدَبِّرَ الْكَوْنِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَعَلُوا آلِهَتَهُمْ شُفَعَاءَ وَشُرَكَاءَ وَمُقْتَسِمِينَ أُمُورَ الْقَبَائِلِ. وَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْيُونَانِ كَانُوا قَدْ جَعَلُوا لِكُلِّ إِلَهٍ مِنْ آلِهَتِهِمْ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَأُمَمًا مِنَ الْبَشَرِ تَنْتَمِي إِلَيْهِ وَيَحْنَأُ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ «اللَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» وَلِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا، فَالْجُمْلَةُ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِمَعْنَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
والسّنة فِعْلَةٌ مِنَ الْوَسَنِ، وَهُوَ أَوَّلُ النَّوْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْلهَا اسْم هيأة كَسَائِرِ مَا جَاءَ عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ من الواوي لفاء، وَقَدْ قَالُوا وَسَنَةٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى صِيغَةِ الْمَرَّةِ. وَالسِّنَةُ أَوَّلُ النَّوْمِ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ الرِّقَاعِ:

وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وَالنَّوْمُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ فُتُورٌ يَعْتَرِي أَعْصَابَ الدِّمَاغِ مِنْ تَعَبِ إِعْمَالِ الْأَعْصَابِ من
تَصَاعُدِ الْأَبْخِرَةِ الْبَدَنِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْهَضْمِ وَالْعَمَلِ الْعَصَبِيِّ، فَيَشْتَدُّ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ وَمَجِيءِ الظُّلْمَةِ فَيَطْلُبُ الدِّمَاغُ وَالْجِهَازُ الْعَصَبِيُّ الَّذِي يُدَبِّرُهُ الدِّمَاغُ اسْتِرَاحَةً طَبِيعِيَّةً فَيَغِيبُ الْحِسُّ شَيْئًا فَشَيْئًا وَتَثْقُلُ حَرَكَةُ الْأَعْضَاءِ، ثُمَّ يَغِيبُ الْحِسُّ إِلَى أَنْ تَسْتَرْجِعَ الْأَعْصَابُ نَشَاطَهَا فَتَكُونَ الْيَقَظَةُ.
وَنَفْيُ اسْتِيلَاءِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تَحْقِيقٌ لِكَمَالِ الْحَيَاةِ وَدَوَامِ التَّدْبِيرِ، وَإِثْبَاتٌ لِكَمَالِ الْعِلْمِ فَإِنَّ السِّنَةَ وَالنَّوْمَ يُشْبِهَانِ الْمَوْتَ، فَحَيَاةُ النَّائِمِ فِي حَالِهِمَا حَيَاةٌ ضَعِيفَةٌ، وَهُمَا يَعُوقَانِ عَنِ التَّدْبِيرِ وَعَنِ الْعِلْمِ بِمَا يَحْصُلُ فِي وَقْتِ اسْتِيلَائِهِمَا عَلَى الْإِحْسَاسِ.
وَنَفْيُ السِّنَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُغْنِي عَنْ نَفْيِ النَّوْمِ عَنْهُ لِأَنَّ مِنَ الْأَحْيَاءِ مَنْ لَا تَعْتَرِيهِ السِّنَةُ فَإِذَا نَامَ نَامَ عَمِيقًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَأْخُذُهُ السِّنَةُ فِي غَيْرِ وَقْتِ النَّوْمِ غَلَبَةً، وَقَدْ تَمَادَحَتِ الْعَرَبُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى السَهَرِ، قَالَ أَبُو كَبِيرٍ:
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِتَأْمِينِ دَاخِلِهِ مِنْ أَنْ يُصَابَ بِأَذًى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالشَّعْبِيِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّائِرُونَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَحْمَلِ الْعَمَلِ بِهَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ:
هَذَا حُكْمٌ نُسِخَ يَعْنُونَ نَسَخَتْهُ الْأَدِلَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا. رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ، أنّه قَالَ لعَمْرو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ- أَيْ لِحَرْبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ-: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ لَا يحلّ لامرىء يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يُعْضَدَ بِهَا شَجَرَةٌ. فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ:
إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»
. قَالَ: فَقَالَ لِي عَمْرٌو: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ (الْخَرْبَةُ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- الْجِنَايَةُ وَالْبَلِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى النَّاسِ) وَبِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِأَنْ يُقْتَلَ ابْنُ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّ مَنْ أَصَابَ جِنَايَةً فِي الْحَرَمِ أَوْ خَارِجَهُ ثُمَّ عَاذَ بِالْحَرَمِ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَرَمِ وَيُقَادُ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ الْأَرْبَعَةُ: لَا يُقْتَصُّ فِي الْحَرَمِ مِنَ اللَّاجِئِ إِلَيْهِ من خَارجه مَا دَامَ فِيهِ ولكنّه لَا يُبَايَعُ وَلَا يُؤَاكَلُ وَلَا يُجَالَسُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ. وَيَرْوُونَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمَنْ ذَكَرْنَاهُ مَعَهُمَا آنِفًا.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: «مَنْ كَانَ خَائِفًا مِنَ الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِآمِنٍ وَلَا تَجُوزُ إِذَايَتُهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ مُكَالَمَتِهِ».
وَالْإِرَادَةُ: الْقَصْدُ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُخَصِّصُ الْمُمْكِنَ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وَالِامْتِنَانُ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ تَوْضِيحِ الْأَحْكَامِ قَدْ حَصَلَتْ إِرَادَتُهُ فِيمَا مضى، وإنّا عُبِّرَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ هُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْبَيَانِ وَاسْتِمْرَارِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّشْرِيعَاتِ دَائِمَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ تَكُونُ بَيَانًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُبْقِي بَعْدَهَا بَيَانًا مُتَعَاقِبًا.
وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ انتصب فعل (لِيُبَيِّنَ) بِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ مَحْذُوفَةٍ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَفْعُولُ (يُرِيدُ)، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لَكُمْ وَالْهُدَى وَالتَّوْبَةَ، فَكَانَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ ذِكْرَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَاللَّامُ هُنَا لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَقَدْ شَاعَتْ زِيَادَةُ هَذِهِ اللَّامُ بَعْدَ مَادَّةِ الْإِرَادَةِ وَبَعْدَ مَادَّةِ الْأَمر معاقبة لِأَن الْمَصْدَرِيَّةِ. تَقُولُ، أُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ وَأُرِيدُ لِتَفْعَلَ، وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَة: ٣٢] وَقَالَ:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفّ: ٨] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [غَافِر: ٦٦] وَقَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى: ١٥] فَإِذا جاؤوا بِاللَّامِ أَشْبَهَتْ لَامَ التَّعْلِيلِ فَقَدَّرُوا (أَنْ) بَعْدَ اللَّامِ المؤكّدة كَمَا قد روها بَعْدَ لَامِ كَيْ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي الصُّورَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ نَائِبَةٌ عَنْ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ».
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ لَامُ كَيْ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا عِلَّةٌ، وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ لِيُبَيِّنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فَيُقَدَّرُ: يُرِيدُ اللَّهُ الْبَيَانَ لِيُبَيِّنَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الْعِلَّةِ نَفْسَ الْمُعَلَّلِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: اللَّامُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْفِعْلِ السَّابِقِ،
وَذَلِكَ الْفِعْلُ مُقَدَّرٌ بِالْمَصْدَرِ دُونَ سَابِكٍ عَلَى حَدِّ «تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أَيْ إِرَادَةُ اللَّهِ كَائِنَةٌ لِلْبَيَانِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ انْحَصَرَتْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ: هَذِهِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ لَامَ التَّقْوِيَةِ إِنَّمَا يُجَاءُ بِهَا إِذَا ضَعُفَ الْعَامِلُ بِالْفَرْعِيَّةِ أَوْ بِالتَّأَخُّرِ. وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، بِدَلِيلِ دُخُولِ اللَّامِ عَلَى كَيْ فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْخَزْرَجِيِّ.
فَأَتَتْ بِهِ حُوشَ الْفُؤَادِ مُبَطَّنًا سُهُدًا إِذَا مَا نَامَ لَيْلُ الْهَوْجَلِ

فَأَعَادَ التَّشْبِيهَ بِقَوْلِهِ: (كَدُخَانِ نَارٍ) لِيُحَقِّقَ مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْأَوَّلِ. وَفِي «الْكَشَّافِ»«تَكَرَّرَ الْكُفْرُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُوسَى ثُمَّ بِعِيسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فَعُطِفَ بَعْضُ كُفْرِهِمْ عَلَى بَعْضٍ»، أَيْ فَالْكَفْرُ الثَّانِي اعْتُبِرَ مُخَالِفًا لِلَّذِي قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ قَوْلِهِ:
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُوَيْفٍ الْقَوَافِيِّ:
أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ
اللؤم أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَوَالِدِهِ وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَمَا وَلَدَا
إِذْ عَطَفَ قَوْلَهُ: (وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ الثَّانِي قَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَمَا وَلَدَا).
وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرُ بَهَتَهُ إِذَا أَتَاهُ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَا يَتَرَقَّبُهُ وَلَا يَجِدُ لَهُ جَوَابًا، وَالَّذِي يَتَعَمَّدُ
ذَلِكَ بَهُوتٌ، وَجَمْعُهُ: بُهُتٌ وَبُهْتٌ. وَقَدْ زَيَّنَ الْيَهُودُ مَا شَاءُوا فِي الْإِفْكِ عَلَى مَرْيَمَ- عَلَيْهَا السَّلَامُ-. أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَمَحَلُّ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُ: هُوَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنْ يَعُدُّوا هَذَا الْإِثْمَ فِي مَفَاخِرِ أَسْلَافِهِمُ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْإِخْلَافِ بِالْعَهْدِ الْمُبِينِ فِي سَبِيلِ نَصْرِ الدِّينِ.
