فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً، وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهَا اسْمًا اسْتِغْنَاءً بِالْوَصْفِ، كَمَا يَقُولُ الْمُؤَلِّفُونَ مُقَدِّمَةٌ أَوْ بَابٌ بِلَا تَرْجَمَةٍ ثُمَّ يَقُولُونَ بَابٌ جَامِعٌ مَثَلًا، ثُمَّ يُضِيفُونَهُ فَيَقُولُونَ بَابُ جَامِعِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا إِضَافَةُ فَاتِحَةٍ إِلَى الْكِتَابِ فَإِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ بَقِيَّتُهُ عَدَا السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ الْفَاتِحَةُ، كَمَا نَقُولُ: خُطْبَةُ التَّأْلِيفِ، وَدِيبَاجَةُ التَّقْلِيدِ.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا أُمَّ الْقُرْآنِ وَأُمَّ الْكِتَابِ فَقَدْ ثَبَتَتْ فِي السُّنَّةِ، مِنْ ذَلِكَ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي كِتَابِ الطِّبِّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَقَى مَلْدُوغًا فَجَعَلَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أُمَّ الْقُرْآنِ أَنَّ الْأُمَّ يُطْلَقُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ وَمَنْشَئِهِ،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ»
أَيْ مَنْقُوصَةٌ مَخْدُوجَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرُوا لِتَسْمِيَةِ الْفَاتِحَةِ أُمَّ الْقُرْآنِ وُجُوهًا ثَلَاثَةً: أَحُدُهَا: أَنَّهَا مَبْدَؤُهُ وَمُفْتَتَحُهُ فَكَأَنَّهَا أَصْلُهُ وَمَنْشَؤُهُ، يَعْنِي أَنَّ افْتِتَاحَهُ الَّذِي هُوَ وُجُودُ أَوَّلِ أَجزَاء الْقُرْآن قَدْ ظَهَرَ فِيهَا فَجُعِلَتْ كَالْأُمِّ لِلْوَلَدِ فِي أَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْمَنْشَأُ فَيَكُونُ أُمُّ الْقُرْآنِ تَشْبِيهًا بِالْأُمِّ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْوَلَدِ لِمُشَابَهَتِهَا بِالْمَنْشَأِ مِنْ حَيْثُ ابْتِدَاءِ الظُّهُورِ وَالْوُجُودِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا تَشْتَمِلُ مُحْتَوَيَاتُهَا عَلَى أَنْوَاعِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ ثَنَاءً جَامِعًا لِوَصْفِهِ بِجَمِيعِ المحامد وتنزيهه عَن جَمِيعِ النَّقَائِصِ، وَلِإِثْبَاتِ تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنْ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ إِلَى آخِرِهَا، فَهَذِهِ هِيَ أَنْوَاعُ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَغَيْرُهَا تَكْمِلَاتٌ لَهَا لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْقُرْآنِ إِبْلَاغُ مَقَاصِدِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ صَلَاحُ الدَّارَيْنِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَمَّا تَوَقَّفَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْآمِرِ وَأَنَّهُ اللَّهُ الْوَاجِبُ وُجُودُهُ خَالِقُ الْخَلْقِ لَزِمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الصِّفَاتِ، وَلَمَّا تَوَقَّفَ تَمَامُ الِامْتِثَالِ عَلَى الرَّجَاءِ فِي الثَّوَابِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ لَزِمَ تَحَقُّقُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَاتِهِ الْأَنْوَاعِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمِ الدِّينِ حَمْدٌ وَثَنَاءٌ، وَقَوْلَهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَى قَوْلِهِ: الْمُسْتَقِيمَ مِنْ نَوْعِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَوْلَهُ: صِراطَ الَّذِينَ إِلَى آخِرِهَا مِنْ نَوْعِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضَّالِّينَ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى نَوْعِ قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ فِي: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاص: ١] أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ ألفاظها كلهَا أثْنَاء عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَشْتَمِلُ مَعَانِيَهَا عَلَى جُمْلَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنَ الْحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ
الْقَطْعَ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ الْإِعْرَابِ، فَأَمَّا النَّصْبُ فَبِتَقْدِيرِ فِعْلِ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ فِعْلِ أَخُصُّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمَدْحَ بَيْنَ الْمَمْدُوحِينَ وَالذَّمَّ بَيْنَ الْمَذْمُومِينَ.
وَقَدْ حَصَلَ بِنَصْبِ (الصَّابِرِينَ) هُنَا فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ قَطْعٍ مِنَ النُّعُوتِ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتِ الصِّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُخَالَفَ إِعْرَابُهَا وَلَا تُجْعَلَ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الْإِطْنَابِ فَإِذَا خُولِفَ إِعْرَابُ الْأَوْصَافِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلَامِ وَضُرُوبٌ مِنَ الْبَيَانِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ كَسَّرَهُ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَمْثِلَة وشواهد» اهـ. قُلْتُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يَنْتَصِبُ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ (١) «وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً فَجَرَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ شِئْتَ قَطَعْتَهُ فَابْتَدَأْتَهُ، مِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ وَالصَّابِرِينَ وَلَوْ رُفِعَ الصَّابِرِينَ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ جَيِّدًا، وَلَوِ ابْتَدَأْتَهُ فَرَفَعْتَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ كَانَ جَيِّدًا، وَنَظِيرُ هَذَا النَّصْبِ قَوْلُ الْخِرْنِقِ:

لَا يَبْعَدَنْ قومِي الَّذين همو سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ
بِنَصْبِ النَّازِلِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّ نَصْبَ هَذَا عَلَى أَنَّكَ لَمْ تُرِدْ أَنْ تُحَدِّثَ النَّاسَ وَلَا مَنْ تُخَاطِبُ بِأَمْرٍ جَهِلُوهُ وَلَكِنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَجَعَلْتَهُ ثَنَاءً وَتَعْظِيمًا وَنَصْبُهُ عَلَى الْفِعْلِ كَأَنَّهُ قَالَ أَذْكُرُ أَهْلَ ذَلِكَ وَأَذْكُرُ الْمُقِيمِينَ وَلَكِنَّهُ فِعْلٌ لَا يسْتَعْمل إِظْهَاره» اهـ قُلْتُ: يُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ مِثْلُهُ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النِّسَاء: ١٦٢] عَطْفًا عَلَى لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [النِّسَاء: ١٦٢]، وَفِي سُورَةِ الْعُقُود وَالصَّابِئُونَ [الْمَائِدَة: ٦٩] عَطْفًا عَلَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [الْمَائِدَة: ٦٩].
الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَن فِي نَصْبِ الصَّابِرِينَ بِتَقْدِيرِ أَخُصُّ أَوْ أَمْدَحُ تَنْبِيهًا عَلَى خَصِيصِيَّةِ الصَّابِرِينَ وَمَزِيَّةِ صِفَتِهِمُ الَّتِي هِيَ الصَّبْرُ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا زَعَمُوا مِنْ وُقُوعِهِ لَحْنًا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ وَمَا لَهُمْ فِي النَّصْبِ عَلَى
_________
(١) رَاجع «الْكتاب»
لَهُ (١/ ٢٤٨)، دَار صادر.
إِنَّ الْجَمْعَ فِي مَدْخُولِ الْ الْجِنْسِيَّةِ صُوَرِيٌّ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: إِذَا دَخَلَتْ الْ الْجِنْسِيَّةُ عَلَى جَمْعٍ أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ كَالْمُضَافِ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْإِضَافَةُ تَأْتِي لِمَا تَأْتِي لَهُ اللَّامُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: «كِتَابِهِ أَكْثَرُ مِنْ كُتُبِهِ- أَوِ- الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ» فَقِيلَ أَرَادَ أَنَّ تَنَاوُلَ الْمُفْرَدِ الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ أَكْثَرُ مِنْ تَنَاوُلِ الْجَمْعِ حِينَ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ جِنْسِ الْجُمُوعِ، فَلَا يَسْرِي الْحُكْمُ لِمَا دُونَ عَدَدِ الْجَمْعِ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» «اسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ». وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ الْعَرَبُ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ وَلَا فِي اسْتِغْرَاقِهِ فِي الْإِثْبَاتِ. وَأَنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ- إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ عَنْهُ- فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ مَعْنًى، مَعَ كَوْنِهِ أَخْصَرَ لَفْظًا، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ مَعْنَى الْأَرْجَحِ وَالْأَقْوَى.
وَقَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارَكِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِالْتِفَاتَ: بِأَنْ يَكُونَ مِنْ مَقُولِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَعُطِفَ وَقالُوا عَلَيْهِ. أَوِ النُّونُ فِيهِ لِلْجَلَالَةِ أَيْ آمَنُوا فِي حَالِ أَنَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّنَا لَا نُفَرِّقُ فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ آمَنَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِالْيَاءِ: عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ.
وَالتَّفْرِيقُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ التَّفْرِيقُ فِي الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ: بِأَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرَ بِبَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٦].
وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا عَطْفٌ عَلَى آمَنَ الرَّسُولُ وَالسَّمْعُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الرِّضَا، وَالْقَبُولِ، وَالِامْتِثَالِ، وَعَكْسُهُ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ لَا يُطِيعُونَ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سَمْعِهَا
الرَّسُولُ غمّا لكيلا تحزنوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ: أَيْ سَكَتَ عَنْ تَثْرِيبِكُمْ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ إِلَّا الِاغْتِمَامُ لِأَجْلِكُمْ، لِكَيْلَا يُذَكِّرَكُمْ بِالتَّثْرِيبِ حُزْنًا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ جَبْرًا لِخَوَاطِرِكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَصَابَكُمْ بِالْغَمِّ الَّذِي نَشَأَ عَنِ الْهَزِيمَةِ لِتَعْتَادُوا نُزُولَ الْمَصَائِبِ، فَيَذْهَبُ عَنْكُمُ الْهَلَعُ وَالْجَزَعُ عِنْدَ النَّوَائِبِ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ مَا فاتَكُمْ وَمَا أَصابَكُمْ طِبَاقٌ يُؤْذِنُ بِطِبَاقٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ، لِأَنَّ مَا فَاتَ هُوَ النَّافِعِ وَمَا أَصَابَ هُوَ مِنَ الضَّارِّ.