وَالْمَسِيحُ كَانَ لَقَبًا لِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَقَّبَهُ بِهِ الْيَهُودُ تَهَكُّمًا عَلَيْهِ: لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسِيحِ فِي اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ بِمَعْنَى الْمَلِكِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٤٥]، وَهُوَ لَقَبٌ قَصَدُوا مِنْهُ التَّهَكُّمَ، فَصَارَ لَقَبًا لَهُ بَيْنَهُمْ.
وَقَلَبَ اللَّهُ قَصْدَهُمْ تَحْقِيرَهُ فَجَعَلَهُ تَعْظِيمًا لَهُ. وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ يُطْلِقُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ مُذَمَّمٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ: مُذَمَّمًا عَصَيْنَا، وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا.
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ (١)
_________
(١) عَن أبي هُرَيْرَة فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» فِي بَاب مَا جَاءَ فِي أَسمَاء النَّبِي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كتاب المناقب.
فَشَرَعَ اللَّهُ الْكَفَّارَةَ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَتَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِي مَعْنَى لَغْوِ الْيَمِينِ. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَة: ٨٧]، وَلَا فِي جَعْلِ مِثْلِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ الَّذِينَ نَزَلَتْ تِلْكَ الْآيَةُ فِي شَأْنِهِمْ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ. فَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ حَادِثَةَ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ أُلْحِقَتْ بِحُكْمِ لَغْوِ الْيَمِينِ فِي الرُّخْصَةِ لَهُمْ فِي التَّحَلُّلِ مِنْ أَيْمَانِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ، أَيْ مَا قَصَدْتُمْ بِهِ الْحَلِفَ. وَهُوَ يُبَيِّنُ مُجْمَلَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٥] بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَقَّدْتُمُ- بِتَشْدِيدِ الْقَافِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ- بِتَخْفِيفِ الْقَافِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ عَاقَدْتُمُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْعَيْنِ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. فَأَمَّا عَقَّدْتُمُ بِالتَّشْدِيدِ فَيُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي فِعْلِ عَقَدَ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَاقَدْتُمُ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ فِيهِ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمُبَالَغَةُ، مِثْلُ عَافَاهُ اللَّهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ فَلِأَنَّ مَادَّةَ الْعَقْدِ كَافِيَةٌ فِي إِفَادَةِ التَّثْبِيتِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ تَكُونُ عَلَى نِيَّةِ التَّوَثُّقِ بِالْيَمِينِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنِ التَّوَثُّقِ بِثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: عَقَدَ الْمُخَفَّفُ، وَعَقَّدَ الْمُشَدَّدُ، وَعَاقَدَ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ. وَالْكَفَّارَةُ مُبَالَغَةٌ فِي كَفَرَ بِمَعْنَى سَتَرَ وَأَزَالَ. وَأَصْلُ الْكَفْرِ- بِفَتْحِ الْكَافِ- السَّتْرُ. وَقَدْ جَاءَتْ فِيهَا دَلَالَتَانِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ هُمَا التَّضْعِيفُ وَالتَّاءُ الزَّائِدَةُ، كَتَاءِ نَسَّابَةٍ وَعَلَّامَةٍ. وَالْعَرَبُ يَجْمَعُونَ
بَيْنَهُمَا غَالِبًا.
وَقَوْلُهُ: إِذا حَلَفْتُمْ أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَأَرَدْتُمُ التَّحَلُّلَ مِمَّا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ
وَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الْأَنْعَام: ١١٤]. فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْإِفْرَادِ فَإِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ وَقَوْلِهِ. وَالْكَلِمَةُ وَالْكَلَامُ يَتَرَادَفَانِ، وَيَقُولُ الْعَرَبُ: كَلِمَةُ زُهَيْرٍ، يَعَنُونَ قَصِيدَتَهُ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ (الْكَلِمَاتُ) عَلَى الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الْأَعْرَاف: ١٥٨] أَيْ كُتُبِهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكَلِمَاتِ بِالْجَمْعِ فَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمَلِ وَالْآيَاتِ. أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ أَغْرَاضِهِ مِنْ أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَتَبْشِيرٍ، وَإِنْذَارٍ، وَمَوَاعِظَ، وَإِخْبَارٍ، وَاحْتِجَاجٍ، وَإِرْشَادٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمَعْنَى تَمَامِهَا أَنَّ كُلَّ غَرَضٍ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ جَاءَ وَافِيًا بِمَا يَتَطَلَّبُهُ الْقَاصِدُ مِنْهُ. وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَاتِ رَبِّكَ- بِالْجَمْعِ أَوِ الْإِفْرَادِ- الْقُرْآنَ، وَاسْتَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا:
قَوْلُ اللَّهِ، أَيْ نَفَذَ قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا أُثِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَلِمَاتُ اللَّهِ وَعْدُهُ. وَقِيلَ: كَلِمَاتُ اللَّهِ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَوَعْدُهُ، وَوَعِيدُهُ، وَفُسِّرَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ»، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، لَكِنَّ السِّيَاقَ يَشْهَدُ بِأَنَّ تَفْسِيرَ الْكَلِمَاتِ بِالْقُرْآنِ أَظْهَرُ.
وَانْتَصَبَ صِدْقاً وَعَدْلًا عَلَى الْحَالِ، عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ صَادِقَةً وَعَادِلَةً، فَهُوَ حَالٌ مِنْ كَلِمَاتُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِ التَّمَامِ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَجَعَلَهُمَا الطَّبَرِيُّ مَنْصُوبَيْنِ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ، أَيْ تَمَّتْ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَمَّ صِدْقُهَا وَعَدْلُهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِ التَّمَامِ بِمَعْنَى بُلُوغِ الشَّيْءِ أَحْسَنَ مَا يُطْلَبُ مِنْ نَوْعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا غَيْرُ صَوَابٍ. وَقُلْتُ: لَا وَجْهَ لِعَدَمِ تَصْوِيبِهِ.
وَالصِّدْقُ: الْمُطَابَقَةُ لِلْوَاقِعِ فِي الْإِخْبَارِ: وَتَحْقِيقُ الْخَبَرِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالنُّفُوذِ
فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيَشْمَلُ الصِّدْقُ كُلَّ مَا فِي كَلِمَاتِ اللَّهِ مِنْ نَوْعِ الْإِخْبَار عَن شؤون الله وشؤون الْخَلَائِقِ.
(٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا تَتَّبِعُوا [الْأَعْرَاف: ٣] وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ التَّعْرِيضُ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى وَالَّذِينَ قَصَدُوا مِنَ الْعُمُومِ. وَقَدْ ثُلِّثَ هُنَا بِتَمْحِيضِ التَّوْجِيهِ إِلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ إِهْلَاكُ الْقُرَى، دُونَ ذِكْرِ الْأُمَمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الحاقة: ٥، ٦]، لِأَنَّ الْمُوَاجِهِينَ بِالتَّعْرِيضِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْقُرَى، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ تَهْدِيدُ أَهْلِهَا بِمَا أَصَابَ الْقُرَى وَأَهْلَهَا وَلِأَنَّ تَعْلِيق فعل أَهْلَكْناها بِالْقَرْيَةِ دُونَ أَهْلِهَا لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، فَهُوَ مُغْنٍ عَنْ أَدَوَاتِ
الشُّمُولِ، فَالسَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَرْيَةِ أَهْلُهَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ وَالْمَوْعِظَةَ إِنَّمَا هِيَ بِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَنَظِيرُهَا قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يُوسُف: ٨٢] وَنَظِيرُهُمَا مَعًا قَوْلُهُ: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٦]، فَكُلُّ هَذَا مِنَ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ، وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى.
وَأُجْرِيَ الضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا عَلَى الْإِفْرَادِ وَالتَّأْنِيثِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ قَرْيَةٍ، لِيَحْصُلَ التَّمَاثُلُ بَيْنَ لَفْظِ الْمَعَادِ وَلَفْظِ ضَمِيرِهِ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلِ الْقُرْبِ، ثُمَّ أُجْرِيَتْ ضَمَائِرُ الْقَرْيَةِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَنِ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ إِلَخْ لِحُصُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَلَفْظِ مَعَادِهِ بِجُمْلَةٍ فِيهَا ضَمِيرُ مَعَادِهِ غَيْرَ لَفْظِ الْقَرْيَةِ، وَهُوَ بَأْسُنا بَياتاً لِأَنَّ (بَيَاتًا) مُتَحَمِّلٌ لِضَمِيرِ الْبَأْسِ، أَيْ مُبَيِّتًا لَهُمْ، وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى ضَمِيرِ الْقَرْيَةِ بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا فَقَالَ: أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ. وَ (كَمْ) اسْمُ حَالٍ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ وَهُوَ هُنَا خَبَرٌ عَنِ الْكَثْرَةِ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَالْإِهْلَاكُ: الْإِفْنَاءُ وَالِاسْتِئْصَالُ. وَفِعْلُ أَهْلَكْناها يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ بِحُصُولِ مَدْلُولِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي ظَاهِرِ مَعْنَاهُ.
الزَّمَانِ وَأَنَّهُ قَدْ أَصَابَ أَسْلَافَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَمْ يَجِئْهُمْ رُسُلٌ.
وَهَذِهِ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَنْبِيهِ عِبَادِهِ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ مِنْهُمُ التَّوَسُّمَ فِي الْأَشْيَاءِ وَالِاسْتِدْلَالَ بِالْعَقْلِ وَالنَّظَرَ بِالْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ
[التَّوْبَة: ١٢٦] لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَهَبَ الْإِنْسَانَ الْعَقْلَ فَقَدْ أَحَبَّ مِنْهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا يَبْلُغُ بِهِ الْكَمَالَ وَيَقِيهِ الضَّلَالَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا القَوْل صادر بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُوَ يَكُونُ دَائِرًا فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضِ فِي مُجَادَلَتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ حِينَمَا يَعِظُونَهُمْ بِمَا حَلَّ بِهِمْ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ لِيُكْشَفَ عَنْهُمُ الضُّرُّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا: يَجِيشُ فِي نُفُوسِهِمْ لِيَدْفَعُوا بِذَلِكَ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مِنْ تَوَقُّعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الضُّرُّ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذْ قَدْ كَانَ مَحْكِيًّا عَنْ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ مَيَادِينِ النُّفُوسِ وَالْأَحْوَالِ.
وَحَاصِلُ مَا دَفَعُوا بِهِ دَلَالَةَ الضَّرَّاءِ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ حَلَّ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ
لَمْ يَدْعُهُمْ رَسُولٌ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ خَطَأِ الْقِيَاسِ وَفَسَادِ الِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ بِحَصْرِ الشَّيْءِ ذِي الْأَسْبَابِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي سَبَبٍ وَاحِدٍ، وَالْغَفْلَةِ عَنْ كَوْنِ الْأَسْبَابِ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْفَارِقِ فِي قِيَاسِ حَالِهِمْ عَلَى حَالِ آبَائِهِم بِأَن آبَائِهِمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رُسُلٌ مِنَ اللَّهِ، وَأَمَّا أَقْوَامُ الرُّسُلِ فَإِنَّ الرُّسُلَ تُحَذِّرُهُمُ الْغَضَبَ وَالْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ فَتَحِيقُ بِهِمْ، أَفَلَا يَدُلُّهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ هُوَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ لَيْسَ مُنْحَصِرَ التَّرَتُّبِ عَلَى مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ بَلْ يَكُونُ أَيْضًا عَنِ الِانْغِمَاسِ فِي الضَّلَالِ الْمُبِينِ، مَعَ وُضُوحِ أَدِلَّةِ الْهُدَى لِلْعُقُولِ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ ضَلَالٌ، وَأَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ وَاضِحَةٌ لِلْعُقُولِ، فَإِذَا تَأَيَّدَتِ الدَّلَالَةُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ الْمُنْذِرِينَ قَوِيَتِ الضَّلَالَةُ بِاسْتِمْرَارِهَا، وَانْقِطَاعِ أَعْذَارِهَا، وَمِثْلُ هَذَا الْخَطَأِ يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِدَاعِي الْهَوَى وَإِلْفِ حَالِ الضَّلَالِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ لِلتَّعْقِيبِ عَنْ قَوْلِهِ: عَفَوْا، وقالُوا، بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمَا غَايَةً لِإِبْدَالِ الْحَسَنَةِ مَكَانَ السَّيِّئَةِ، وَلَا إِشْعَارَ فِيهِ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ أَخْذِهِمْ
الْجَوَابِ بِالْحُصُولِ عِنْدَ انْتِفَاءِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَام: ٢٨]. وَمُحَصِّلُ هَذَا أَنَّ مَضْمُونَ الْجَزَاءِ مُسْتَمِرُّ الْحُصُولِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فِي فَرْضِ الْمُتَكَلِّمِ، فَيَأْتِي بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنَةً الْحَالَةَ الَّتِي هِيَ عِنْدَ السَّامِعِ مَظِنَّةُ أَنْ يَحْصُلَ فِيهَا نَقِيضُ مَضْمُونِ الْجَوَابِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ طُفَيْلٍ فِي الثَّنَاءِ عَلَى بَنِي جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ:
أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَا تُلَاقِي الَّذِي لَاقَوْهُ مِنَّا لَمَلَّتِ
أَيْ فَكَيْفَ بِغَيْرِ أُمِّنَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٢٣]، وَكُنَّا أَحَلْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١١].
وَالْمَعْنَى: لَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ، أَيْ فِي وَقْتِ مَا تَوَاعَدْتُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ الْمُتَوَاعِدِينَ أَنْ لَا يَسْتَوِيَ وفاؤهما بِمَا تواعدا عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْوَفَاءِ بِهِ، أَيْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ التَّوْقِيتَ كَانَ فِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ تَقْرِيبًا يُقَدِّرُونَهُ بِأَجْزَاءِ النَّهَارِ كَالضُّحَى وَالْعَصْرِ وَالْغُرُوبِ، لَا يَنْضَبِطُ بِالدَّرَجِ وَالدَّقَائِقِ الْفَلَكِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: فَبِالْأَحْرَى وَأَنْتُمْ لَمْ تَتَوَاعَدُوا وَقَدْ أَتَيْتُمْ سَوَاءً فِي اتِّحَادِ وَقْتِ حُلُولِكُمْ فِي الْعُدْوَتَيْنِ فَاعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ بِقَدَرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ نَصْرَكُمْ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: ١٧].
وَهَذَا غَيْرُ مَا يُقَالُ، فِي تَقَارُبِ حُصُولِ حَالٍ لِأُنَاسٍ: «كَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِيعَادٍ» كَمَا قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ يَرْثِي هَلَاكَ أَحْلَافِهِ وَأَنْصَارِهِ.
جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَحَلِّ دِيَارِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِيعَادِ
فَإِنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لِلْحُصُولِ المتعاقب.
وَضمير لَاخْتَلَفْتُمْ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا شَامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: الْمُخَاطَبِينَ وَالْغَائِبِينَ، عَلَى تَغْلِيبِ الْمُخَاطَبِينَ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الضَّمَائِرِ مِثْلِهِ.
وَرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ عِنَايَتُهُ بِهِمْ وَإِكْرَامُهُ إِيَّاهُمْ وَدِفَاعُهُ أَعْدَاءَهُمْ، وَأَمَّا رِضَاهُمْ عَنْهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ حَتَّى رَضِيَتْ نُفُوسُهُمْ لِمَا أَعْطَاهُمْ رَبُّهُمْ.
وَالْإِعْدَادُ: التَّهْيِئَةُ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى جَرْيِ الْأَنْهَارِ.
وَقَدْ خَالَفَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ مُعْظَمِ الْقُرَّاءِ أَخَوَاتِهَا فَلَمْ تُذْكَرْ فِيهَا (مِنْ) مَعَ (تَحْتِهَا) فِي غَالِبِ الْمَصَاحِفِ وَفِي رِوَايَةِ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ، فَتَكُونُ خَالِيَةً مِنَ التَّأْكِيدِ إِذْ لَيْسَ لِحَرْفِ (مِنْ) مَعْنًى مَعَ أَسْمَاءِ الظُّرُوفِ إِلَّا التَّأْكِيدُ، وَيَكُونُ خُلُوُّ الْجُمْلَةِ مِنَ التَّأْكِيدِ لِحُصُولِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ إِفَادَةِ التَّقَوِّي بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، وَمِنْ فِعْلِ (أَعَدَّ) الْمُؤْذِنِ بِكَمَالِ الْعِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ الْمُعَدُّ إِلَّا أَكْمَلَ نَوْعِهِ.
وَثَبَتَتْ (مِنْ) فِي مُصْحَفِ مَكَّةَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ الْمَكِّيِّ، فَتَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى زِيَادَة مؤكدين.
[١٠١]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٠١]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
كَانَتِ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ قَدْ خَلَصُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطَاعُوهُ وَهُمْ جُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَأَشْجَعُ، وَغِفَارٌ، وَلِحْيَانُ، وَعُصَيَّةُ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِي هَؤُلَاءِ مُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِكُلِّ مَنْ يُظْهِرُ لَهُ الْمَوَدَّةَ.
وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ قَدْ خَلَصَ أَهْلُهَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطَاعُوهُ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِيهِمْ بَقِيَّةً مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لِأَنَّهُ تَأَصَّلَ فِيهِمْ مِنْ وَقْتِ دُخُولِ الْإِسْلَامِ بَيْنَهُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، لَا نَعْتٌ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ لِلتَّبْعِيضِ وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْأَعْرابِ لِبَيَانِ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ.
وَلِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ إِلَى تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى مَكْرِ أُولَئِكَ، وَأَنَّهُ وَكِيلٌ عَلَى جَزَائِهِمْ وَأَنَّ اللَّهُ عَالِمٌ بِبَذْلِ النَّبِيءِ جُهْدَهُ فِي التَّبْلِيغ.
[١٣]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٣]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)
أَمْ هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلِ) الَّتِي لِلْإِضْرَابِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، إِلَّا أَنَّ (أَمْ) مُخْتَصَّةٌ بِالِاسْتِفْهَامِ فَتُقَدَّرُ بَعْدَهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَيَقُولُونَ افتراه.
والإضراب انتقالي فِي قُوَّةِ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ، فَلِلْجُمْلَةِ حُكْمُ الِاسْتِئْنَافِ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا كَلَامٌ مُفْتَرًى، وَقَرَّعَهُمْ بِالْحُجَّةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ.
وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِصَاحِبِهِ، فَهُوَ الْكَذِبُ عَنْ عَمْدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٠٣].
وَجُمْلَةُ قُلْ فَأْتُوا جَوَابٌ لِكَلَامِهِمْ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَلَى مَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُحَاوَرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ حِكَايَةُ الْمُحَاوِرَةِ بِصِيغَةِ حِكَايَةِ الْقَوْلِ أَوْ كَانَتْ أَمْرًا بِالْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَة: ٣٠]. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (افْتَرَاهُ) عَائِدٌ إِلَى النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ [هود: ١٢]. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ الْبَارِزِ الْمَنْصُوبِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ:
بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ [هود: ١٢].
وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ: جَلْبُهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِالِاسْتِرْفَادِ مِنَ الْغَيْرِ أَمْ بِالِاخْتِرَاعِ مِنَ الْجَالِبِ وَهَذَا تَوْسِعَةٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّحَدِّي.