[١٥٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْزَلَ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَهُوَ يرجّح كَون الضَّمِير فَأَثابَكُمْ مِثْلَهُ لِئَلَّا يَكُونَ هَذَا رُجُوعًا إِلَى سِيَاقِ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَالْمَعْنَى ثُمَّ أَغْشَاكُمْ بِالنُّعَاسِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ. وَسُمِّيَ الْإِغْشَاءُ إِنْزَالًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نُعَاسًا مُقَدَّرًا مِنَ اللَّهِ لِحِكْمَةٍ خَاصَّةٍ، كَانَ كَالنَّازِلِ مِنَ الْعَوَالِمِ الْمُشَرَّفَةِ كَمَا يُقَالُ:
نَزَلَتِ السَّكِينَةُ.
وَالْأَمَنَةُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- الْأَمْنُ، وَالنُّعَاسُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ أَوْ أَوَّلُ النَّوْمِ، وَهُوَ يُزِيلُ التَّعَبَ وَلَا يَغِيبُ صَاحِبُهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَمَنَةً إِذْ لَو نَامُوا نوما ثَقِيلًا لَأَخَذُوا، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالزُّبَيْرُ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: غَشِيَنَا نُعَاسٌ حَتَّى إِنَّ السَّيْفَ لِيَسْقُطُ مِنْ يَدِ أَحَدِنَا.
وَقَدِ اسْتَجَدُّوا بِذَلِكَ نَشَاطَهُمْ، وَنَسُوا حُزْنَهُمْ، لِأَنَّ الْحُزْنَ تَبْتَدِئُ خِفَّتُهُ بَعْدَ أَوَّلِ نَوْمَةٍ تُعْفِيهِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَحْزَانِ الْمَوْتِ وَغَيْرِهَا. وَ (نُعَاسًا) بَدَلٌ عَلَى (أَمَنَةٍ) بَدَلٌ مُطَابِقٌ.
وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَدَّمَ النُّعَاسُ وَيُؤَخَّرَ أَمَنَةٌ: لِأَنَّ أَمَنَةً بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ أَوِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا جَاءَ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ [١١] : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً
مِنْهُ
ولكنّه قدّم الأمنة هُنَا تَشْرِيفًا لِشَأْنِهَا لِأَنَّهَا جُعِلَتْ كَالْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ لِنَصْرِهِمْ، فَهُوَ كَالسَّكِينَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مَفْعُولَ أَنْزَلَ، وَيُجْعَلَ النُّعَاسُ بَدَلًا مِنْهُ.
وَشَمَلَتِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ، كَالْمَطَرِ وَالصَّوَاعِقِ، وَالثَّمَرَةِ وَالْجَرَادِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَعْرَاضِ كَالصِّحَّةِ، وَهُبُوبِ الصَّبَا، وَالرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ. وَأَضْدَادِهَا كَالْمَرَضِ، وَالسَّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْخَسَارَةِ. وَفِي هَذَا النَّوْعِ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَالطَّاعَاتِ النَّافِعَةِ لِلطَّائِعِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ بِهِ وَبِالنَّاسِ، وَفِي هَذَا الْأَمْرِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ: ٥٠] وَهُوَ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَازِلَةً فِيهِ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ دَقِيقَةَ الْفَهْمِ نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى قِلَّةِ فَهْمِهِمْ لِلْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، فَقَوْلُهُ: لَا يَكادُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ اعْتِبَارِ الْقَلْبِ، أَيْ يَكَادُونَ لَا يَفْقَهُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: ٧١] فَيَكُونُ فِيهِ اسْتِبْقَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي الْمَذَمَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ وَضْعِ التَّرْكِيبِ، أَيْ لَا يُقَارِبُونَ فَهْمَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْفُطَنَاءُ، فَيَكُونُ أَشَدَّ فِي الْمَذَمَّةِ.
وَالْفِقْهُ فَهْمُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: «هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ». وَعَرَّفَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ «إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ».
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِتَنَاسُقِ الضمائر، ثمَّ يعلم أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ شَاعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا شَاعَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الْمَعْصِيَةَ وَالشَّرَّ لِقَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ شَبِيبُ بْنُ حَيْدَرَةَ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِ «حَزِّ الْغَلَاصِمِ» : إِنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَا فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَهْلٌ لِابْتِنَائِهِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ هِيَ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَلَيْسَتَا كَذَلِكَ.
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهَا إِلَّا قَوْلًا بِمُوجَبِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ مَعْنَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ- كَمَا بَيَّنْتُهُ
بِالْعُهُودِ، وَالْمُرَادُ مِنَ النِّعْمَةِ جِنْسُهَا لَا نِعْمَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَهِيَ مَا فِي الْإِسْلَامِ مِنِ الْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَذَهَابِ أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَصَلَاحِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ.
وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ، وَوَاثَقَ: عَاهَدَ. وَأُطْلِقَ فِعْلُ وَاثَقَ عَلَى مَعْنَى الْمِيثَاقِ الَّذِي أَعْطَاهُ الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى وَعْدِ اللَّهِ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ. فَفِي صِيغَةِ واثَقَكُمْ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ عُرِفَ هُنَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَوْلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ.
وَالْمُسْلِمُونَ عَاهَدُوا اللَّهَ فِي زمن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةَ عُهُودٍ: أَوَّلُهَا عَهْدُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَمِنْهَا عهد الْمُسلمين عِنْد مَا يُلَاقُونَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَهُوَ الْبَيْعَةُ أَنْ لَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا وَلَا يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُمْ وَلَا يَأْتُوا بِبُهْتَانٍ يَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَلَا يَعْصُونَهُ فِي مَعْرُوفٍ، وَهُوَ عَيْنُ الْعَهْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ عِنْدَ ذِكْرِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يُبَايِعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا بَيْعَةُ الْأَنْصَارِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا الْتَقَوْا بِرَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ الْمَوْسِمِ فِي الْعَقَبَةِ وَمَعَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَبَايَعُوا عَلَى أَنْ يَمْنَعُوا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا يَمْنَعُونَ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، وَعَلَى أَنَّهُمْ يَأْوُونَهُ إِذَا هَاجَرَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ بَيْعَتَانِ إِحْدَاهُمَا سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ، بَايَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ. وَالثَّانِيَةُ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ، بَايَعَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْخَزْرَجِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ بِالْعَقَبَةِ لِيُبَلِّغُوا الْإِسْلَامَ إِلَى قَوْمِهِمْ. وَمِنَ الْمَوَاثِيقِ مِيثَاقُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنِ الْهِجْرَةِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ وَاثَقُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ.
وَمَعْنَى سَمِعْنا وَأَطَعْنا الِاعْتِرَافُ بِالتَّبْلِيغِ، وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مَا طُلِبَ مِنْهُمُ الْعَهْدُ عَلَيْهِ. فَالسَّمْعُ أُرِيدَ بِهِ الْعِلْمُ بِمَا وَاثَقُوا عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعْنا مَجَازًا فِي الِامْتِثَالِ، وَأَطَعْنا تَأْكِيدًا لَهُ. وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ سَمِعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَايَعُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ حَالَةَ مَنْ لَدْغَتْهُ حَيَّةٌ فَأَخَذُوا يَرْقُونَهُ:
فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ١] مِنْ مَعْنَى الِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ، كَمَا يَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ جَوَّادًا ثُمَّ يَقُولُ: هُوَ حَاتِمٌ فِي الْعَرَبِ، وَهَذَا لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي صِفَاتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا.
وَقَوْلُهُ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى جُمْلَةِ وَهُوَ اللَّهُ وَلِذَلِكَ
فُصِلَتْ، لأنّها تتنزّل منا منزلَة التوكي لِأَنَّ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ مِمَّا يَقْتَضِي عِلْمَهُ بِأَحْوَالِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ.
وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ لِأَنَّ سِرَّ النَّاسِ وَجَهْرَهُمْ وَكَسْبَهُمْ حَاصِلٌ فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً دُونَ السَّمَاوَاتِ، فَمَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً خَفِيًّا.
وَذَكَرَ السِّرَّ لِأَنَّ عِلْمَ السِّرِّ دَلِيلُ عُمُومِ الْعِلْمِ، وَذَكَرَ الْجَهْرَ لِاسْتِيعَابِ نَوْعَيِ الْأَقْوَالِ.
وَالْمُرَادُ بِ تَكْسِبُونَ جَمِيعُ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ السَّامِعِينَ فَدَخَلَ فِيهِ الْكَافِرُونَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ، لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَإِيقَاظٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ وَتَذْكِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤمنِينَ.
[٤]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٤]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤)
هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى كُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِبُطْلَانِ كُفْرِهِمْ فِي أَمْرِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ عُطِفَ لِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ وَلِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ دَعْوَتُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَمِنْ أَجْلِهِ نَشَأَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَكَذَّبُوهُ وَسَأَلُوهُ الْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ.
وَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ مُرَادٌ مِنْهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ هُمْ بَعْضُ مَنْ شَمِلَتْهُ ضَمَائِرُ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمِ الْتِفَاتٌ أَوْجَبَهُ تَشْهِيرُهُمْ بِهَذَا الْحَالِ الذَّمِيمِ، تَنْصِيصًا عَلَى ذَلِكَ، وَإِعْرَاضًا عَنْ خِطَابِهِمْ،
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ شَيْئًا مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ ذَيْنِكَ الصِّنْفَيْنِ يَقْتَضِي تَكْذِيبَهُمْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا ذَكَرُوهُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ. فَمَوْقِعُ جُمْلَةُ آلذَّكَرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِفْسَارِ فِي عِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْعِ. وَهَذَا تَهَكُّمٌ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ تَلَقِّي عِلْمٍ مِنْهُمْ. وَهَذَا التَّهَكُّمُ تَابِعٌ لِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَفَرْعٌ عَنْهَا. وَهُوَ هُنَا تَجْرِيد لِلْمَجَازِ أَوْ لِلْمَعْنَى الْمَلْزُومِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ فِي الْكِنَايَةِ. وَتَثْنِيَةُ الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ: بِاعْتِبَارِ ذُكُورِ وَإِنَاثِ النَّوْعَيْنِ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ: حَرَّمَ إِلَى آلذَّكَرَيْنِ والْأُنْثَيَيْنِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ: حَرَّمَ أَكْلَ الذَّكَرَيْنِ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَى آخِرِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: آلذَّكَرَيْنِ وَقَوْلِهِ: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ».