وَلَعَلَّ سَبَبَ إِطْلَاقِ فِعْلِ الْإِعْطَاءِ أَنَّ الْحَالِفَ كَانَ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ يُعْطِي الْمَحْلُوفَ لَهُ شَيْئًا تَذْكِرَةً لِلْيَمِينِ مِثْلَ سَوْطِهِ أَوْ خَاتَمِهِ، أَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ عِنْدَ صَاحِبِ الْحَقِّ ضَمَانًا يَكُونُ رَهِينَةً عِنْدَهُ. وَكَانَتِ الْحمالَة طَريقَة للتوثق فَشَبَّهَ الْيَمِينَ بِالْحَمَالَةِ. وَأَثْبَتَ لَهُ الْإِعْطَاءَ وَالْأَخْذَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ ضِدُّ ذَلِكَ فِي إبِْطَال التَّوَثُّق يُقَالُ: رَدَّ عَلَيْهِ حِلْفَهُ.
وَالْمَوْثِقُ: أَصْلُهُ مصدر ميمي للتوثّق، أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ مَا بِهِ التَّوَثُّقُ، يَعْنِي الْيَمِينَ.
ومِنَ اللَّهِ صِفَةٌ لِ مَوْثِقاً، ومِنَ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ مَوْثِقًا صَادِرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلُوا اللَّهَ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ فِيمَا وَعَدُوا بِهِ بِأَنْ يَحْلِفُوا بِاللَّهِ فَتَصِيرُ شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَتَوَثُّقٍ صَادِرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا: لَكَ مِيثَاقُ اللَّهِ أَوْ عَهْدُ
اللَّهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يُضَافُ الْمِيثَاقُ وَالْعَهْدُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ كَأَنَّ الْحَالِفَ اسْتَوْدَعَ اللَّهَ مَا بِهِ التَّوَثُّقُ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ.
وَجُمْلَةُ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَوْثِقاً. وَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلٍ يَقُولُهُ أَبْنَاؤُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمْ إِيقَاعُهُ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُمْ لَوْ نَطَقُوا بِالْقَسَمِ لَقَالُوا: لَنَأْتِيَنَّكَ بِهِ، فَلَمَّا حَكَاهُ هُوَ رَكَّبَ الْحِكَايَةَ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ كَلَامُهُمْ وَبِالضَّمَائِرِ الْمُنَاسِبَةِ لِكَلَامِهِ بِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: ١١٧]، وَإِنَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: قُلْ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ.
وَمَعْنَى يُحاطَ بِكُمْ يُحِيطُ بِكُمْ مُحِيطٌ وَالْإِحَاطَةُ: الْأَخْذُ بِأَسْرٍ أَوْ هَلَاكٍ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِمْ، وَأَصْلُهُ إِحَاطَةُ الْجَيْشِ فِي الْحَرْبِ، فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا يُسْتَطَاعُ التَّغَلُّبُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [سُورَة يُونُس:
٢٢].
وَالنُّزُولُ: التَّدَلِّي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا انْتِقَالُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ نُزُولًا مَخْصُوصًا. وَهُوَ نُزُولُهُمْ لِتَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ بِعَذَابٍ يُرْسِلُهُ عَلَى
الْكَافِرِينَ، كَمَا أُنْزِلُوا إِلَى مَدَائِنِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلَيْسَ مِثْلَ نُزُولِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِالشَّرَائِعِ أَوْ بِالْوَحْيِ. قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ زَكَرِيَّاءَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [سُورَة آل عمرَان: ٣٩].
وَالْمُرَادُ بِ «الْحَقِّ» هُنَا الشَّيْءُ الحاقّ، أَي الْمُقْتَضِي، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْمَقْضِيِّ. وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ الْعَذَابُ الْحَاقُّ. قَالَ تَعَالَى:
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [سُورَة الْحَج: ١٨] وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ، أَيْ لَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ لِلنَّاسِ غَيْرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ. عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَّا مُصَاحِبِينَ لِلْعَذَابِ الْحَاقِّ عَلَى النَّاسِ كَمَا تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ. وَلَوْ تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لَعُجِّلَ لِلْمُنْزَلِ عَلَيْهِمْ وَلَمَا أُمْهِلُوا.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ مُنْظِرُهُمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ اسْتِئْصَالَهُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَشْرُ الدِّينِ بِوَاسِطَتِهِمْ فَأَمْهَلَهُمْ حَتَّى اهْتَدَوْا، وَلَكِنَّهُ أَهْلَكَ كُبَرَاءَهُمْ وَمُدَبِّرِيهِمْ.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨] : وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ. وَقَدْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بدر يقطعون رُؤُوس الْمُشْرِكِينَ.
وَالْإِنْظَارُ: التَّأْخِيرُ وَالتَّأْجِيلُ.
وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاء. وَقد وسطت هُنَا بَيْنَ جُزْأَيْ جَوَابِهَا رَعْيًا لِمُنَاسَبَةِ عَطْفِ جوابها على قَول: مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ. وَكَانَ شَأْنُ (إِذَنْ) أَنْ تَكُونَ فِي صَدْرِ جَوَابِهَا. وَجُمْلَتُهَا هِيَ الْجَوَابُ الْمَقْصُود لقَولهم: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [سُورَة الْحجر:
٧]. وَجُمْلَة مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِأَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلْجَوَابِ، فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي الرَّدِّ، وَلِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِإِيجَازِ الْجَوَابِ.
وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ سَائِحًا نَصْرَانِيًّا اسْمَهُ (ارْكُولْفَ) زَارَ الْقُدْسَ سَنَةَ ٦٧٠ م، أَيْ بَعْدِ خِلَافَةِ عُمَرَ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَزَعَمَ أَنَّهُ رَأَى مَسْجِدًا بَنَاهُ عُمَرُ عَلَى شَكْلٍ مُرَبَّعٍ مِنْ أَلْوَاحٍ وَجُذُوعِ أَشْجَارٍ ضَخْمَةٍ وَأَنَّهُ يَسَعُ نَحْوَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ. (١)
وَالظَّاهِرُ أَنَّ نِسْبَةً الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهْمٌ مِنْ أَوْهَامِ النَّصَارَى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ كَشْفُ عُمَرَ مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ فَظَنُّوهُ بِنَاءً. وَإِذَا صَدَقَ ارْكُولْفُ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ رَأَى مَكَانًا مُرَبَّعًا مِنْ أَلْوَاحٍ وَعَمَدِ أَشْجَارٍ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ مُسْلِمُو الْبِلَادِ لِصِيَانَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ عَنِ الِامْتِهَانِ.
وَقَوْلُهُ الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صِفَةٌ لِلْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَجِيءَ فِي الصِّفَةِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِقَصْدِ تَشْهِيرِ الْمَوْصُوفِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْمَوْصُوفَ مُشْتَهَرٌ بِالصِّلَةِ عِنْدَ السَّامِعِينَ.
وَالْمَقْصُودُ إِفَادَةُ أَنَّهُ مُبَارَكٌ حَوْلَهُ.
وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَكْثِيرِ الْفِعْلِ، مِثْلُ عَافَاكَ اللَّهُ.
وَالْبَرَكَةُ: نَمَاءُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِوَفْرَةِ الثَّوَابِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ وبإجابة دُعَاءِ الدَّاعِينَ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِي [آلِ عِمْرَانَ: ٩٦].
وَقَدْ وُصِفَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [آل عمرَان: ٩٦].
وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَصْفِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ هَذَا التَّبْرِيكِ أَنَّ شُهْرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْبَرَكَةِ وَبِكَوْنِهِ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فَقَدْ تَنَاسَى النَّاسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالْعَرَبُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَالنَّصَارَى عَفَّوْا أَثَرَهُ مِنْ كَرَاهِيَتِهِمْ لِلْيَهُودِ، وَالْيَهُودُ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْهُ وَأَيِسُوا مِنْ عَوْدِهِ إِلَيْهِمْ، فَاحْتِيجَ إِلَى الْإِعْلَامِ بِبَرَكَتِهِ.
_________
(١) مقَال حَرَّره عَارِف عَارِف فِي الْجُمْلَة الْمُسَمَّاة رِسَالَة الْعلم بالمملكة الأردنية فِي عدد ٢ من السّنة ١٢ كانون الأول سنة ١٩٦٨.
وَيَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يُحْمَلَ الْقَرْنَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُمَا عَلَى التَّشْبِيهِ أَوْ عَلَى الصُّورَةِ.
فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَا ذُؤَابَتَيْنِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ مُتَدَلِّيَتَيْنِ، وَإِطْلَاقُ الْقَرْنِ عَلَى الضَّفِيرَةِ مِنَ الشَّعْرِ شَائِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي صِفَةِ غُسْلِ ابْنة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: «فَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ»، فَيَكُونُ هَذَا الْمَلِكُ قَدْ أَطَالَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَضَفَّرَهُ ضَفِيرَتَيْنِ فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، كَمَا سُمِّيَ خِرْبَاقُ ذَا الْيَدَيْنِ.
وَقِيلَ: هُمَا شِبْهُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ مِنْ نُحَاسٍ كَانَا فِي خُوذَةِ هَذَا الْمَلِكِ فَنُعِتَ بِهِمَا.
وَقِيلَ: هُمَا ضَرْبَتَانِ عَلَى مَوْضِعَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْإِنْسَانِ يُشْبِهَانِ مَنْبَتَيِ الْقَرْنَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُونِ.
وَمِنْ هُنَا تَأْتِي الْأَقْوَالُ فِي تَعْيِينِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَأَحَدُ الْأَقْوَالِ: أَنَّهُ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِيبُوسَ الْمَقْدُونِيُّ. وَذَكَرُوا فِي وَجْهِ تَلْقِيبِهِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَّهُ ضَفَّرَ شَعْرَهُ قَرْنَيْنِ. وَقِيلَ: كَانَ
يَلْبَسُ خُوذَةً فِي الْحَرْبِ بِهَا قَرْنَانِ، وَقِيلَ: رَسَمَ ذَاتَهُ عَلَى بَعْضِ نُقُودِهِ بِقَرْنَيْنِ فِي رَأْسِهِ تَمْثِيلًا لِنَفْسِهِ بِالْمَعْبُودِ (آمَوُنَ) مَعْبُودِ الْمِصْرِيِّينَ وَذَلِكَ حِينَ مَلَكَ مِصْرَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ هُوَ تُبَّعٌ أَبُو كَرِبٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَأَنَّهُ (أَفْرِيدُونُ بْنُ أَثْفِيَانَ بْنِ جَمْشِيدَ). هَذِهِ أَوْضَحُ الْأَقْوَالِ، وَمَا دُونَهَا لَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَلَا تَصْحِيحُ رِوَايَتِهِ.
وَنَحْنُ تُجَاهَ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَحِقُّ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَخْلِصَ مِنْ قِصَّتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْوَالًا تُقَرِّبُ تَعْيِينَهُ وَتَزْيِيفَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَلَيْسَ يَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْيِينِهِ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَلِ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَوْسَعُ.
عَنْهُمْ فِي تَقْرِيرِهِ وَجُعِلَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ إِلَى كُلِّ سَامِعٍ وَجُعِلُوا فِيهِ مُعَبَّرًا عَنْهُمْ بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ، وَلَمَّا أُرِيدَ تَجْهِيلُهُمْ وَإِلْجَاؤُهُمْ إِلَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ غُيِّرَ الْكَلَامُ إِلَى الْخِطَابِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيعًا لَهُم بتجهيلهم.
[٨]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٨]
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨)
الْجَسَدُ: الْجِسْمُ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ، وَهُوَ يُرَادِفُ الْجُثَّةَ. هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقين من أيمة اللُّغَةِ مِثْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً [طه:
٨٨]. وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص: ٣٤]. قِيلَ هُوَ شِقُّ غُلَامٍ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَدَتْهُ إِحْدَى نِسَائِهِ، أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ أَجْرَامًا غَيْرَ مُنْبَثَّةٍ فِيهَا الْأَرْوَاحُ بِحَيْثُ تَنْتَفِي عَنْهُمْ صِفَاتُ الْبَشَرِ الَّتِي خَاصَّتُهَا أَكْلُ الطَّعَامِ، وَهَذَا رَدٌّ لما يَقُولُونَهُ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] مَعَ قَوْلِهِمْ هُنَا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣].
وَذِكْرُ الْجَسَدِ يُفِيدُ التَّهَكُّمَ بِالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لما قَالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧]، وَسَأَلُوا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ الْأَوَّلُونَ كَانَ مُقْتَضَى أَقْوَالِهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ
كَانُوا فِي صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ لَكِنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَأَكْلُ الطَّعَامِ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، فَلَزِمَهُمْ لَمَّا قَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِأَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا أَجْسَادًا بِلَا أَرْوَاحٍ، وَهَذَا مِنَ السَّخَافَةِ بِمَكَانَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا خالِدِينَ فَهُوَ زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ لِتَحْقِيقِ بَشَرِيَّتِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِمَا هُوَ وَاقِعٌ مِنْ عَدَمِ كَفَاءَةِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، لِقَطْعِ مَعَاذِيرِ الضَّالِّينَ، فَإِنْ زَعَمُوا أَنْ قَدْ كَانَ الرُّسُلُ
وَذَكَرَتِ الْخُشُوعَ وَهُوَ تَمَامُ الطَّاعَةِ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَعْمَلُ الطَّاعَةَ لِلْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ غَيْرَ مُسْتَحْضِرٍ خُشُوعًا لِرَبِّهِ الَّذِي كَلَّفَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِذَا تَخَلَّقَ الْمُؤْمِنُ بِالْخُشُوعِ اشْتَدَّتْ مُرَاقَبَتُهُ رَبَّهُ فَامْتَثَلَ وَاجْتَنَبَ. فَهَذَانِ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ.
وَذَكَرَتِ الْإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ، وَاللَّغْوُ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ الْمُتَعَلِّقِ بِاللِّسَانِ الَّذِي يَعْسُرُ إِمْسَاكُهُ فَإِذَا تَخَلَّقَ الْمُؤْمِنُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ فَقَدْ سَهُلَ عَلَيْهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ خُلُقٌ لِلسَّمْعِ أَيْضًا كَمَا عَلِمْتَ.
وَذَكَرَتْ إِعْطَاءَ الصَّدَقَاتِ وَفِي ذَلِكَ مُقَاوَمَةُ دَاءِ الشُّحِّ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: ١٦].
وَذَكَرَتْ حِفْظَ الْفَرْجِ، وَفِي ذَلِكَ خُلُقُ مُقَاوَمَةِ اطِّرَادِ الشَّهْوَةِ الْغَرِيزِيَّةِ بِتَعْدِيلِهَا وَضَبْطِهَا وَالتَّرَفُّعِ بِهَا عَنْ حَضِيضِ مُشَابَهَةِ الْبَهَائِمِ فَمَنْ تَخَلَّقَ بِذَلِكَ فَقَدْ صَارَ كَبْحُ الشَّهْوَةِ مَلَكَةً لَهُ وَخُلُقًا.
وَذَكَرَتْ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ وَهُوَ مَظْهَرٌ لِلْإِنْصَافِ وَإِعْطَاءِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ وَمُغَالَبَةِ شَهْوَةِ النَّفْسِ لِأَمْتِعَةِ الدُّنْيَا.
وَذَكَرَتِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَهُوَ مَظْهَرٌ لِخُلُقِ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ بِأَنْ يَبْذُلَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْوَفَاءِ.
وَذَكَرَتِ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَهُوَ التخلق بالعناية بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحُدُودِ وَالْمَوَاقِيتِ وَذَلِكَ يَجْعَلُ انْتِظَامَ أَمْرِ الْحَيَاتَيْنِ مَلَكَةً وَخُلُقًا رَاسِخًا.
وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْخِصَالَ وَجَدْتَهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَا مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ إِهْمَالُهُ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالْخُشُوعِ وَتَرْكِ اللَّغْوِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَحِفْظِ الْعَهْدِ، وَإِلَى بَذْلِ مَا مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ إِمْسَاكُهُ مِثْلَ الصَّدَقَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
فَكَانَ فِي مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَعْمَالُ مَلَكَتَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَهُمَا مَنْبَعُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ لِمَنْ تَتَبَّعَهَا.
فَخَوْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَةِ رَسُولِنَا مِنَ الْأُمِّيَّةِ وَحَالَةِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا طَائِلَ فِيهِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ لَمْ تَنْزِلْ أَسْفَارًا تَامَّةً قَطُّ.
ونُزِّلَ هُنَا مُرَادِفُ أُنْزِلَ وَلَيْسَ فِيهِ إِيذَانٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّفْعِيلُ مِنَ التَّكْثِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: جُمْلَةً واحِدَةً.
وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ رَدًّا عَلَى طَعْنِهِمْ، فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ فِيهِ رَدٌّ لِمَا أَرَادُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً وَعَدَلَ فِيهِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِعْلَامًا لَهُ بِحِكْمَةِ تَنْزِيلِهِ مُفَرَّقًا، وَفِي ضِمْنِهِ امْتِنَانٌ عَلَى الرَّسُولِ بِمَا فِيهِ تَثْبِيتُ قَلْبِهِ وَالتَّيْسِيرُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْإِنْزَالِ الْمَفْهُوم من «لَو نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ» وَهُوَ حَالَةُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ، أَيِ الْمُنَجَّمِ، أَيْ كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ الَّذِي جَهِلُوا حِكْمَتَهُ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالًا كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ الْمُنَجَّمِ. فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ كَذلِكَ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ فِي الْمُحَاوَرَةِ. وَاللَّامُ فِي لِنُثَبِّتَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَذلِكَ. وَالتَّثْبِيتُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ثَابِتًا.
وَالثَّبَاتُ: اسْتِقْرَارُ الشَّيْءِ فِي مَكَانِهِ غَيْرَ مُتَزَلْزِلٍ قَالَ تَعَالَى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ
[إِبْرَاهِيم: ٢٤]. وَيُسْتَعَارُ الثَّبَاتُ لِلْيَقِينِ وَلِلِاطْمِئْنَانِ بِحُصُولِ الْخَيْرِ لِصَاحِبِهِ قَالَ تَعَالَى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النِّسَاء: ٦٦]، وَهِيَ اسْتِعَارَاتٌ شَائِعَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ حُصُولِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي النَّفْسِ بِاضْطِرَابِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَالْفُؤَادُ: هُنَا الْعَقْلُ. وَتَثْبِيتُهُ بِذَلِكَ الْإِنْزَالِ جَعْلُهُ ثَابِتًا فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ لَا يَضْطَرِبُ فِيهِ.
وَجَاءَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ وَهِيَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لِأَنَّ تَثْبِيتَ الْفُؤَادِ يَقْتَضِي كُلَّ مَا بِهِ خَيْرٌ لِلنَّفْسِ، فَمِنْهُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي تَفْرِيقِهِ أَنْ نُقَوِّيَ بِتَفْرِيقِهِ فُؤَادَكَ حَتَّى تَعِيَهُ وَتَحْفَظَهُ، لِأَنَّ الْمُتَلَقِّنَ إِنَّمَا يَقْوَى قَلْبُهُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ يلقى إِلَيْهِ إِذْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَجُزْءًا
خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ التَّصَرُّفَ بِوُجُوهِ التَّصَارِيفِ الْمُعِينَةِ عَلَى هَذِهِ الْخِلَافَةِ، وَهِيَ تَكْوِينُ هِدَايَتِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَصُولَ تَصَرُّفَاتِ الْخِلَافَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الِارْتِحَالِ وَالتِّجَارَة والغزو.
وَختم ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ لِنِعْمَتَيِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ وَفِي مَطَاوِيهَا جَوَامِعُ التَّمَكُّنِ فِي
الأَرْض.