وَالْبَاءُ فِي بِعِلْمٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِنْبَاءِ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ نَبِّئُونِي إِنْبَاءً مُلَابِسًا لِلْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ مَا قَابَلَ الْجَهْلَ أَي إنباء عَالم. وَلَمَّا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْإِنْبَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ حرّموا مَا حرّموه بِجَهَالَةٍ وَسُوءِ عَقْلٍ لَا بِعِلْمٍ، وَشَأْنُ مَنْ يَتَصَدَّى لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ أَنْ يَكُونَ ذَا عِلْمٍ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِكُمْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ لَاسْتَطَاعُوا بَيَانَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَلَأَبْدَوْا حِكْمَةَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ وَنَسَبُوا تَحْرِيمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ عَطْفٌ عَلَى:
وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ عَلَى بُعْدِ حَالِهِمُ السَّالِفَةِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَفَادَهُ نَفْيُ الْكَوْنِ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ، حَسَبَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩]، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْغَمِسِينَ فِي ضَلَالَاتٍ قَدِيمَةٍ قَدْ رَسَخَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَمَّا قَادَتُهُمْ فَقَدْ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لَهُمْ حَتَّى اعْتَقَدُوهَا وَسَنُّوهَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَمَّا دَهْمَاؤُهُمْ وَأَخْلَافُهُمْ فَقَدْ رَأَوْا قُدْوَتَهُمْ عَلَى تِلْكَ الضَّلَالَاتِ. وَتَأَصَّلَتْ فِيهِمْ، فَمَا كَانَ مِنَ السَّهْلِ اهْتِدَاؤُهُمْ، لَوْلَا أَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَسِيَاسَتِهِمْ فِي دَعْوَتِهِمْ، وَأَنْ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ قَبُولَ الدَّعْوَةِ.
وَلِذَلِكَ عَقَّبُوا تَحْمِيدَهُمْ وَثَنَاءَهُمْ عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَتِلْكَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ، اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، لِصُدُورِهَا عَنِ ابْتِهَاجِ نُفُوسِهِمْ وَاغْتِبَاطِهِمْ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، فَجَعَلُوا يَتَذَكَّرُونَ أَسْبَابَ هِدَايَتِهِمْ وَيَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ وَيَغْتَبِطُونَ. تَلَذُّذًا بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، لِأَنَّ تَذَكُّرَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ وَالْحَدِيثَ عَنْهُ مِمَّا تَلَذُّ بِهِ النُّفُوسُ، مَعَ قَصْدِ الثَّنَاءِ عَلَى الرُّسُلِ.
وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَبِقَدْ، مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْكِرِينَ لِمَجِيءِ الرُّسُلِ: إِمَّا لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْجَابِ بِمُطَابَقَةِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ النَّعِيمِ لِمَا وَجَدُوهُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: ٧١]
وَقَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ»
. وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هَذَا الثَّنَاءَ عَلَى الرُّسُلِ والشّهادة بصدقهم جمعا مَعَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، فَأَتَوْا بِالْخَبَرِ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي لَا تَرَدُّدَ فِيهَا.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ- بِدُونِ وَاوٍ قَبْلَ (مَا) - وَكَذَلِكَ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الشَّامِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي
قَبْلَهَا، عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهَا كَالتَّعْلِيلِ لِلْحَمْدِ، وَالتَّنْوِيهِ بِأَنَّهُ حَمْدٌ عَظِيمٌ عَلَى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَتَقْدِيمُ وَصْفِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ الْوَصْفُ الْأَخَصُّ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ زِيَادَةَ تَسْجِيلٍ لِتَحْرِيفِ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَيْثُ حَذَفُوا هَذَا الْوَصْفَ لِيَصِيرَ كَلَامُ التَّوْرَاةِ صَادِقًا بِمَنْ أَتَى بَعْدَ مُوسَى مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلِأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتهر بِوَصْف النَّبِي الْأُمِّيِّ، فَصَارَ هَذَا الْمُرَكَّبُ كَاللَّقَبِ لَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ عَنْ شُهْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ حَيْثُمَا وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْأُمِّيُّ: الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ، قِيلَ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ أَيْ هُوَ أَشْبَهُ بِأُمِّهِ مِنْهُ بِأَبِيهِ، لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي الْعَرَبِ مَا كُنَّ يَعْرِفْنَ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَمَا تَعَلَّمْنَهَا إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ، فَصَارَ تَعَلُّمُ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ شِعَارِ الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا قَالَ عُبَيْدٌ الرَّاعِي، وَهُوَ إِسْلَامِيٌّ:
هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ
أَمَّا الرِّجَالُ فَفِيهِمْ مَنْ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ.
وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ أَيِ الَّذِي حَالُهُ حَالُ مُعْظَمِ الْأُمَّةِ، أَيِ الْأُمَّةِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَعْرِفُ مِنْهُمُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ إِلَّا النَّادِرُ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ يَصِفُهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْأُمِّيِّينَ، لِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فِي آلِ عِمْرَانَ [٧٥].
وَالْأُمِّيَّةُ وَصْفٌ خَصَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ رسله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِتْمَامًا لِلْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ، فَجَعَلَ الْأُمِّيَّةَ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهُ، لِيُتِمَّ بِهَا وَصْفَهُ الذَّاتِيَّ وَهُوَ الرِّسَالَةُ، لِيُظْهِرَ أَنَّ كَمَالَهُ النَّفْسَانِيَّ كَمَالٌ لَدُنِّيٌّ إِلَهِيٌّ، لَا وَاسِطَةَ فِيهِ لِلْأَسْبَابِ الْمُتَعَارَفَةِ لِلْكِمَالَاتِ، وَبِذَلِكَ كَانَتِ الْأُمِّيَّةُ وَصْفَ كَمَالِ فِيهِ، مَعَ أَنَّهَا فِي غَيْرِهِ وَصْفُ نُقْصَانٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَسَدَادِ الْعَقْلِ مَا لَا يَحْتِمَلُ الْخَطَأَ فِي كُلِّ نَوَاحِي مَعْرِفَةِ الْكِمَالَاتِ الْحَقِّ، وَكَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ عِلْمِهِ، وَبَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، مَا هُوَ أَعْظُمُ مِمَّا حَصَلَ لِلْمُتَعَلِّمِينَ، صَارَتْ أُمِّيَّتُهُ آيَةً عَلَى كَوْنِ مَا حَصَلَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ فَيُوضَاتٍ إِلَهِيَّةٍ.
وَمَعْنَى: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً وِجْدَانُ صِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ، الَّتِي لَا يُشْبِهُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَجُعِلَتْ خَاصَّتُهُ بِمَنْزِلَةِ ذَاتِهِ. وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا ضمير الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّيِّ مَجَازًا بِالِاسْتِخْدَامِ،
وَأَمَّا هَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ هَمٌّ حَصَلَ مَعَ نَكْثِ أَيْمَانِهِمْ وَأَنَّ الْمُرَادَ إِخْرَاجُ الرَّسُولِ مِنَ الْمَدِينَةِ، أَيْ نَفْيُهُ عَنْهَا لِأَنَّ إِخْرَاجَهُ مِنْ مَكَّةَ أَمْرٌ قَدْ مَضَى مُنْذُ سِنِينَ، وَلِأَنَّ إِلْجَاءَهُ إِلَى الْقِتَالِ لَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ الْإِخْرَاجِ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَمَّهُمْ هَذَا أَضْمَرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَبَّهَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ. وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا نَكَثُوا الْعَهْدَ طَمِعُوا فِي إِعَادَةِ الْقِتَالِ وَتَوَهَّمُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصُورِينَ وَأَنَّهُمْ إِنِ انْتَصَرُوا أَخْرَجُوا الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من الْمَدِينَة.
و (الْهم) هُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَمِ انْصَرَفَ عَنْهُ. وَمُؤَاخَذَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْهَمِّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُخْرِجُوهُ، وَإِلَّا لَكَانَ الْأَجْدَرُ أَنْ يَنْعَى عَلَيْهِمِ الْإِخْرَاجَ لَا الْهَمَّ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التَّوْبَة: ٤٠] وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ إِلَّا لَمَّا حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَنْفِيذِهِ، فَعَنِ الْحَسَنِ: هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ غَزَوْهُ فِي أُحُدٍ وَحِينَ غَزَوْا غَزْوَةَ الْأَحْزَابِ، أَيْ فَكَفَاهُ اللَّهُ
سُوءَ مَا هَمُّوا بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِخْرَاجَهُ مِنْ مَكَّةَ لِلْهِجْرَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَدَثَ قَبْلَ انْعِقَادِ الْعَهْدِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ قَبَائِلُ كَانُوا مُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَنَكَثُوا الْعَهْدَ سَنَةَ ثَمَانٍ، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهَمُّوا بِنَجْدَةِ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْح، والغدر بالنّبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَأْتُوهُمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَيَكُونُوا هُمْ وَقُرَيْشٌ أَلْبًا وَاحِدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيُخْرِجُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ هَمُّوا، وَفَضَحَ دَخِيلَتَهُمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَنَبْذِ عَهِدِهِمْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَلَا نَدْرِي أَقَاتَلَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ كَانَ إِعْلَانُ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ (وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ) سَبَبًا فِي إِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، تَحْقِيقًا لِلرَّجَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [التَّوْبَة: ١٢] وَلَعَلَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَدْ أَعْلَنُوا الْحَرْبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ نَاكِثِينَ الْعَهْدَ، وَأَمَدُّوا قُرَيْشًا بِالْعُدَدِ، فَلَمَّا لَمْ تَنْشِبْ حَرْبٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ أَيِسُوا مِنْ نُصْرَتِهِمْ فَرَجَعُوا إِلَى دِيَارِهِمْ، وَأَغْضَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِغَدْرِهِمْ، وَبَقِيَ عَلَى مُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْعَهْدِ، فَاسْتَمَرَّ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَوْله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَالرَّحْمَةُ: هُنَا مُطْلَقَةٌ عَلَى أَثَرِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ النِّعْمَةُ وَالنَّفْعُ، كَقَوْلِهِ: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى: ٢٨].