[٦٥- ٦٦]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
لَمَّا أَبْطَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَظَاهِرَةِ فَانْقَطَعَ دَابِرُ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ ثُنِّيَ عِنَانُ الْإِبْطَالِ إِلَى أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ وَهُوَ ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ بِالْكَهَانَةِ وَإِخْبَارِ الْجِنِّ، كَمَا كَانَ يَزْعُمُهُ الْكُهَّانُ وَالْعَرَّافُونَ وَسَدَنَةُ الْأَصْنَامِ. وَيُؤْمِنُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي «مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ» وَغَيْرِهِ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ حِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ فَمَا كَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا لِظَنِّهِمْ أَنَّ ادِّعَاءَ الْعِلْمِ بِوَقْتِهَا من شَأْن النبوءة توصلا لجحد النبوءة إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُمْ وَقْتَ السَّاعَةِ فَأَبْطَلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ إِبْطَالًا عَامًّا مِعْيَارُهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ. وَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ أَعْنِي خُصُوصَ الْكُهَّانِ وَسَدَنَةِ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ. وَإِنَّمَا سَلَكَ مَسْلَكَ الْعُمُومِ لِإِبْطَالِ مَا عَسَى أَنْ يُزْعَمَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعُمُومَ أَكْثَرُ فَائِدَةً وَأَوْجَزُ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَالُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ بَيْنِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَالْقَصْدُ هُنَا تَزْيِيفُ آثَارِ الشِّرْكِ وَهُوَ الْكِهَانَةُ وَنَحْوُهَا. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْمَخْلُوقَاتُ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا من أهل السَّمَوَات أَوْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لِانْحِصَارِ عَوَالِمِ الْمَوْجُودَاتِ فِي ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ فِي قُوَّةِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ الْغَيْبَ، وَلَكِنْ أُطْنِبَ الْكَلَامُ لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى تَعْمِيمِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ مَقَامَ عِلْمِ الْعَقِيدَةِ مَقَامُ بَيَانٍ يُنَاسِبُهُ الْإِطْنَابُ.
وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا اللَّهُ مِنْهُ لِتَأْوِيلِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِمَعْنَى: أَحَدٌ،
وَالْمُسَمَّى أُرِيدَ بِهِ الْمُعَيَّنُ الْمَحْدُودُ أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٥].
وَالْمَعْنَى: لَوْلَا الْأَجَلُ الْمُعَيَّنُ لِحُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا لِأَنَّ كُفْرَهُمْ يَسْتَحِقُّ تَعْجِيلَ عِقَابِهِمْ وَلَكِنْ أَرَادَ اللَّهُ تَأْخِيرَهُ لِحِكَمٍ عَلِمَهَا، مِنْهَا إِمْهَالُهُمْ لِيُؤْمِنَ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بَعْدَ الْوَعِيدِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَفِزُّهُ اسْتِعْجَالُهُمُ الْعَذَابَ لِأَنَّهُ حَكِيمٌ لَا يُخَالِفُ مَا قَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ، حَلِيمٌ يُمْهِلُ عِبَادَهُ. فَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ فِي وَقْتِ طَلَبِهِمْ تَعْجِيلَهُ، ثُمَّ أَنْذَرَهُمْ بِأَنَّهُ آتِيهِمْ بَغْتَةً وَأَنَّ إِتْيَانَهُ مُحَقَّقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَامُ الْقَسَمِ وَنُونُ التَّوْكِيدِ وَذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ الْمُقَدَّرِ لَهُ. وَقَدْ حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ بَغْتَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ [الْأَنْفَال: ٤٢] فَاسْتَأْصَلَ صَنَادِيدَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ اللَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَعْظَمَ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ أَعْقَبَ إِنْذَارَهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ بِإِنْذَارِهِمْ بِالْعَذَابِ الْأَعْظَمِ. وَأُعِيدَ لِأَجْلِهِ ذِكْرُ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالْعَذَابِ مُعْتَرَضًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَوَابُ اسْتِعْجَالِهِمْ فَإِنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ فَأُنْذِرُوا بِعَذَابَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَعْجَلُ مِنَ الْآخَرِ. وَفِي إِعَادَةِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ تَهْدِيدٌ وَإِنْذَارٌ بِأَخْذِهِمْ، فَجُمْلَةُ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فَهُمَا عَذَابَانِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْعَطْفِ.
وَالْإِحَاطَةُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِهِمْ مِنْهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْكافِرِينَ الْمُسْتَعْجِلُونَ، وَاسْتُحْضِرُوا بِوَصْفِ الْكَافِرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مُوجِبُ إِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِهِمْ. وَاسْتُعْمِلَ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي الْإِحَاطَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مَعَ أَنَّ شَأْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ أَنْ يُفِيدَ الِاتِّصَافَ فِي زَمَنِ الْحَالِ، تَنْزِيلًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ زَمَانِ الْحَالِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ.
وَيَتَعَلَّقُ: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ بِ (مُحِيطَةٌ)، أَيْ تُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ.
وَفِي قَوْلِهِ: يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ تَصْوِيرٌ لِلْإِحَاطَةِ. وَالْغَشَيَانُ:
التَّغْطِيَةُ وَالْحَجْبُ.
وَمَوْقِعُ مَادَّةِ الذِّكْرِ هُنَا مُوَقِعٌ شَرِيفٌ لِتَحَمُّلِهَا هَذِهِ الْمَحَامِلَ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ غَيْرُهَا إِلَّا بِإِطْنَابٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِن الله تَعَالَى أَمَرَ نَبِيئَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزَلَ إِلَيْهِ فَكَانَ إِذَا قَرَأَ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ مَا اتَّفَقَ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَكَانَ عَلَى مَنْ تَبِعَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَبَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي كَسْرِ بَاءِ (بِيُوتٍ) أَوْ ضَمِّهَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ وَتَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ السَّابِقَةِ. وَالتَّعْلِيلُ صَالِحٌ لِمَحَامِلِ الْأَمْرِ كُلِّهَا لِأَنَّ اللُّطْفَ يَقْتَضِي إِسْدَاءَ النَّفْعِ بِكَيْفِيَّةٍ لَا تَشُقُّ عَلَى الْمُسْدَى إِلَيْهِ.
وَفِيمَا وُجِّهَ إِلَى نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَا هُوَ صَلَاحٌ لَهُنَّ وَإِجْرَاءٌ لِلْخَيْرِ بِوَاسِطَتِهِنَّ، وَكَذَلِكَ فِي تَيْسِيرِهِ إِيَّاهُنَّ لِمُعَاشَرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَعْلِهِنَّ أَهْلَ بُيُوتِهِ، وَفِي إِعْدَادِهِنَّ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ، وَمُشَاهَدَةِ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ، كُلُّ ذَلِكَ لُطْفٌ لَهُنَّ هُوَ الْبَاعِث على مَا وَجَّهَهُ إِلَيْهِنَّ مِنَ الْخِطَابِ لِيَتَلَقَّيْنَ الْخَبَرَ وَيُبَلِّغْنَهُ، وَلِأَنَّ الْخَبِيرَ، أَيِ الْعَلِيمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُنَّ الرِّجْسَ وَيُطَهِّرُهُنَّ حَصَلَ مُرَادُهُ تَامًّا لَا خَلَلَ وَلَا غَفْلَةَ.
فَمَعْنَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِاللُّطْفِ وَالْعِلْمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كانَ فَيَشْمَلُ عُمُومُ لُطْفِهِ وَعِلْمِهِ لُطْفَهُ بِهِنَّ وَعِلْمَهُ بِمَا فِيهِ نفعهن.
[٣٥]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٣٥]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)
يَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الْأَحْزَاب: ٣١] بَعْدَ قَوْلِهِ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ
[الْأَحْزَاب: ٣٢]

[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٨]

وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)
الشَّمْسُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اللَّيْلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس:
٣٧] عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرِدٍ وَيُقَدَّرُ لَهُ خَبَرٌ مُمَاثِلٌ لِخَبَرِ اللَّيْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالشَّمْسُ آيَةٌ لَهُمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ تَجْرِي حَالًا مِنَ الشَّمْسُ مِثْلُ جُمْلَةِ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَجْرِي خَبَرًا عَن الشَّمْسُ. وأيّاما كَانَ فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ جُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] إِلْخَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: ٤٠]، وَكَانَ مُقْتَضَى
الظَّاهِرِ مِنْ كَوْنِهِ تَفْصِيلًا أَنْ لَا يُعْطَفَ فَيُقَالَ: الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ آيَةً خَاصَّةً وَهِيَ آيَةُ سَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
وَقُدِّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى آيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ فَكَانَتْ آيَةُ الشَّمْسِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا مُرَادًا بِهَا دَلِيلٌ آخَرَ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نِظَامُ الْفُصُولِ.
وَجُمْلَةُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها يحْتَمل الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي جملَة أَحْيَيْناها [يس:
٣٣] مِنْ كَوْنِهَا حَالًا أَوْ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ [يس: ٣٧] أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ وَآيَةٌ.
وَالْجَرْيُ حَقِيقَتُهُ: السّير السَّرِيع وَهُوَ لِذَوَاتِ الْأَرْجُلِ، وَأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى تَنَقُّلِ الْجِسْمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ تَنَقُّلًا سَرِيعًا بِالنِّسْبَةِ لِتَنَقُّلِ أَمْثَالِ ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَغَلَبَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فَسَاوَى الْحَقِيقَةَ وَأُرِيدَ بِهِ السَّيْرُ فِي مَسَافَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ جِدَّ التَّبَاعُدِ فَتَقْطَعُهَا فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِتَبَاعُدِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِآثَارِ ذَلِكَ السَّيْرِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ مَعْرِفَةً إِجْمَالِيَّةً بِمَا يَحْسِبُونَ مِنَ الْوَقْتِ وَامْتِدَادِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمُرَاقَبَةِ أَحْوَالِهَا مِنْ خَاصَّةِ النَّاسِ وَهُمُ الَّذِينَ يَرْقُبُونَ مَنَازِلَ تَنَقُّلِهَا الْمُسَمَّاةِ بِالْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَالْمَعْرُوفَةِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالْهَيْئَةِ تَفْصِيلًا وَاسْتِدْلَالًا وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُخَاطَبُونَ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا بَلَغَهُ عِلْمُهُمْ.