وَالضَّرَّاءُ: الضُّرُّ. وَالْمَسُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِصَابَةِ. وَالْمَعْنَى إِذَا نَالَتِ النَّاسَ نِعْمَةٌ بَعْدَ الضُّرِّ، كَالْمَطَرِ بَعْدَ الْقَحْطِ، وَالْأَمْنِ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَالصِّحَّةِ بَعْدَ الْمَرَضِ.
وَ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ لِلْمُفَاجَأَةِ، وَهِيَ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ (إِذَا) الشَّرْطِيَّةِ لِوُقُوعِهِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لِلِاتِّصَالِ بِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي تُلَازِمُهَا الْأَفْعَالُ إِنْ وَقَعَتْ ظَرْفًا ثُمَّ إِنْ وَقَعَتْ شَرْطًا فَلَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ جَوَابًا لَهَا، فَلِذَلِكَ أُدْخِلَ عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ حَرْفُ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْمُفَاجَأَةِ يَدُلُّ عَلَى الْبِدَارِ وَالْإِسْرَاعِ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، فَيُفِيدُ مُفَادَ فَاءِ التَّعْقِيبِ الَّتِي يُؤْتى بهَا الرَّبْط جَوَابِ الشَّرْطِ بِشَرْطِهِ، فَإِذَا جَاءَ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ أَغْنَى عَنْهَا.
وَالْمَكْرُ: حَقِيقَتُهُ إِخْفَاءُ الْإِضْرَارِ وَإِبْرَازُهُ فِي صُورَة الْمَسْأَلَة، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤].
وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي آياتِنا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُرَادِ مِنْهَا الْمُلَابَسَةُ، أَيْ مَكْرُهُمُ
الْمُصَاحِبُ لِآيَاتِنَا. وَمَعْنَى مَكْرِهِمْ فِي الْآيَاتِ أَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ مَكْرًا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُوهِمُونَ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى لَآمَنُوا بِهَا وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُمْ يُكَذِّبُونَهُ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَحِفَاظًا عَلَى دِينِهِمْ فِي الشِّرْكِ.
وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا التَّعْرِيضَ بِإِنْذَارِهِمْ، أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَعِظَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَسْرَعُ مَكْرًا، أَيْ مِنْكُمْ، فَجَعَلَ مَكْرَ اللَّهِ بِهِمْ أَسْرَعَ مِنْ مَكْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ.
وَدَلَّ اسْمُ التَّفْضِيلِ عَلَى أَنَّ مَكْرَ الْكَافِرِينَ سَرِيعٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ وَهِيَ إِسْرَاعٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَعْجَلُ مَكْرًا بكم مِنْكُم بمكرمكم بِآيَاتِ اللَّهِ.
وَأَسْرَعُ: مَأْخُوذٌ مِنْ أَسْرَعَ الْمَزِيدِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَوْ مِنْ سَرُعَ الْمُجَرَّدِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِهِ فِي الْكَلَامِ فِيمَا حَكَاهُ الْفَارِسِيُّ.
وَ (إِلَّا امْرَأَتَكَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَهْلِكَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ اعْتِبَارًا بِأَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنْ أَهْلِكَ وَذَلِكَ كَلَامٌ مُوجَبٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَسْرِ بِهَا، أُرِيدَ أَنْ لَا يُعْلِمَهَا بِخُرُوجِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُخْلِصَةً لِقَوْمِهَا فَتُخْبِرُهُمْ عَنْ زَوْجِهَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو- بِرَفْعِ- امْرَأَتَكَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحَدٌ الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ. قِيلَ: إِنَّ امْرَأَتَهُ خَرَجَتْ مَعَهُمْ ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَنَّتْ إِلَى قَوْمِهَا فَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ الِالْتِفَاتِ فَامْتَثَلُوا وَلَمْ تَمْتَثِلِ امْرَأَتُهُ لِلنَّهْيِ فَالْتَفَتَتْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَّا امْرَأَتَكَ
تَلْتَفِتُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَهُمْ اسْتِعْمَالُ فِعْلِ الْمُضِيِّ فِي مَعْنَى الْحَالِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: مَا يُصِيبُهُمْ، فاستعمال فعل المضيء لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ، أَوْ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١].
وَجُمْلَةُ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ قُطِعَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا اهْتِمَامًا وَتَهْوِيلًا.
وَالْمَوْعِدُ: وَقْتُ الْوَعْدِ. وَالْوَعْدُ أَعَمُّ مِنَ الْوَعِيدِ فَيُطْلَقُ عَلَى تَعْيِينِ الشَّرِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَوْعِدِ هُنَا مَوْعِدُ الْعَذَاب الَّذِي عمله لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِمَّا بِوَحْيٍ سَابِقٍ، وَإِمَّا بِقَرِينَةِ الْحَالِ، وَإِمَّا بِإِخْبَارٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ طَوَتْهُ الْآيَةُ هُنَا إِيجَازًا، وَبِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ صَحَّ تَعْرِيفُ الْوَعْدِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ.
وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ صَدَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جَوَابًا عَن سُؤال بِجَيْش فِي نَفْسِهِ مِنِ اسْتِبْطَاءِ نُزُولِ الْعَذَابِ.

[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٢٥]

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
هَذَا شَرْحُ حَالِ أَضْدَادِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى شَرْحِ مُجْمَلِ قَوْلِهِ:
كَمَنْ هُوَ أَعْمى [سُورَة الرَّعْد: ١٩]. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ يُوفُونَ [الرَّعْد: ٢٠].
وَنَقْضُ الْعَهْدِ: إِبْطَالُهُ وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِهِ.
وَزِيَادَةُ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ زِيَادَةٌ فِي تَشْنِيعِ النَّقْضِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ تَوْثِيقِ الْعَهْدِ وَتَأْكِيدِهِ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٦- ٢٧].
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ خَبَرٌ عَنْ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ وَهِيَ مُقَابِلُ جُمْلَةِ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.
وَالْبُعْدُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالْخِزْيِ وَإِضَافَةِ سُوءِ الدَّارِ كَإِضَافَةِ عُقْبَى الدَّارِ. وَالسُّوءُ ضِدُّ الْعُقْبَى كَمَا تقدم.
[٢٦]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٢٦]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا عَمَّا يَهْجِسُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ سَمَاعِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْعَطْفِ وَحَرْفُ الْجَرِّ بَعْدَهُ إِذْ لَا بُدَّ لِحَرْفِ الْجَرِّ مِنْ مُتَعَلِّقٍ. وَتَقْدِيرُهُ:
وَيَحْمِلُوا. وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ نَظِيرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَحْمِلُوا أَوْزَارًا نَاشِئَةً عَنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، أَيْ نَاشِئَةً لَهُمْ عَنْ تَسَبُّبِهِمْ فِي ضَلَالِ الْمُضَلَّلِينَ- بِفَتْحِ اللَّامِ-،
فَإِنَّ تَسَبُّبَهُمْ فِي الضَّلَالِ يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ الْمُضَلَّلِ لِلضَّالِّ فِي جَرِيمَةِ الضَّلَالِ، إِذْ لَوْلَا إِضْلَالُهُ إِيَّاهُ لَاهْتَدَى بِنَظَرِهِ أَوْ بِسُؤَالِ النَّاصِحِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»
. وبِغَيْرِ عِلْمٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يُضِلُّونَهُمْ، أَيْ يُضِلُّونَ نَاسًا غَيْرَ عَالِمِينَ يَحْسَبُونَ إِضْلَالَهُمْ نُصْحًا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَالِ تَفْظِيعُ التَّضْلِيلِ لَا تَقْيِيدُهُ فَإِنَّ التَّضْلِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَدَمِ عِلْمٍ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.
وَجُمْلَةُ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ تَذْيِيلٌ. افْتُتِحَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَا تَتَضَمَّنُهُ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ أَوْ للإقلاع عَنهُ.
[٢٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٢٦]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦)
لَمَّا ذَكَرَ عَاقِبَةَ إِضْلَالِهِمْ وَصَدِّهِمُ السَّائِلِينَ عَنِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْآخِرَةِ أَتْبَعَ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنْ يَقَعَ لَهُمْ مَا وَقَعَ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنْ أَنْ يَبْلُغُوا بِصُنْعِهِمْ ذَلِكَ مَبْلَغَ مُرَادِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَائِبُونَ فِي صُنْعِهِمْ كَمَا خَابَ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ مَكَرُوا بِرُسُلِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ جَوَابُهُمُ السَّائِلِينَ عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ هُوَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل:
٢٤] مُظْهِرِينَهُ بِمَظْهَرِ النَّصِيحَةِ وَالْإِرْشَادِ وَهُمْ يُرِيدُونَ الِاسْتِبْقَاءَ عَلَى كُفْرِهِمْ، سُمِّيَ ذَلِكَ
وَلَمَّا كَانَ ضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدًا إِلَى عِبَادِي كَانَ الْمَعْنَى التَّحْذِيرَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْقِيقًا لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ بَثِّ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ شَتَمَهُ أَعْرَابِيٌّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَشَتَمَهُ عُمَرُ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ فَكَادَ أَنْ يُثِيرَ فِتْنَةً فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَيًّا مَا كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ فَهُوَ لَا يُقَيِّدُ إِطْلَاقَ صِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَقُولُوا الَّتِي أَحْسَنُ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ، وَعلة الْعِلَّةِ عِلَّةٌ.
وَذِكْرُ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْعَدَاوَةِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي خِلْقَتِهِ قَدْ جُبِلَ عَلَيْهِ.
وَعَدَاوَتُهُ لِلْإِنْسَانِ مُتَقَرِّرَةٌ مِنْ وَقْتِ نَشْأَةِ آدَمَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَنَّهُ يُسَوِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغْلِظُوا عَلَى الْكُفَّارِ بِوَهْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ نَصْرٌ لِلدِّينِ لِيُوقِعَهُمْ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ أَعْظَمَ كَيْدِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُوقِعَ الْمُؤْمِنَ فِي الشَّرِّ وَهُوَ يُوهِمُهُ أَنَّهُ يعْمل خيرا.
[٥٤]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٥٤]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤)
هَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٤٧، ٤٨]. فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْطَوِي عَلَى مَا هُوَ شَأْنُ نَجْوَاهُمْ مِنَ التَّصْمِيمِ عَلَى
الْعِنَادِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ. وَذَلِكَ يَسُوءُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحْزِنُهُ أَنْ لَا يَهْتَدُوا، فَوَجَّهَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَيْهِ تَسْلِيَةً لَهُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا.
وَالْمَذْكُورُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَوْلِهِ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ جَزَاءٍ عَلَى مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَنْ أُعْطَوْهُ مِنْ مَزَايَا النُّبُوءَةِ والصِّدِيقِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا. وَتِلْكَ وَإِنْ كَانَتْ نِعَمًا وَهِدَايَةً وَاجْتِبَاءً فَقَدْ زَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِإِسْنَادِ تِلْكَ الْعَطَايَا إِلَىِ اللَّهِ تَعَالَى تَشْرِيفًا لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ هُوَ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا إِذْ لَا أَزْيَدُ مِنَ الْمُجَازَى عَلَيْهِ إِلَّا تَشْرِيفُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ النَّبِيِّينَ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحْدَهُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ.
وَجُمْلَةُ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ مُسْتَأْنَفَةٌ دَالَّةٌ عَلَى شُكْرِهِمُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ وَتَقْرِيبِهِ إِيَّاهُمُ بِالْخُضُوعِ لَهُ بِالسُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِهِ وَبِالْبُكَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِهِ الْبُكَاءُ النَّاشِئُ عَنِ انْفِعَالِ النَّفْسِ انْفِعَالًا مُخْتَلِطًا مِنَ التَّعْظِيمِ وَالَخَوْفِ.
وسُجَّداً جَمْعُ سَاجِدٍ. وَبُكِيًّا جَمْعُ بَاكٍ. وَالْأَوَّلُ بِوَزْنِ فُعَّلَ مِثْلُ عُذَّلٍ، وَالثَّانِي وَزَنُهُ فُعُولٌ جَمْعُ فَاعِلٍ مِثْلُ قَوْمٍ قعُود، وَهُوَ يائي لِأَنَّ فِعْلَهُ بَكَى يَبْكِي، فَأَصْلُهُ: بُكُويٌّ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَحُرِّكَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ بِحَرَكَةٍ مُنَاسِبَةٍ لِلْيَاءِ. وَهَذَا الْوَزْنُ سَمَاعِيُّ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ وَمِثْلِهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مَوَاضِعِ سُجُودِ الْقُرْآنِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتِدَاءً بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي السُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَهُمْ سَجَدُوا كَثِيرًا عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ، وَنَحْنُ نَسْجُدُ
وَالظُّلُمَاتُ: جَمْعُ ظُلْمَةٍ. وَالْمُرَادُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ قَعْرِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ. وَقِيلَ: الظُّلُمَاتُ مُبَالَغَةٌ فِي شِدَّةِ الظُّلْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: ٢٥٧].
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّا نَظُنُّ أَنَّ «الظَّلَمَةَ» لَمْ تَرِدْ مُفْرَدَةً فِي الْقُرْآنِ.
وَالِاسْتِجَابَةُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْإِجَابَةِ. وَهِيَ إِجَابَةُ تَوْبَتِهِ مِمَّا فَرَّطَ مِنْهُ. وَالْإِنْجَاءُ وَقَعَ حِينَ الِاسْتِجَابَةِ إِذِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا بَقِيَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ إِلَّا سَاعَةً قَلِيلَةً، وَعَطَفَ بِالْوَاوِ هُنَا بِخِلَافِ عَطْفِ فَكَشَفْنا عَلَى فَاسْتَجَبْنا وَإِنْجَاؤُهُ هُوَ بِتَقْدِيرٍ وَتَكْوِينٍ فِي مِزَاجِ الْحُوتِ حَتَّى خَرَجَ الْحُوتُ إِلَى قرب الشاطئ فتقاياه فَخَرَجَ يَسْبَحُ إِلَى الشَّاطِئِ.
وَهَذَا الْحُوتُ هُوَ مِنْ صِنْفِ الْحُوتِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَبْتَلِعُ الْأَشْيَاءَ الضَّخْمَةَ وَلَا يَقْضِمُهَا بِأَسْنَانِهِ. وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ تَسْمِيَةُ صِنْفٍ مِنَ الْحُوتِ بِحُوتِ يُونُسَ رَجْمًا بِالْغَيْبِ.
وَجُمْلَةُ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ تَذْيِيلٌ. وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى الْإِنْجَاءِ الَّذِي أَنْجَى بِهِ يُونُسَ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من غموم بِحَسب مِنْ يَقَعُ فِيهَا أَنَّ نَجَاتَهُ عَسِيرَةٌ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغَمِّ وَالنَّكَدِ الَّذِي يُلَاقُونَهُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ فِي بِلَادِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَن كلمة فَنُجِّيَ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ كَمَا كُتِبَتْ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ
فِي قَوْلِهِ فِي [سُورَة يُوسُف: ١١٠] فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ. وَوَجَّهَ أَبُو عَلِيٍّ هَذَا الرَّسْمَ بِأَنَّ النُّونَ الثَّانِيَةَ لَمَّا كَانَتْ سَاكِنَةً وَكَانَ وُقُوعُ الْجِيمِ بَعْدَهَا يَقْتَضِي إِخْفَاءَهَا لِأَنَّ النُّونَ السَّاكِنَةَ تُخْفَى مَعَ الْأَحْرُفِ الشَّجَرِيَّةِ وَهِيَ- الْجِيمُ وَالشِّينُ وَالضَّادُ- فَلَمَّا أُخْفِيَتْ حُذِفَتْ فِي النُّطْقِ فَشَابَهَ إِخْفَاؤُهَا حَالَةَ الْإِدْغَامِ فَحَذَفَهَا كَاتِبُ الْمُصْحَفِ فِي الْخَطِّ لِخَفَاءِ
وَأَمَّا رَدُّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فَهُوَ يُؤْذِنُ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ
دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ لَبِثُوا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بِكَثِيرٍ فَكَيْفَ يُجْعَلُ قَلِيلًا، فَتعين أَن قَوْله: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِكَلَامِهِمْ إِلَّا بِتَقْدِيرِ: قَالَ بَلْ لَبِثْتُمْ قُرُونًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ [الْبَقَرَة: ٢٥٩]. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: قَالَ بَلْ لَبِثْتُمْ قُرُونًا، وَإِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الْحَج: ٤٧].
وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مَا تُفِيدُهُ (لَوْ) مِنَ الِامْتِنَاعِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَعَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ مَا لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا، فَيَقْتَضِي الِامْتِنَاعُ أَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَبِثُوا قَلِيلًا مَعَ أَنَّ صَرِيحَ جَوَابِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ عَلِمُوا لَبْثًا قَلِيلًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَ تَعَارُضِ مُقْتَضَى جَوَابِهِمْ وَمُقْتَضَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِاخْتِلَافِ النِّسْبَةِ فِي قِلَّةِ مُدَّةِ الْمُكْثِ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى مَا يُرَاعَى فِيهَا، فَهِيَ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى شُبْهَتِهِمْ فِي إِحَالَةِ الْبَعْثِ كَانَتْ طَوِيلَةً وَقَدْ وَقَعَ الْبَعْثُ بَعْدَهَا فَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى مَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنْ مُدَّةِ الْعَذَابِ كَانَتْ مُدَّةً قَلِيلَةً وَهَذَا إرهاب لَهُم.
[١١٥]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١١٥]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)
هَذَا مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ المحكي فِي قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٢] مُفَرَّعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. فُرِّعَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ الْخَلْقَ لِأَجْلِ الْعَبَثِ عَلَى إِظْهَارِ بُطْلَانِ مَا زَعَمُوهُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ لِأَنَّ لَازِمَ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ النَّاسِ مُشْتَمِلًا عَلَى عَبَثٍ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ حَسِبَ ذَلِكَ فَقَرَّرُوا وَوَبَّخُوا أَخْذًا لَهُمْ بِلَازِمِ اعْتِقَادِهِمْ.
وَأُدْخِلَتْ أَدَاةُ الْحَصْرِ بَعْدَ (حَسِبَ) فَجَعَلَتِ الْفِعْلَ غَيْرَ نَاصِبٍ إِلَّا مَفْعُولًا وَاحِدًا وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمُسْتَخْلَصُ مِنْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْنِ وَالثَّرْوَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ تَرَكَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْهُ لِمُطَارَدَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمْ هَلَكُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى شَيْءٍ مِمَّا تَرَكُوا.
كَذلِكَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩١]. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ.
وَجُمْلَةُ: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ مُعْتَرِضَةٌ أَيْضًا وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عَطْفًا لِأَجْزَاءِ الْقِصَّةِ لِمَا سَتَعْلَمُهُ. وَالْإِيرَاثُ: جَعْلُ أَحَدٍ وَارِثًا. وَأَصْلُهُ إِعْطَاءُ مَالِ الْمَيِّتِ وَيُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ مَا كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِ الْمُعْطَى (بِفَتْحِ الطَّاءِ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الْأَعْرَاف: ١٣٧]، أَيْ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْضَ الشَّامِ، وَقَالَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: ٣٢].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرْزَأَ أَعْدَاءَ مُوسَى مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ نَعِيمٍ إِذْ أَهْلَكَهُمْ وَأَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَيْرَاتٍ مِثْلَهَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا كَانَ بِيَدِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَالْكُنُوزِ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَارَقُوا أَرْضَ مِصْرَ حِينَئِذٍ وَمَا رَجَعُوا إِلَيْهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [٢٨] كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. وَلَا صِحَّةَ لِمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ قِصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجَعُوا فَمَلَكُوا مِصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَمْلِكُوا مِصْرَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا سَائِرَ الدَّهْرِ فَلَا مَحِيصَ مِنْ صَرْفِ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى تَأْوِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّارِيخُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ.