وَالْمُسْتَقَرُّ: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ، أَيِ الْقَرَارُ أَوْ زَمَانُهُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ:
اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ.
وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ أُمُورِ الْمُفَوِّضِ إِلَى مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَجُمْلَةُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ تَذَكُّرًا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِلَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ الْقَائِلِينَ لِأَنَّ حَسْبِيَ اللَّهُ يؤول إِلَى مَعْنَى: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ حَسْبِيَ أَنَا وَحَسْبُ كُلِّ مُتَوَكِّلٍ، أَيْ كُلِّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى كِفَايَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَتَعْرِيفُ الْمُتَوَكِّلُونَ
لِلْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ، أَيِ الْمُتَوَكِّلُونَ الْحَقِيقِيُّونَ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِغَيْرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَاطَبَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِأَنْ يَقُولَهُ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِقَوْلِ: حَسْبِيَ اللَّهُ، أَيِ اجْعَلِ اللَّهَ حَسْبَكَ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّوَكُّلِ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ وَهُمُ الرُّسُلُ وَالصَّالِحُونَ وَإِذْ قَدْ كُنْتَ مِنْ رَفِيقِهِمْ فَكُنْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: ٩٠].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى يَتَوَكَّلُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّ أَهْلَ التَّوَكُّلِ الْحَقِيقِيِّينَ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ تَعْرِيض بالمشركين إِذْ اعْتَمَدُوا فِي أُمُورِهِمْ على أصنامهم.
[٣٩- ٤٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
لَمَّا أَبْلَغَهُمُ اللَّهُ من الموعظة أقْصَى مَبْلَغٍ، وَنَصَبَ لَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ أَسَطَعَ حُجَّةٍ، وَثَبَّتَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَخَ تَثْبِيتٍ، لَا جَرَمَ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُوَادِعَهُمْ مُوَادَعَةَ مُسْتَقْرِبِ النَّصْرِ، وَيُوَاعِدَهُمْ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مَنْ خُسْرٍ.
وَعَدَمُ عَطْفِ جُمْلَةِ قُلْ هَذِهِ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر: ٣٨] لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ نَظِيرَ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي الْبَيْتِ الْمَشْهُورِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي:
بِحُصُولِ النَّصْرِ لَهُ وَلِدِينِهِ وَذَلِكَ بِمَا يَسَّرَ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي آفَاقِ الدُّنْيَا وَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عَامَّةً وَفِي بَاحَةِ الْعَرَبِ خَاصَّةً مِنَ الْفُتُوحِ وَثَبَاتِهَا وَانْطِبَاعِ الْأُمَمِ بِهَا مَا لَمْ تَتَيَسَّرْ أَمْثَالُهَا لِأَحَدٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَالْقَيَاصِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ عَلَى قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ نُسِبَ عَدَدُهُمْ إِلَى عَدَدِ الْأُمَمِ الَّتِي فَتَحُوا آفَاقَهَا بِنَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَالتَّارِيخُ شَاهِدٌ بِأَنَّ مَا تَهَيَّأَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ عَجَائِبِ الِانْتِشَارِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى الْأُمَمِ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّمَا تَمَسَّكُوا بِعُرَى الْإِسْلَامِ لَقُوا مِنْ نَصْرِ اللَّهِ أَمْرًا عَجِيبًا يَشْهَدُ بِذَلِكَ السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرَّعْد:
٤١] ثُمَّ قَالَ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرَّعْد:
٤٣].
وَلَمْ يَقِفْ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ فَتْحِ الْمَمَالِكِ وَالْغَلَبِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ، بَلْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى التَّغَلْغُلِ فِي نُفُوسِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فَتَقَلَّدُوهُ دِينًا وَانْبَثَّتْ آدَابُهُ وَأَخْلَاقُهُ فِيهِمْ فَأَصْلَحَتْ عَوَائِدَهُمْ وَنُظُمَهُمُ الْمَدَنِيَّةَ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فَأَصْبَحُوا عَلَى حَضَارَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ مُتَنَاسِقَةٍ وَأَوْجَدُوا حَضَارَةً جَدِيدَةً سَالِمَةً مِنَ الرُّعُونَةِ وَتَفَشَّتْ لُغَةُ الْقُرْآنِ فَتَخَاطَبَتْ بِهَا الْأُمَمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْأَلْسُنِ وَتَعَارَفَتْ بِوَاسِطَتِهَا وَنَبَغَتْ فِيهِمْ فَطَاحِلُ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ وَعُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَيِمَّةِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَفُحُولِ الشُّعَرَاءِ وَمَشَاهِيرِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ نَشَرُوا الْإِسْلَامَ فِي الْمَمَالِكِ بِفُتُوحِهِمْ.
فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا مَا يَشْمَلُ الدَّلَائِلَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَا يَشْمَلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعْنَى رُؤْيَتِهَا رُؤْيَةَ مَا يُصَدِّقُ أَخْبَارَهَا وَيُبَيِّنُ نُصْحَهَا إِيَّاهُمْ بِدَعْوَتِهَا إِلَى خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالْآفَاقُ: جَمْعُ أُفُقٍ بِضَمَّتَيْنِ وَتُسَكَّنُ فَاؤُهُ أَيْضًا هُوَ: النَّاحِيَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُتَمَيِّزَةُ عَنْ غَيْرِهَا، وَالنَّاحِيَةُ مِنْ قُبَّةِ السَّمَاءِ. وَعَطْفُ وَفِي أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، أَيْ وَفِي أُفُقِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ.
الْكُتُبِ عَلَى الرُّسُلِ، وَآمَنَ بِرِسَالَتِي كَيْفَ يَكُونُ انْحِطَاطُكُمْ عَنْ دَرَجَتِهِ، وَقَدْ جَاءَكُمْ كِتَابٌ فَأَعْرَضْتُمْ عَنْهُ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٧]، وَهَذَا تَحْرِيكٌ لِلْهِمَمِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ فُصِّلَتْ [٥٢] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ سِوَى أَنَّ هَذِهِ أَقْحَمَ فِيهَا قَوْلَهُ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ لَهُمْ مُخَالَطَةٌ مَعَ بَعْضِ الْيَهُودِ فِي مَكَّةَ وَلَهُمْ صِلَةٌ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ بِالْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ فَلَمَّا ظَهَرَتْ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَسْأَلُونَ مَنْ لَقَوْهُ مِنَ الْيَهُودِ عَنْ أَمْرِ الْأَدْيَانِ وَالرُّسُلِ فَكَانَ الْيَهُودُ لَا مَحَالَةَ يُخْبِرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ رِسَالَةِ مُوسَى وَكِتَابِهِ وَكَيْفَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى فِرْعَوْنَ. فَالْيَهُودُ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ
برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا هُوَ ممائل لحَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ وَفِيهِ مَا يَكْفِي لِدَفْعِ إِنْكَارِهِمْ رِسَالَتَهُ.
فَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ تَقْرِيرَيٌّ لِلتَّوْبِيخِ وَمَفْعُولَا أَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفَانِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ظَالِمِينَ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي إِنْ كانَ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ إِلَى مَا يُوحَى إِلَيَّ فِي قَوْلِهِ آنِفًا إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَحْقَاف: ٩]. وَجُمْلَةُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَرَأَيْتُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ لِأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَاقِعٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْجَدَلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَفَتَرَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فِي ضَلَالٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ تَعْلِيلٌ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى: أَتَظُنُّونَ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَقَدْ كَفَرْتُمْ بِذَلِكَ فَشَهِدَ شَاهد على حقّية ذَلِكَ تُوقِنُوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِكُمْ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الظَّالِمِينَ.
وَضَمِيرَا كانَ ومِثْلِهِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مَرَّاتٍ مِنْ قَوْلِهِ:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: ٢] وَقَوْلِهِ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا [الْأَحْقَاف: ٤].
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَفَرِّدٌ بِخَلْقِ الْعَالِمِ وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ إِشْرَاكِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى أَقْبَلَ عَلَى تَلْقِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَسْتَخْلِصُهُ لَهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فَالْجُمْلَةُ الْمُفَرَّعَةُ بِالْفَاءِ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرِ: فَقُلْ فِرُّوا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَإِنَّهُ كَلَامٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ قَائِلٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ مُبَلِّغٍ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرُ الْوُرُودِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِهِ، فَالْفَاءُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُفَادُهَا التَّفْرِيعُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَلَيْسَتْ مُفَرَّعَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّ الْمُفَرَّعَ بِالْفَاءِ هُوَ مَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا.
وَقَدْ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْمَوْعِظَةِ إِلَى تَوْجِيه الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ لِأَنَّ لِتَعَدُّدِ الْوَاعِظِينَ تَأْثِيرًا عَلَى نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمَوْعِظَةِ.
وَالْأَنْسَبُ بِالسِّيَاقِ أَنَّ الْفِرَارَ إِلَى اللَّهِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِقْلَاعِ عَنْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَجُحُودُ الْبَعْثِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ حَالِ تَوَرُّطِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ بِحَالِ مَنْ هُوَ فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ يَدْعُو حَالُهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُ إِلَى مَنْ يُجِيرُهُ، وَتَشْبِيهُ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ نَذِيرِ قَوْمٍ بِأَنَّ دِيَارَهُمْ عُرْضَةٌ لِغَزْوِ الْعَدُوِّ فَاسْتُعْمِلَ المركّب وَهُوَ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فِي هَذَا التَّمْثِيل.
فالمواجه ب فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ فَرُّوا إِلَى اللَّهِ مِنَ الشِّرْكِ.