فَضَمِيرُ أَوْرَثْناها هُنَا عَائِدٌ لِلْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ، أَيْ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ جَنَّاتٍ وَعُيُونًا وَكُنُوزًا، فَعَوْدُ الضَّمِيرِ هُنَا إِلَى لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْجِنْسِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ وَأَقْوَى مِنْهُ، أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ أَشْيَاءَ مَا كَانَتْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَكَانَتْ لِلْكَنْعَانِيِّينَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَالشَّامِ. وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ [النِّسَاء: ١٧٦]، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْءَ الَّذِي هَلَكَ يَرِثُ أُخْتَهُ الَّتِي لَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ بَلِ
الْمُرَادُ: وَالْمَرْءُ يَرِثُ أُخْتًا لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ
الْوَصْفَيْنِ، فَعُرِّيَ عَنِ الْوَصْفِ هُنَا لِأَنَّهُ صَارَ مَعْرُوفًا، وَقُيِّدَ الْكَوْنُ الْمَنْفِيُّ بِظَرْفِ نادَيْنا أَيْ بِزَمَنِ نِدَائِنَا.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ النِّدَاءِ لِظُهُورِ أَنَّهُ نِدَاءُ مُوسَى مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ النِّدَاءُ لِمِيقَاتِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَإِنْزَالُ أَلْوَاحِ التَّوْرَاةِ عَقِبَ تِلْكَ الْمُنَاجَاةِ كَمَا حُكِيَ فِي الْأَعْرَافِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الطُّورِ إِذْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ الطُّورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: ٨٠] وَهُوَ نَفْسُ الْمَكَانِ الَّذِي نُودِيَ فِيهِ مُوسَى لِلْمَرَّةِ الْأُولَى فِي رُجُوعِهِ مِنْ دِيَارِ مَدْيَنَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالنِّدَاءُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ هُنَا إِذْ نادَيْنا غَيْرُ النِّدَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ إِلَى قَوْلِهِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ [الْقَصَص: ٣٠] الْآيَةَ لِئَلَّا يكون تَكْرَارا مَعَ قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ
بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ
[الْقَصَص: ٤٤]. وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ بِمَا علمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَبَرِ اسْتِدْعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمُنَاجَاةِ. وَتِلْكَ الْقِصَّةُ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى مِثْلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقَوْلُهُ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ كَلِمَةُ لكِنْ بِسُكُونِ النُّونِ هُنَا بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ فَهِيَ حَرْفٌ لَا عَمَلَ لَهُ فَلَيْسَ حَرْفَ عَطْفٍ لِفِقْدَانِ شَرْطَيْهِ: تَقَدُّمِ النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ، وَعَدَمِ الْوُقُوعِ بَعْدَ وَاوِ عَطْفٍ. وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ لكِنْ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاسْتِدْرَاكِ لَا عَمَلَ لَهُ وَهُوَ مُعْتَرِضٌ.
وَالْوَاوُ الَّتِي قَبْلَ لكِنْ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ناشىء عَنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ عَلَى مَعْنَى: مَا كَانَ عِلْمُكَ بِذَلِكَ لِحُضُورِكَ، وَلَكِنْ كَانَ عِلْمُكَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ.
فَانْتِصَابُ رَحْمَةً مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِعَامِلِ نَصْبٍ مَأْخُوذٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ: إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَفِيُ الْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ، وَالتَّقْدِيرُ:
وَلَكِنْ كَانَ عَلَمُكَ رَحْمَةً مِنَّا وَإِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ:
وَلَكِنْ رَحِمْنَاكَ رَحْمَةً بِأَنْ عَلَّمْنَاكَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ رَحْمَةً، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْماً.
أَذِنَ لَهُمْ فِي الِاعْتِذَارِ لَكَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِقَبُولِهِ اعْتِذَارَهُمْ نَظِيرَ قَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]. وَالْمُثْبَتُ هُنَا مَعْذِرَةٌ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ بِهَا فَهِيَ غَيْرُ نَافِعَةٍ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٦- ١٠٨] وَقَوْلُهُ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْفَعُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ جَائِزٌ لِأَنَّ (مَعْذِرَةً) مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ، وَلِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ بِالْمَفْعُولِ.
ويُسْتَعْتَبُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ وَالْمَبْنِيُّ مِنْهُ لِلْفَاعِلِ اسْتَعْتَبَ، إِذَا سَأَلَ الْعُتْبَى- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالْقَصْرِ- وَهِيَ اسْمٌ لِلْإِعْتَابِ، أَيْ إِزَالَةُ الْعَتَبِ، فَهَمْزَةُ الْإِعْتَابِ لِلْإِزَالَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: ٢٤]، فَصَارَ اسْتُعْتِبَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ جَارِيًا عَلَى اسْتَعْتَبَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَعْلُومِ فَلَمَّا قِيلَ: اسْتَعْتَبَ بِمَعْنَى طَلَبَ الْعُتْبَى صَارَ اسْتُعْتِبَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ بِمَعْنَى أُعْتِبُ، فَمَعْنَى وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ: وَلَا هُمْ بِمُزَالٍ عَنْهُمُ الْمُؤَاخَذَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ عَجِيبٌ جَارٍ عَلَى تَصَارِيفَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْفَصِيحِ مِنَ الْكَلَامِ، وَبَعْضُ اشْتِقَاقِهَا غَيْرُ قِيَاسِيٍّ وَمَنْ حَاوَلُوا إِجْرَاءَهُ عَلَى الْقِيَاسِ اضْطُرُّوا إِلَى تَكْلِفَاتٍ فِي الْمَعْنَى لَا يَرْضَى بِهَا الذَّوْقُ السَّلِيمُ، وَالْعَجَبُ وُقُوعُهَا فِي «الْكَشَّافِ». وَقَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : وَاسْتَعْتَبَهُ: أَعْطَاهُ الْعُتْبَى كَأَعْتَبَهُ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ الْعُتْبَى ضِدٌّ.
وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُهُمُ اعْتِذَارٌ بِعُذْرٍ وَلَا إِقْرَارٌ بِالذَّنْبِ وَطَلَبِ الْعَفْوِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ فِي سُورَة النَّحْل [٨٤].
[٥٨- ٥٩]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : الْآيَات ٥٨ إِلَى ٥٩]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٥٩)
لَمَّا انْتَهَى مَا أُقِيمَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ عَقِبَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٣٤- سُورَةُ سَبَأٍ
هَذَا اسْمُهَا الَّذِي اشْتُهِرَتْ بِهِ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَبَيْنَ الْقُرَّاءِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهَا فِي عَصْرِ النُّبُوءَةِ. وُوجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِهِ أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّةُ أَهْلِ سَبَأٍ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَحُكِيَ اتِّفَاقُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَيْهِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ آيَةَ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِلَى قَوْلِهِ: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: ٦] نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَلَعَلَّهُ بِنَاءٌ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُزِيَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَيْ لِأَنَّهُمْ أُوتُوا بِالْقُرْآنِ عِلْمًا كَثِيرًا قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: ٤٩]، عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنِ الْتِزَامِ أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاحْتِجَاجُ بِمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي نُفُوسِهِمُ الَّذِي أَنْبَأَ عَنْهُ إِسْلَامُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ كَمَا نُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إلْخَ.
وَلِابْنِ الْحِصَارِ أَنَّ سُورَةَ سَبَأٍ مَدَنِيَّةٌ لِمَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَرْوَةَ بن مسيّك الغطيفي الْمُرَادِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأُنْزِلَ فِي سَبَأٍ مَا أُنْزِلَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا سَبَأٌ؟»
الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْحِصَارِ: هَاجَرَ فَرْوَةُ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ فَتْحِ الطَّائِفِ.
وَقَالَ ابْنُ الْحِصَارِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «وَأُنْزِلَ» حِكَايَةً عَمَّا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ قَبْلَ هِجْرَةِ فَرْوَةَ، أَيْ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنْهُ لَمَّا قَرَأَهُ أَوْ سَمِعَهُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ.
وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي عِدَادِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ لُقْمَانَ وَقَبْلَ سُورَةِ الزُّمَرِ كَمَا فِي الْمَرْوِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْجَعْبَرِيُّ كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيهَا: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا
وَذَكَرَ ابْنُ خَلْدُونَ: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ نُوحًا هُوَ (أَفْرِيدُونْ) مَلِكُ بِلَادِ الْفُرْسِ، وَبَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ نُوحًا هُوَ (أُوشْهَنْكُ) مَلِكُ الْفُرْسِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ (كُيُومَرْثَ) بِمِائَتَيْ سَنَةٍ وَهُوَ يُوَافِقُ أَنَّ نُوحًا كَانَ بَعْدَ آدَمَ وَهُوَ كُيُومَرْثُ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ حَسَبَ كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. عَلَى أَنَّ كُيُومَرْثَ يُقَالُ: إِنَّهُ آدَمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَمُتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ لَمْ يَحُمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَوْلَهُ فِيمَا
اطَّلَعْتُ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِفِعْلِ تَرَكْنا بِتَضْمِينِ هَذَا الْفِعْلِ مَعْنَى (أَنْعَمْنَا) فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَدَّى هَذَا الْفِعْلُ بِاللَّامِ، فَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى أَنْعَمْنَا أَفَادَ بِمَادَّتِهِ مَعْنَى الْإِبْقَاءِ لَهُ، أَيْ إِعْطَاءِ شَيءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ الْمُدَّخَرَةِ الَّتِي يُشْبِهُ إِعْطَاؤُهَا تَرْكَ أَحَدٍ مَتَاعًا نَفِيسًا لِمَنْ يُخَلِّيهِ هُوَ لَهُ وَيَخْلُفُهُ فِيهِ. وَأَفَادَ بِتَعْلِيقِ حَرْفِ (عَلَى) بِهِ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْعَامِ وَالتَّفْضِيلِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ التَّضْمِينِ أَنْ يُفِيدَ الْمُضَمَّنُ مُفَادَ كَلِمَتَيْنِ فَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الْإِيجَازِ. ثُمَّ إِنَّ مَفْعُولَ تَرَكْنا لَمَّا كَانَ مَحْذُوفًا وَكَانَ فِعْلُ (أَنْعَمْنَا) الَّذِي ضُمِّنَهُ فِعْلُ تَرَكْنا مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَانَ مَحْذُوفًا أَيْضًا مَعَ عَامِلِهِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ: وَتَركنَا لَهُ ثَنَاء وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ، فَحَصَلَ فِي قَوْلِهِ: تَرَكْنا عَلَيْهِ حَذْفُ خَمْسِ كَلِمَاتٍ وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَلِذَلِكَ قَدَّرَ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَتَرَكْنا ثَنَاء حَسَنًا عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنْشَاءُ ثَنَاءِ اللَّهِ عَلَى نُوحٍ وَتَحِيَّةٌ لَهُ وَمَعْنَاهُ لَازِمُ التَّحِيَّةِ وَهُوَ الرِّضَى وَالتَّقْرِيبُ، وَهُوَ نِعْمَةٌ سَادِسَةٌ. وَتَنْوِينُ سَلامٌ لِلتَّعْظِيمِ وَلِذَلِكَ شَاعَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا كَالْمَوْصُوفِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ: الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ السَّلَامِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
[مَرْيَم: ١٥] فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [الصافات: ١٣٠] سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات:
١٠٩].
وَفِي الْعالَمِينَ حَالٌ فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ سَلامٌ.
وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي
وَالْبَأْسُ: الْقُوَّةُ عَلَى الْعَدْوِ وَالْمُعَانِدِ، فَهُوَ الْقُوَّةُ عَلَى الضُّرِّ.
قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ تَفَطَّنُ فِرْعَوْنُ إِلَى أَنَّهُ الْمُعَرَّضُ بِهِ فِي خِطَابِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ قَوْمَهُ فَقَاطَعَهُ كَلَامَهُ وَبَيَّنَ سَبَبَ عَزْمِهِ عَلَى قَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يَرَى نَفْعًا إِلَّا فِي قَتْلِ مُوسَى وَلَا يَسْتَصْوِبُ غَيْرَ ذَلِكَ وَيَرَى ذَلِكَ هُوَ سَبِيلُ الرَّشَادِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ لَا يَتْرُكَ لِنَصِيحَةِ مُؤْمِنِهِمْ مَدْخَلًا إِلَى نُفُوسٍ مَلَئِهِ خِيفَةَ أَنْ يَتَأَثَّرُوا بِنُصْحِهِ فَلَا يُسَاعِدُوا فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى. وَلِكَوْنِ كَلَامِ فِرْعَوْنَ صَدَرَ مَصْدَرَ الْمُقَاطَعَةِ لِكَلَامِ الْمُؤْمِنِ جَاءَ فِعْلُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ وَالْمُحَاوَرَةِ.
وَمَعْنَى: مَا أُرِيكُمْ: مَا أَجْعَلُكُمْ رَائِينَ إِلَّا مَا أَرَاهُ لِنَفْسِي، أَيْ مَا أُشِيرُ عَلَيْكُمْ بِأَنْ تَعْتَقِدُوا إِلَّا مَا أَعْتَقِدُهُ، فَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، أَيْ لَا أُشِيرُ إِلَّا بِمَا هُوَ مُعْتَقَدِي.
وَالسَّبِيلُ: مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّشَادِ قَرِينَةٌ، أَيْ مَا أَهْدِيكُمْ وَأُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِعَمَلٍ فِيهِ رَشَادٌ. وَكَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِأَنَّ كَلَامَ مُؤْمِنِهِمْ سَفَاهَةُ رَأْيٍ. وَالْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى كَمَا هُوَ بَيِّنٌ وَكَمَا هُوَ مُقْتَضى الْعَطف.
[٣٠- ٣١]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣١]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١)
لَمَّا كَانَ هَذَا تَكْمِلَةٌ لِكَلَامِ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْرِيجٌ عَلَى مُحَاوَرَةِ فِرْعَوْنَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى [غَافِر: ٢٩] إِلَخْ وَكَانَ الَّذِي آمَنَ قَدْ جَعَلَ كَلَامَ فِرْعَوْنَ فِي الْبَيْنِ
الْآيَةَ، إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ هُنَا فَإِنْ أَعْرَضُوا وَإِلَّا لَقِيلَ: فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ.
وَالْحَفِيظُ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَقَوْلُهُ: فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً لَيْسَ هُوَ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَقَائِمٌ مَقَامَهُ، إِذِ الْمَعْنَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَلَسْتَ مُقَصِّرًا فِي دَعْوَتِهِمْ، وَلَا عَلَيْكَ تَبِعَةُ صَدِّهِمْ إِذْ مَا أَرْسَلْنَاكَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. وَجُمْلَةُ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً
بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ.
وإِنْ الثَّانِيَةُ نَافِيَةٌ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ جِنَاسٌ تَامٌّ.
والْبَلاغُ: التَّبْلِيغُ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَقَدْ فُهِمَ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَاغِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً دَلَّ عَلَى نَفْيِ التَّبِعَةِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ، وَأَنَّ الْإِعْرَاضَ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ دَعْوَتِهِ، فَاسْتُفِيدَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ الدَّعْوَةَ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِعْرَاضَ.
وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ.
تَتَّصِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَقَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. لِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بتسلية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَاقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ كَمَا عَلِمْتَ، وَيُؤْذِنُ بِهَذَا الِاتِّصَالِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ جُعِلَتَا آيَةً وَاحِدَةً هِيَ ثَامِنَةٌ وَأَرْبَعُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَحْزُنْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ دَعْوَتِكَ فَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْ نِعْمَتِي وَعَنْ إِنْذَارِي بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ الْمُنْفَصِلِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ فِعْلٌ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ إِلَخْ، مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَصْفُ هَذَا الْإِنْسَانِ بِالْبَطَرِ بِالنِّعْمَةِ وَبِالْكُفْرِ عِنْدَ الشِّدَّةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُنَا تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَفَاءِ قَوْمِهِ وَإِعْرَاضِهِمْ، فَالْمَعْنَى:
أَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ
(إِنَّ) بِ (مَا) الزَّائِدَةِ الْكَافَّةِ بِمُغَيِّرٍ مَوْقِعَهَا بِدُونِ (مَا) لِأَنَّ اتِّصَالَهَا بِهَا زَادَهَا مَعْنَى الْحَصْرِ.
وَالْمُرَادُ بِ الْحَياةُ أَحْوَالُ مُدَّةِ الْحَيَاةِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافَيْنِ.
وَاللَّعِبُ: الْفِعْلُ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ فَاعِلُهُ الْهَزْلَ دُونَ اجْتِنَاءِ فَائِدَةٍ كَأَفْعَالِ الصِّبْيَانِ فِي
مَرَحِهِمْ.
وَاللَّهْوُ: الْعَمَلُ الَّذِي يُعْمَلُ لِصَرْفِ الْعَقْلِ عَنْ تَعَبِ الْجِدِّ فِي الْأُمُورِ فَيَلْهُو عَنْ مَا يَهْتَمُّ لَهُ وَيُكِدُّ عَقْلَهُ.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْحَيَاةِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، شُبِّهَتْ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فِي عَدَمَ تُرَتُّبِ الْفَائِدَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا فَانِيَةٌ مُنْقَضِيَةٌ وَالْآخِرَةُ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ.
وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ يَحْمِلَهُمْ حُبُّ لَذَائِذِ الْعَيْشِ عَلَى الزَّهَادَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ وَيَتْلُو إِلَى مُسَالَمَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغْرِي الْعَدُوَّ بِهِمْ.
وَحُبُّ الْفَتَى طُولَ الْحَيَاةِ يُذِلُّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَخْوَةٌ وَعِزَامُ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧).
الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّد: ٣٥] تَذْكِيرًا بِأَنَّ امْتِثَالَ هَذَا النَّهْيِ هُوَ التَّقْوَى الْمَحْمُودَةُ، وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى السَّلْمِ قَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ حُبَّ إِبْقَاءِ الْمَالِ الَّذِي يُنْفَقُ فِي الْغَزْوِ، فَذُكِّرُوا هُنَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى لِيَخْلَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْوَهَنَ لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ وَعَنِ الدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ فَكَانَ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ مِنَ التَّقْوَى، وَعُطِفَ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْأَلُهُمْ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا لِفَائِدَتِهِمْ وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ قَوْلُهُ:
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّد: ٣٨]، عَلَى أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْلِيلُ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ مشير إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِذَا عُمِّرَتْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى كَانَتْ سَبَبًا فِي الْخَيْرِ الدَّائِمِ.
فَرْضًا أَوْ نَفْلًا عَلَى الْعَيْنِ، وَأَمَّا تَحَمُّلُ أَحَدٌ حَمَالَةً لِفِعْلٍ فَعَلَهُ غَيْرُهُ مِثْلِ دِيَاتِ الْقَتْلِ الْخَطَإِ فَذَلِكَ مِنَ الْمُؤَاسَاةِ الْمَفْرُوضَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَحْمَلِهَا: فَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى حِكَايَةٌ عَنْ شَرِيعَةٍ سَابِقَةٍ فَلَا تَلْزَمُ فِي شَرِيعَتِنَا يُرِيدُ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ نَسَخَتْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَبُولُ عَمَلِ أَحَدٍ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ تَأَوَّلَ (الْإِنْسَانَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ سَعْيُهُ وَمَا يَسْعَى لَهُ غَيْرُهُ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا نَفَتْ أَنْ تَكُونَ لِلْإِنْسَانِ فَائِدَةُ مَا عَمِلَهُ غَيْرُهُ إِذَا لَمْ يَجْعَلِ السَّاعِي عَمَلَهُ لِغَيْرِهِ. وَكَأَنَّ هَذَا يَنْحُو إِلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ سَعى فِي الْآيَةِ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الْعَقْلِيَّيْنِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْفَرَسِ: أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْفَرَسِ أَنَّ مِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ بِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَدِلَّةَ لِحَاقِ ثَوَابِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ إِلَى غَيْرِ مَنْ عَمِلَهَا ثَابِتَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا تَتَرَدَّدُ الْأَنْظَارُ فِي التَّفْصِيلِ أَوِ التَّعْمِيمِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطّور: ٢١]، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي
تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ. وَقَالَ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف: ٧٠]، فَجَعَلَ أَزْوَاجَ الصَّالِحِينَ الْمُؤْمِنَاتِ وَأَزْوَاجَ الصَّالِحَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَتَمَتَّعُونَ فِي الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ فِي الْأَعْمَالِ ضَرُورِيٌّ وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ.
وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا من ثَلَاثَة إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»
وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ، وَمِعْيَارُ عُمُومِهِ الِاسْتِثْنَاءُ فالاستثناء دَلِيل على أَنَّ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الثَّلَاثَةَ هِيَ مِنْ عَمَلِ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي «الْإِكْمَالِ» هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَمَّا كَانَ هُوَ سَبَبَهَا فَهِيَ
بِالْمَرْأَةِ. فَقَالُوا:
أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقَالُوا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ (يَعْنُونَ أَنَّهُمْ يُجَرِّدُونَهَا) فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حُجْزَتِهَا.
فَأتوا بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَكَانَ لِمَنْ كَانَ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي (يُرِيدُ أُمَّهُ وَإِخْوَتَهُ)، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». وَقَالَ: لَا تَقُولُوا لِحَاطِبٍ إِلَّا خَيْرًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
الْآيَاتِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ جَاءَتْ مُتَجَسِّسَةً إِذْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَمِّنْ يَوْمَ الْفَتْحِ أَرْبَعَةً مِنْهُمْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لَكِنْ هَذَا يُعَارِضُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْقِصَّةِ مِنْ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا مِنْهَا الْكِتَابَ وَخَلُّوا سَبِيلَهَا»
. وَقَدْ وُجِّهَ الْخِطَابُ بِالنَّهِي إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ تَحْذِيرًا مِنْ إتْيَان مثل فِعْلِ حَاطِبٍ.
وَالْعَدُوُّ: ذُو الْعَدَاوَةِ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ: عَدَا يَعْدُو، مِثْلِ عَفُوٍّ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ مِثْلِ قَبُولٍ وَنَحْوِهِ مِنْ مصَادر قَليلَة. ولكونه عَلَى زِنَةِ الْمَصَادِرِ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَصْدَرِ فَاسْتَوَى فِي الْوَصْفِ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ. قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشُّعَرَاء: ٧٧]، وَتقدم عَنهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٢].
وَالْمَعْنَى: لَا تَتَّخِذُوا أَعْدَائِي وَأَعْدَاءَكُمْ أَوْلِيَاءَ. وَالْمُرَادُ الْعَدَاوَةُ فِي الدِّينِ فَإِنَّ الْمُؤمنِينَ لم يبدأوهم بِالْعَدَاوَةِ وَإِنَّمَا أَبْدَى الْمُشْرِكُونَ عَدَاوَةَ الْمُؤْمِنِينَ انْتِصَارًا لِشِرْكِهِمْ فَعَدُّوا مَنْ خَرَجُوا عَنِ الشِّرْكِ أَعْدَاءً لَهُمْ. وَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مُتَفَاوِتِينَ فِي مُنَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ خُزَاعَةَ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَكَانُوا موالين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْعِيشَةُ لَيْسَتْ رَاضِيَةً وَلَكِنَّهَا لِحُسْنِهَا رَضِيَ صَاحِبُهَا، فَوَصَفَهَا بِ راضِيَةٍ مِنْ إِسْنَادِ الْوَصْفِ إِلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ وَهُوَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الرِّضَى بِسَبَبِهَا حَتَّى سَرَى إِلَيْهَا، وَلِذَلِكَ الْاعْتِبَارِ أَرْجَعَ السَّكَّاكِيُّ مَا يُسَمَّى بِالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِلَى الْاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ كَمَا ذكر فِي عَالم الْبَيَانِ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ.
وَجُمْلَةُ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ.
وَالْعُلُوُّ: الْارْتِفَاعُ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يُشْرِفُ عَلَى جِهَاتٍ مِنْ مُتَّسَعِ النَّظَرِ وَلِأَنَّهُ يَبْدُو لَهُ كَثِيرٌ مِنْ مَحَاسِنِ جَنَّتِهِ حِينَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا مِنْ أَعْلَاهَا أَوْ وَسَطِهَا مِمَّا لَا يَلُوحُ لِنَظَرِهِ لَوْ كَانَتْ جَنَّتُهُ فِي أَرْضٍ مُنْبَسِطَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الْبَهْجَةِ وَالْمَسَرَّةِ، لَأَنَّ جَمَالَ الْمَنَاظِرِ مِنْ مَسَرَّاتِ النَّفْسِ وَمِنَ النِّعَمِ، وَوَقَعَ فِي شِعْرِ زُهَيْرٍ:
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا
فَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُحُقًا، نَعْتًا لِلْجَنَّةِ بِدُونِ تَقْدِيرٍ كَمَا قَالُوا: نَاقَةٌ عُلُطٌ وَامْرَأَةٌ عُطُلٌ. وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى مَعْنَى السَّحَقِ فِيهَا وَهُوَ الْارْتِفَاعُ لِأَنَّ الْمُرْتَفِعَ بَعِيدٌ، وَقَالُوا: سَحُقَتِ النَّخْلَةُ كَكَرُمَ إِذَا طَالَتْ. وَفِي الْقُرْآنِ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [الْبَقَرَة: ٢٦٥].
وَجَوَّزُوا أَنْ يُرَادَ أَيْضًا بِالْعُلُوِّ عُلُوُّ الْقَدْرِ مِثْلُ فُلَانٍ ذُو دَرَجَةٍ رَفِيعَةٍ، وَبِذَلِكَ كَانَ لِلَفْظِ عالِيَةٍ هُنَا مَا لَيْسَ لِقَوْلِهِ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَالِكَ جَنَّةٌ مِنَ الدُّنْيَا.
وَالْقُطُوفُ: جَمْعُ قِطْفٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَهُوَ الثَّمَرُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقْطَفُ وَأَصْلُهُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ ذِبْحٍ.
وَمَعْنَى دُنُوِّهَا: قُرْبُهَا مِنْ أَيْدِي الْمُتَنَاوِلِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهْنَأُ إِذْ لَا كُلْفَةَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى:
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [الْإِنْسَان: ١٤].
وَجُمْلَةُ كُلُوا وَاشْرَبُوا إِلَى آخَرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ وَمَقُولُهُ فِي مَوْضِعِ
وَالْأَبُّ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ: الْكَلَأُ الَّذِي تَرْعَاهُ الْأَنْعَامُ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنِ الْأَبِّ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: «أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لِي بِهِ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا إِلَى وَأَبًّا فَقَالَ: كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَفَعَ عَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْكَ يَا ابْنَ أُمِّ عُمَرَ أَنْ لَا تَدْرِيَ مَا الْأَبُّ ابْتَغُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إِلَى رَبِّهِ». وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عُمَرَ بَعْضُ هَذَا مُخْتَصَرًا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي انْتِفَاءِ عِلْمِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ بِمَدْلُولِ الْأَبِّ وَهُمَا مِنْ خُلَّصِ الْعَرَبِ لِأَحَدِ سَبَبَيْنِ:
إِمَّا لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَانَ قَدْ تُنُوسِيَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِمْ فَأَحْيَاهُ الْقُرْآنُ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَشْتَهِرُ فِي بَعْضِ الْقَبَائِلِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَتُنْسَى فِي بَعْضِهَا مِثْلَ اسْمِ السِّكِّينِ عِنْدَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَقَدَ
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةُ حَتَّى سَمِعْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «ايتوني بِالسِّكِّينِ أَقْسِمُ الطِّفْلَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ»
. وَإِمَّا لِأَنَّ كَلِمَةَ الْأَبِّ تُطْلَقُ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا النَّبْتُ الَّذِي تَرْعَاهُ الْأَنْعَامُ، وَمِنْهَا التِّبْنُ، وَمِنْهَا يَابِسُ الْفَاكِهَةِ، فَكَانَ إِمْسَاكُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَنْ بَيَانِ مَعْنَاهُ لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَهَلِ الْأَبُّ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: مَتاعاً لَكُمْ أَوْ إِلَى قَوْلِهِ:
وَلِأَنْعامِكُمْ فِي جَمْعِ مَا قُسِّمَ قَبْلَهُ.
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ خَاصًّا بِكَلَامِ عُمَرَ فَقَالَ: «إِنَّ الْقَوْمَ كَانَتْ أَكْبَرُ هِمَّتِهِمْ عَاكِفَةً عَلَى الْعَمَلِ، وَكَانَ التَّشَاغُلُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ لَا يُعْمَلُ بِهِ تَكَلُّفًا عِنْدَهُمْ، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي الِامْتِنَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ فَحْوَى الْآيَةِ أَنَّ الْأَبَّ بَعْضُ مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ مَتَاعًا لَهُ وَلِأَنْعَامِهِ فَعَلَيْكَ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنَ النُّهُوضِ بِالشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ لَكَ مِمَّا عُدِّدَ مِنْ نِعَمِهِ وَلَا تَتَشَاغَلْ عَنهُ بِطَلَب معنى الْأَبِّ وَمَعْرِفَةِ النَّبَاتِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لَهُ وَاكْتَفِ بِالْمَعْرِفَةِ الْجُمَلِيَّةِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ وَصَّى النَّاسَ بِأَنْ يَجْرُوا عَلَى هَذَا


الصفحة التالية
Icon