وَالْفِرَارُ: الْهُرُوبُ، أَيْ سُرْعَةُ مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ تَجَنُّبًا لِأَذًى يَلْحَقُهُ فِيهِ فيعدي ب (من) الِابْتِدَائِيَّةِ لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ الْأَذَى يُقَالُ: فَرَّ مِنْ بَلَدِ الْوَبَاءِ وَمِنَ الْمَوْتِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُؤْذِي، يُقَالُ: فَرَّ مِنَ الْأَسَدِ وَفَرَّ مِنَ الْعَدُوِّ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تَعْلِيل لِلْأَمْرِ ب فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَايَةَ مِنَ الْإِنْذَارِ قَصْدُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ فَصَارَ الْإِنْذَارُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْفِرَارِ إِلَى اللَّهِ، أَيِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ.
مَسَّ اسْتِمْتَاعٍ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَة: ٢٣٧].
وَلِذَلِكَ جُعِلَتِ الْكَفَّارَةُ عِتْقَ رَقَبَةٍ لِأَنَّهُ يَفْتَدِي بِتِلْكَ الرَّقَبَةِ رَقَبَةَ زَوْجِهِ.
وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَوْعِظَةً بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ:
ذلِكُمْ عَائِدٌ إِلَى تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ. وَالْوَعْظُ: التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الشَّرِّ بِتَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ، أَيْ فَرْضُ الْكَفَّارَةِ تَنْبِيهٌ لَكُمْ لِتَتَفَادَوْا مَسِيسَ الْمَرْأَةِ الَّتِي طُلِّقَتْ أَوْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى مُفَارَقَتِهَا مَعَ الرَّغْبَةِ فِي الْعَوْدِ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا لِئَلَّا تَعُودُوا إِلَى الظِّهَارِ. وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ ذَلِكَ كَفَّارَةً هُنَا وسمّاها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّارَةً كَمَا فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ مِنْ نَوْعِ الْعُقُوبَةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ».
فَالْمُظَاهِرُ مَمْنُوعٌ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا، أَيْ مَمْنُوعٌ مِنْ عَلَائِقَ الزَّوْجِيَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ الْعِصْمَةِ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ فَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا قَبْلَ الْكَفَّارَةِ كُلِّهَا فَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَلْيَسْتَغْفِرْ وَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِسَبَبِ الِاسْتِمْتَاع قبل التَّكْفِير لِأَنَّهُ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَلَا يَضُرُّ تَكَرُّرُ مُسَبِّبِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْكَفَّارَةُ زَجْرًا وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَطْءُ الْمُظَاهِرِ امْرَأَتَهُ قبل الْكَفَّارَة زنا. وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَأمره النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ.
وَتَفَاصِيلُ أَحْكَامِ الظِّهَارِ فِي صِيغَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُفَصَّلَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، أَيْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ هَذَا التَّكْفِيرِ وَغَيْرِهِ.
[٤]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ٤]
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً.
رُخْصَةٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ عِتْقَ رَقَبَةٍ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ
وَالْبَصَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَصَرُ الْمَصْحُوبُ بِالتَّفَكُّرِ وَالْاعْتِبَارِ بِدَلَالَةِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مُوجِدِهَا.
وَهَذَا يَتَّصِلُ بِمَسْأَلَةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ.
وَالْاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ تَقْرِيرِيٌّ وَوَقَعَ بِ هَلْ لِأَنَّ هَلْ تُفِيدُ تَأْكِيدَ
الِاسْتِفْهَامَ إِذْ هِيَ بِمَعْنَى (قَدْ) فِي الْاسْتِفْهَامِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَحَثٌّ عَلَى التَّبَصُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، أَي لَا تقتنع بِنَظْرَةٍ وَنَظْرَتَيْنِ، فَتَقُولُ: لَمْ أَجِدْ فُطُورًا، بَلْ كَرِّرِ النَّظَرَ وَعَاوِدْهُ بَاحِثًا عَنْ مُصَادَفَةِ فُطُورٍ لَعَلَّكَ تَجِدُهُ.
وَالْفُطُورُ: جَمْعُ فَطْرٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَهُوَ الشَّقُّ وَالصَّدْعُ، أَيْ لَا يَسَعُكَ إِلَّا أَنْ تَعْتَرِفَ بِانْتِفَاءِ الْفُطُورِ فِي نِظَامِ السَّمَاوَاتِ فَتَرَاهَا مُلْتَئِمَةً مَحْبُوكَةً لَا تَرَى فِي خِلَالِهَا انْشِقَاقًا، وَلِذَلِكَ كَانَ انْفِطَارُ السَّمَاءِ وَانْشِقَاقُهَا عَلَامَةً عَلَى انْقِرَاضِ هَذَا الْعَالَمِ وَنِظَامِهِ الشَّمْسِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: ١٩] وَقَالَ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١].
وَعَطْفُ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ دَالٌّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ ثُمَّ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، فَإِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِ ثُمَّ هُنَا أَهَمُّ وَأَدْخَلُ فِي الْغَرَضِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِأَنَّ إِعَادَةَ النَّظَرِ تَزِيدُ الْعِلْمَ بِانْتِفَاءِ التَّفَاوُتِ فِي الْخَلْقِ رُسُوخًا وَيَقِينًا.
وكَرَّتَيْنِ تَثْنِيَةُ كَرَّةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ وَعَبَّرَ عَنْهَا هُنَا بِالْكَرَّةِ مُشْتَقَّةً مِنَ الْكَرِّ وَهُوَ الْعَوْدُ لِأَنَّهَا عَوْدٌ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَ الْانْفِصَالِ عَنْهُ كَكَرَّةِ الْمُقَاتِلِ يَحْمِلُ عَلَى الْعَدْوِ بَعْدَ أَنْ يَفِرَّ فِرَارًا مَصْنُوعًا. وَإِيثَارُ لَفْظِ كَرَّتَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ مُرَادَفِهِ نَحْوِ مَرَّتَيْنِ وَتَارَتَيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَرَّةَ لَمْ يَغْلِبْ إِطْلَاقَهَا عَلَى عَدَدِ الْاثْنَيْنِ، فَكَانَ إِيثَارُهَا فِي مَقَامٍ لَا يُرَادُ فِيهِ اثْنَيْنِ أَظْهَرَ فِي أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ
وَإِنَّمَا أُوثِرَ لَفْظُ (سُبَاتٍ) لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْقَطْعِ عَنِ الْعَمَلِ لِيُقَابِلَهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: ١١] كَمَا سَيَأْتِي.
وَيُطْلَقُ السُّبَاتُ عَلَى النَّوْمِ الْخَفِيفِ، وَلَيْسَ مُرَادًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا، وَلَا نَوْمًا خَفِيفًا.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» : طَعَنَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: السُّبَاتُ هُوَ النَّوْمُ فَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا. وَأَخَذَ فِي تَأْوِيلِهَا وُجُوهًا ثَلَاثَةً مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَسْتَقِيمُ مِنْهَا إِلَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ السُّبَاتَ الْقَطْعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [الْقَصَص: ٧٢] وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِتَصَارِيفِ مَادَّةِ سَبَتَ.
وَأَنْكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ سِيدَهْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ سَبَتَ بِمَعْنَى اسْتَرَاحَ، أَيْ لَيْسَ مَعْنَى اللَّفْظِ، فَمَنْ فَسَّرَ السُّبَاتَ بِالرَّاحَةِ أَرَادَ تَفْسِيرَ حَاصِلِ الْمَعْنَى.
وَفِي هَذَا امْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِخَلْقِ نِظَامِ النَّوْمِ فِيهِمْ لِتَحْصُلَ لَهُمْ رَاحَةٌ مِنْ أَتْعَابِ الْعَمَلِ الَّذِي يَكْدَحُونَ لَهُ فِي نَهَارِهِمْ فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّوْمَ حَاصِلًا لِلْإِنْسَانِ بِدُونِ اخْتِيَاره، فالنوم يلجىء الْإِنْسَانَ إِلَى قَطْعِ الْعَمَلِ لِتَحْصُلَ رَاحَةٌ لِمَجْمُوعِهِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي رُكْنُهُ فِي الدِّمَاغِ، فَبِتِلْكَ الرَّاحَةِ يَسْتَجِدُّ الْعَصَبُ قُوَاهُ الَّتِي أَوْهَنَهَا عَمَلُ الْحَوَاسِّ وَحَرَكَاتُ الْأَعْضَاءِ وَأَعْمَالُهَا، بِحَيْثُ لَوْ تَعَلَّقَتْ رَغْبَةُ أَحَدٍ بِالسَّهَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ وَذَلِكَ لُطْفٌ بِالْإِنْسَانِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ مَا بِهِ مَنْفَعَةُ مَدَارِكِهِ قَسْرًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ بِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ نَوْمًا أَقْصَرُهُمْ عُمْرًا وَكَذَلِكَ الْحَيَوَان.
[١٠]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١٠]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠)
مِنْ إِتْمَامِ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي قَبْلَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمِنَّةِ لِأَنَّ كَوْنَ اللَّيْلِ لِبَاسًا حَالَةٌ مُهَيِّئَةٌ لِتَكَيُّفِ النَّوْمِ وَمُعِينَةٌ عَلَى هَنَائِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ اللَّيْلَ ظُلْمَةٌ عَارِضَةٌ فِي الْجَوِّ مِنْ مُزَايَلَةِ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَنْ جُزْءٍ مِنْ كُرَةِ الْأَرْضِ وَبِتِلْكَ الظُّلْمَةِ تَحْتَجِبُ الْمَرْئِيَّاتِ عَنِ الْإِبْصَارِ فَيَعْسُرُ الْمَشْيُ وَالْعَمَلُ وَالشُّغْلُ وَيَنْحَطُّ النَّشَاطُ فَتَتَهَيَّأُ الْأَعْصَابُ لِلْخُمُولِ ثُمَّ يَغْشَاهَا النَّوْمُ فَيَحْصُلُ السُّبَاتُ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَجِيبَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ


الصفحة التالية
Icon